الفصل الثاني: امتداد قانون الأسفار المقدسة في الأجيال الأولى

 

الفصل الثاني:

امتداد قانون الأسفار المقدسة في الأجيال الأولى

حين نتفحَّص كيف تكوَّن القانون (أو لائحة الأسفار المقدَّسة) على مدى الأجيال الأولى في تاريخ المسيحيّة، أو كيف برزت تدريجيٌّا الحاجة لتحديده، يجب أن نتذكَّر قبل كلِّ شيء أنَّ لفظ »قانون« الذي يدلّ على مجموعة مقفلة من وثائق أقِرَّت كتابًا مقدَّسًا، ظهر للمرّة الأولى في نصوص عند أثناز(2)، الذي هو أيضًا أوّل شاهد لاستعمال اسم المفعول للفعل اليونانيّ(3) المطبَّق على »كتب« ضمَّها قانون الكتاب المقدَّس(4). هذا التجديد يترافق في القرن الرابع، مع تنظيم لوائح رسميّة، تُعدِّد الأسفارَ التي تعتبرها السلطةُ الكنسيّة كتبًا مقدَّسة. وأشهر هذه اللوائح لائحة »رسالة العيد« 39 لأثناز التي تعود إلى سنة 367.

في الفترة السابقة، استُعمل لفظُ »قانون« في ارتباط مع الكتاب المقدَّس مع معنى »قاعدة الإيمان«. فتكلَّم كليمان الإسكندرانيّ عن »القاعدة الكنسيّة« كما تكلَّم عن التوافق الاجماعيّ للشريعة والأنبياء مع العهد المنقول ساعة مجيء الربّ«(5). نحن أمام »شرح الكتب المقدَّسة«(6) لا أمام لائحة مقفلة لأسفار البيبليا. وحين أورد أوسابيوس القيصريّ رأيَ أوريجان على الأناجيل، كتب: »في المجلَّد الأوّل ''حول إنجيل متّى'' حافظ (أوريجان) على القانون الكنسيّ وشهد أنّه لا يعرف سوى أربعة أناجيل«(7) وأشار إلى »القاعدة (القانون) الكنسيّة«. لم يكن يدلّ بعد بشكل دقيق (مع هذا اللفظ) على عدد الأناجيل المحصور في أربعة. بل أحالنا إلى التقليد المسلَّم في الكنيسة كما يحدِّده مقطع من أوريجان وردَ فيما بعد حول ترتيب تدوين الأناجيل وحدها »اللامنازع« عليها: مت، مر، لو، يو. هي عبارة »لائحة الأسفار المقدَّسة في العهد القديم« التي يستعمل ليقدِّم اللائحة التي أعطاها أوريجان »حسب تقليد العبرانيّين«، لائحة من اثنين وعشرين كتابًا »عهدانيٌّا«(8).

والتبدُّل الذي حصل في القرن الرابع، انطبع هكذا في اللفظ الذي مدَّ القيمة القاعديّة (»قانون«، على مستوى الإلهام كما على مستوى التنظيم)، إلى تعداد مرتّب للّوائح الكتابيّة. مثلُ هذا التحوُّل تمّ في ذلك الوقت، فوضع حدٌّا لحقبة من المجموعة، ميّزت التقليد حول امتداد الأسفار المقدَّسة وحدودها. فمنح تحوّلاً حاسمًا، يضع حدٌّا لامتداد الكتب المقدّسة وبعض محدوديتها، وفتح الأزمنة التي فيها تثبّتت »القوننةُ« وبدت ذات سلطة، كما استبعدت »اللاقانونيّ« بشكل شبه قاطع.

وتطوّر دلاليّ(9) آخر كان إشارة إلى زمن هامّ في تاريخ هذا التأكيد. ونستطيع أن نجعل تاريخه في بداية القرن الثالث، وقد هيّأته العقودُ الأخيرة من القرن الثاني. هو استعمال اليونانيّة »دياتيقي«(10) الذي نُقل إلى اللاتينيّة بلفظ »عهد« للكلام عن الأسفار التي تؤلِّف الكتب المقدَّسة. بالنسبة إلى العهد القديم »نَشهد استعمالَ اللفظ منذ مليتون السرديسيّ(11) ولكنّ الأمر يختلف حين الكلام عن اثنين: العهد القديم والعهد الجديد(12). فخلال زمن طويل، بقي المعنيان للفظ »دياتيقي«: العهد والوصيّة. هو نظام دينيّ مؤسَّس على مفهوم الاختيار الإلهيّ والمجموعة النصوصيّة التي تحمل وحي العهد. وبقيت بنود الاتّفاق لا منفصلة حتّى في مقاطع كانت فيها العودة إلى الكتب المقدَّسة واضحة. كان إيرينه شاهدًا على هذا الالتباسُ(13). وخفَّ هذا الالتباس عند كليمان الإسكندرانيّ الذي فهمَ في »وصيّة منقولة حين مجيء الربّ«، »عهدَ« الله مع البشريّة كما تجلّى في بلاغ المسيح. وفهِمَهُ أيضًا شكلاً ملموسًا لكتابات تَجعل هذا البلاغ ملموسًا. كما استعمل أكثر من مرّة »بالايا دياتيقي« و»نايا دياتيقي« في معنى صار دارجًا: العهد القديم والعهد الجديد(14). هذا الاستعمال التقنيّ تثبّتَ بقوّة في زمن أوريجان، فدلّ على نهاية تطوّر أعطى البيبليا المسيحيّة إحدى سماتها الرئيسيّة بل طابعَها الرئيسيّ: هي مؤلَّفة من عهدين.

إنّ المعطيات المفرداتيّة lexicales التي ذكرنا، تبيّن منذ الآن زمنين قويّين في تاريخ الكتب المقدَّسة في القرون الأولى المسيحيّة. الزمن الأوّل (نهاية القرن الثاني، بداية الثالث)، هو زمن امتداد مفهوم الكتاب المقدَّس إلى نصوص أخرى غير تلك الموروثة من العالم اليهوديّ، وهو يفترض حقبة سابقة هي حقبة التملُّك المسيحيّ لهذا الإرث. والزمن الثاني (النصف الثاني من القرن الرابع) هو زمن مجهود لتحديد العهد القديم والعهد الجديد، والقرارات المتّخَذة لوضع حدٍّ لجدالات بدأت منذ القرن الثاني حول الصحّة الكتابيّة لهذا السفر أو لذاك، ومضمون المجموعتين اللتين كوَّنتا في النهاية البيبليا المسيحيّة. ومع ذلك لم تختفِ الصعوبات، لأنّ الاختلافاتْ بقيت على ترتيب الأسفار وطريقة تعدادها. وهذا ما تضمَّن اختلافات على درجة قداسة النصوص التي احتُفظ بها، والتي تشير إلى خلافات بين الشرق والغرب. فالمسائلُ التي طرحها امتدادُ القانون، تبدَّلت خلال الحقبات الثلاث المشار إليها، حتّى سنة 150، خلال القرنين التاليين، وبعد السنوات 350. وهي ما وجدت لها حلاٌّ نهائيٌّا لدى الكنائس. والمسائل التي يواجهها المؤرِّخ لا عدَّ لها. ونحن لا نستطيع أن نعالج هنا سوى بعض منها.

1- تحديد نسبيّ

إذا إردنا أن نعالج مثل هذا الموضوع، يجب أن نترك الأوهام والأفكار المسبقة التي ولَّدها التطبيقُ الاستعاريّ على واقع قديم، لتمييزات توضَّحت فيما بعد. ونعمل على إيجاد طُرق متنوِّعة للتعرُّف إلى سلطة كتابات خضعت بعد ذلك لنتائج القسمة التي أقامتها القوننة.

ونأخذ مثلاً نصوصًا وُصفت بأنَّها »منحولة« في التقليد الآبائيّ، والتي لأجلها صاغ العلمُ الحديث لفظ »ما بين العهدين«. هي تسمية غير صالحة وغاشّة. لهذا دعاها الأب دانيس(15): »الأدب المسيحيّ اليهوديّ والهلّنستي«، في آخر كتاب يمكن الرجوع إليه. بعضُ أمثلة تكفي للتذكير بتنوّع التقبُّل المسيحيّ لكتابات انتقلت كلُّها بيد نسّاخ ومترجمين مسيحيّين (نضع جانبًا تلك التي وُجدت في مصادر البحر الميت).

ورد أخنوخ بشكل صريح في رسالة يهوذا، لا ككتاب مقبول في العهد الجديد، بل كأحد النصوص المسيحيّة القديمة، على مفترق القرن الأوّل والقرن الثاني. اعتُبر 1أخن 1: 9 على أنّه كلام نبويّ في يهو 14-15(16). ورسالة برنابا (4: 3) ترجع إلى كلام نُسب إلى أخنوخ ليقول: تحدَّث الكتاب عن قرب العثار الأخير. إذا كان مقطعٌ واحد من المجموعة المحفوظة في النصوص والموضوعة على اسم أخنوخ، لا يُقابل بدقَّة هذا الكلام، نستطيع أن نعيده إلى كتاب جليانيّ (رؤيويّ) ضاع بعد أن أورد تقليدًا أخنوخيٌّا(17).

هذا من جهة، ومن جهة ثانية، نعرف الطريق التي سار فيها لدى الآباء مدراشُ (درس وتأمّل) تك 6: 1-4 حول خطيئة الملائكة في 1أخن 6-8، كما نعرف إفادة المسيحيّة الأولى والعصر الوسيط من أخنوخ الأوّل للكلام عن الملائكة. ونكتشف أيضًا عند إيرينه تأثير أخنوخ في كلام عن أصل الشرّ(18) والإيرادات الطـويلـة مـن كـتـاب أخنـوخ الأوّل التـي جاءت عنـد جـورج المـدير الكنسيّ(19)، أخذت على ما يبدو مـن الأزمنــاتيّ (كاتب الأزمنة) بانادور الإسكندرانيّ(20). واستعاد كتابٌ برديّ من القرن الرابع، نصٌّا قد يعود إلى القرن الثالث، فضمَّ أجزاء من القسم الأخير من 1أخن إلى مختارات عادت إلى كتاب نُسب إلى حزقيال، وقد سبقتها عظةٌ من مليتون حول الحاش والآلام(21). وفي الحقبة عينها، في القرن الثالث، برزت مختارات ساعة بدأت السلطاتُ الكنسيّة  تفرض فصلاً تامًا بين عهد قديم ملهم وكتابات متنازَع عليها أو مرذولة، فجعلت جنبًا إلى جنب وثيقتين من هذه الوثائق، وعظةً أبٍ قديم ومحترم.

وهكذا، فبعضُ سمات التقبُّل المسيحيّ لأخنوخ الأوّل، دلّت على قدر هذا الأدب وقيمته. فقد تمكّن أن يُورَد على أنَّه كتاب مقدَّس في أزمنة أولى، وما لبث يُقرأ ويغذّي الفكر التعليميّ. وفي القرن الثالث، ما زال1 أخن يُقدَّم لتأمّل المؤمنين على مستوى كرازة أسقف في القرن السابق. في بداية القرن الخامس، وساعة تكاثرت اللوائح الرسميّة التي تستبعد المنحولات، بقي هذا الكتاب للبحّاثة مرجعًا يستطيعون استغلالَه(22). غير أنّ هذا الاستغلال الأخير لا يعطينا معلومة واحدة عن درجة السلطة المعطاة لوثيقة من الوثائق في جملتها ولا العودة إلى مقطع أبوكريفيّ في فنّ أدبيّ مختلف (حياة القدّيسين) الذي لا يخضع كالأدب اللاهوتيّ والتفسيريّ إلى فوائد تُمليها الكنيسة المؤسَّسة بعد أن حدَّدت القانون. فيبقى أنّ الشهادات الأخرى كشفت واقعًا متحرِّكًا.

ونقدِّم أمثلة أخرى، بين أمثلة عديدة، تُبيّن أنّ الكتّاب الكنسيّين القدماء، اعتبروا كتبًا لم تدخل في القانون، أنّها كتاب مقدَّس. وهكذا نقرأ عند راعي هرماس »قريبٌ هو الربّ من الذين يتوبون، كما كُتب في إلداد وموداد اللذين تنبأا للشعب في البرّيّة« (عد 11: 26-29)(23). ذاك هو الأثر الوحيد، في اليونانيّة، لكتاب ألداد وموداد الذي أشارت إليه عدّة لوائح قديمة (دانيس ص 478). واكتشف بعضُهم في رسالة برنابا (11: 9؛ 16: 6) تلميحين إلى رؤيا باروك السريانيّة(24). أُدخل الأوّل مع عبارة: »ونبيّ آخر قال أيضًا«. والثاني: »لأنّه كُتب«. هذه الإيرادات هي موضوع جدال (دانيس ص 728). فرسالة برنابا جعلت لكتب غابت من اللائحة القانونيّة، وضعَ كتاب نبويّ. وبعض التقليد المخطوط في »شهادات إلى كيرينيوس« للقدّيس قبريانس، يبدأ مع »أيضًا في باروك« إيرادًا يشبه مقطعًا آخر من الرؤيا عينها (48: 33-36)(25).

وأورد كليمان الإسكندرانيّ أقوالاً من »النبيّ صفنيا« الذي خطفه الروح إلى السماء الخامسة، فشاهد الملائكة المخصّصين لتمجيد العليّ (الموشّيات 5/11: 77، 2). هي جاءت من رؤيا صفنيا التي قد تشبه رؤيا حُفظت بعضُ أجزائها في برديّة قبطيّة (دانيس ص 795-799). وكليمان الرومانيّ ضمّ إلى أقوال من حزقيال وأشعيا حول الندامة، نسبها »إلى سيّد الكون نفسه«، أقوالاً جزئيّة في كليمان الإسكندرانيّ، وهي تتيح أن تعود إلى أبوكريف حزقيال(26). بدأ ابن الإسكندريّة مع عبارة »قال النبيّ عزرا« إيرادًا دقيقًا من 4عز 5: 35. وقد جُعل على مستوى واحد مع إر 20: 14، 18 (الموشّيات 3/16: 100، 3). وأعاد في تعليمه حول فهم الكتب، أهمّيّة كبيرة لتقليد يتعلَّق بنظرتين مختلفتين نالهما يشوع وكالب من موسى »المرفوع«. نحن هنا أمام استعادة من »انتقال موسى«(27). لا شكّ في أنّ إكلمنضُس لا يعتبره مقتطفًا من الكتاب المقدَّس، بل معلومة(28) غير أنّ قوّة الإقناع الذي يعطيه، يدلُّ على السلطة العليا التي يمنح لهذا الخبر.

كلّ هذه الأمثلة تدلّ، حتّى بداية القرن الثالث، على أنّ الكتّاب الكنسيّين لا يدركون جميعًا الفرق الأساسيّ داخل الكتابات التي تسلّمها اليهود والتي تتعلَّق بصورة الآباء (إبراهيم، إسحق، يعقوب) وموسى والأنبياء بين نصوص ملهمة تشكِّل مجموعة مقفلة، ومجموعة نَحذر منها ونرذلها. وربّما يرد بشكل »كتاب مقدَّس« كلماتٌ غابت من كتب ستكون فيما بعد في القانون الحصريّ، وأتت من تلك التي حُسبت »منحولة« أو ضاعت أو أُتلفت، بعد أن نالها حكم بأبعادها بعد موت صاحبها.

هذا اللاتحديد لمفهوم »الكتاب«، يظهر جليٌّا حين نقابل الممارسات القديمة مع تعليم سوف يتوضَّح منذ النصف الثاني من القرن الرابع، فتتبدَّل طبيعتُه حسب المراحل المدروسة خلال القرون الثلاثة الأولى. فما نرى من عودة، في زمن كليمان الإسكندرانيّ، إلى وثائق استْبعدت فيما بعد على أنّها »منحولة«، لا نعود نراه في الجيل التالي. وهكذا توضّح النقدُ والتمييز وإبانة الاختلاف عند أوريجان. وأشرف على التطوُّر علاقاتٌ بين المسيحيّة واليهوديّة. ففي العصر »الرسوليّ«، لم تنقطع الروابط بينهما، بل اقتنى الدينُ الجديد هويّته شيئًا فشيئًا داخل العالم اليهوديّ، وكأنّه تيّار فكريّ من تيّاراته. وعكسَ امتدادُ »الكتاب« بشكل مباشر، النموذجَ الذي ورثه. نحلِّل كلّ نصٍّ من النصوص الأولى، سواء كانت كتابات دخلت في »العهد الجديد« أو أناجيل وأخبارًا ورسائل، سواء جعلت فيما بعد بين كتب مشبوهة أو محرّفة (»مهرطقة«)، سواء كانت فقط مميّزة وموضع إكرام في المجموعة الكتابيّة: رسالة برنابا، رسالة كليمان الأولى، الديداكيه أو تعليم الرسل. راعي هرماس. هنا، لا بدّ من القيام بتحليل دقيق مع الأخذ بعين الاعتبار أشكال اليهوديّة التي حملت آثارها.

تختلف الأوضاعُ بحسب ما في البداية: الحركة الجليانيّة (مثل سفر الرؤيا). التقليد الأسيانيّ الذي ترك آثاره في مغاور قرب البحر الميت. التيّار الفرّيسيّ. وحين تتمّ القطيعة، وينطلق الامتداد وسط »الأمم«، كان لمعطيين جديدين نتائج متلاقية: كان موضوع الجدال التملّك المسيحيّ لكتابات يهوديّة. وأحد العناصر في إعادة بناء اليهوديّة بعد دمار الهيكل، كان إقفالَ البيبليا المقدَّسة. فالجدال جعل ما يسمّيه المسيحيّون »العهد القديم«، في خطّ البيبليا التي تحدَّدت بهذا الشكل. فلدى الكتّاب، وفي الأماكن التي لم تكن فيها المواجهة قويّة، لبث اللاتحديدُ كبيرًا. فكليمان الإسكندرانيّ صاحب الثقافة اليونانيّة، تقبَّل بسهولة التقاليد اللاقانونيّة في زمن كان للكارثة التي أصابت العالم اليهوديّ المهليَن في مصر، سنة 115-118، نتائج لا دواء لها(29). هذا العالم اليهوديّ الذي أخذ منه كليمان نتاجه الأدبيّ(30).

وقبل أن نذكر بعض المسائل التي حرّكها التحديد القديم »للعهد العتيق«، ينبغي أن نتذكَّر أهمّ ظاهرة في امتداد القانون المسيحيّ، وهي إضافة إلى »الكتاب« المتسلَّم من العالم اليهوديّ، »كتابًا« جديدًا سوف يشكِّل »العهد الجديد«.

2- ظهور «عهد جديد»

قبل منتصف القرن الثاني، ومع تنوُّع الجماعات المسيحيّة، كانت السمة الأساسيّة لديها الإقرارُ »بكتُب« هي في شكل رئيسيّ الأسفار المقدَّسة في العالم اليهوديّ. ثمّ بمجموعة نصوص ليست هي هي في كلِّ مكان، ولكنّ نطاقها سبق وارتسم(31) دون أن يفرض نفسه على أنّه قاعدة ومعيار(32).

في هذه الكتابات مثل رسالة كليمان الأولى ورسالة برنابا، استعادت الأولى أساليب الوعظ في العالم اليهوديّ، والثانية مَسحنَت المدراش. وكانت العودة إلى »الكتابات«، »الحقيقيّة«، »التي أعطاها الروح القدس«، »كلمات الله«(33). وترافقَ كلُّ هذا مع إشارة إلى موسى و»سائر الأنبياء«(34). وما نسوا »الحكمة الرفيعة« التي تتحدَّث في سفر الأمثال(35). وأدخلت أقوالاً ليست إيرادات أدبيّة من النصوص البيبليّة، بل اختيار وترتيب في أسلوب عرفه المجمع اليهوديّ(36). ودلّ برنابا بعبارة »قال الكتاب« أو بلفظ »كُتب«، على كلمات قريبة جدٌّا من أخنوخ الأوّل(37). والإيراد مع عبارة »كما كُتب« حول كلام نقرأه أيضًا في مت 22: 14: »المدعوّون كثيرون والمختارون قليلون«. هذا الإيراد ليس استثناء حين لا يدلّ على إنجيل متّى على أنّه »كتاب مقدَّس«. هذا المثلُ الواحد الوحيد يجعلنا نفكِّر بالأحرى في مجموعة أقوال (لوغيا)(38). نحتاج إلى الكثير لكي نصل إلى حكم يختلف في حالة يكوِّن التحليل الأدبيّ العناصر القليلة. لهذا يجب أن نبرهن أنّ السياق التعليميّ والدفاعيّ في رسالة برنابا يتوافق مع المقطع المتّاويّ الذي يرد فيه المقال(39). يبقى أنّ كلمة يسوع وردت بشكل »كتاب مقدَّس«. هذا هو من أوّل الشهادات على امتداد ممكن لمقولة كتاب مقدَّس، صاحب سلطة، بالنسبة إلى كتابات متعلِّقة بيسوع.

أمّا الديداكيه فهي موضوع جدالات تعيد النظر في طرحٍ قبِلَه الكثيرون، وهو يقول بأنّ هذا الكتيّب لم يعرف نصوصًا من العهد الجديد، مع العلم أنّه يُلقي بعض الضوء على أصول التقليد الإزائيّ(40). وأراد بعضهم أخيرًا أن يبيّن مثلاً أنّنا لا نستطيع فهم نهاية الديداكيه (العدد 16) حول الانتظار الإسكاتولوجيّ دون أن نرى فيه تكيُّفًا للرؤيا الإزائيّة كما ألّفها مت 24-25(41). ولكن يجب أن نلاحظ أنّ مفهوم »الكتاب« غاب من الديداكيه: فالتلميحات إلى النصوص التشريعيّة في التوراة، تتمّ بوساطة تعليم من أصل رابّينيّ(42). إذًا يكون بالأحرى من العبث أن نبحث في هذه الوثيقة عن شكل قوننة. فهي تقودنا فقط إلى ممارسة نستطيع بها أن نكتشف النصّ الذي ينال سلطة. هذا البحث دقيق في ذاته. وهي مناسبة لنقدِّم ملاحظة عامّة على الأعمال حول العلاقات المتوقَّعة بين كتابات الآباء »الرسوليّين« والمدافعين، والأناجيل التي ستصبح قانونيّة. فالاتّجاه قويّ بأن نفترض اتّصالات مع مراجع أو تقاليد موازية، أو تدوينات جزئيّة لهذه الأناجيل، بدلاً من اتّصالات مع نصوص نهائيّة. فللنقد وقائعُه الدقيقة بحيث نستصعب إدراك ضرورة اللجوء إلى مثل هذه الافتراضات حين يقود التحليل إلى تشابهات واضحة مع مت، مر، لو، أو خلافات بسيطة(43).

وانتمت رسائل إغناطيوس الأنطاكيّ إلى عالم مختلف جدٌّا، يتميّز بخلافات تجعل التيّار الذي يقترب منه الكاتب والمعلِّم في وجه مجموعات غنوصيّة. وهناك مقطع معروف يوجز شهادة إغناطيوس. وبهذه الكلمات يدعو أهلَ فيلبّي ليهربوا من الانقسامات: »أحثُّكم أن لا تعملوا شيئًا بروح المزاحمة، بل بحسب تعليم المسيح، لأنّي سمعتُ من يقول: إذا كنتُ لا أجده في الوثائق لا أؤمن به في الإنجيل«. وحين قلت لهم: ''كُتب''؟ أجابني: ''تلك هي المسألة''. أمّا أنا فوثائقي هي يسوع المسيح. وثائقي المقدَّسة هي صليبه وموته وقيامته، وإيماني به. في هذا أرغب، بصلواتكم، أن أتبرَّر«(44).

اللفظ اليونانيّ »أرخايا«، الأرشيف، يدلّ على العهد القديم. والإنجيل (اونغليون) لا يدلّ للوهلة الأولى على إنجيل مكتوب، بل على تعليم المسيح والإيمان به، كما أعلنتْه الكنيسة(45). ما يرفضه خصوم إغناطيوس هو تفسير »أرخايا« من أجل اكتشاف مسيح متجسِّد ومتألِّم. ذاك هو معنى الجواب: »تلك هي المسألة«. ما وجدوا في العهد القديم تعليمًا حول واقع التجسُّد والآلام والقيامة، فلامَهم إغناطيوس بأنّهم يتعلَّلون بحرف الكتب المقدَّسة ليُسندوا قولهم بأنّ هذه الأحداث حصلت في الظاهر(46). أمّا تفسيره فراح في خطّ معاكس، وفي توافق مع التقليد الشفهيّ »للإنجيل«(47). يبقى أنه لا يستعمل لفظ »كُتب« إلاّ لمقاطع من سفر الأمثال(48)، مع أنّه أورد آيات من المزامير ومن أشعيا.

وبين النصوص القديمة، نتوقَّف عند الرسالة الثانية إلى تيموتاوس (3: 15-16). هنّأ كاتبُها متسلِّم الرسالة لأنّه يعرف »منذ نعومة أظفاره، الكتب المقدَّسة«. من الواضح أنّه يشير إلى الشريعة والأنبياء وبعض كتب الحكمة. وأضاف، بخلاف مرمى يعرض مرمى خصوم إغناطيوس، وبطريقة أوضح ممّا نجد عند إغناطيوس أسقف أنطاكية: »هي تَقدر أن تزوِّدك بالحكمة التي تهدي إلى الخلاص في الإيمان بالمسيح يسوع«. نحنُ هنا في بداية التفسير الآبائيّ للعهد القديم. ولكن غاب، والغياب خطير هو. غاب الرجوع إلى مجموعة كتابات أخرى، إلى العهد الجديد. البرهان الضمنيّ هو أنّ الكرازة الشفهيّة بيسوع تكفي(49). عندئذٍ تظهر عبارة بشكل شعار: »فالكتاب كلُّه من وحي الله«(50). وهي تنطبق على ما سيصير للمسيحيّين، »العهد القديم«.

وجاءت رسالة بطرس الثانية بعد 2تم، فاستخرجت خلاصة تُدخلُ في فهم الكتاب المقدَّس، قاعدةَ الجدارة الروحيّة وسلطة معلِّمي الجماعة، وهي قاعدة لعبت دورًا كبيرًا في تحديد القانون: »واعلموا قبل كلِّ شيء أن لا أحد يقدر أن يفسِّر من عنده أية نبوءة في الكتب المقدَّسة، لأنّ ما من نبوءة على الإطلاق جاءت بإرادة إنسان، ولكنّ الروح القدس دفع بعض الناس إلى أن يتكلَّموا بكلام من عند الله« (2بط 1: 20-21). وهذا التحذير يتردَّد صداه حتّى نهاية الرسالة، وبالنسبة إلى رسائل بولس الرسول: »كما كتب إليكم بذلك أخونا الحبيب بولس، على قدر ما منحه الله من الحكمة، كما هي الحال في جميع رسائله التي تكلَّم فيها على هذه المسائل، فوردت فيها أمورٌ غامضة يحرِّفها الجهّال وضعفاء النفوس، كما يفعلون في سائر الكتب المقدَّسة، لهلاك نفوسهم« (2بط 3: 15-16). هذا برهان على وجود مجموعة رسائل بولس المتمتِّعة بالسلطة، في ذلك الوقت. وقد جُعلت على مستوى »الكتب المقدَّسة«. ساعة اللفظُ »كتابة« في المفرد أو في الجمع يدلُّ بشكل حصريّ على »النبوءة«، أو العهد القديم، تمّت خطوة واسعة لرفع نصوص أخرى ومنها الرسائل البولسيّة، إلى الوضع الكتابيّ(51).

وهناك علامات تدفعنا في الوجهة عينها، تظهر في الرسالة إلى الفليبّيّين التي دوَّنها بوليكرب الإزميريّ. لا يُستبعَد أنّه يجعل الرسائل البولسيّة بين »الكتب المقدَّسة«(52) كما نفهم من هذا المقطع: »أنا على يقين بأنَّكم متمرِّسون في الكتب المقدَّسة وأنَّكم لا تجهلون شيئًا منها: فأنا لا أمتلك هذه الموهبة. غير أنّه كما قيل في الكتب المقدَّسة: ''اغضبوا ولا تخطأوا'' (مز 4: 5)، و''لا تغيب الشمسُ على غضبكم« (أف 4: 26). طوبى لمن يتذكَّر ذلك. وأظنّ هكذا أنّ هذا ينطبق عليكم«(53). أوردت الرسالة إلى أفسس (4: 16) إرشادًا من مز 4: 5 ولكنّ العبارة الثانية غير موجودة في الرسالة البولسيّة. ومن المعقول أيضًا أن يكون بوليكرب عارفًا بسائر الرسائل البولسيّة، ما عدا كو، 1تم، فلم، تي، والأناجيل. وهو يورد أيضًا 1بط و1-2يو(54). إنّه ينتمي إلى زمن من الممارسة الرسائليّة المسيحيّة، حيث الرجوع إلى مجموعة كتابات لها سلطتها، حلَّ محلّ تذكُّرَ اللقاء الأوّل للرسول مع جماعاته، بشكل كرازة شفهيّة لكلام الله. هذا التحوُّل العميق في الممارسة الرسائليّة في المسيحيّة الأولى، بدَّلت دورَ المكتوب وهو عمل مكدِّسين ومفسِّرين، وفي الوقت عينه بدّلت الرجوع إلى الكتاب المقدَّس الذي ضمّ نصوصًا نبحث فيها عن نماذج مؤسِّسة(55). وذلك في توسُّع يقدِّم رسمة أولى عن عهد جديد دون أن يكون لنا الحقّ بأن نتكلَّم منذ الآن عن قانون عهد جديديّ(56).

وما يسرّع توسُّعَ العهد الجديد، آتيًا ليكمّل وينهي في المسيحيّة البيبليا المسلَّمة من اليهوديّة، هو أزمة عميقة سبّبها تدخُّلُ مرقيون، وجدالٌ مع الذين ندعوهم »غنوصيّين«.

فإذا أردنا أن نعيش هذا التسريع، نبحث عن شهادة واحد من أولئك الفاعلين في هذه الصراعات. هو الكاتب الكنسيّ (يوستين) لأقدِّم ردّ على خصوم صاغ لأجلهم لفظ »هرطقة«(57). ثمّ نلاحظ التحوُّل الذي تمّ بينه وبين إيرينه.

تدلُّ مؤلّفات يوستين(58) (السنوات 150) المحفوظة لنا، على السلطة التي نعمت بها الأناجيل الإزائيّة. لا شكّ في أنّ النقد لم يتوقَّف منذ القرن الثامن عشر. وما زالت الطروحات تتناقض حتّى اليوم. اعتبر البعض أنّ يوستين (أو مدرسته) أراد تأليف إنجيل منسَّق يحلّ محلّ متّى ولوقا، وربّما مرقس(59). والبعض الآخر لفتت انتباههم الأهمّيّةُ المعطاة لتقاليد مكتوبة لأقوال يسوع(60) ولكنّ التفحُّص الدقيق لأقوال هذا المدافع، يتيح لنا أن نُدرك تقديره لهذا الشكل من النقل، ومعرفته لأناجيل صارت قانونيّة فيما بعد.

في بداية الدفاع الأوّل، شدَّد يوستين على التعليم الواصل من المسيح، الابن الآتي من الآب لكي يُعطي هذا التعليم. وهذا التعليم ما زال يُمنَح للمسيحيّين (4: 7؛ 6: 2؛ 8: 23). وفي ذروة الدفاع عن المسيحيّة وإعطاء صورة عنها، كشف الوصف حول صلوات الجماعة التي تَقبل المعمّد الجديد، وحول »الإفخارستيّا« التي لا يشارك فيها إلاّ الذين يعيشون كالمسيح »كما نقل المسيح«(61)، إذًا كشف أنّ »التعليم«، أو التقاليد المسلّمة، تضمّ مذكّرات دوَّنها الرسل. الطعام الإفخارستيّ بكلمة الصلاة الآتية من عنده، »عرفه المسيحيّون« أنّه جسد يسوع ودمه هذا الذي صار بشرًا« (66: 2). فسلَّموا في المذكّرات التي ألَّفوا والتي دُعيت أناجيل أنّهم أُمِروا: أخذ يسوع خبزًا وبعد أن شكر قال: »اصنعوا هذا لذكري« (66: 3). يبيّن هذا المقطع أنّ التعليم الذي انتقل بعناية في كتابات الرسل هذه، وطبَّقه تلاميذ يسوع، نبعُه المسيح نفسه، الابنُ الآتي من لدن الآب (6: 2). لا شكّ في أنَّ هذه التقاليد نعمت بأعلى سلطة. وإن لم تُدعَ »كتبًا مقدَّسة«.

ويُسند هذه النتيجة توسُّعٌ آخر مهم: المقدِّمة لأقوال يسوع الستّة وعشرين، التي توزَّعت في عشر مجموعات اختيرت لتقدِّم »بعض تعاليم المسيح نفسه« (14: 1). وُصفت بأنَّها »قصيرة، موجزة«. وأضاف: »كان سفسطائيٌّا، بل كانت كلمته قدرة الله« (14: 5)(62).

وحين فسَّر يوستينُ اهتداءه في الحوار مع تريفون، تمنّى أن لا يبتعد إنسان عن أقوال الربّ(63) لأنّها تتضمَّن »جلالة رهيبة تمكِّنها من إضافة من يميلون عن الطريق القويم. ولكنّها تمنح للذين يتعلَّقون بها، أعذب راحة« (8: 2). وجعل تريفون يقول: »لكم... في ما يُدعى الإنجيل فرائض عظيمة وعجيبة، بحيث أظنُّ أنّ ما من أحد يستطيع أن يتبعها. لقد اهتممتُ بقراءتها« (10: 2؛ رج 18: 1). وإذ أشار إلى معموديّة يسوع، أوضح: »وحين صعد من الماء، رفّت الحمامة فوقه. ذاك ما كتب الرسل عن المسيح نفسه« (88: 3). في الحقيقة »الرسل هم هؤلاء الرجال، »أصدقاء المسيح« الذين قال عنهم، كما قال عن الأنبياء إنّه أحبَّهم (8: 1). وعبارة »مذكِّرات الرسل« استُعملت 12 مرّة في توسُّع أعلن خبر يشوع في يش 5: 2-3 والختانة الثانية التي تمّت بيد يسوع المسيح، مع سكاكين من حجر هي كلماته، وهي كلمات كرز بها الرسل عن »حجر الزاوية« (113: 6-7؛ 114: 4).

إذا أخذنا بعين الاعتبار العرض السابق، نحن أمام تقاليد مكتوبة، وهذا أمرٌ لا شكَّ فيه. وسلطتُها تأكّدت بقوّة كبيرة. فهناك مقاطع عديدة من الدفاع الأوّل ومن الحوار مع تريفون، التي تبيّن أيضًا أن يوستين جعل لأقوال يسوع الوضعَ نفسه الذي لأقوال الأنبياء(64).

أن لا يكون بدأها مع عبارة »كُتب«، لا يعني أنّه يعتبرها أدنى من الكتب المقدَّسة(65) بل قال بوضوح في كلامه عن دعوة إبراهيم، التي امتدّت إلى الشعب الجديد: »فكما أنّه آمن بصوت الله، وأنّ هذا الإيمان حُسب له برٌّا (تك 15: 6)، كذلك آمنّا نحن بصوت الله الذي كلَّمنا من جديد بواسطة رسل المسيح، والذي أعلنه الأنبياء« (119: 6؛ ستانتون ص 359-360). فإلهام الرسل يوازي إلهام الأنبياء.

أمّا مذكّرات الرسل، فأعلن يوستين أنّها دُعيت »أناجيل«(66). هو أوّل استعمال للفظ في صيغة الجمع، في الأدب المسيحيّ القديم. وأثبتت مقاطع أُخرى، أنّ يوستين عنى بذلك ذكريات الرسل أكثر من إنجيل(67). ما هو أكيد هو الرجوع إلى متّى ولوقا، وفي شكل محدود إلى مرقس. وقُدِّمت براهين لا بأس بها بالنسبة إلى يوحنّا. ولكنّ المسألة بقيَت موضعَ جدال(68). وليس بأكيد أنّنا نستطيع أن نحسب يوحنّا في عداد »مذكَّرات الرسل«. لا شكّ في أنّ يوستين عرف أقوال يسوع أو تقاليد عن يسوع في أشكال أخرى، شفهيّة أو مكتوبة(69). ولكن حين يرجع إلى تلك »المذكَّرات«، فهو يستعمل واحدًا من الأناجيل التي صارت قانونيّة، واحترامُه الدينيّ لإلهام الأناجيل المكتوبة، يَبرز أيضًا في شكل علميّ في اختيار تسمية ملاحظات تذكُّريّة(70): لا يعود اللفظ عنده إلى »مذكَّرات«. ولكنّه يسجِّل الأناجيل في تقليد أدبيّ يعود إلى »مذكَّرات« أكسينوفون حول سقراط(71). ويجب أن نذكر أخيرًا أن يوستين هو أول شاهد لاستعمل لفظ »أناجيل«في الليتورجيا يسمّيها ويسمّيها »مذكَّرات الرسل«: قال: تُقرأ في احتفالات الأحد. ثمّ »إنّ المترئِّس يتكلَّم ليوجّه التنبيهات ويحثّ الجماعة على اتّباع هذه المثالات الحلوة«(72).

ويمكن أن نحتفظ بأنّ الطريقة التي بها تكلَّم يوستينُ عن الأناجيل، وشهادته حول مكانتها في العبادة، تعلّماننا أنّ الأناجيل الإزائيّة، وربَّما إنجيل يوحنّا أيضًا، نالوا في رومة حوالي سنة 150 سلطة توازي سلطة الأنبياء. ثمّ إنّ الاستعمال الليتورجيّ لا يُقدَّم على أنّه عمل جديد، بل أمر ثابت وبالتالي سابق لهذا التاريخ. وهو لا ينحصر في رومة(73)، لأنّ يوستين يبدأ كلامه فيقول: »في اليوم الذي يُدعى يوم الشمس، كلُّهم، سواء أقاموا في المدن أو في الأرياف، يجتمعون في مكان واحد، ويقرأون ''مذكَّرات الرسل'' أو كتابات الأنبياء، خلال الوقت المتاح«(74).

ومع ذلك يبقى يوستينُ بعيدًا عمّا نفهم عادة بـ »القانون الكتابيّ« أي بلائحة مثبَّتة بدقّة للكتب الملهمة، التي لها سلطة، والتي تكوِّن مجموعة الكتاب المقدَّس المعتَرف بها والمقبولة، كقاعدة إيمان لمجموعة دينيّة كبيرة. واللائحةُ هي نتيجة قرارات من تضمّنات واستبعادات، تُؤخذ بعد مشاورات جدّيّة، وفي توافق واسع لدى الجماعة(75). إذا كان تملُّك البيبليا اليهوديّة في عصر يوستين، أي السبعينيّة، في المحيط الحضاريّ الذي يعيش فيه، يتضمَّن مفهومًا للكتاب المقدَّس يشتمل عددًا من هذه السمات، مع استثناءات يجب العودة إليها، فليس الأمر كذلك بالنسبة إلى »مذكَّرات الرسل«. هي تُعتبر أسفارًا ملهمة، ذات سلطة. وهي تعمل لتقديم قاعدة الإيمان والسلوك والعبادة. وطريقة الرجوع إليها تجعلها قريبة من تلك التي تُدعى صراحةً »كتبًا مقدَّسة«. ولكنها لم تدخل بعدُ بشكل واضح في المجموعة الكتابيّة. هي موجودة مع مجموعات أخرى، شفهيّة أو مكتوبة. وهي لا تحمل عنوانًا يعرِّفنا بكلِّ منها. ولا لائحة محصورة، ولا ترتيب في توالي الكتب في لائحة. ومن المعروف أنّ الاختيار لم يكن موضوع مشاورات عامّة، تصل إلى قرارات تفرض نفسها كشريعة. ولا نستطيع بعدُ أن نقول، دون أن نلطِّف التعبير، أنّ يوستين »هو آخر ممثِّل لهذه الحقبة، حقبة أصول تاريخ القانون، حيث لا يمكن أن تستند الكرازة عن المسيح، إلى أي »كتاب« آخر سوى العهد القديم الذي ورثنا«(76)، لأنّ وضع مذكَّرات الرسل هو بالنسبة إلى الإلهام والسلطة، على درجة واحدة مع كتابات الأنبياء. ولكن ليس لها »عهد جديد« بجانب »العهد القديم«.

ولم تمضِ ثلاثة عقود حتّى شهد المُؤلَّف الرئيسيّ (الردّ على الهراطقة) لإيرينه تبدُّلاً عميقًا، وهو الذي قرأ يوستين واستعمله. وإحدى السمات البارزة هي مثال الإنجيل الواحد في أشكاله الأربعة (3/11:8) حيث لا يزيد واحد ولا ينقص واحد (3/11:8؛ 3/9:1، 12)، وكلُّ نصّ من هذه النصوص يُعطى اسمًا وينتمي إلى »الكتب المقدَّسة«. أسباب عديدة تشرح هذا الاختلاف: تثبيت البُنى الكنسيّة. وعيٌ للتنوُّعات الليتورجيّة والتنظيميّة التي يشهد لها إيرينه نفسه، والمجهود من أجل حصرها. بروز نظرة أرثوذكسيّة (أي أيمان مستقيم). نشر الكتب التي تضمّ الأناجيل. ولكن بلا شكّ، يبقى السبب الرئيسيّ نتيجة الصراع مع مرقيون ومع الغنوصيّين الذين يضعضعون سلطة البيبليا بطرق مختلفة، ويشدِّدون على وحي المخلِّص. والجدال حول الكتاب المقدَّس، لا يشير إلى تحديد أسفاره، بل إلى إلهامه وإلى طريقة تفسيره. لا خلاف بين مرقيون وخصومه حول حدود العهد القديم. وكذا نقول عن الغنوصيّين، ولكنّهم وضعوا على المحكّ شرعيّة الشريعة والأنبياء بالنسبة إلى المسيحيّين.

نذكر بشكل موجز مواقف مرقيون الذي وصل إلى رومة حواليّ سنة 139، وأسَّس كنيسته الخاصّة بعد سنة 144، وهكذا نقدِّر التحدّي الذي شكّله، في وقت كان فيه الكتاب المقدَّس للمسيحيّين »البيبليا الموروثة من اليهود« في شكل أساسيّ(77). أكَّد مرقيون جديد الإنجيل المطلق. فالمسيح عرّفنا إلى إله صالح، صبور، رحيم، مختلف عن إله البيبليا، ذاك المنتقم والغيور والقاسي في عدالته والمرهوب في عقاباته. واحتفظ مرقيون من تعليم بولس (بعد أن حجَّره) التعارض بين النعمة والشريعة. فلام الكنيسةَ لأنَّها شوَّهت صحّة الإنجيل حين أقرّت بكتابات اليهود، ولأنَّها حوَّلت وحيَ المسيح حين ربطته بالعالم اليهوديّ. اعتبر أنّ المتهوِّدين زوَّروا كتابات بولس بعد موته. فأراد تنقيتها من كلّ نصّ مُقحَم. فالرسول، في نظره، هو من اختاره الله بسبب المؤامرة التي خدعَت الاثني عشر بعد الصعود. وما إن أعيدت الرسائل البولسيّة (حسب اعتباره) إلى تماميَّتها الأولى، حتّى صارت له نموذجًا لإعادة تكون الإنجيل »الحقيقيّ«، مع تفضيل واضح لإنجيل لوقا. الاختيار والإلغاء، ميّزا نقده العهد الجديديّ (إذا حقّ لنا أن نستعمل هذا اللفظ قبل وقته). وكانا ذروة تعليمه الكتابيّ.

وهكذا أعطى مرقيون لنفسه الوسائل لإسناد التمييز بين إله الشريعة والإله الصالح، الإله الواحد الحقّ، بحسب لو 18: 19. بين خالق الكون والإله »الغريب« الذي يختلف عنه كلّ الاختلاف. بين إله اليهود والإله الذي أوحاه المسيح، بين »مشيحا« (ملك ممسوح بالزيت) وُعد به إسرائيل وبين مخلِّص أتى من ما وراء متسامٍ، الذي ما تجسَّد حقٌّا، بل اتَّخذ ظاهر جسم بشريّ (من لحم ودم). أتى بفعل مجّانيّ كامل، وبحبّ طاهر، ليحرِّر من عبوديّة العالم، نفوسًا ليست له، من أجل سعادة أبديّة. وقام مرقيون بعمليّة قطع شرس في المسيحيّة. ما اكتفى بأن يرذل كلَّ استعارة (أليغوريا)، بل أخذ بقراءة حرفيّة دقيقة، شاجبًا كلَّ تفسير يرى في البيبليا نبوءات عن مجيء المسيح، والصورَ التي تعلن عمله. دمَّر سلطةَ الكتاب المقدَّس، وضرب الرباطات القائمة بين أساليب تأويليّة مناسبة، ترتّبت منذ الأنجلة الأولى، وأقدم الكتابات التي تشهد لها. بين البيبليا المسلَّمة من العالم اليهوديّ وبلاغ يسوع وتلاميذه، الذين كانوا يهودًا فرجعوا إلى البيبليا. وبين نتائج هذه الهزّة التي سبَّبها مثلُ هذا الهجوم، كان بروزٌ سريع لعهد جديد يوسِّع الكتاب المقدَّس(78).

وتَشارك الغنوصيّون(79) مع مرقيون، فميَّزوا الإله الصالح من الإله العادل، الإله المتسامي والباري(80) وحطّوا من قَدر الشريعة، وعادَوا العالم والمادّة. ومع ذلك، هناك اختلافات عديدة تفصل في ما بينهم: هم يرون أنّ البشريّة، في جزئها الروحيّ، مساوية في الجوهر مع المخلِّص الإلهيّ، الذي يخلِّص نفسه حين يخلِّص الإنسان. بدوا مزاحمين للكنيسة المؤسَّسة، لا لأنّهم أرادوا أن يؤسِّسوا جماعات مبنيّة بناء محكمًا، بل لأنَّهم شجبوا طموحًا مفرطًا لدى تراتبيّة دنيويّة من أجل امتلاك السلطة. وعاد تفسيرهم للكتاب إلى الأليغوريّا (الاستعارة) بشكل وافر. لجأوا إلى تقاليد سرّيّة، واعترفوا بعدد من الأناجيل والرؤى التي لا مكان لها عند مرقيون(81). فبدايةُ سفر التكوين الذي قرئ في الاستعارة، كان واحدًا من نصوصهم الرئيسيّة التي رجعوا إليها من أجل اللاهوت والكوسمولوجيّا (النظرة إلى الكون) والأنتروبولوجيّا (النظرة إلى الإنسان). استُعيد هذا السفر أكثر من مرّة، وأعيدت كتابتُه في نصوص نجع حمادي. وغياب أشكال ثابتة في هذه التوسّعات التفسيريّة، تمنعنا من اعتبارها نتاجًا يصبو إلى أن يخلق »بيبليا غنوصيّة« تحلّ مكان البيبليا المسيحيّة، الكتاب المقدَّس(82). ووجدوا أيضًا لدى الأنبياء إيحاءات أساسيّة(83). بل إنّ حدود المعرفة النبويّة ساعدتهم لإسناد نهجهم(84). والفرق بين الإله الآب، الصالح وبين الباري، وصل بهم أيضًا إلى تمييز بين ينبوعَيْ الإلهام. وهكذا أدخل هذا التعليمُ تجزئة أونطولوجيّة في أسفار الأنبياء بين مختلف مستويات المعنى. ويتقوّى هذا الفصل مع سموِّ يُعطى لوَحْي الإنجيل. وهكذا تعارضت هذه التجزئة، مع التقليد المعروف منذ يوستين. والتمييز المعطى لبلاغ المسيح يجد صورة له أيضًا في أنّ الغنوصيّين كانوا الأوّلين بين المسيحيّين، الذين قدَّموا شروحًا للأناجيل. فألَّف باسيليد »تفسيريّات« جعلت مكانًا واسعًا لشرح آيات إنجيليّة(85). وهرقليون، تلميذ ولنطينُ، كان أوّل من قدَّم شرحًا لإنجيل يوحنّا(86).

وَاجه يوستينُ نفسُه تحدِّيات مرقيون والغنوصيّين في »مقاله ضد الهرطقات الحاصلة« الذي سبق الدفاعيّين. هو كتاب ضاع اليوم، ولكن عرفه إيرينه(87). لا يتيح تعليمُ يوستينُ الكتابيّ أن يردّ بفاعليّة على هذه التحدّيات. فمرماه الأنتيمرقيونيّ والأنتيغنوصيّ ندركه في »الحوار مع تريفون« ولاسيّما في الإطواء المعطى للتفسير الهجوميّ لفرائض الشريعة وقواعد العبادة، التي صارت وسائل زمنيّة تُبعد إسرائيل عن ضلالات الوثنيّة والأصناميّة. وتتبدَّل طبيعةُ البرهان حين لا يعود يشير فقط إلى اليهود، بل إلى الهراطقة الأنتيناموسيّين(88). واستطاعوا أن يكتبوا بحقّ: »القضيّة هي الحفاظ على وحدة الوحي، وبالتالي تبيان الطقوس اليهوديّة على أنّها امتلكت في الماضي وسائل لا بدّ منها من أجل تقديس إسرائيل وخلاصه«(89). والهدف كان الدفاع عن تماميّة الكتاب المقدَّس ووحدته.

وهكذا دُفع يوستينُ ليميِّز ثلاث حقبات كبرى: واحدة، سابقة لموسى وسابقة للشريعة (الحوار 11: 2؛ 93: 1). وحقبة الشريعة التي صارت بالضرورة موقَّتة بطابع الشعب القاسي الرقاب (الحوار 18: 2؛ 19: 5-6؛ 20: 4؛ 21: 1؛ 22: 1ي؛ 46: 5). بعد هذا الزمن تأتي، مع الأنبياء والمزامير، حقبةُ لا تُشرف الشريعةُ بعدُ عليها، بل وحي مشيئة الله الأزليّة، كما تمَّت في المسيح. غير أنّه في الحقبة الثانية، تنظَّمت فرائضُ وطقوس على أنَّها سرّ المسيح، وأخرى من أجل التقوى تجاه الله وممارسة العدالة بحسب مخطَّط الله السامي.

مثلُ هذا التاريخ الخلاصيّ لا يفعل في مرقيون، ولا اكتشافُ »أسرار المسيح«، التي تعبرُ بواسطة التفسير التصويريّ. وقوّته ضعيفة، بقدر ما يترك الإنجيل جانبًا، على أنّه نصّ يمتلك سلطانًا. ولا يتضمَّن على الغنوصيّين برهانًا قاطعًا بالنظر إلى التمييزات التي يحافظ عليها. فالوثيقة التي من أصل غنوصيّ، والتي تستعمل لغةً خاصّة لإقامة حوار مع المسيحيّين، في حين هي تعارض مرقيون، »رسالة إلى فلورا« البطليميّة(90)، بيّنت أنّ جوابًا مثل جواب يوستين يمكن أن يُخضَع ويميل عن هدفه(91).

إنّ القسمة المثلّثة للشريعة الإلهيّة كما قدَّمها تلميذ ولنطينُس، تتشابه مع قسمة يوستينُ: هناك عناصر »أتمَّها« يسوع، وهي تشكِّل »التشريع النقيّ«. وجزء مليء بالشرّ والجور، قد ألغاه المخلِّص لأنّه لا يتوافق مع طبيعته. وأخيرًا، جزء نمطيّ ورمزيّ أُعدَّ ليمثِّل الروحيّ والمتساميّ، وفرائض العبادات والاحتفالات(92). والفرق الجوهريّ هو أنّ قسمة الشريعة المثلَّثة كما طُرحت هنا، لا تنفصل عن التمييز بين مبادئ ثلاثة: الإله العليّ، إبليس، »الوسيط« أو المتوسِّط(93). وفرقٌ آخر هو إنّ بطليمُس اتَّخذ معايير صريحة للحكم على الشريعة، في إعلانات المخلِّص. فأورد مت 19: 6-9؛ 15: 4-5(94)، ورجع إيضًا إلى »الرسول بولس«(95) وإلى »رسول« آخر هو يوحنّا (يو 1: 3 في الرسالة 3: 6). كما يحتمي في »التقليد الرسوليّ«. قال: »تلقّيناها نحن أيضًا عن طريق التعاقب. وأخضعنا أيضًا كلَّ أقوالنا لقاعدة تعليم مخلِّصنا«(96).

لا يمكن أن نُعلن بشكل أوضح، القيمة القاعديّة لكلِّ فهم للشريعة، لنصوص الإنجيل والرسول. ولا يقدر الجدالُ بعدُ أن يلغي مسألة ''العهد الجديد''، ولا مسألة العلاقة بين إلهام الكتاب المقدَّس ووحي الإنجيل، لمحو خلافات من النظام الأونطولوجيّ بين مراجع الكتاب ومراجع الإنجيل. وهكذا نرى أنّ لامتدادِ القانون الكتابيّ أسبابًا فساريّة ولاهوتيّة مرتبطة بعضها ببعض(97).

سيشهد إيرينه أنّ الخطوة الحاسمة قد تمَّت في الجيل الذي يفصله عن يوستين، ويجعل التفكيرات السابقة متماسكة بعد أن يطبعها بطابعه(98). والتعليم الذي صاغه قد دُرس ومُحِّص. ولا حاجة إلى تفحُّصه في حدود هذه الدراسة(99). نتذكَّر هنا فقط أنّه قدَّم النموذج لبيبليا مسيحيّة في عهدين، حيث الثاني يتحقَّق من فهم الأوّل. ما أوضح لائحةً تامّة للكتابات القانونيّة. فاهتمامه ليس بتاريخيّ، بل لاهوتيّ، ومهتمّ بالوحدة: الله واحد. المسيح واحد. الخلاص واحد(100). وسمةٌ هامّة في المسيرة اللاحقة للقوننة، هي منذ الآن حاضرة: استبعد نصوصًا اعتبرها إيرينه غريبة عن التقليد الصحيح. فاعتبر أنّ الغنوصيّين صاغوا أقوال يسوع وكتابات رسوليّة ليعطوا لسُطرهم ظاهرَ قاعدة مسيحيّة: »ذاك هو خبرهم الأساسيّ: ما أعلن الأنبياء، والربّ ما علَّم، والرسل ما نقلوا. بل يفتخرون هم بأنَّهم يعرفون أكثر من الآخرين، بفضل امتياز خارق الطبيعة. وإذ يقدِّمون نصوصًا لاكتابيّة، وإذ يهتمّون بحسب المثل أن ينسجوا حبالاً بواسطة الرمل، يحاولون أن يكيِّفوا بشكل مقنع، على أقوالهم، إمّا أمثال الربّ، وإمّا كلمات الأنبياء، وإمّا خُطب الرسل، بحيث لا تبدو خدعتُهم محرومة من الشهود« (الهرطقات 1/8: 1). ونجد صدى لهذا المقطع، في توسُّعٍ تظهر فيه القاعدة التالية: لا نُضيف ولا نحذف. وهي قاعدة لعبت دورًا كبيرًا في تاريخ القانون(101): »العرفان الحقيقيّ« يقوم في »احتفاظ لا مصنّع بالكتب المقدَّسة، في حساب تماميّ لها، بدون إضافة ولا حذف(102)، في توافق تامّ مع هذه الكتابات، في شرح صحيح، متناسق، بمنأى عن الخطر والتجديف« (الهراطقة 4/33: 8).

وتساءل الباحثون أيضًا: هل لعبت المونتانيّة(103) دورًا في تكوين القانون؟ في الواقع، ما عارضت »النبوءةُ الجديدة نصوصَ التقليد المسيحيّ المبدئيّ، فحدَّدت موقعها في تواصلها التاريخيّ. أمّا المواجهة فعملت فقط على حصر الوحي في ماضٍ مضى، وعلى تقوية عنصر الرسوليّة. فالتأثير اللامباشر للمونتانيّة، قاد إلى وجهة تحديد القانون(104).

والجدال الداخليّ مع مرقيون والغنوصيّين وصل، من زمن إيرينه، إلى تعليم عن بيبليا واحدة وحيدة، تتضمَّن مجموعتين من الكتب التي لها سلطان، وتوضَّحت حدودُها: امتداد في وصول إلى الوضع الكتابيّ للكرازة الإنجيليّة. تحديد في رذل بعض الكتب خارج »العهد الجديد« الصريح. واستطاع أوريجان أن يُنشد وحدة المجموعة، التي أكَّدها المسيح، فجعل من الإنجيل قانونًا في القانون:

في رأينا، ليس في سفر واحد تكلَّم الكتاب عن المسيح. آخذُ لفظَ »سفر« في معناه العاديّ. فالكتاب تحدَّث عنه في سفر التكوين. وكان كلام عنه أيضًا في كلٍّ من الأنبياء وفي المزامير. وبشكل عامّ في جميع الكتابات التي يُحيلنا إليها فيقول: »تَبحثون في الكتب لأنَّكم تظنّون أنَّكم تجدون فيها الحياة الأبديّة. فهذه الكتب تشهد لي« (يو 5: 39). فإن هو أحالنا إلى الكتب المقدَّسة وقال لنا إنّها تشهد لي، فهو لا يُحيلنا إلى هذا السفر أو ذاك، بل إلى كلّ التي تتحدَّث عنه، تلك التي يدعوها »درج الكتاب« حين يقول في سفر المزامير: »كُتب عنّي في درج الكتاب«. فإذا أردنا أن نُرجع ببساطة عبارة »في درج الكتاب« إلى أحد الأسفار التي تعنيه يجب أن نشرح السبب الذي يجعلنا نفكّر في هذا السفر أو في غيره. فإن افترضنا أنَّ هذه الكلمة تحيلنا إلى سفر المزامير بالذات، نجيب أنّه انبغى عليه أن يقول: في هذا الكتاب كُتب عنّي. في الحقيقة، دعا جميع الأسفار »درجًا«، لأنّ الكلمة التي جاءت إلينا عنه، أُوجزت في واحد كامل. وما معنى أن يكون يوحنّا رأى كتابًا مكتوبًا »من الأمام ومن الوراء«، كتابًا مختومًا لا يستطيع أحد أن يقرأه، ولا أن يحطِّم الختوم؟ (رؤ 5: 1-3). هو الأسد الخارج من قبيلة يهوذا، وأصل داود (رؤ 5: 5)، ذاك الذي له مفتاح داود: يفتح فلا يغلق أحد، ويغلق فلا يفتح أحد (رؤ 3: 7). فالكتاب المقدَّس كلُّه معنيٌّ بهذا الكتاب. كُتب »من الأمام« بحسب القراءة الأولى التي نقرأ، و»من الوراء« بحسب القراءة الخفيّة والروحيّة(105).

الخاتمة

تلك كانت محطّة أوّلاً في دراستنا لامتداد قانون الأسفار المقدَّسة في القرون المسيحيّة الأولى. في الأصل، هو العهد القديم، بدءًا بالأنبياء. فالأناجيل لم تُكتَب حالاً بعد موت يسوع. فأوَّلُها، إنجيل مرقس، دوِّن حوالي سنة 69-70. وآخرها يوحنّا جاء في نسخته الأخيرة حوالي سنة 100. ودُعيَتْ هذه الأناجيل، ولاسيّما الإزائيّة، منها »مذكَّرات الرسل«. لا شكّ في أنَّ رسائل بولس كوَّنت مجموعة ذكرتها رسالةُ بطرس الثانية. وسوف تُقرأ تدريجيٌّا لتصبح على مستوى كتابات الأنبياء. أمّا الأناجيل التي بدأت في شكل شفهيّ، بشكل ملخَّص يرافق الواعظ، فكانت »تُروى« على الجماعة. وسوف تُجمع في »إنجيل واحد« في منتصف القرن الثاني. وما عجَّل في تحديد القانون هو الهرطقات، من غنوصيّة ومونتانيّة وغيرها، ولاسيّما تعليم مرقيون. مع إيرينه توضَّحت الأمور بعد مخاض طويل، انتهى بعد حقبة يوستين في صمت جيلٍ كامل، قبل أن يتحدَّث إيرينه عن الأناجيل الأربعة، التي هي كتابات تُقرأ مع أسفار اعتبرتها الكنيسة »البيبليا المسيحيّة« أي الترجمة اليونانيّة، السبعينيّة. وهكذا برزت وحدةُ العهدين، قبل أن يُفصَل العهدُ القديم عن العهد الجديد. في أيِّ حال يبقى المبدأ الأساسيّ: الجديد يجد جذوره في القديم، والقديم ينال ملء ضوئه في الجديد.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM