الفصل الأول: الإلهام في الكتب المقدَّسة مقاربة تاريخيّة ولاهوتيّة

 

الفصل الأول

الإلهام في الكتب المقدَّسة

مقاربة تاريخيّة ولاهوتيّة(1)

استسلم أحدُ الكتّاب الغربيّين إلى تأمُّل صغير حول كتابة التاريخ لكي يبرِّر محاولته، فسمح لنفسه بأن يتحدَّث عن الروح القدس، صاحب الأخبار العديدة في البيبليا، فقال:

نراعي الأسفار التاريخيّة في الكتاب المقدَّس، فنتركها جانبًا. ولكن إذا كنّا لا نتجرّأ أن نمزج في هذا الفنّ الأدبيّ الخالقَ مع خلائقه، فلا أحد يمنعنا حين نرى الروح القدس يتنازل فيؤلِّف أخبارًا ينتمي نسيجُها كلُّه إلى هذا العالم، ويُدعى دنيويٌّا، شأنه شأن سائر الأخبار في العالم. فلو لم يكتبها الروح القدس، لكان المسيحيّون يُخطئون إن اعتبروا أنّه لا يحقّ لهم أن يكتبوا مثلها ولا أن يقرأوها. فإذا اعترض بعضهم أنّ الأخبار من هذا النوع، التي كتبها الروح القدس، تعود كلُّها إلى أمور رفيعة، ومع أنّها واقعيّة وحقيقيّة، تبقى صورًا لما سوف يحصل، وتُخفي تحت هذه الحُجب عجائب كبيرة، يبقى أنَّ هناك أمورًا هي مجرَّد أخبار. وهذا ما يفتح الطريق أمام كلِّ الأخبار التي صنعها البشر وما زالوا يصنعونها. ومنذ رضيَ الروحُ القدس أن يحجب (ويرمز إلى) الأمور الكبرى في أحداث طبيعيّة في »ظاهرها« وتاريخيّة، وحصلت فعلاً، فهذا الروح عينه لم يشجب التاريخ لأنّه استعمله لتعليم خلائقه وكنيسته. هذه الطروح التي لا تقدر أن »تقاتل« الإيمان، فتقف متسامية من أجل تاريخ، لا تقبل أيّ ردّ(2).

هذا الذي كتب ذكرياته، جعل نفسه صدى للإلهام في الكتب المقدَّسة كما كان يُعرَض في أيّامه. فيقبل بأنّ الروح القدس نفسه هو كاتب أخبار بشريّة، دون أن يُنكر بُعد الوحي في الأسرار المسيحيّة. هو لا يندهش من كلِّ هذا، فلا يطرح سؤالاً حول كيفيّة الأمور، ولا حول علاقة الكاتب الإلهيّ بالكتاب المقدَّس.

غير أنّ هذا الزمن مضى وغاب. وما يهمّنا اليوم هو أن نفهم حسنًا في أيّ معنى أُلهمت هذه الكتب التي دوَّنها كتّاب بشريّون، بحيث إنّ اللغة اللاهوتيّة والعقائديّة اعتبرت أنّ الله نفسه هو كاتب هذه الأسفار. وهذا الاهتمام يجعلنا نلتقي، منذ البداية، مع عدد من المفاهيم تتقارب حول هذا الموضوع. فالإلهام في الكتب يرتبط بكيفيّة الوحي. وما يقابله بشكل مباشر هو فهم العصمة وعدم الضلال: إذا كان الله يُلهم الكاتب الملهم، فهو يجعله بمنأى عن كلِّ ضلال. فكيف نستطيع بعد ذلك أن نتصوَّر (أو: نتمثَّل) عمل الله الإلهاميّ بالنسبة إلى الكاتب الملهم؟ فمجموعة الأسفار التي ندعوها بيبليا، كانت موضوع قوننة(3).

فالمضمونان الأخيران، أي الإلهام والقوننة (أو القانونيّة) يرتبطان ارتباطًا هو نتيجة الارتباط الأساسيّ بين الكنيسة والأسفار المقدَّسة. فالكنيسة المسيحيّة سبقت العهد الجديد. هي التي بنتَهْ في حقبتين متواليتين. أوّلاً، كَتبت في العهد الرسوليّ، النصوصَ التي تكوِّن العهد الجديد. ثمّ منحت هذه الكتابات طابع الأسفار المقدَّسة. أي جعلتها في مجموعة قانونيّة، فارتدَتْ سلطةَ الأسفار القديمة، أسفار العهد القديم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، سبقت الأسفارُ المقدَّسة الكنيسة، لأنّ العهد الجديد دُوِّن على ضوء العهد القديم، فكان العهدُ الجديد الشاهدَ على الحدث المؤسِّس الذي يأخذ منه سلطته. وهكذا تكون الكتب المقدَّسة والكنيسة في تواصل لا يمكن تجاوزه.

ثمّ اعتُبرت هذه الكتابات الرسوليّة قانونيّة، لأنّها حُسبت ملهَمة. فالإلهام يسبق »القانون« ويؤسِّسه. وهي تُحسَب ملهمة بفم الكنيسة التي لها المبادرة في أن تعتبرها قانونيّة. حينئذٍ يصبح »القانون«، المعيارَ الأوّل للإلهام. يُقرَأ النصّ على أنَّه مُلهَم، لأنَّه ينتمي إلى القانون. وهذا الترابط بين ما يُقبَل فنأخذ به، وما يحدَّد في نشاط منّا، لا يمكن تجاوزُه أيضًا. هو تضامن أصليّ ومتبادل بين معطيين. وله وجهة جدليّة، في أنّ الأوّليّة التي يتمتَّع بها الواحد تجاه الآخر، تنقلب بشكل ثابت. ولكنّنا لا نستطيع أن نتوقَّف في أيِّ حال، عند وجهة واحدة بحيث نعيد الإلهام إلى القانونيّة، أو القانونيّة إلى الإلهام(4).

 

1- الجدليّة بين الإلهام وقانون الكتب المقدَّسة

خمس محطّات في المسيرة الجدليّة هذه: البيبليا، آباء الكنيسة، العصر الوسيط، العصر الحديث، الزمن المعاصر. نتوسَّع أوّلاً في الموضوع، ثمّ نقدِّم اعتبارات لاهوتيّة حول المسألة التي تَعنينا.

 

أ- في الكتب المقدَّسة

في قراءتنا للعهد القديم، ننطلق من فكرة الإلهام لكي نصل إلى فكرة »القانون«. ننطلق من الداخل إلى الخارج. أمّا في العهد الجديد فنأخذ الخطّ المعاكس، ننطلق من »القانون« إلى الإلهام، من الخارج إلى الداخل.

أوّلاً: العهد القديم وفكرة الإلهام

الإلهام يقين يَرجعُ إلى العهد القديم. هو نتيجة مباشرة لخبرة الوحي التي وصلت إلى الآباء والأنبياء. يتضمَّنه مفهومُ »كلمة الله«. فموسى هو ذاك الذي تحدَّث مع الله على جبل سيناء. كلَّمه الله »فمًا إلى فمٍ« (عد 12: 8). ويُعتبر لوحا الشريعة وكأنَّهما كُتبا بإصبع الله (خر 31: 18). فالله ذاته أمر موسى: »أكتب خبر هذا النصر ذكرًا في الكتاب« (خر 17: 14). وفي 34: 27: »وقال الربّ لموسى: اكتب هذا الكلام، لأنّي بحسبه قطعتُ عهدًا معك ومع بني إسرائيل«.

تمتدُّ هذه الفكرة فتفترض أنَّ مجمل كتاب الشريعة أو البنتاتوكس، قد دوَّنه موسى كلُّه (تث 31: 24: »ولمّا فرغ موسى من تدوين كلام هذه الشريعة كلِّها في سفر«)، وتُقدّمه على أنّه نقَلَ كلمةَ الربّ إلى الشعب (لا 1: 1: »كلَّمه من خيمة الاجتماع«). فالبنتاتوكس كلّه كلمة الله. والعبارات التي تُبرز نشاط الله هي واضحة. وهنا يتمّ الانتقال بين الوحي والإلهام.

ويتسجَّل فهمُ الأدب النبويّ في اليقين عينه. فالأنبياء تسلّموا كلمة الله التي اجتاحتهم فبدت قويّة، عنيفة. قال الربّ لإرميا، بعد أن مدّ يده ولمس فمه: »ها أنا جعلتُ كلامي في فمك« (إر 1: 9). ماذا كانت ردّة الفعل عند إرميا؟ »فإن قلتُ: لن أذكر الربّ، ولا أتكلّمُ باسمه من بعد، أحسستُ بنار محرقة، محبوسة داخل عظامي، أحاول كبْتَها ولا أقدر« (إر 20: 9). فهذه الكلمة تفرض نفسها على الأنبياء. صارت طعامًا لحزقيال: »افتح فمك وكُلْ ما أعطيك« (حز 2: 8). وقال النبيّ: »نظرتُ فإذا بيدٍ ممدودة إليّ وفيها ورقة من كتاب« (آ9). وكان الأمر حاسمًا لا يقبل التردُّد. قال له الربّ: »إذهب إلى بيت إسرائيل وكلِّمهم بكلامي« (حز 3: 4).

هذا ما يتيحُ لهم أن يوقّعوا أقوالهم النبويّة بعبارة: »هكذا قال الربّ. نأمة الربّ« (صوت خفيف). حينئذٍ يتسلّمون أمرًا بأن ينقلوا كتابةً هذا البلاغ.

»تعالَ فاكتب هذا على لوحٍ أمامهم، وخُطَّه في كتاب، ليكون لليوم الأخير شهادة إلى الأبد« (أش 30: 8). ذاك ما قاله الربّ لنبيِّه. إذًا، كلمةُ الله المكتوبة يمكن أن تكون شاهدًا يقدِّمها الله على شعبه، إذا كان خائنًا للعهد. لهذا كانت كلمات الأنبياء كلمات ملهمة بيد روح الله الساكن فيهم. قال الربّ لإرميا: »أكتب في كتاب كلَّ الكلمات التي قلتُها لك« (إر 30: 2).أجل، كلمتُهم هي كلمة آتية من عند الله. وقال الربّ لحبقوق: »اكتب هذه الرؤيا وانقشها على الألواح حتّى تسهل قراءتُها« (حب 2: 2).

وقياسًا، نقول الشيء عينه عن كتب الحكمة، ولكن في لغة خَفِرة وداخليّة. فحكمة الله التي تتغلغل في قلب الإنسان، تعلِّمه كيف يقود حياته، وتكشف له أسرار الله. هذا اليقين يتَّخذ شكله في مفهوم »الكتب« التي يوردها المعلّمون، الرابّينيّون، على أنّها سلطة مطلقة. »قيل«. »بحسب ما كُتب«. في زمن المكابيّين، وعى المؤمنون أنّهم تسلّموا »هذه الكتب المقدَّسة من أجل تعزيتهم« (1مك 12: 9). هذا اليقين يوجِّهنا إلى دراسة القانون.

جاءت العبارات مباشرةً جدٌّا عن تدخُّل الله. فالله نفسه يتكلَّم. ونكاد نقول: الله نفسه يكتب. نحن هنا في قلب العقليّة العبريّة التي لا تحسب حساب الأسباب الثانية (ما يعمله الإنسان أو ما يحصل على الأرض)، فتُرجع كلّ شيء إلى الله إرجاعًا مباشرًا. فكما أنّه أرسل ريحًا شرقيّة على البحر الأحمر، هكذا يتكلَّم إلى البشر ويكتب. فالأداة البشريّة خفيفة. تلك هي نظرة الإلهام التي أطلقها فيلون الإسكندرانيّ، واستعادت جوهرَها المسيحيّةُ الأولى.

ثانيًا: من الإلهام إلى قانون العهد القديم

اعتاد شعبُ إسرائيل أن ينقل كتابةً خبرَ الأحداث الكبرى والتعاليم التي طبعت بطابعها العهدَ مع الله(5). في هذه النصوص حُفظَت شهادةُ الوحي وتاريخُ الله مع شعبه الذي اختاره. إذًا هو فعل تقليديّ يَحتفظ، من جيل إلى جيل، بكلمة الله مع سلطتها القاعديّة. ثمَّ جُعلت هذه الكتب في مجموعة، وذلك في زمن متأخِّر بالنسبة إلى الأحداث المؤسِّسة. بدأت عمليّةُ الجمع بعد العودة من المنفى مع ترتيب عزرا ونحميا، واشتملت أكثر من مرحلة وصلت إلى قسمة العهد القديم في ثلاث فئات رئيسيّة من الكتابات. جاءت في تراتبيّة لا تُوافق مراحل التكوين »القانون«. فهناك أسفار من الفئة الثانية أو الفئة الثالثة يمكن أن تكون قديمة جدٌّا.

في قلب التوراة، هناك أسفار شريعة (بنتاتوكس) موسى، المشترع العظيم وأوَّل شريك في عهد يحمل اسمه. هو مَن نقلَ كلماتٍ تلقّاها من الله.

والمجموعة الثانية مجموعة الأنبياء الذين ارتبطت خدمتُهم بتتميم الشريعة. تتضمّن الأنبياء السابقين، الذين نسمّيهم اليوم الكتب التاريخيّة (يش، قض، صم، مل) والأنبياء اللاحقين، أي الأربعة الكبار (أش، إر، حز ويضاف دا) والاثنا عشر الصغار (بسبب قلّة ما تركوه من مؤلَّفات).

والمجموعة الثالثة، تترافق مع توقّف النبوءة في شعب إسرائيل. هي عمل كتّاب جمعوا المزامير والأسفار الحكميّة، أي الأسفار التي ألهمتها الحكمة الإلهيّة. ستبقى هذه المجموعة الأخيرة لانهائيّة ومفتوحة على ما يمكن أن يأتي إليها من كتب. وهكذا بدا الكتاب المقدَّس، على عتبة المسيحيّة، في ثلاث مجموعات: والمجموعة الثالثة التي لا تبدو واحدة مثل المجموعتين السابقتين ولا تملك سلطتهما، دُعيت سائر »الكتب«، أو الكتب الباقية.

هذا الوضع في قانون (أو لائحة) أسفار التوراة، ترك جانبًا مسألةَ اختتامها، بحيث لا يدخله بعدُ سفر جديد. كان بإمكان هذه المسيرة الدياكرونيّة في ذاتها أن تتواصل بلا نهاية، وتضمّ كتبًا أخرى. ونجد مثالاً في توالي ثلاث مجموعات، وقد بقيَت المجموعة الأخيرة منفتحة، لا منغلقة، زمنًا طويلاً. ومع ذلك، فسلطةُ المجموعة الثانية لم توازِ سلطة الأولى، وسلطة الثالثة كانت أقلّ من سلطة الثانية. وقد تحدَّث المعلّمون اليهود عن ثلاث درجات في الإلهام(6).

طُرحت مسألة اختتام الأسفار وإغلاق الكتاب، مع الوعي بأنّ الوحي توقَّف، وعبورٍ إلى مرحلة جديدة لم تحمل القاعديّة عينها: »ترك الروح إسرائيل«. لم يعُد نبيّ، والإلهام توقَّف. هذا الوضع الجديد هو في أساس فكرة تعلن »قانونًا« يحفظ الأقوال التي تشهد للوحي، ويحدِّد معالمها. غير أنّ تمييز حدود »قانون« أُغلق الآن، ففتح الطريق أمام عدد من الاختلافات.

ففي العالم اليهوديّ المتأخِّر، قبْلَ المسيح وبعده، نلاحظ اختلافًا في النظرة بين العالم اليهوديّ الفلسطينيّ والعالم اليهوديّ الإسكندرانيّ. فالأوّل يعرف 24 سفرًا، 22+2. هو رقم يدلّ على الكلّيّة، انطلاقًا من حروف الأبجديّة العبريّة(7). هكذا بدت اللائحة التي قدَّمها فلافيوس يوسيفس(8). تقوم خاصّيّة هذه اللائحة بأن لا تتقبَّل سوى الأسفار المدوَّنة في العبريّة(9)، هي الأسفار »القانونيّة الأولى«. أخذ بها جميعُ اليهود وجميعُ المسيحيّين. وفي القرن السادس عشر عاد »المصلّحون« إلى هذا القانون الفلسطينيّ وحصروا نفسهم فيه.

أمّا العالم اليهوديّ الهلّنستيّ (المتحضِّر بالحضارة اليونانيّة) فكان أكثر انفتاحًا على كتب متأخِّرة، أُلِّف بعضُها مباشرة في اللغة اليونانيّة (مثل سفر الحكمة مثلاً). دعاها العالم اليهوديّ الفلسطينيّ: الكتب الخارجيّة. وفي الدراسات اليوم: الأسفار القانونيّة الثانية(10). تلك اللائحة الموسَّعة كانت لائحة السبعينيّة اليونانيّة، أي الترجمة التي تمَّت في الإسكندريّة منذ القرن الثالث ق.م.(11). إنّ الاختلاف في تقدير الاختتام القانونيّ للعهد القديم، يرتبط بنظرة دقيقة أو واسعة إلى زمن الإلهام. ولكنّ الجدليّة بين الإلهام والقانون تنعكس هنا. ونستطيع القول إنّ الأسفار الأخيرة أُعلنت أنَّها ملهمة لأنَّها دخلت في القانون، في لائحة الأسفار المقدَّسة.

ثالثًا: حكم المسيحيّة الأولى حول الإلهام والقانون في العهد الجديد

استعاد العهدُ الجديد طوعًا، اليقينَ بأنّ الكتب ملهمة بحيث تدخل في اللائحة القانونيّة، حين قرأ العهد القديم وحاول فهمه. ففكرةُ »الكتب المقدَّسة« (روم 1: 2) و»الكتابات المقدَّسة« (2تم 3: 15)، تُحيلنا إلى قداسة الله. فكلمات الأنبياء هي كلمات الله (مت 22: 29-32؛ مر 7: 10-13). والعبارات التي تأتي في صيغة المجهول وتتكرَّر في الأناجيل (»كُتب«) تدلُّ على المجهول الإلهيّ: الله كتب. والعبارة »لكي يتمّ الكتاب« (مت 1: 22) تدلُّ هي أيضًا على مخطَّط الله الذي لا يمكن أن يُخطئ. وهناك ثلاثة نصوص تعبِّر عن فكرة الإلهام في كلام عن الكتابات القديمة (2تم 3: 15-17):

15 فأنت منذ طفولتك عرفتَ الكتبَ المقدَّسة القادرة على أن تزوِّدك بالحكمة التي تَهدي إلى الخلاص في الإيمان بيسوع المسيح.

16 فالكتاب كلُّه من وحي الله، يفيد في التعليم والتفنيد والتقويم والتأديب في البرّ.

17 ليكون رجلُ الله كاملاً، مستعدٌّا لكلِّ عمل صالح.

نفخة الروح القدس هي التي تقيم في الكتاب المقدَّس. ونقرأ 1بط 1: 10-12:

10 عن هذا الخلاص فتَّش الأنبياء وبحثوا فأنبأوا بالنعمة التي نلتموها

11 وحاولوا أن يعرفوا الوقت وكيف تجيء هذه النعمة التي دلَّ عليها روح المسيح فيهم، حين شهد، من قبل، بآلام المسيح وما يتلوها من مجد.

12 وانكشف لهم أنَّهم كانوا يعملون، لا من أجلهم، بل من أجلكم، لهذه الأمور التي أعلنها الآن لكم الذين بشَّروكم بها، يؤيِّدهم الروح القدس المرسَل من السماء، والملائكة يتمنَّون أن ينظروا إليها.

إذًا، الله ألهم الأنبياء. وفي الروح تكلَّم حاملو الإنجيل بدورهم. والتوافق بين الأنبياء والتتمّة التي أعلنها الإنجيل، تَشهد على دور الروح هذا. وأخيرًا نقرأ 2بط 1: 20-21:

20 فاعلموا قبل كلِّ شيء أنَّ لا أحد يقدر أن يفسِّر من عنده أية نبوءة في الكتب المقدَّسة،

21 لأنَّ ما من نبوءة على الإطلاق جاءت بإرادة إنسان. ولكنّ الروح القدس دفع بعض الناس إلى أن يتكلَّموا بكلام من عند الله.

جاء هذا النصّ بعد ذكر تجلّي يسوع على الجبل، على أنّه خبرة وحي تضيء عليها شهادةُ العهد القديم. »كلام الأنبياء سراجٌ منير يضيء في مكان مظلم« (آ19).

تقبّلت الكنيسة المسيحيّة نصّ السبعينيّة. وهذا ما يشهد عليه كتب العهد الجديد التي تورد العهد القديم، حسب هذه الترجمة، وترى فيها سلطة الكتاب المقدَّس في أصله العبريّ، أي هي مطبوعة بطابع الإلهام لكلام الله(12). ما قدَّم كتّابُ العهد الجديد نظريةً في هذا الشأن، بل افترضوا أن تقبّل هذه اللائحة الكتابيّة أمرٌ لا يحمل الجدل. في قلب هذه المعطية الأساسيّة، كان موقف آباء الكنيسة بشكل عامّ، موقفًا موافقًا للإلهام في ترجمة السبعينيّة اليونانيّة. في هذا المجال، ساروا في خطّ فيلون الإسكندرانيّ. وأفضل شاهد على هذا الموقف، هو إيرينه، أسقف ليون في فرنسا. ذكرَ الرواية الموجودة في رسالة أرستايس، فرأى فيها معجزة، وقرأ شهادة تقول: »تُرجمت الكتب المقدَّسة بإلهام من الله«.

هو روح الله الوحيد الواحد الذي أعلن لدى الأنبياء مجيء الربّ، وكيف يكون ذاك المجيء، والذي تَرجم لدى القدماء ترجمة صحيحة ما جاء في النبوءات. وهو أيضًا من أعلن لدى الرسل أن ملء الزمن من أجل البنوّة بالتبنّي(13) قد وصل.

تقوم أهمّيّة هذا النصّ بجعل ترجمة السبعينيّة في مسيرة إجماليّة تنقل الوحي كتابة. فالوحي يقف بين عمودين في البرهان الكتابيّ، الأنبياء والرسل. ما يهمّ إيرينه هو السلطة كلُّها. فحين يؤكِّد إلهامَ السبعينيّة، فهو يمنحها سلطة الكتب المقدَّسة، كما فعل العهد الجديد. وهنا أيضًا نستطيع القول إنّ قانونيّة السبعينيّة التي أقرَّت بها الكنيسة الأولى، جعلتنا نستنتج إلهامَها.

ولكن في الكنيسة الأولى، قُبلت هذه الكتابات باسم »عهد قديم«، مقابل مجموعة مسيحيّة خاصّة هي الكتابات الرسوليّة. هذه التسمية دلّت على مسافة جعلها المسيحيّون بالنسبة إلى اليهود في طريقة نظرتهم إلى الكتب المقدَّسة. فأورد كتّابُ القرون الثلاثة الأولى، على مستوى واحد، الأسفار العبريّة والأسفار اليونانيّة. وما انشغلوا كثيرًا في تقديم لائحة بأسفار العهد القديم. غير أنّنا نجد لائحة أعطاها مليتون السرديسيّ (أسقف في النصف الثاني من القرن الثاني، في سارديس، تركيّا) ووردت في نصّ لأوسابيوس القيصريّ(14).

قال مليتون إنّه مضى إلى الشرق (من أوّل الحجّاج إلى فلسطين). وعرف بدقّة »أسفار العهد القديم«. هي المرّة الأولى نجد هذه العبارة للدلالة على مجموعة من النصوص، واللائحةِ التي يعطيها عن الأسفار التي نقبلها هي لائحة القانون الفلسطينيّ. وانطلاقًا من أوريجان، جعل الجدالُ، مع اليهود، عددًا من الكتّاب المسيحيّين الشرقيّين يعودون إلى القانون الفلسطينيّ، مثل أتناز وكيرلُّس الأورشليميّ وإبيفان وجيروم. غير أنّ هذا الموقف يجعلنا على مستوى الموقف لا على مستوى الممارسة، لأنّ هؤلاء الكتّاب ما زالوا يُوردون نصوص الكتب اليونانيّة. في الغرب تأثَّر بالشرق هيلاريون وروفين. أمّا أمبروسيوس وأوغسطين فما ميّزا. ووعى أوغسطين اختلافات في تثبيت القانون، وأنّ جميع الكنائس لا تتقبَّل كلَّ هذه الكتب، فقدَّم لائحة تامّة بالقانون اليونانيّ، فأحصى 44 سفرًا. وهكذا صار القانون كافلاً للإلهام.

رابعًا: تكوين قانون العهد الجديد

بالنسبة إلى العهد الجديد، ننطلق انطلاقًا تدريجيٌّا من القانون لنصل إلى فكرة الإلهام. فالتمييز التدريجيّ للائحة جديدة من الكتب، تأَلَّفت من قسمين جوهريّين، الأناجيل والرسائل، يشكّلُ الكفالة لإلهامها. لا شكّ في أنّ سفرًا يُعتبر قانونيٌّا لأنّه ملهم: هو ينتمي إلى الحقبة الرسوليّة، حقبة الرسل الاثني عشر، وقد قبلته الكنيسة منطلقة من عدد من المعايير. فالأمران يسيران معًا في حركة واحدة وحيدة تقوم بأن نضع قانون كتب جديدة بجانب قانون العهد القديم وفي امتداده، ونعتبر سلطة العهد الجديد كسلطة العهد القديم، بل تتفوَّق. فإذا كان الحُكم على إلهام النصوص القانونيّة أمرٌ مفروغٌ منه، فتحديد الكتب المعترَف بقانونيَّتها، تجاه تلك التي نعترف بقانونيَّتها، يتطلَّب الانتباه الكبير. فالاهتمام الحقيقيّ يقوم بأن نعرف إذا كان سفر من الأسفار ينتمي إلى القانون، إلى اللائحة القانونيّة، الرسميّة. ووضعُ كتاب في هذا القانون الجديد، يعني إعطاءه كلَّ امتيازات »الكتب الملهمة«. فلاهوت الإلهام يعني بشكل عامّ، كلَّ الأسفار التي دخلت في القانون.

ففكرة »قوننة« كتابات العهد الجديد، تَبرز منذ نهاية العهد الجديد، في رسالة نُسبت إلى بطرس، هي 2بط. يتكلَّم كاتبُها فيحسب نفسه آخر الرسل الذين ما زالوا أحياء. ويعبِّر عن اهتمامه بإغلاق الأدب الرسوليّ. اعتُبرت هذه الرسالةُ »خطبة وداعيّة«، وإن لم يكن كاتبها بطرس الرسول. ودخلت في القانون. قابل الكاتبُ بين خبرة الوحي التي نالها بطرس في وقت التجلّي، وكلمة الأنبياء (2بط1: 20-21). وهكذا جُعلت في مقابلة متوازية »رسليّة«(15) العهد الجديد (كتبه الرسل) ونبوءة العهد القديم، والإلهام الذي تشاركان فيه. بعد ذلك تتحدَّث 2بط 3: 15-16 عن المجموعة البولسيّة التي يرى فيها أسفارًا مقدَّسة ملهمة.

15 واحسبوا صبر ربِّنا فرصةً لخلاصكم، كما كَتب إليكم بذلك أخونا الحبيب بولس، على قدر ما منحه الله من الحكمة،

16 كما هي الحال في جميع رسائله التي تكلَّم بها على هذه المسائل، فوردت فيها أمورٌ غامضة يحرِّفها الجهّالُ وضعفاء النفوس. كما يفعلون في سائر الكتب المقدَّسة، لهلاك نفوسهم.

وهكذا نرى أنّ انطلاقة القوننة في العهد الجديد جاءت من داخل العهد الجديد نفسه، أقلَّه بشكل استهلاليّ. هي تبدأ ساعة الكنيسة تجاوزت العتبة التي تقودها إلى الحقبة البعدرسوليّة فتعي في ذاتها ضرورة التعرُّف إلى إرث الكتابات الرسوليّة كونَها السلطة الوحيدة.

ولكنّ هذا ليس سوى البداية. فالصعوبة الكبرى التي قدَّمها التاريخ، هي أنّنا لا نستطيع أن نلتقي مع قرار مبدئيّ في الكنيسة، يُقيمُ التعبيرَ الواضح عن قانون الكتب المقدَّسة. إنَّه عمل تمَّ في الزمان والمكان. فلا نجدُ هناك حدثٌّا مجمعيٌّا (في مجمع مسكونيّ)، بل وعيٌّا واهتمامًا نرى جذورهما في آخر أسفار العهد الجديد، ثمّ توافقًا حصل بشكل تدريجيّ. ففعلُ تقبُّل القانون، سبقَ سبقًا طويلاً كلَّ قرار مجمعيّ. ونحن لا نستطيع بعد ذلك إلاّ أن نعيد بناء ما كان العهد القديم والعهد الجديد عند هذا الكاتب أو ذاك. غير أنّنا نشعر سريعًا أنّ فكرة القانون سبقَتْ لائحة الأسفار القانونيّة. ففي سنة 180، جعل إيرينه كل هذا في حساب »منظّمة الكنيسة الأصليّة المنتشرة في العالم كلِّه«.

هذه المنظمة »التي وصلت إلينا، جعلت الاحتفاظ الثابت بالكتابات تعني ثلاثة أمور: عدد كامل، لا إضافة فيه ولا حذف. قراءة معصومة من الكذب. وفي وفاق مع هذه الكتابات، تفسير شرعيّ، موافق، بعيد عن الخطر وعن التجديف(16).

نحن نعرف أنّ لفظ »كتابات« عند إيرينه، يدلّ مرارًا على العهد القديم. غير أنّه في عدد من المواضع، يضمُّ بشكل أكيد العهد الجديد الذي يعرف نصوصه الرئيسيّة عبْرَ التقليد المكتوب. والسياق الكنسيّ لهذا المقطع يجعلنا نفكِّر أنّه يتطلَّع إلى كلِّ الأسفار المقدَّسة. هذا النصّ هو تعبير عفويّ لامتداد مفهوم قانون العهد القديم والعهد الجديد. فالمسألة في بداية العهد الجديد هي أن نُدرك كيف أنّ الكتابات المسيحيّة جاءت، فاخذت محلَّها بجانب الكتابات القديمة.

من المفترض أن لا يستطيع الآباء الأوّلون أن يستندوا إلى قانون مُثبَت ومعروف بأنّه كتابات مقدَّسة كما هو الأمر بالنسبة إلى العهد القديم. ففي كتاباتهم تَبرز نقطتان واضحتان: من جهة، العودة إلى الكتابات البولسيّة التي تكوَّنت باكرًا في مجموعة، فتوزَّعت وقُرئت في الكنائس. ومن جهة أخرى، إيراد »أقوال الربّ« التي تعود مباشرة إلى التقليد الحيّ، أو العودة إلى الإنجيل الذي ترتفع سلطتُه فوق سلطة سائر الكتابات القديمة. فالسلطة الخاصّة بأقوال الربّ، تمنح الكتب التي قدّمها يوستين(17) على أنّها »مذكّرات الرسل التي تسمّى أناجيل« والتي دعاها إيرينه(18) »أناجيل«، كلَّ أهمّيّتها. وهكذا يرتكز ما تصير مجموعةُ العهد الجديد، على ركنين اثنين: سلطة الربّ في الأناجيل، وسلطة الرسل في الرسائل. كلُّ هذا يُضاف إلى سلطة »الأنبياء« الذين يُوجزون العهد القديم. هذه الشهادات المثلّثة تؤسِّس البراهين الكتابيّة عند إيرينه وغيره.

غير أنّ هجمات بعض الغنوصيّين، مثل مرقيون الذي رفض من جهته سلطة العهد القديم، هدَّدت مختلف كتابات العهد الجديد. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، تكاثرت الكتاباتُ التي تُدعى »منحولة« (انتحلت صفة ليست لها) أو مكتومة (عن البسطاء ومحفوظة للكمّال). هذان الحدثان أسرعا بالكنيسة لكي تدافع عن مبدأ تقبُّل الكتب المقدَّسة كلِّها »بلا إضافة ولا حذف« كما قال إيرينه وترتليان. واللائحة الأولى التي تملكها هي »قانون موراتوري«. هو اسم العالِم الذي اكتشفها في القرن الثامن عشر. هذا النصّ الآتي من رومة يعود إلى سنة 200-300 بحسب الأخصّائيّين. وقد نُسب مرارًا إلى هيبوليت(19).

إذا كان قانون العهد الجديد صار، في جوهره، أمرًا مفروغًا منه على مستوى المبدأ والمضمون، في نهاية القرن الثاني، إلاّ أن بقيت شكوكًا حول كتابات ما زالت موضوع جدال مثل عب، رؤ، وبعض الرسائل العامّة، حتّى القرن الرابع. واللائحة التي قدَّمها أوسابيوس القيصريّ تَقْسم الأسفار ثلاثة أقسام: كتبٌ مؤكَّدة. كتبٌ عليها جدال. كتبٌ منحولة. وعلى منعطف القرن الخامس قدَّمت سينودُسات أفريقيّة لائحة أسفار العهد القديم كما وردت في قرار جيلاس(20).

هذه المعطية التاريخيّة مهمّة جدٌّا على المستوى التعليميّ. وهي تقول لنا إنّ قانون الكتابات ليس كتابيٌّا: فالبيبليا لا تعطي لنفسها فهرسًا بالموادّ التي فيها. هذا يعني أيضًا أنّ شهادة الإلهام ليست ملهَمة (أي ما نقوله عنه ليس ملهمًا). إنّ إلهام الكتب المقدَّسة مكفول، ولكنَّ القرار الذي كوّن مكتبةَ الأسفار الملهمة لا يكفله الإلهام. هذا اللاتوازي يدهشنا، ويعيدنا إلى الرباط المتشعِّب بين الكتاب المقدَّس والكنيسة. فالسِفرْ لا يستطيع أن يعطي نفسه وحده، سلطة، بل الجماعة التي تتقبَّله. فالجماعة وحدها تستطيع القول إنّها تؤمن بأنّ الله كلَّمها وألهم أسفاره المقدَّسة. لهذا فالاختلاف بين الطوائف المسيحيّة مُترجَم في اختلاف في القانون المعمول به. غير أنّ هذه المعطية عينها تُبرز جزءًا هامٌّا يتَّخذه القرار الكنسيّ حول القانون في تحديد ما هو مُلهَم.

إنّ قوننة الكنيسة لكتابات العهد الجديد تُترجَمُ في وعي يقول بمسافة تتوسَّع يومًا بعد يوم بين الحدث المؤسِّس وحاضر الكنيسة اليوم. لهذا كان الأمر ملحٌّا بأن تُجمَع الشهادات الرسوليّة، بما لها من سلطة، حول الحدث يسوع وحول كرازة الشهود الأوّلين. وكان من الضروريّ أن »تُقفَل« هذه الأسفار في مجموعة نهائيّة للحفاظ على الكنائس في الأمانة لتعليم الرسل. وإنّ تكوين قانون الكتابات المقدَّسة جاء معاصرًا لظهور سلطة الأساقفة في الكنيسة. ونستطيع القول بأنَّ هذين الواقعين جاءا في علاقة جدليّة فيما بينهما: ساعة تكوَّن مبدأُ السلطة، تكوَّن أيضًا مبدأ الخضوع والطاعة.

وحول طبيعة الإلهام وكيفيّته، لا يقول لنا العهد الجديد شيئًا فوق ما قاله العهد القديم، بل نقلَ إلينا اليقينَ الذين نجده في العهد القديم. بل هناك إضافة هامّة. فحدثُ يسوع المسيح يشكِّل ملء الوحي. لهذا ارتدت الكتاباتُ الرسوليّة سلطةً مطلقة.

 

ب- الإلهام والقانون في الحقبة الآبائيّة

تحدَّثنا عن تحديد متدرِّج للقانون في حقبة آباء الكنيسة. وهنا نضيف أنّ هذا القانون هو عنصر لما يدعوه الآباء »نظام التقليد« أو »قاعدة الحقّ« (إيرينه) أو »قاعدة الكنيسة« (كليمان الإسكندرانيّ، أوريجان) أو »قاعدة الإيمان« (أوسابيوس القيصريّ). فالأسفار القانونيّة تتآلف مع قانون الإيمان (نؤمن بإله واحد) والسلطة الأسقفيّة، لتكوِّن المثلَّث الذي يدلّ على السلطة الرسوليّة(21). ثمّ نستطيع القول بأنّ نصوص العهد الجديد صارت كتبًا مقدَّسة في السنوات 150-170.

ما ميَّز الكتّاب القدماء بشكل واضح بين الوحي والإلهام، بل عبَّروا بشكل بديهيّ عن نظرتهم إلى الإلهام مع كلمة »الإملاء« في الذهبيّ الفمّ وأوغسطين. وتحدَّث غريغوار الكبير (حول أيّوب، المقدِّمة، الآباء اللاتين، 75: 517) عن الله الذي هو كاتب الكتب المقدَّسة. أمّا الكاتب البشريّ فهو أداة: ريشة العازف، قيثارة، قلم كاتب. نفهم كلَّ هذا صوَرًا تجعل في النهاية في الله، السلطةَ التي تؤسِّس الكتب المقدَّسة. فيجب أن لا »نعصرها« في معنى مفاهيميّ. فالآباء تحدَّثوا في مواضع أخرى بشكل عامّ عن نصوص آبائيّة هامّة، يمكن أن تكون هذه النصوص جزءًا من الكتب المقدَّسة. وما تردَّد أمبروسيوس وأوغسطين عن استعمال لفظ »كاتب« (صاحب) للدلالة على الله في علاقته بالكتاب المقدَّس. غير أنّ هذا اللفظ يعني السبب الرئيسيّ، ولا يدلّ على كاتب أدبيّ (كتب بيده). حين يقول أوريجان: »انتشرت آثارُ الحكمة الإلهيّة، في شكل من الأشكال، في كلّ حرف بقدر الإمكان«(22)، يجب أن نعرف ما يريد أن يقول: إنّه يفكِّر في كلمة الإنجيل التي تقول: »لا تزول ياء من الناموس« (مت 5: 18). ويعتبر أنّ موهبة الإلهام تَكفل التفاصيل في الكتاب المقدَّس. فالإلهام يتسجَّل في الكلمات عينها. نحترمها ونبحث فيها عن المعنى الذي لا ينضب والذي أخفاه الروح القدس. هو مرمى حقيقيّ، لأنّنا نأخذه في معنى ليّن وواسع، لا ينسى الدورَ الضروريّ للإنسان الذي يترجم كلمة الله وينقلها، ولأنّنا لا نتساءل حول طريقة ممارسة هذا الدور لدى الكاتب البشريّ.

ثمّ إنّ الآباء عرفوا كيف يطرحون تراتبيّة بين الأسفار القانونيّة على مستوى أهمّيّتها، وقالوا رأيهم في بعض منها في المجال البشريّ. وبقدر ما توسَّعت الجدالات حول الإيمان، ميّزوا في قلب القانون الإجماليّ، قانون الأسفار التي تعطي ثمرًا على المستوى التعليميّ. وفي ما يخصّ مثلاً شرح أم 8: 22، ما تردَّد باسيل القيصريّ في القول إنّ هذا القول »موجود في كتاب يتضمَّن فكرُه عددًا من الأسرار، فيَصدر مرارًا عن أمثال واستعارات وكلمات غامضة وألغاز، بحيث لا نستطيع أن ندرك فيه شيئا ما يضيئنا، بحيث لا يحمل الجدال(23)«. هو يعرف أنّه لا يحكم على كلام الله. ودراسة الإيرادات الكتابيّة لدى الآباء، تُبيّن أنّهم لا يعودون إلى عدد من الأسفار الموجودة في القانون. فكلُّ واحد منهم له قانونه اللاهوتيّ في داخل القانون الرسميّ.

ومع ذلك، فالكلام الذي يصوِّر الإلهام كأنّه »إلهام«، يحمل خطرًا كبيرًا، حين يُفهَم الإملاء على أنه مضمون من المضامين. فقد يقودنا إلى نظرة خاطئة إلى الوحي: حينئذ تُهمَل النظرةُ إلى الوسيط البشريّ.

 

ج- الإلهام والقانون في العصر الوسيط

تلقّى العصرُ الوسيط القانون الكتابيّ كما وصل إليه، فما اهتمّ بالأمر كثيرًا. فجاء اهتمامه بلاهوت الوحي، وبالتالي بالإلهام. عالج القدّيس توما هذه المجموعة في كلامه عن النبوءة(24)، مع العلم أنَّه ميَّز بين النبيّ والكاتب الملهم. فالوحي في نظره يتضمَّن تمثّلات جديدة ونورًا عقليٌّا يتيح لنا الحكم على الأمور. ففي وضع النبوءة، يُرفَع العقلُ البشريّ فوق ملكاته الطبيعيّة في ما يخصّ هذين العنصرين. ولكنّ الأهمّ يتحدَّد موقعُه في الحكم. فالوحي، في المعنى الحصريّ للكلمة، يفترض تمثُّلات فطريّة، ساعة النور يؤثِّر على الحكم بدون تمثُّلات. وهذا ما يقابل الإلهام (الشعريّ مثلاً) في المعنى الحديث للكلمة. لهذا ميَّز (لوقا) بين إلهام من أجل المعرفة، وإلهام من أجل الكلام. وحسب النظرة الإسكوليّة، الله هو السبب الفاعل الأوّل، والإنسان السبب الفاعل القريب: هناك كاتبٌ رئيسيّ وكاتب أدواتيّ. وهكذا كان مفهومُ الله على أنّه »مدوِّن« الكتب المقدَّسة، قريبًا من أبوّة أدبيّة بحصر المعنى.

توسَّعت الإسكوليا الوسيطة بلاهوت الإلهام بحسب رسمات السيكولوجيا الماورائيّة أو العقليّة بشكل »دفعٍ علويّ« يجعل عقل الكاتب وإرادتَه مستعدّتين للكتابة. هذا يعني أنّ الأداة ليست آلة مادّيّة، بل تلعب دورَ كاتبٍ، بمساعدة ملكاته الشخصيّة. وتواصلت الإسكوليا الحديثة في هذه الطريق مع تفاصيل دقيقة. فكان كلام عن الله على أنّه السبب الرئيسيّ للأفكار، والإنسان على أنّه السبب الرئيسيّ للألفاظ: لله المعنى وللإنسان المبنى(26). في إطار اللاهوت الإسكوليّ، سوف تحدِّد النصوصُ العقائديّة الرئيسيّة، الإلهامَ، ولكنَّها لن تدخل في أيّ تحديد سيكولوجيّ.

 

د- الإلهام والقانون في الأزمنة الحديثة

اهتمّ التقليد المسيحيّ حتّى الآن بالتأكيد على أنّ الله هو حقٌّا مدوِّن الكتب المقدَّسة، وأنّ هذه الكتب تدلُّ على كلمة الله. مع الأزمنة الحديثة وبروز المسائل النقديّة، تحوّل الاهتمام إلى المدوِّن البشريّ. فكانت ردّة فعل ضدّ مبالغات بسبب »الإملاء«. فظهر أنّ تأليف الكتب المقدَّسة، خضع للنواميس العاديّة في تأليف كُتب دوَّنها البشر. فكلّ كاتب له أسلوبه. أشعيا هو شاعر، لا حزقيال. وأسلوب كتاب الأخبار غير أسلوب سفر التكوين. وطُرحت أسئلة حول صحّة نسبة الكتاب إلى هذا الشخص إو إلى ذاك. قد يكون لسفر من الأسفار أكثر من كاتب، فيتوزَّع تدوينه في حقبة طويلة. وهناك كتُب لا نعرف كاتبها، وإن زعموا أنّ أحدًا كتبها (حكمة سليمان تبعد 900 سنة عن سليمان). ثمّ في الشرق القديم، يكون الكتاب ثمرة نشاط أدبيّ متشعِّب يتضمَّن زمن التقليد الشفهيّ، ووجود مدرسة تُواصل الكتابة. فأين نضع الإلهام في مثل هذه المعطيات؟

إذًا، نحاول أن نفهم الإلهام بحيث لا يكون تعارضٌ مع الأصل البشريّ للأسفار البيبليّة، بحيث نخفِّف من طبيعتها وبُعدها. فلاحظ كاجتان(27) أنّ لوقا في بداية إنجيله، أعلن أنّه يقدِّم عملاً تاريخيٌّا، فكتبَ بعد بحث جدّيّ لدى شهود عيان. وقال ملكيور كانو(28): ما احتاج الكاتب الملهم إلى وحي شخصيّ، بل إلى مجرَّد حضور الروح القدس. أمّا تلميذه بانييز(29) فتحدَّث عن فكرة الإملاء اللفظيّ. وهو رأي سوف يصبح رأي المدرسة التوماويّة. وبرزت نظريّات جديدة. ودخل الجدال بين الكاثوليك والبروتستانت، ولكن أوّلاً حول مسائل طرحَها القانون، ثمّ الإلهام. وظهرت الأصوليّة عند الفئة هذه وعند تلك.

برزت نظراتٌ اعتُبرت مقلِّلة من الجهة الكاثوليكيّة منذ القرن السادس عشر، ولاسيّما في مدرسة لوفان(30). وهي تنطلق من جدليّة بين القانون والإلهام بحيث يحدَّد الإلهامُ انطلاقًا من الانتماء إلى القانون. وفي سنة 1566 قدَّم سكستس السيانيّ(31) تمييزًا في الكتب البيبليّة: القانونيّة الأولى، القانونيّة الثانية، الأبوكريفا. وهو تمييز سيصبح كلاسيكيٌّا. وميَّز أيضًا ثلاثة أزمنة في الإلهام: الإلهام السابق(32) (التحريك العلويّ لدى الإسكوليّين)، الإلهام المرافق (حضور إلهيّ ضدّ الضلال) والإلهام اللاحق (موافقة الكنيسة) وهذا يعني تقبّل الكتاب في اللائحة القانونيّة. واعتبر أنّ كتاب المكابيّين بجزئيه، كتاب دنيويّ، لا مُلهم. ولكن قبَلْته الكنيسة، بلا ضلال، حين أُدخل في القانون.

ما تردَّد لاسيوس(33)، وهو يسوعيّ يعلِّم في لوفان، أن يقيم مقياسًا بين الإلهام البيبليّ والإلهام الشعريّ أو الفنّيّ، وساندَ ثلاثةَ طروح: »الأوّل، إنّ إلهام كلّ لفظ بيد الروح ليس ضروريٌّا لكي يكون سفرٌ من الأسفار كتابًا مقدَّسًا. الثاني، ليس من الضروريّ أن تكون كلّ الحقائق والطروح ملهمة إلهامًا مباشرًا بيد الروح القدس للكاتب. الثالث (وضعُ كتاب المكابيّين) إنّ كتابًا دوَّنه البشر دون حضور الروح القدس قد يصبح كتابًا مقدَّسًا، إذا شهد الروح بعد ذلك أنّه لا يتضمَّن خطأ«.

غير أنّ لاسيوس ابتعد عن رأي سكستس السيانيّ، فاعتبر لاإلهامَ كتابِ المكابيّين مجرّد فرضيّة، ونسبَ التوافقَ اللاحق إلى الروح القدس لا إلى الكنيسة. مثلُ هذه الأفكار ولّدت جدالاً طويلاً، صعبًا. فانتقدت كلّيّة لوفان لاسيوس ثمّ كلّيّة دوي(34). فكتب »دفاعًا« يجيب فيه على منتقديه، وأوضح أقوالَه بدقائقها. وصلت المسألة إلى رومة واتّخذ بلارمين(35) موقف الدفاع. وأخيرًا كتب البابا سكستس كوانتس(36) منشورًا اعترف فيه بأنّ طروح لاسيوس »تعليم صحيح«. بيَّنت هذه الحاصلة أنّ النقطة كانت حسّاسة، والتعليم عن الإلهام الكلاميّ أمرٌ مفروغ منه. إذا تركنا جانبًا الفرضيّة حول كتاب المكابيّين، ما قدَّم لاسيوس سوى نظرة معقولة عن الإلهام على المستوى الأنتروبولوجيّ والتاريخيّ. واعتبر جاك بونفرار(37) أيضًا، في خطّ لاسيوس وبشكل فرضيّة، أنّ التوافق اللاحق من قِبل الله، يجعل من سفر من الأسفار كتابًا مقدَّسًا. ومالَ بونفرار أيضًا إلى حصر الإلهام المرافق في حضور بسيط ضدّ الضلال. دلَّت كلُّ هذه الأراء على اتّجاه جديد سيُصبح جذريٌّا(38) فيما بعد، ويُرذَل في المجمع الفاتيكانيّ الأوّل(39). فصارت الجدليّة بين القانون والإلهام أحاديّة الجانب. ولاحظ راهنر(40) في هذا المجال »اتّجاهًا للتماهي بين الإلهام والقانونيّة أو صحّة العقيدة«. غير أنّ هذه الافتراضات لا تَمنع البحث من أن يكون شرعيٌّا، حين يتوخّى أن يبيِّن أن الإلهام هو ظاهرة بشريّة حقيقيّة.

في القرن السابع عشر، كتب ريشار سيمون »رسالة حول الإلهام«(41). عاد إلى سكستس السيانيّ ولاسيوس وبونفرار، فامتدحهم وسار في خطِّهم. اعتبر أنّ هناك نوعين من الإلهام: »الإلهام الصريح والمباشر«. و»الحضور الخاصّ من الروح القدس«. غير أنّه رفضَ فكرة »الإلهام اللفظيّ«، وشدَّد على التمييز بين »الأشياء« و»الأقوال«. ما قَبِل بوحي مباشر حول الأشياء والألفاظ، إلاّ للأنبياء. أمّا الكتّاب الملهَمون، فإن الروح وجَّههم ودفعهم إلى كتابة ما يعرفون بأنوارهم الخاصّة من أجل البناء في الإيمان والمحبّة.

والقرن السابع عشر هو أيضًا عصر سبينوزا(42). عُرف لاهوتُه حول النبوءة، ورفضُه لكلِّ سرّ »لا يكون في متناول العقل«. والمخيِّلة تلعبُ دورها في الوحي النبويّ، ساعة يكون الفهمُ ملكةَ »الوحي الطبيعيّ«. واستبق التأويلَ الحديث، فطرحَ أسئلةً حول الكتّاب الحقيقيّين وفساد النصوص وأخبار المعجزات والأمور الغامضة واللاأكيدة. فالقليل الذي يُؤمن به، كُشف في عين الجهّال، ولكنّه يُعرَف أيضًا بواسطة العقل المجرَّد. وجعلت فلسفة الأنوار(43) (القرن 18) هذه النظرات جذريّة، ولاسيّما مع »الديانة في حدود العقل وحده«، كما دوّنه كانت(44). لا نستطيع أن نتوسَّع هنا في كلِّ هذه النظريّات حول الوحي وبالتالي حول الإلهام. ولكنّنا لا نستطيع أن ننسى أنّها ستؤثِّر تأثيرًا كبيرًا على الفكر اللاهوتيّ في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

في توسّع الأفكار هذا، تبيّن صراعٌ بين نظرة إلى النشاط البشريّ لدى الكاتب ونظرة إلى الإلهام. ما يُعتبَر للأوّل يُظنّ أنّه أُخذ من الثاني. هذا الصراع هو في قلب الأزمة العصرانيّة(45) (في بداية القرن العشرين) التي أعادت النظر في فكرة الإلهام. من جهة، بسبب الاكتشافات الفيلولوجيّة والتاريخيّة حول تأليف النصوص. ومن جهة أخرى، باسمِ تساؤلٍ فلسفيّ يتميَّز بالعصرنة، ويظنّ بوجود الميتولوجيا في فكرة الإلهام.

مُيِّزت الطروح العصرانيّة، وشُجبت في قرار من مجمع التفتيش سنة 1907(46):

9   من اعتقد أنّ الله هو حقٌّا مدوِّن الكتاب المقدَّس، يدلّ على بساطة مفرطة وجهل مدقع.

10  يقوم الإلهام في أسفار العهد القديم في أنّ الكتّاب في إسرائيل نقلوا تعاليم من وجهةٍ، ما عرفها الوثنيّون أو عرفوا بعضًا منها.

11  لا يمتدّ الإلهام إلى كلِّ الكتاب المقدَّس، بشكلٍ يمنع كلّ ضلال عن كلِّ أجزائه وعن كلّ جزء من أجزائه(47).

توخّى هذا الكلام أن يشدِّد على اللاتوافق، بين التعليم الكاثوليكيّ والطروح المنسوبة إلى العصرانيّين. غير أنّ وضع اللاهوت في تلك الحقبة، جعل الحوارَ صعبًا في أسئلة طُرحت طرحًا شرعيٌّا إلى نظرة حول الإلهام »اللفظيّ«. الله قال كلَّ كلمة وكلَّ حرف. فتشيّأ النصّ. إذا كان الحكم في هذا النصّ، قد شدَّد على المحطّات المنازَع عليها، إلاّ أنّه لم يُقدِّم حلاٌّ للمسائل المطروحة من أجل فهم صحيح للإلهام(48).

 

هـ- الإلهام والقانون في الحقبة المعاصرة: كارل راهنر

لا نستطيع أن نتحدَّث عن جميع الكتّاب ولا عن كلّ النظريّات(49). نتوقَّف فقط عند فكر كارل راهنر لما فيه من ثمرة من أجل فهم لاهوتيّ للإلهام(50). ميَّز هذا اللاهوتيّ بشكل صريح، موضوعَ الوحي وموضوع الإلهام. وما يقوله عن الوحي، يساعدنا على فهم الإلهام.

من جهة، قدّم راهنر لاهوتًا واسعًا عن تاريخ الخلاص والوحي، على أنّ هذا التاريخ يمتدّ امتداد تاريخ العالم. فتاريخُ الخلاص، تاريخ عطاء الله ذاته للناس، حرٌّا وغافرًا، هو في الوقت عينه تاريخ الوحي. والمسألة المطروحة هي مسألة نقل التسامي الإلهيّ المطلق لأناس غارقين في تاريخ مطبوعٍ بالاحتمالات. وطبَّق راهنر على الموضوع، مفهومَه الأنتروبولوجيّ للتساميّ والمقوليّ(51). وحدَّد موقع مبادرة الله المُوحية على مستوى الوجه المتسامي لنشاط النبيّ. أي في القطب الذاتيّ الأصيل في الوجدان، الذي هو قطب نقل كلِّ نعمة إلهيّة وذلك قبل أي تموضع(52). فالنبيّ المتلقّي الأوّل للوحي هو الذي تتيح له الموهبة أن يموضع (يقدِّم المواضيع ويجمعها) مضمون الوحي بوسائله البشريّة الخاصّة، وأن ينقله إلى الآخرين عبر اللغة والمقولات البشريّة،. قال في مقاله الأساسيّ عن الإيمان (ص 185) ما يلي:

هؤلاء الرجال، الذين نَصِفهم بحسب لغة معروفة، بالأنبياء، لأنّهم حملَةٌ أصليّون لنقل الوحي من قبل الله، نُدركهم كأناس يتمّ عندهم تعبيريٌّا، الشرحُ الذاتيّ للخبرة المتسامية والعلويّة وتاريخها... فشرحٌ ذاتيّ وتوضيح تاريخيّ لتساميَّة الإنسان العلويّ وتاريخه، لا يفسَّران كمسيرة بشريّة وطبيعيّة محضة للتفكير والتوضيح. بل نحن أمام شرح ذاتيّ لهذا الواقع الذي يتكوَّن بالنقل الذاتي والشخصيّ لدى الله. وبالتالي بواسطة الله ذاته. حين يعرض الله ذاته بشكل تاريخيّ، يعرض نفسه في التاريخ. أمّا الحمَلَة البشر لمثل هذا الشرح الذاتيّ، فهم أشخاص كلَّمهم الله كلامًا خاصٌّا.

إذًا، النبيّ هو مؤمن يستطيع أن يُعلن، بشكل صحيح، خبرتَه المتسامية عن الله، فيُتيح هكذا لمؤمنين آخرين أن يبلغوا إلى توضيح صحيح ونقيّ لوَحيٍ تلقّيناه. لا يمكن أن يكون هذا لكلّ واحد بمفرده، لأنّ من خاصّيّة الوحي أن يتجلّى في التاريخ، وبالتالي في تاريخ تواصُلِ البشر بعضهم ببعض. فخبرةُ الإيمان تتمُّ حين تتكوَّن جماعةُ إيمان لتتقبَّل الوحي.

فعمل الله هذا في قطب الوجدان الأصيل، لا يمكن أن يصوَّر ويحدَّد. فما من خطاب يستطيع الكلام عن مبادرة الله المتسامية. وإذ فعل راهنر ما فعل، بيّن بدون تصنُّع، التلازم المتبادل بين كلمة الوحي وكلمة الإيمان. فكلمةُ الله لا يمكن أن تُنقَل إلى البشر إلاّ إذا صارت كلامَ بشر. فالكلمة البشريّة هي الوساطة الضروريّة للكلمة الإلهيّة. وهذا يسري قياسًا في تحديد الإلهام. الله هو حقٌّا »كاتب« في معنى حقيقيّ، ولكن على مستوى يتسامى على النشاط البشريّ. ليس كاتبًا »أديبًا«، وهو لا يدبِّج الكتب. غير أنّ هذه الكتب تنقل كلمةً يُعطي ذاته فيها.

وحدَّد راهنر أيضًا موهبة الإلهام الخاصّة في المنظار الجماعيّ لتأسيس الكنيسة. هذه الوجهة هامّة بقدر ما بيّن التأويلُ الحديث أنّ مسيرة تأليف الأسفار الكتابيّة وقوننتها، أمر متشعِّب وهو يدخل في إطار من النشاط الجماعيّ. فقدّم الطرح التالي في برهان يبدأ مع »إذا« (المقال الأساسيّ في الإيمان، ص 416-417):

إذا كان الله هو الذي أسَّس الكنيسة بروحه في يسوع المسيح.

وإذا كانت الكنيسة الأولى، مرّة أخرى، كقاعدة لكلّ كنيسة في المستقبل، هي موضوع الفعل الإلهيّ بشكل فريد في نوعيّته، بحيث تختلف عن استدوام الكنيسة في مسيرة التاريخ،

وإذا كان الكتاب المقدَّس عنصرًا يكوِّن هذه الكنيسة الأولى على أنّها قاعدة الأزمنة الآتية، حينئذٍ... يُقال بشكل كافٍ إنّ الله هو كاتب الكتب المقدَّسة، إنّه ألهمها، بدون أن نعود في هذا الموضع إلى نظريّة سيكولوجيّة خاصّة حول الإلهام... فالمؤلِّفون البشريّون للكتابات المقدَّسة، عملوا تمامًا كما عمل مؤلِّفون بشريّون آخرون.

إذا كان الله... أراد كلَّ ما يكوِّن هذه الكنيسة (وبالتالي وفي شكل مميَّز، الكتب المقدَّسة)، حينئذٍ يكون مؤلِّفَ الكتاب المقدَّس الذي يُلهمه، ولو كان إلهام الكتب »فقط« بعضًا من صفة المؤلِّف الكنسيّ الذي هو خاصّ بالله.

والطرح عينه يسري على العهد القديم بقدر ما قبلته الكنيسة الأولى على أنّه كتاب مقدَّس. وهكذا تحدَّد موضعُ الكتاب المقدَّس في إطار إجماليّ لتأسيس الكنيسة بعد الله، في مراعاة تامّة للأصالة الخاصّة بالحقبة التأسيسيّة. إذا كان الله »مؤلِّف« الكنيسة، فلا يمكن أن يكون إلاّ »مؤلِّف« الكتاب المقدَّس الذي هو عنصر مكوِّن فيها. مثلُ هذه النظرة تشمل مجمل الجدليّة بين القانون والإلهام كما تمّ تشريحها هنا. فالكنيسة التي نالت، في نعمة أساسيّة، إلهامَ كتُبها، نالت أيضًا نعمةً ترافقها لكي تميّز اللائحة القانونيّة لهذه الكتب. وكما أنّ المؤلِّفين دوَّنوا كتبَهم مستعملين الموارد البشريّة، ومستندين إلى مصادر تاريخيّة حول حدث يسوع، كذلك الكنيسة البعدرسوليّة اكتشفت قانونَ كُتبِها انطلاقًا من معايير بشريّة نستطيع التحقُّق منها (الصفة الرسوليّة، التقبُّل في الكنيسة، صفة الشهادات الكرستولوجيّة). إنّ التساميّ الإلهيّ يراعي كلَّ المراعاة الوساطات البشريّة(53).

 

و- التدخُّلات التعليميّة العقائديّة

إنّ معالجة متماسكة للخطاب العقائديّ حول إلهام الكتب المقدَّسة وقانونيّتها، يدفعنا للعودة بعض الشيء إلى الوراء. فالملاحظة الأولى هي أنّ هذا الخطاب قريب العهد، وقد توسَّع بشكل خاصّ، في الأزمنة الحديثة، تجاه تساؤلات حول الوحي العلويّ والإلهام. والملاحظة الثانية هي أنّ موضوعَي القانون والإلهام مضمومان بشكل عامّ. وهذا ما ظهر بشكل خاصّ في مجمع فلورنسا، سنة 1442، مع أوّل لائحة للأسفار القانونيّة في العهد القديم والعهد الجديد. أعلنتها الكنيسة (الكنيسة الكاثوليكيّة) بشكل رسميّ. وسبقت اللائحة العبارةُ التالية:

»إنّ الكنيسة المقدَّسة الرومانيّة تُقرّ بأنّ إلهًا واحدًا وحيدًا هو مؤلِّف العهد القديم والعهد الجديد، أي الشريعة والأنبياء والأناجيل. فبإلهام من الروح القدس عينه تكلَّم القدّيسون في العهدين اللذين تقرّ الكنيسة (وتكرِّم) الأسفار المتضمِّنة تحت العناوين التالية(54):

خمسة لموسى هي: التكوين... يشوع، القضاة... الأناجيل الأربعة... رؤيا يوحنا (1335).

لذا تحرّم الكنيسة تهوّر المانويين الذين قالوا بمدأين أولين، أحدُهما الأشياء المرئيّة، والثاني لغير المرئية، وقالوا بوجود إله للعهد الجديد، وإله للعهد القديم (1336).

فالعبارة »الله هو المدوِّن« الوحيد للعهدين عبارة تقليديّة وكلاسيكيّة(55)، وستعود فيما بعد بشكل عاديّ. أمّا الهدف البدئيّ، فتوجَّه ضدّ الذين يُعيدون النظر في العهد القديم على أنّه كتاب مقدَّس. وهي تتأسّس هنا على التأكيد بإلهام من الروح القدس: هذا الإلهام هو ما يبرِّر لفظ »مؤلِّف«

استعاد المجمع التريدنتينيّ حرفيٌّا لائحة فلونسا، لئلاّ يَدخل في جدال جديد يحرِّكه اللوثريّون حول القانونيّ الأوّل والقانونيّ الثاني. واستعمل أيضًا العبارة التقليديّة »إملاء الروح القدس« التي تضمّ الكتب المقدَّسة والتقاليد اللامكتوبة، كما استعاد مقال فلورنسا: »الله مؤلِّف العهدين«.

والمجمع الفاتيكانيّ الأوّل أخذ بجوهر هذه التأكيدات. ولكنّه وعى الجدليّة الداخليّة بين الإلهام والقوننة، فرفض التفسير الأحاديّ الجذريّ كما عند يان وهانبرغ(56) قال:

يجب أن تُقبَل هذه الأسفار على أنّها مقدَّسة وقانونيّة، لا لأنّها تألَّفت بيد العمل البشريّ، ثمّ وافقت عليها السلطة، ولا لأنّها تتضمَّن الوحي من دون خطأ، بل لأنَّها كُتبت بإلهام من الروح القدس فكان الله مؤلِّفَها فنُقلت كذلك في الكنيسة(57).

إذًا، لا ينحصر الإلهام في »موافقة لاحقة«، إذ ليست قانونيّة الأسفار هي التي تؤسِّس طابعها الإلهيّ. كما لا ينحصر في حضور سلبيّ للروح القدس يحميها من الضلال. فالإلهام يتضمَّن مبادرة إيجابيّة من قبل الروح القدس الذي يجعل الله مؤلِّف هذه الأسفار. وبما أنّها ملهمة، أقرّت بها الكنيسة، أي تسلَّمتها. نجد أنّ النصّ لا يدخل في اعتبارات جدليّة حول تقبُّلٍ منفصل للكتب الملهَمة وتحديد نشيط لأسفار قُبلت أم لم تُقبل.

استعاد ليون الثالث عشر في رسالته(58) التي أصدرها سنة 1893 العبارات الكلاسيكيّة، فعاد إلى المجامع المسكونيّة الثلاثة: فلورنسا، ترنتو، الفاتيكان الأوّل، ودخل بالتفصيل في مسيرة الإلهام. قال:

الله بقدرته الفائقة الطبيعة أنعش بذاته المؤلِّفين، ودفعهم لأن يكتبوا، وحضر معهم حين كتبوا بحيث تصوَّروا تصوُّرًا صحيحًا، وأرادوا أن يكتبوا بأمانة، وعبَّروا بدقّة وفي حقيقة معصومة، ما أمرهم بأن يكتبوا، وفقط ما أمرهم بأن يكتبوا، وإلاّ لن يعود هو مؤلِّفَ الكتب المقدَّسة بجملتها.

هذه الوثيقة هي إحدى الوثائق التي مضت أبعد ما يكون في فكرة تقول إنّ الله هو المؤلِّف الأدبيّ للكتب المقدّسة، وإنّ الإلهام نشاط إلهيّ يكشف نفسه لمؤلِّف بشريّ. ففي سياق العصر، أراد أن يردّ على النزاع الذي سبق وأشرنا إليه: الاهتمام المتزايد المُعطى للتاريخ في ما يتعلَّق بالكاتب البشريّ للبيبليا، بدا كأنّه يستبعد الإلهام في عالم من الغيوم(59). ووُجدت نظرة مماثلة لدى بنديكتُس الخامس عشر(60) في امتداحه للقدّيس جيروم سنة 1920. نسب إلى من دُعيَ حبيس بيت لحم القول بأنّ الكتب المقدَّسة »كُتبت بالإلهام أو الإيحاء أو التلميح أو إملاء الروح القدس. بل إنّما الروح دوَّنها ونشرها... بحيث يجب أن يُحسَب الله السببَ الرئيسيّ لكلِّ فكرة ولكلّ تأكيد في الكتاب المقدَّس«(61). هذه الإيضاحات تمضي أبعد ممّا قالته التأكيدات القديمة حول الله المؤلِّف، وحول إملاء الروح القدس. وأبرزت رسالةُ بيّوس الثاني عشر »بفيض من الروح القدس« تعليم ليون الثالث عشر، ولكنّها اهتمّت اهتمامًا خاصٌّا بالبُعد البشريّ للتأليف ولتفسير الكتب المقدَّسة. فأعطت أساليب التأويل الحديثة حقَّها. وإليك كيف عالج المجمع الفاتيكانيّ الثاني هذا الموضوع الدقيق(62):

»إنّ الحقائق الإلهيّة الموحاة التي تتضمَّنُها وتعلنُها أسفار الكتاب المقدَّس قد سُطّرت بإلهام الروح القدس. وأمُّنا الكنيسة المقدَّسة، بفضل الإيمان الذي استلمته من الرسل، تَعتبر كتبَ العهد القديم والعهد الجديد كلّها بجميع أجزائها، مقدَّسة وقانونيّة، لأنّ تلك الأسفار التي كُتبت بإلهام الروح القدس، ألَّفها الله وسلّمها كما هي عليه إلى الكنيسة«.

هذا المقطع هو استعادة إجماليّة لمجمعَي ترنتو وفاتيكان الأوّل. خضع إلهامُ الكتب المقدَّسة بقوّة الروح، لنقل الوحي الذي يجب أن نحافظ عليه ونقدِّسه. فالإيمان بالإلهام جزء لا يتجزّأ من الوديعة الرسوليّة. ويمتدّ الإلهام إلى القانون كلّه. ويقول النصّ مرّة أخرى كلمتَه حول العلاقة بين القوننة والإلهام، ويواصل بشكل أدقّ في عبارات نحسّ فيها بأمانة لتعابير رسالة لاون الثالث عشر وباهتمام للعودة إليها من أجل توازٍ في العبارات. لهذا يتابع النصّ:

إنّما اختار الله لصياغة هذه الكتب المقدَّسة أناسًا في كمال إمكاناتهم وقواهم، واستخدمهم، بدفْع منه فيهم وبواسطتهم، لكي يدوِّنوا كمؤلِّفين حقيقيّين كلَّ ما يريده وما يريده فقط.

صوَّرت هذه الوثيقةُ نشاطَ الكتّاب الملهمين في قبضة الإلهام. والرسمة تبقى الرسمة الأداتيّة: »الله استعمل«. ولكن النصّ شدَّد أيضًا على نشاطٍ خاصّ بالكتّاب، فتجنَّب أن ينسب إلى الله صفة المؤلِّف. فالكتّاب الملهمون عملوا »كمؤلِّفين حقيقيّين« استخدموا إمكاناتهم الخاصّة. هذا ما لم يقله ليون الثالث عشر. وهكذا ابتعدنا عن نظرة »الإملاء«. فالأداة لا تعمل مثل آلة موسيقيّة: إنّ الكتّاب البيبليّين هم مؤلِّفون أدب، شأنهم شأن كلّ كاتب. ثمّ إنّ النصّ يضيف إلى »بهم« (أمر كلاسيكيّ) لفظ »فيهم« (أمر مدهش) يُعيدنا إلى الرسالة إلى العبرانيّين: »كلَّمنا الله في الأنبياء« (عب 10: 1). وهذا ما يعبِّر عن توسّع أكبر بين ما يقوله الله والطريقة التي بها يقوله الأنبياء. وكذلك في العهد الجديد، تكلّم الله »في ابنه«. قال الأب بوشان(63) شارحًا: »كأنّ الحميميّة بين الآب والابن وحرّيّة الابن، هما تُرسَمان منذ الآن في الحميميّة والحرّيّة اللتين مُنحتا للأنبياء بواسطة الله حتّى في بلاغهم«. هذا النشاط الخاصّ يُرينا ضرورة النقد والتفسير. والنصّ ينتقل أخيرًا من الإلهام لا إلى العصمة، بل بالأحرى إلى »حقيقة« الكتب المقدَّسة. فيتابع الفاتيكانيّ الثاني(64):

وحيث يجب أن يُعتبَر من الروح القدس، كلّ ما يقوله ويؤكِّده المؤلِّفون الملهمون أو كتاب الأسفار المقدَّسة، اقتضى إذ ذاك الاعترافُ بأنّ الكتب المقدَّسة تعلِّم الحقيقة، التي أراد الله أن تُدرَج في تلك الأسفار المقدَّسة لخلاصنا، بقوّة وأمانة وبدون خطأ. وعليه فإنّ الكتاب كلَّه قد أوحى به الله وهو مفيد... (2تم 3: 16-17).

أحلَّ النصُّ الحقيقةَ محلَّ مسألة العصمة. فـ »بدون خطأ« يقابل الحقيقة. هي الحقيقة التي »من أجل خلاصنا«، الحقيقة الدينيّة. ومفهوم »الحقيقة الخلاصيّة« جاء من مجمع ترنتو، ولكن مع معنى مختلف، يتوخّى أن يقول الموضوع الصريح للكتاب المقدَّس، وبالتالي أن يحكم على حقيقة الكتاب بحسب هذا المعيار. »إنّ وجهة الخلاص تُبرز أقوال الكتاب في أيّ مجال كانت، لأنّ لا موضوع صريحًا آخر للوحي نفسه«(65).

إذًا، رفضوا القول بأنّ الحقيقة الخلاصيّة هي عنصر بين عناصر أخرى (وقد تخضع للخطأ). قالوا إنّ الحقيقة الخلاصيّة هي الوجهة الصريحة لكلِّ الكتاب المقدَّس. نجد أنّ الحقيقة لا تدخل في الموضوع إلاّ إذا قال الكتّاب الملهمون أو علّموا. في كلِّ هذه المجالات، تكون مهمّة المؤوِّل أن يُوضح الأنواعَ (الفنون) الأدبيّة المختلفة، وأن يميّز الأقوال التي فيها ينخرط الكتَّاب لكي يُعطوا تعليمًا إلهيٌّا. فكلُّ شيء في طروحات الكتاب المقدَّس، لا تكون له القيمة عينها والأهمّيّة.

 

2- طروح لاهوتيّة حول الإلهام والقانون

على أساس هذه المعطيات التاريخيّة، نودّ أن نعرض عناصر لاهوت الإلهام الذي يقدِّمُ في الوقت عينه تأكيداتٍ أساسيّة للكنيسة في هذا المجال، ونتائج التأويل والنظرة الدقيقة إلى المؤلِّف البشريّ. ونتوقَّف هنا عند ثلاث نقاط رئيسيّة.

 

أ- سرّ التجسُّد هو النموذج التعليميّ للإلهام

الإلهام، في المعنى المسيحيّ للفظ، لا يُفهَم ولا يحلَّل إلاّ على ضوء سرّ التجسُّد. لا شكّ في أنّنا أمام القياس، ولا نطلب وحدة جوهريّة من أجل مختلفِ مدوِّني الأسفار المقدَّسة. ولكنّنا نقول إنّ التجسُّد يمثِّل ذروة الاتّحاد والشركة بين الله والإنسان، هذا إذا اعترفنا أيضًا بأنّ هذا السرّ ينيرنا حول طبيعة وكيفيّة اتّحاد كلِّ إنسان بالله. وهكذا نستطيع شرعيٌّا أن نعتبره نموذجَ هذا الوضع الأصيل الذي هو الإلهام.

إنّ القياس الكرستولوجيّ يحيلنا إلى »الإله الحقيقيّ والإنسان الحقيقيّ« في وحدة الأقنوم الواحد، كما في خلقيدونية. ما نستطيع أن ندعوه »معيار خلقيدونية« الذي يسري على عدد كبير من المسائل التعليميّة، ينطبق هنا بشكل مميّز. وهذا ما يفعله فاتيكان الثاني(66):

فيظهر إذًا في الكتاب المقدَّس تنازل الحكمة الإلهيّة العجيب، وذلك مع الاحتفاظ بحقيقة الله وقداسته، كي نتعلَّم مخطّط الله الذي يفوق التعبير، وإلى أيّ مدى استعمَل الكلام الموزون بعنايته واهتمامه بطبيعتنا. وإنّ كلام الله الذي عُبِّر عنه بلغة البشر، صار شبيهًا بالكلام البشريّ كما فيما مضى من الأزمنة: صار كلمةُ الله الأزليّ شبيهًا بالبشر بعد أن اتّخذ جسد ضعفنا البشريّ.

عاد المجمع إلى مفهوم التنازل الذي أشرف على مجيء الكلمة بيننا. وهذا التنازل الذي قاده لكي يصير شبيهًا بالبشر ولكي يكلِّمنا كما إنسان مع أخيه، دفعه لأن يكيِّف كلَّ أقوال وحيه مع ظروف لغتنا البشريّة »وضعفها«. وتخضع هذه اللغةُ لشريعة الامّحاء. ففي الإلهام، هناك تشارك بين الله والإنسان في وحدة ملموسة من أجل إنتاج كتاب.

المسيح إله حقيقيّ وإنسان حقيقيّ. هو كلُّه هذا وذاك. وطبيعته الإلهيّة لا تمتصّ الطبيعة البشريّة، بل تدفعها وترفعها كما قال المجمع الفاتيكانيّ الثاني: »أخذ الطبيعة البشريّة دون أن يمتصّها، فرفع هكذا طبيعتنا أيضًا إلى رتبة وكرامة لا مثيل لهما« (فرح ورجاء، 22: 29)(67). تصرَّف كما يتصرَّف الإنسان. تكلَّم كما يتكلَّم كلّ إنسان. وقد راعى فيه الإلهيُّ كلّ المراعاة ما يخصّ الوضع البشريّ، حتّى حين قام بأعمال الوحي الصريحة. غير أنّ الإلهيّ والإنسانيّ يكوّنان فيه كائنًا واحدًا ملموسًا هو بالنسبة إلى الآب ابنه وكلمته، ولكن ابنٌ صار بكلّيّته إنسانًا، أي تأنسن كلّيٌّا.

هكذا يجب أن نفهم فهمًا عقائديٌّا الإلهام الذي يجب أن نفكِّر فيه في إطار عام من العلاقة بين النعمة والحرّيّة. ونستطيع هنا أن نحتفظ بموقف راهنر الذي يحدِّد موقع هذه العلاقة في قطب الوجدان الأصليّ لا الموضوعيّ. ففي تدخّل علويّ، أراد الله أن يكشف ذاته للإنسان، ويجعل نفسه مؤلِّفَ الوحي الذي يُعطي »تنازل« الله، فاتّخذ مبادرة الشهادة لوحيه الخاصّ عبر كتب بشريّة، وإلهام مدوِّنيها. قد يجهل هؤلاء إلهامهم الخاصَ، كما نجهل مرارًا حقيقة النعمة الساكنة فينا. فما يهمّ هو حركة الوحي التي ندخل فيها والتي تعترف بها الكنيسة. يعمل الكتّاب و»يكتبون« مثل كلِّ إنسان. ويطبعون كتبهم بطابع عقليَّتهم وحضارتهم وحدود معرفتهم. بعضهم شعراء، وآخرون رواة، وبعضهم يقدِّمون الحوليّات. وعبر تنوُّعهم، يعرِّفنا الله بالحقائق الضروريّة من أجل خلاصنا. »أخذ الله بشريَّتنا. أخذها ضعيفة وحملها ضعيفة. جاءت مسيرته موازية للكتاب المقدَّس، فنفهم أنّ الله أخذ كلماتنا على أنّها ضعيفة. فالكلام الملهم يبقى كلامًا ضعيفًا، سريع العطب«(68).

 

ب- محدوديّة التحليل السيكولوجيّ في واقع الإلهام

حدٌّ من حدودِ اللاهوت التقليديّ، كان في محاولة تحليل واقع الإلهام على مستوى السيكولوجيا. ولكن ترابط الإلهيّ والبشريّ في الإلهام، وإن يكن جذّابًا، لا يمكن أن نتمثَّله، لأنّ العاملين ليسوا على ذات المستوى كما هو الأمر مع طبيعتَي المسيح. فكلّ تشابيهنا تقودنا إلى أن نرى في الله مؤلِّفًا أدبيٌّا بجانب المؤلِّف البشريّ، وأن نعزو له نشاطًا ملموسًا يشبه سلوك الفارس على جواده. غير أنّنا رأينا أنّ التأكيد التقليديّ حول الله على أنّه »مؤلِّف« هذه الكتب، ما توخّى ذلك، بل توخّى »سببيّة رئيسيّة« نفهمها على المستوى الماورائيّ.

إنّ التفهُّم التدريجيّ للاستعارات القديمة والتحليلات السيكولوجيّة المفرطة، قادت إلى تعليم عن الإلهام ليس في محلِّه، فما راعى الكاتبَ البشريّ حقٌّا في شخصه. هذه الإفراطات غير المقبولة في نظر أنتروبولوجيّ حقيقيّ، هيّآا الطريق لردّة فعل معاكسة جعلت الإلهام في النهاية وكأنَّه لا شيء. فعلى اللاهوت هنا أن يكون متواضعًا ويعرف حدوده. من أراد وأكثر فتحقّق من أنماط الإلهام، سقط وهو غير واعٍ، في موقف الذي يطلب التكلُّم عن العلاقة بين النفس والجسد: سألوا ما لم يعرفوا، وعرفوا ما لم يسألوا، كما قال أحد المفكِّرين(69). نحن نعرف كلَّ المعرفة ما نعلنُه حين نتكلَّم عن الإلهام الإلهيّ للأسفار القانونيّة. ولا نعرف ماذا نسأل حين نحاول أن نضع إصبعنا في ما هو إلهيّ وفي ما هو بشريّ. فإن حصل وفَهمْنا، لن يكون هذا الله.

 

ج- تحديد القانون وإلهام مفروق(70)

المعيار النهائيّ لإلهام كتاب هو لنا انتماؤه إلى القانون. وإن كان معلومًا أنّ القوننة لا تقيم الإلهام ولا تكوِّنه (هو الإلهام اللاحق)، بل تقرّ بأنّه هنا منذ الآن، يبقى أنّ القرار الكنسيّ، مهما يكن الشكل التاريخيّ الذي يتَّخذه، يقول لنا إنّ هذا الكتاب ملهم أم لا. فلا طريق أخرى لنا للإلهام سوى هذا القرار الكنسيّ: »إذا كان كتابٌ ملهمًا مع مؤلِّفه، فلأنّ الجماعة أقرَّت بذلك. ولاسيّما أولئك الذين رتّبوا البيبليا وأقفلوها«. وقال باحث آخر: »إنّ لائحة الأسفار القانونيّة هي في الأصل الإلهيّ للكتاب المقدَّس، ما هو النصّ ولغته بالنسبة إلى الكاتب البيبليّ. على أساس هذه العلاقة القياسيّة، نستطيع منذ الآن أن نحدِّد موقع الرباط الضروريّ بين الإلهام والقوننة، والربط الضروريّ بين الكتب المقدَّسة والتقليد، الذي لا تني الكنيسة تعلنه«. فالقوننة والإلهام يرتبطان الواحد بالآخر في نقل كلمة الله. فالإنسان يرتبط بالله، والله أيضًا يريد أن يرتبط بالإنسان. هذا يُفهمنا لماذا لم تطلب الكنيسة يومًا إلهامًا من أجل تحديد قانون الكتب المقدَّسة. لقد أراد الله أن يرتبط بالإنسان، لا من أجل التدوين فقط، بل من أجل ترسيم النصوص الملهمة. يكفي أن نكون هنا في نظام حضور الروح القدس الذي يحفظ الكنيسة في حقيقة الإيمان.

مثل هذا الوضع مفارَق، لأنّ الإنسانيّ يقرِّر عن الإلهيّ. في شكل من الأشكال، ليست الأسفار المقدَّسة هي التي تدعو نفسها قانونًا. فلائحة الأسفار ليست كتابيّة. وبعبارة أخرى، نحن أمام دائرة هي رمز نموذجيّ لعلاقة الإلهيّ بالإنسانيّ في الإلهام. وبما أنّ الكنيسة تقرّ بكتاب على أنّه ملهم، فهي تسجِّله في القانون في فعل طاعة ولكنَّها تميِّز أيضًا أنَّه ملهم بفعل سلطويّ.

هذه المعطية الواقعيّة ليست جانبيّة. فحين نعرف المفهوم للوحي، لم يعد بالإمكان أن لا يكون الأمرُ هكذا. ولا يكفي الكتاب بأن يجعل نفسه شاهدًا لكلمة الله. فهذا الكتاب دوِّن في وسط شعب حيّ يعيش خبرة الله، وفي سياقٍ يجعله داخل تاريخ الخلاص. إذًا، هذا الشعب يُقرُّ به باسم معايير تتجاوز بالضرورة مضمون الكتاب. وهذا ما نقوله بالأحرى عن سلسلة من الكتب(71). فالكتاب ككتاب يفرض دومًا علاقة حيّة بين ذاك الذي يكتب وذاك الذي يقرأ. هو دومًا فعل نقل وتسليم. ويأخذ معناه وقيمته في الجماعة التي تحمله. ولا يتلقّى سلطة إلاّ داخل مسيرة النقل هذه. فنحن دومًا نقرأ كتابًا لأنّ شخصًا وضعه في أيدينا، بشكل أو بآخر. والبيبليا هي الكتاب الذي تجعله الكنيسة في يد المسيحيّين.

فإذا قبلنا بنقطة الانطلاق هذه من أجل لاهوت الإلهام، يجب أن نقبل بأنّ ما نقول عن الإلهام يتجاوز تجاوزًا لا محدودًا إطارَ المدوِّن العاديّ. هنا نجد من جديد برهانَ راهنر مع »إذا«، وهو يحدِّد موقع الإلهام في إطار عامّ من تأسيس الكنيسة بيد الله. حينئذٍ نبتعد ابتعادًا عن استسلام للاستبطان اللامحدود لمدوِّن نفترضه معزولاً. فما نعرفه عن مسيرة التدوين في الأسفار البيبليّة، يعلِّمنا أنّ الكثير منها عَرفت أكثر من مدوِّن وأنّ عددًا من النصوص عرفت حقبة نقل شفهيّ قبل أن تُجعَل كتابةً. ولكن أن يكون سفر أشعيا عرف ثلاثة مدوِّنين لا مدوِّنًا واحدًا لا يبدِّل شيئًا في أنّ مجمل الكتاب ينتمي إلى قانون الكتب المقدَّسة ويُعتَرف به ملهمًا.

إذًا يُعتبر الإلهام معطية وضعيّة، تُقرّ بها الكنيسةُ كمعطية تخصّ حقبة تأسيسها الخاصّ، بحيث لا يكون تساميه في تناول أيدينا. فيحقّ لنا أن نقول إنّ الإلهام شكل خاصّ وإيجابيّ في عناية الله تجاه الكنيسة الأولى. هي مبادرة إلهيّة تتوخّى شهادة مكتوبة ومكفولة لكلمة الله. وهي مبادرة تعني كلَّ عبارات تدوين كتاب من الكتب، منذ تصوُّره حتّى استعماله لدى القارئ.

إذًا يجب أن نعتبر الإلهام بشكل مفروق. وهو يتضمَّن المستويات العديدة والأنماط المختلفة. وهو يصل أوَّلاً إلى النبيّ، بحسب لاهوت الإلهام النبويّ، كما تحدَّث عنه راهنر. كما يصل إلى الكاتب الرئيسيّ لكتاب ما، في موضوعيَّته وفي نتيجته، أيّ في كلّ مراحل تحقيقه عبر المجموعة البشريّة التي أشرفت على تصوُّره، على كتابته المادّيّة، على نقله. وفي النهاية على نشره. إن لم يكن الأمر هكذا، فلا شيء يكفل لنا أنَّ هذا الكتاب هو شهادة حقّة عن كلمة الله. وهكذا نلتقي بشكل أوسع مع ما دعاه اللاهوت الإلهام السابق.

هل نستطيع أن نذهب أبعد من ذلك؟ يبيّن تاريخ الكتب المقدّسة أنَّها موضوع سلسلة من قراءات ثانية وثالثة، كما قال بول بوشان(72). وهذا الوضع لعب قياسًا في العهد الجديد، بين الأناجيل الإزائيّة ويوحنّا مثلاً. وفضلُ الكتاب لا ينحصر في انطلاقته الأولى أو »نشرته« الأولى. فالكتاب يحيا في شعب الله. وهو موضوع تأمُّل يُغني معناه بشكل متواصل. لا شكّ في أنَّ هذه الإغناءات تُجعَل مرارًا في أسفار جديدة ملهمة. ولكن يمكن أن تتمّ أيضًا عبر الترجمة. هذا ما يقودنا أيضًا إلى مسألة الإلهام في السبعينيّة، في خطّ إيرينه وعدد من آباء الكنيسة. إنّ نظرة سيكولوجيّة مفرطة إلى الإلهام، مرتبطة بمدوِّن رسميّ للكتاب، رفضتْ مثل هذا الموقف. ولكن في نظرة وضعيّة وليِّنة إلى الإلهام، يكون إلهام السبعينيّة مقبولاً. وما تلقّاه كتّاب العهد الجديد كشهادة ملهمة لكلام الله، وما أوردوه مع عبارة »كما قال الكتاب«، هو السبعينيّة. أقرّوا »بقانون يونانيّ للكتب المقدَّسة«. عرفوا جيِّدًا أنّ نصَّهم هو ترجمة، ولكنَّهم اعتبروه نصٌّا ملهمًا، بل مضوا أبعد من ذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ بعضًا من براهينهم التعليميّة لا قيمة لها إن هي استندت إلى النصّ الماسوريّ(73). ونظرة إيرينه تضمّ المسيرة كلَّها.

فالقانون الحقيقيّ للأسفار المقدَّسة هو سمفونيّة نصوص انطبعت بطابع تقليد قديم، بحيث إنّ الإلهام يمتدُّ إلى كلِّ نصّ يرتبط بأصل يُعتَبر ملهمًا. بما أنّ النصّ يحمل أثر تقليد، فنحن لا ندرك هذا التقليد إلاّ في آثارٍ النصوص التي تشهد له. وقد قال أحد المؤوِّلين كما في »نكتة«: الإلهام هو في »جلدة« البيبليا. هذه النظرة صحيحة بقدر ما نجعلها في داخل زمن الوحي.

فالكنيسة ما أقرَّت بإلهام اللاتينيّة العتيقة (ولا السريانيّة العتيقة) أو الشعبيّة التي قدَّمها القدّيس جيروم (ولا السريانيّة البسيطة)، بل تأمَّلت في صحَّتها. فهذه الملاحظة تعيدنا إلى إقفال القانون. فهذه الترجمات تنتمي إلى حقبة قيل فيها، إنّ قانون الكتب المقدَّسة أُقفِل، وأنّ موهبة الإلهام توقّفت، ومضت حقبةُ تأسيس الكنيسة. فأحدُ معايير القانونيّة هو الانتماء إلى الجيل الرسوليّ، إلى شهود الحدث المؤسِّس.

غير أنّ حضور الروح القدس يبقى حاضرًا في شكل آخر وفي مستوى مختلف. فنحن نعتبر أنّ المسيرة التقليديّة لقراءة ثانية تتواصل قياسًا في الكنيسة عبر القراءات المتعدِّدة والتفاسير البيبليّة على مدى العصور. وحضور الروح هو في شكل من الأشكال، امتدادٌ لإلهام يصل إلى الجماعة المتقبِّلة للنصّ، وإلى المؤمنين القارئين. هذا اليقين المشترك أفسح المجال لتفاسير تختلف، دون أن يسبتعد الواحدُ الآخر. من الجهة الكاثوليكيّة، يؤسّس هذا اليقين سلطة التعليم. أمّا لدى البروتستانت، فالروح يجعل من الكتاب المقدَّس كلمة الله كلَّ مرّة يجد فيه المؤمن غذاءه.

وهكذا أتاح لنا قياسُ الإيمان أن نفهم ارتباط الإلهام بالقانون. وشدَّدنا على الرباط بين الإلهام وسرّ التجسُّد. فيجب أيضًا أن نوسّع البعد الرمزيّ لدى الكنيسة لتحديد قانون الكتب المقدَّسة، والإقرار بالأسفار الملهمة من أجل علاقة بين الكتاب والتقليد في تكاملهما النوعيّ، وبين الكتاب والكنيسة. فالجدليّة التي اكتشفناها هنا بين الإلهيّ والبشريّ، هي في قلب كلِّ نظرة إلى الكنيسة. فهي تقدِّم لنا حالة يسبق فيها التقبُّلَ (للأسفار المقدَّسة) موقفُ تحديدٍ قانونيّ.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM