الفصل الثالث: بين العهد القديم والعهد الجديد

 

الفصل الثالث:

بين العهد القديم والعهد الجديد

في دراسة لامتداد القانون، أو لائحة الأسفار المقدَّسة، أو توسُّعه لكي لا يضمّ فقط الأسفار التي اتَّفق عليها اليهود (مجموعة فلسطين، في العبريّة) في مجمع يمنية في نهاية القرن الأوّل المسيحيّ تقريبًا، ولا تلك التي قرأها المسيحيّون الأوّلون كما وردَت في مجموعة الإسكندريّة، في السبعينيّة اليونانيّة، بل يضمّ أيضًا أسفار العهد الجديد بشكل تدريجيّ في خطّ الأنبياء أوّلاً، ثمّ باقي أسفار العهد الجديد، وصلنا إلى القرن الثالث وستكون لنا منذ القرن الرابع بيبليا تضمّ العهدين القديم والجديد: السينائيّ، الإسكندرانيّ، الفاتيكانيّ، الأفراميّ... ولكن أترى يبتلعُ العهد القديم العهد الجديد، فيصبح امتدادًا له؟ عندئذٍ لا يُضيف إليه شيئًا. ثمّ، لو كان في امتداده، لكان اليهود آمنوا بيسوع على أنَّه المسيح، في شكل عاديّ جدٌّا. ولكن بين القديم والجديد هوّة سحيقة يقفز فوقها اليهوديّ لكي يصل إلى المسيح. وإلاّ بقيَ عنده يسوع كرجل من رجاله. واسم يسوع كان متواترًا جدٌّا، بحيث إنَّ برأبّا نفسه كان اسمه يسوع »ابن الأب«.

من أجل هذا نقرأ أوَّلاً عن تأليف العهد القديم، لنصل إلى إقامة قانون العهد الجديد.

1- تأليف العهد القديم

إنّ وحدة العهدين التي أشرفت عليها القراءة الكرستولوجيّة، تأخَّرت بعض الشيء قبل أن تفرض نفسها. نتذكَّر هنا يوستين: فمع أنَّه شدَّد على أشكال الإنجيل المكتوبة، »فالكتاب« يدلّ عنده بشكل جوهريّ، على ما سيكون العهد القديم. وهذا ما تُثبته بعضُ الممارسات الأدبيّة لدى المسيحيّين. مثلاً، أفضل وسيلة لكي يُرسي الإنسانُ (أو الجماعة) حقوقه وشرعيّته، قد تكون في إنتاج كتابات تُجعَل في رعاية الأنبياء. لا في تأليف أوّل لإيحاءات ارتبطت بيسوع نفسه، أو مُنحت لأحد تلاميذه. ووضعُ »صعود أشعيا« يلقي علينا ضوءًا خاصٌّا. فهناك مجموعة نبويّة مسيحيّة، عاشت في أنطاكية سورية، في بداية القرن الثاني، في زمن أغناطيوس الأنطاكيّ، واختارت من أجل نشر الكرستولوجيا (ما يخصّ المسيح) والستوتيريولوجيّا (ما يخصّ الخلاص)، أن تؤلِّف رؤية أشعيا التي توضح بحسب تعليم خاصّ، المعنى الذي أخفاه التقليد المسيحيّ في كتاب النبيّ. وبعد أن رذل الحزب المعارض(2) هذه الرؤيةَ، توسَّع الكاتب في موضوع اضطهاد النبيّ واستشهاده، ناسبًا إيّاه إلى غضب بليعار، الذي سبّبته »رؤيةُ حزقيال«. أمّا »الأنبياء الكذبة« الذين رذلوها، فيمثِّلون  السلطات الكنسيّة، كما يُشير إلى ذلك ذكرُ الأزمة التي ستعرفها الكنيسة في نهاية العالم، ساعة »أنبياء أشرار... يضايقون رعاياهم«: »ويهملون نبوءة الأنبياء الذين سبقوني، ويُلغون رؤايَ ليتلفَّظوا بتنبُّؤات قلوبهم«(3).

ونقدِّم مثلاً آخر، في الغرب اللاتينيّ، مع كتيِّب ظهر بعد عقود قليلة لصعود أشعيا. هو عزرا الخامس. إنَّه يتسجَّل في الصراعات بين اليهود والمسيحيّين، ويحوِّل عزرا الذي هو الكاهن وكاتب الأسفار البيبليّة، والصورة الشعاريّة لقوننة الكتابات اليهوديّة المقدَّسة، يحوّله إلى نبيّ يرذل إسرائيل لخدمة الشعب الخارج من الأمم(4). سبق يوستين وأكَّد أنّ اليهود ألغوا المقطع الثاني (عز 6: 19-22): »وقال عزرا للشعب: هذا الفصح هو مخلِّصنا وملجأنا... فإذا آمنّا به، لن يُهدَم هذا الهيكلُ... وإذا كنتم لا تؤمنون، به، ولا تسمعون كرازته، تصيرون أضحوكة للأمم«(5).

أمّا التحويلات المسيحيّة في المنحولات اليهوديّة، التي يمكن أن تأتي متأخِّرة، فهي ظاهرة مختلفة. هي تشهد من أجل السلطة التي تُنسَب إلى هذه الكتابات. وبالتالي، هي غريبة، بل معارضة لمسيرة القوننة(6).

أ- في القرنين الرابع والخامس

في القرنين الرابع والخامس، كانت عودة جزئيّة إلى استقلاليّة الكتب اليهوديّة. ظهرت في الشرق، لدى الآباء الذين اعتدنا أن نعتبرهم من مدرسة أنطاكية، والذين يحصرون المدلول الكرستولوجيّ في حدود ضيِّقة، فيعطون الأهمّيّة كلَّها للمعنى التاريخيّ. غير أنّ هذا الاختلاف لا يلتقي ومسألة القانون الكتابيّ.

أمّا الإدراك الفساريّ لوحدة البيبليا المسيحيّة، كما عبَّر عنها أوريجان وآخرون غيره، فهو لا يمحو تعدُّديّة »الأسفار« التي تُكوِّنها. وهكذا برز باكرًا اهتمام بأن تُوضع لائحةٌ دقيقة لأسفار العهد القديم.

عاش مليتون في عهد مرقس أوريليوس. فأورد في »مختاراته«(7) أنَّه ألَّف »مقاطع من الشريعة والأنبياء« بناء على طلب أونسيمس، حول المخلِّص وكلِّ الإيمان المسيحيّ. فهذا »الأخ« أراد أيضًا أن يعرف بدقّة عدد الأسفار القديمة والترتيب(8) الذي وُضعت فيه«. فمضى مليتون إلى اليهوديّة، في فلسطين، واستعلم عن الأمر. ثمّ أرسل لائحة جاءت كما يلي: أسفار »موسى« الخمسة، يشوع بن نون، القضاة، راعوث، 4 أسفار الملوك (1+2صم، 1+2 مل)، سفرا الأخبار، مزامير داود، أمثال (أو حكمة) سليمان، الجامعة، نشيد الأناشيد، أيّوب، أسفار الأنبياء، أشعيا، إرميا، الاثنا عشر في كتاب واحد، دانيال، حزقيال، عزرا (التاريخ الكنسيّ 4/26: 14).

فالسِمات التي تميِّز القانون الكتابيّ، هي حاضرة: الدقّة، الترتيب، عدد الأسفار. ومع أنّ مليتون استخبر لدى المسيحيّين في اليهوديّة، لا لدى الرابّينيّين اليهود بشكل مباشر، فاللائحة هي طبق الأصل للقانون اليهوديّ. لا مجال الآن للكلام عن خصائص هذه اللائحة. فالمسألة العامّة التي يجب أن نطرحها هي توزيع الأسفار في مجموعات كبيرة. والألفاظ التي تدلّ على النوع والذي ستستعمله هي »الشريعة« و»الأنبياء«. هي عبارة متواترة جدٌّا عند آباء الكنيسة، في توسُّعات لا تظهر فيها لوائحُ محدَّدة، للدلالة على العهد القديم كلِّه. لا شكّ في أنَّه يجب أن لا نستخرج من شهادة مليتون أكثر من اللازم، من أجل قانون يهوديّ مقسوم إلى قسمين في زمانه. يبقى أنّ اهتمام هؤلاء المسيحيّين، هو مقابلة كتابهم المقدَّس، حيث يقرأون التعليمَ عن »مخلِّصهم« وعن »إيمانهم«، مع شكله التاريخيّ الدقيق. والجدال المستديم في القرون الأولى، والوعي بميراث مشترك، وتواصل ممارسة القراءة واستعمال النصوص، كلّ هذا جعل القانون المسيحيّ يتطوَّر بتأثير من القانون اليهوديّ(9). وهذا دون محو الاختلافات المرتبطة في العالم اليونانيّ بشكل البيبليا السبعينيّة ومضمونها. ولكن خُفِّفت هذه الخلافات، في الغرب، بعد تدخُّل جيروم وعودته إلى »الحقيقة العبريّة«(10). لاقى المؤرِّخون هناك صعوبات كبيرة، يستحيل علينا هنا أن نعالجها. فيجب أن نكتفي بالإشارة إلى بعضها والدلالة على الاتّجاهات التي فيها تتوجَه الأبحاث.

كرّس أوريجان وضعًا قديمًا، وهو أنّ الكنيسة استعملت نصّ السبعينيّة مع مجموعة أوسع من مجموعة البيبليا اليهوديّة. فأعلن أنّ الكتابة منحت المسيحيّين العهد القديم اليونانيّ فيجب أن نراعي هذا المحرَّم: »لا تَزِحْ الحدود الأبديّة التي أقامها أجدادك«(11). هذا النصّ ألهم أدقّ التفاصيل(12). غير أنَّه تجنَّب الإشارة إلى أسفار غابت من القانون العبريّ، حين شرع يناقش اليهود حول الكتاب المقدَّس(13). يبدو أنّه لم يقدِّم تفسيرًا لأسفار دُعيَتْ فيما بعد القانونيّة الثانية، التي لا تُقرأ في الاجتماعات الليتورجيّة، حسب قاعدة جاءت ربّما من الممارسة في المجمع اليهوديّ (حاشية 9، ص 120). هي فئة من النصوص جُعلت جانبًا وما دخلت في القانون. إنّ مسيرة القوننة التي توضَّحت بدقّة في القرن الرابع، ميَّزت في شكل جليّ الأسفار القانونيّة. هذا ما تشهد له رسالة الفصح 39 لأثناز: »ولكن من أجل دقّة أفضل، أرى نفسي مجبرًا على أضافة هذا في رسالتي، أنّ هناك أسفارًا غير تلك، هي ما دخلت في القانون، ولكنَّ الاستعمال لدى الاباء فرض قراءتها للمبتدئين الذين يريدون أن يتلقّوا التعليم الفقاهيّ حول الديانة الحقّة: حكمة سليمان وحكمة ابن سيراخ، أستير، يهوديت، طوبيّا...« وصفها إبيفان بأنَّها »مفيدة«، »نافعة«(14). فبعض الأسفار التي ليست جزءًا من القانون العبريّ ولا من القانون المسيحيّ، أوصى بها الآباء من أجل تدرُّب المبتدئين أو التعليم الخلقيّ.

ب - توزيع الأسفار في مجموعات

إنّ الأبحاث حول توزيع الأسفار في مجموعات متنوِّعة، توجَّهت حتمًا نحو المقابلة مع تاريخ القانون العبريّ. فجعلت دورًا حاسمًا لإعادة البناء الفرّيسيّ كما تمّ في الأكادميا الرابّينيّة في يمنية/يبنة، في منعطف القرنين الأوّل والثاني. وإذ أرادوا أن يشرحوا وجود أسفار أو أجزاء من أسفار غابت من قانون الرابّينيّي، في البيبليا المسيحيّة، اعتبروا بشكل عامّ أنّ هذه البيبليا جاءت من أوساط  تقرأ مجموعات أوسع لم يؤثِّر فيها الفرّيسيّون بشكل كافٍ لكي يُلغوا أسفارًا لا يقبلون بها، بعد أن فرضت لائحتُهم نفسها فقط، بمناسبة إعادة البناء الذي قام به هؤلاء الفرّيسيّون.

ونلاحظ أيضًا أنّ اللائحة المسيحيّة توسَّعت بعض الشيء في الاتّجاهات التي فيها بدأت، بالامتدادِ، اللائحةُ المحصورة: أضافت البيبليا اليونانيّة كتابًا نُسب إلى سليمان، هو سفر الحكمة الذي هو بعد الجامعة ونشيد الأناشيد. وأضافت إلى إرميا، والمراثي، سفر باروك ورسالة إرميا. وأضافت سفري المكابيّين إلى أسفار تاريخيّة أخذ بها الفرّيسيّون هي سفرا الأخبار ثمّ عزرا ونحميا. وأضافت إلى أخبار بشكل رواية، أخذت بها البيبليا الفرّيسيّة، مثل راعوت ويونان وأستير، سفرين آخرين: طوبيّا ويهوديت. وفي وضع ابن سيراخ، نحن أمام عدم إلغاء، لا أمام قبول.

مثلُ هذا التمثُّل للأمور ليس بخاطئ. ولكن يجب التدقيق فيه بعد التساؤلات الجديدة حول مراحل التاريخ التي وصلت إلى تكوين القانون الماسوريّ، حول طبيعة (وتاريخ) القرارات التي نُسبت إلى أكاديميّة يمنية. وأيضًا بسبب التنوُّع الكبير في استعمالات تشهد لها اللوائحُ المسيحيّة نفسُها. فالجدالات تشير حتّى إلى تاريخ التوزيع المثلّث في: شريعة، أنبياء، كتب. بعضهم أعطى وزنًا كبيرًا لشهادة حفيد ابن سيراخ، في مطلع الترجمة اليونانيّة لابن سيراخ: »بهذا كان يؤمن جدّي يشوع، الذي تعمَّق في دراسة الشريعة والأنبياء وبقيّة كتابات (كتب) أسلافنا. فبعد أن ترسَّخ في المعرفة، دفعه شعورٌ داخليّ لتأليف كتاب في التربية والحكمة« (آ7-12). كما اعتبروا أنَّه من الأكيد منذ النصف الثاني من القرن الثاني ق.م.، أنّ فئة ثالثة من الأسفار وُجدت بجانب الشريعة والأنبياء، فنعمت بسلطة عالية جدٌّا، دون أن تُقفَل اللائحة(15).

وشكَّك آخرون في المعنى المعطى لعبارة »بقيّة كتب آبائنا«، والعودة في 2مك 2: 13-15، إلى نصّ من قمران في المغارة الرابعة(16)، وإلى فيلون (في حياة المشاهدة 25)، وإلى لو 24: 44. واعتبروا أنّ الجدالات الرابّينية حول »الكتب« (الباقية) تبرهن أنّ القانون المثلَّث لم يكن قد صِيغ بعدُ. فأرَّخوا هذا القانون في زمن يمنية على أبعد تقدير(17). يمكن أن نستغلّ شهاداتُ آباء الكنيسة من أجل التقدُّم نحو الحلّ. ذاك هو النهج الذي نقرأ لدى دوريفال (ص 81-110) الذي درس في هذا المعنى اللوائح التي قدَّمتها المصادر الآبائيّة، اليونانيّة منها واللاتينيّة(18). فقد حمل براهين جديدة من أجل تأريخ متأخِّر للقانون الرابّينيّ المثلَّث، وقدَّم طروحًا دقيقة حول تاريخ القانون المسيحيّ للعهد القديم. وأبرزَ بشكل خاصّ تنوُّع النماذج التي كانت جارية في القرون الأولى، سواء كنّا أمام مجموعة من النصوص في مجموعات عديدة، أو عدد الأسفار أو ترتيبها في لوائح.

أمّا القسمة في اثنين فهي متبدِّلة، من مليتون السرديسيّ إلى روفين، وبين روفين وأوغسطين (دوريفال، ص 85-86). فهناك اختلافات بين نمطين من القسمة الثلاثيّة: واحد يميِّز الأسفار التاريخيّة والنبويّة والشعريّة (مع اختلافات هامّة في ترتيب المجموعات وفي تسميتها). وآخر هو جيروم في مقدّمة لأسفار صموئيل والملوك. وصفَ القانونَ العبريّ في زمانه، فقال جيروم التوراة أو الشريعة. نظام الأنبياء. نظام الكتب المقدَّسة. وهذا التقسيم الثلاثيّ يَبرز في شكلين اثنين، وهذا ما يدلّ على »السيولة النسبيّة في البيبليا المثلَّثة«، في زمن جيروم أمّا الفنون المختلفة في التقسيم الرباعيّ، من أربعة بنتاتوكس عند إبيفان، أو الترتيب البلاغيّ كما عُرف في الأصل عند يونيل الافريقي في القرن السادس. كلّ هذا تجديد يُشرَح في اهتمام »بمسحنة« العهد القديم (دوريفال، ص 90-91).

وقد أكَّد الآباء مرارًا أنَّ عدد الأسفار هو 22 لدى العبرانيّين، وقابلوها مع الأحرف العبريّة الاثنين والعشرين. وأعطت هذا الجمعَ تعداداتٌ مختلفة جدٌّا، وهي تضمّ أسفارًا غابت من اللائحة العبريّة، مع أنّ القانون يجب أن يكون المعيار والقاعدة(19). كان جيروم الشاهد الآبائيّ الأكثر تأكيدًا للعدد 24، كما يشهد على ذلك جزءٌ من المصادر اليهوديّة القديمة. أمّا فلافيوس يوسيفس فتحدَّث عن أسفار البيبليا الاثنين والعشرين(20). وقدَّم الآباء أيضًا أرقامًا أخرى. منها من حمل رمزًا مسيحيٌّا. الرقم 27 عند إبيفان(21). وما برَّر موقفه، هو أنّ خمسة من الأحرف العبريّة الاثنين والعشرين تتضمَّن شكلين (ج د ك ف ت). وهكذا كانت مقابلة بين 27 كتابًا للعهد القديم و27 كتابًا للعهد الجديد (دوريفال، ص 95). وفي شكل آخر، شدَّد كاسيودور على هذا التناسق فقابل مع وحدة الوزن والعدد »المكتبة«(22) التي تضمّ 72 »قطعة«(23) من مجموع 44 سفرًا في العهد القديم (في حساب أوغسطين، والحقيقيّ 46 سفرًا) و27 من العهد الجديد. يُضاف إليها الرقم واحد عن الثالوث (دوريفال، ص 96).

الوضع القانونيّ (أو اللاقانونيّ) لسفر أستير، لا يجد إجماعًا لدى الآباء. والتردُّدات، بل التناقضات في هذا المجال، تعيدنا إلى الجدال حول إقفال الكتاب المقدَّس، وتتوافق بصعوبة مع فريضة تجعل إقفال القانون العهد قديميّ في الحقبة الحشمونيّة، في القرن الأوَّل ق.م. هي انعكاس للايقينات لا يمكن أن تكون سابقة لعهد يمنية(24). في وضع الأسفار التي ستُدعى في ما بعد القانونيّة الثانية أو الدوتارو قانونيّة، كانت حيرةٌ بل خلطُ أوراق لدى آباء الكنيسة. فبعض اللوائح القديمة تذكرها وتجعلها على مستوى سائر الأسفار القانونيّة، أو البروتو قانونيّة (القانونيّة الأولى). وحين تعالج هذه التعداداتُ الأسفارَ الدوتارو قانونيّة على حدة، فهي تختلف اختلافًا، انطلاقًا من سفر واحد لدى أوريجان الذي يصف قانون العبريّين(25)، إلى 13 سفرًا عند بسودو أثناز (أو ما نسب إلى أثناز). هذا من جهة، ومن جهة ثانية، إذا كان الآباء قد وصفوها بالمفيدة والنافعة، فهم ينفصلون بعضهم عن بعض في تحديد هويّة المستفيدين من قرءاتها: مرّة هم الموعوظون، مرّة أخرى الشباب بدون تحديد. أو الشعب من أجل البنيان، »لا من أجل تثبيت سلطة التعاليم الكنسيّة«(26) والكاتب الواحد يستطيع أن يجعل هذا النصّ أو ذاك في مجموعة »سائر الكتب« (ك ت و ب ي م، الفئة الثالثة). ويلجأ إليه في مؤلَّفاته فيعطيه السلطة نفسها التي للأسفار القانونيّة، كما فعل أثناز بالنسبة إلى سفر الحكمة ويشوع بن سيراخ(27). إذًا، الأبحاث اللاحقة ضروريّة لشرح هذه التقلّبات، فتُدرَس حالة بعد حالة مع الأخذ بعين الاعتبار الأزمنة ومرمى هؤلاء الكتّاب(28).

ج- القيمة القاعديّة للوائح القديمة

إنّ التنوُّع الكبير لطرق تعداد الأسفار، وصفِّها بحسب ترتيب دقيق، وإحصاء حصّة سائر الكتب التي ليست قانونيّة ولا »منحولة«، كلّ هذا يدفعنا إلى التساؤل عن القيمة القاعديّة للوائح القديمة، لاسيّما وأنّ المجامع والسينودوسات لم تقدِّم في الماضي تشريعًا في هذا المجال. ما نستطيع أن نورده بالنسبة إلى الشرق، القانون 59 من مجمع لاودكية(29). وبالنسبة إلى الغرب القانون 36 من مجمع قرطاجة سنة 397(30). فالاختلافات العديدة بين هذه اللائحة الأخيرة وقانون الكتب المقدَّسة التي يعطيها أوغسطين في التعليم المسيحيّ(31) سنة 396، ساعة كان في مجمع قرطاجة، في شهر آب سنة 397، وساعة التصويت على القانون الكتابيّ، هذه الاختلافات قادت الباحثين إلى إعادة تكوين التاريخ المتشعِّب لتدوين هذا التاريخ، كمثَل عن تكوِّن صعب لقانون الكتب المقدَّسة في الغرب(32). والطابع الموقَّت لسلطة مثل هذه اللائحة المحمعيّة، يجد صورة عنه في الطريقة التي بها بدَّل أوغسطين رأيه، بين سنة 396 وسنة 430، على بعض النقاط في القانون البيبليّ(33). وبقيَتْ غوامضُ كثيرة لدى آباء آخرين وأوساط أخرى، وكلّ هذا يتطلَّب الأبحاث والتحرِّيات.

الأبحاث حول دراسة القوانين، والمرتبطة بنشاط أماكن النسخ(34)، وتحليل الوثائق حول الممارسات التجاريّة لدى المكتبات، كلّ هذا يستطيع أن يقدِّم أضواء على ترتيب الأسفار، في المخطوطات كما في اللوائح القديمة. وقد بيَّنت دراساتٌ متجدِّدة، الدورَ المحوريّ لقانون أثناز في تاريخ إنتاج الكودكس الفاتيكانيّ. وقراءة لائحة الأسفار البيبليّة (في شكل قصيدة)، ومؤلَّفات قبريانس المعطاة في دليل لاتينيّ(35)، في أفريقيا بلا شكّ، حوالي سنة 350، تبيِّن قوّة الاستكشاف في دروس حول »طبيعة القانون«، كما قال الأب بوغارت. والنتائج التي حصلنا عليها تُثبت، إذا كانت هناك من حاجة، وجودَ تنوُّع في اللوائح الكنسيّة. فتثبيت قانون كتابيّ لا يُمسّ، فكرةٌ بعيدة جدٌّا في نهاية القرن الرابع، هذا إذا وُجد قانون في ذلك الوقت. وتفحّصُ أمثلة ملموسة يبرز التداخل بين عدد من العوامل: بين الركيزة (اللفيفة، أو الكودكس)، اللوائح والعناوين، أمكنة النسخ وبين السلطات الكنسيّة (بوغارت، ص 155).

إذا كان تحديد اللوائح التي دُعيَت دوتاروقانونيّة، وعلاقاتها مع نصوص معيَّنة على أنَّها قانونيّة، تبقى غامضة بشكل خاصّ، فالانتقاء الذي يستبعد الأبوكريفا أو المنحولات هو أوضح وإن بقيت مناطق من اللاقرار. والتطوُّر الذي يُميِّز بعضًا منها من النفوذ النسبيّ إلى الاستبعاد واضحٌ بعض الشيء، أقلَّه لدى شهود الممارسات القاعديّة والعاملين فيها. فأوريجانُ أكثر دقّة من كليمان الإسكندرانيّ. وطالب ترتليان باستعمال أخنوخ مع أنَّ لا وجود لهذا المؤلَّف في البيبليا اليهوديّة. وفي الوقت عينه بدا هذا الكاتب مضعضَعًا، لأنّ بعض المسيحيّين يرفضون ذلك لأجل هذا السبب(36). وعرف أوريجان مدلول »منحولات«، فما أعطى يومًا هذا العنوان لأسفار دوتارو قانونيّة. بل أعطى، في مؤلَّفاته التي وصلت إلينا في اليونانيّة، هذا العنوان لـ »صلاة يوسف«، »خبر يوسف وأسنات«، »استشهاد أشعيا«، »منحول زكريّا«(37).

لا شكّ في أنَّه أخذ من يهود الإسكندريّة اللفظ (منحول) كما أخذ الصفة »إيصائيّ«(38) لتعارض »المنحوليّ«(39). يبدو أنَّه لا يستعمله بشكل عامّ وفي معنى منتقص. فالمنحولات كتابات جديرة بالاهتمام، ولكنَّه اعتُبرت رسميٌّا لاكتابيّة. وهناك مقطع واحد يمكن أن يتضمَّن انعطافًا آخر. حين شرح أوريجان كلمة يسوع للصادوقيّين: »أنتم في ضلال، لأنَّكم لا تعرفون الكتب« (مت 22: 29)، رذل ثلاثة تفاسير. ومنها واحد يرى في هذا القول تلميحًا إلى »خطب خفيّة«(40) حيث يبدو أنَّه كُتب بشكل واضح عن الحياة السعيدة(41). هناك بعض السخرية في المقطع. فهو يرفض المنحولات التي تعتبر أنَّها تصوِّر الآخرة، وتبيِّن فيها حياة الأبرار(42). ويبقى أنَّنا لاحظنا أنَّ أوريحان عبَّر عن حذر متنامٍ للمنحولات، وإن أقرَّ بأنّ بعضًا من هذه الكتابات قد تساعد المفسِّر على اكتشاف المعنى الخفيّ في النصّ البيبليّ(43).

في زمن أثناز، أُصدر الحكمُ على المنحولات: فرسالة العيد 39 حثَّت المؤمنين على ترك استعمال المنحولات. وربطت هذا الكلام ربطًا وثيقًا بمنع المشاركة مع الأريوسيّين والميلاتيّين(44). وتجاه مناورات الهراطقة، يقف احترامُ القانون الوحيد الصحيح، قانونَ الكتب المقدَّسة الذي يُعتبَر مرتبطًا بالتقليد ومتضمِّنًا التعاليم الحقّة(45). في هذا المجال، الاتّهام الذي أطلقه أثناسيوس على خصومه، لا أساس له. ويبقى أنّ اللجوء إلى المنحولات لدى »الهراطقة« قد ساعد بقوّة، على الرذل الكنسيّ لهذه المؤلَّفات. ووضعُ ماني الذي استعاد في كتابه الجبابرة(46) خبرًا مأخوذًا من الأدب الأخنوخيّ، هو مثَل يلفت النظر بشكل خاصّ(47).

إنّ الحكم الرسميّ الذي تكرَّر في أشكال مختلفة بدءًا من القرن الرابع، لم يمنع من قراءة المنحولات، التي نُسخت من جديد، وصيغت وأُعيدت كتابتُها. كما لم يمنع إنتاج نصوص جديدة جُعلت برعاية أشخاص من الكتاب. وكانت نتيجة الرَذْل هذا ضياع نصوص كاملة، في اليونانيّة، لأبوكريفات دُوِّنت أصلاً في هذه اللغة أو تُرجمت إليها. كما أنَّها غابت من مخطوطات السبعينيّة. ولكنَّنا نعرف أنّ الشعبيّة اللاتينيّة أمَّنت انتشارًا واسعًا لكتبٍ دُعيت: 4 عز، 5 عز، 6 عزّ(48). في هذه الحالات نجد نفوسنا داخل الأدب المسيحيّ، على حدود لاواضحة بين منحولات مرتبطة بالعهد القديم وكتابات فرزها تحديدُ قانون العهد الجديد.

2- قانون العهد الجديد

نسير هنا من الإشكال إلى الاستبعاد أو إلى الاعتراف. وهكذا تثبَّت القانون العهد جديديّ. فأبحاثُ العقد الأخير من القرن العشرين حول تاريخ الكتاب، أبرزت الاهتمام المسيحيّ القديم من أجل الكودكس قبل سنة 150 بقليل، للأناجيل الأربعة التي صارت فيما بعد قانونيّةّ(49). فوجود مثل هذه المجموعة التي انتُقيت لهذه الأناجيل من أجل حاجات التعليم والليتورجيّا، فعلت الكثير من أجل تقوية سلطتها في وعي القرّاء. أمّا المجموعة البولسيّة، فالباحثون يقولون الآن بوجود نشرة من الرسائل إلى سبع كنائس سابقة للسنة 140 أي قبل تدخُّل مرقيون(50). وتأكَّدت سلطة أعمال الرسل وطالب بها إيرينه بقوّة(51). بين الرسائل التي وُصفت فيما بعد بأنَّها »كاثوليكيّة« أي عامّة، بعضها مثل 1يو و1بط، كانت موضوع احترام عميق. وبدأت منطقة لاحاسمة على هذا المستوى. عندئذٍ وجب استعمال لفظ قوننة في معنى دقيق، نُسب فقط منذ وجود مجموعة محدَّدة ومقفلة. هذا ما يحيلنا إلى النصف الثاني من القرن الرابع. قبل ذلك الوقت، لا نستطيع أن نتحدَّث سوى عن تكوين متنامٍ فيه التوسُّع والتضييق. بحسب حركة متشعِّبة جعلت النموّ والحصر يُوجَدان معًا، في المراحل الثلاث الأقدم: بروز الأناجيل الأربعة ورسائل بولس في نهاية القرن الأوّل وبداية القرن الثاني. ظهور وثائق أخرى »عهد جديدة« من نهاية القرن الثاني إلى بداية القرن الرابع. المجهود لتعيين الحدود في القرن الرابع(52).

اللائحة الأولى المقفلة التي حُدِّدت بـ 27 سفرًا، أعطيَت في رسالة الفصح 39 لأثناز الذي جعل بين »الأسفار الأخرى«، »تعليم الرسل وراعي هرماس« على مستوى الدوتارو قانونيّة في العهد الجديد. هذه »الكتب الأخرى« التي لبثت في عهد أوسابيوس مصدرَ تردُّد، احتفظت بكرامة كبيرة على هامش القانون. وهذا ما يدلّ عليه وجود »رسالة برنابا« و»راعي هرماس«، في الكودكس السينائيّ، ورسالتي كليمان الأولى والثانية في الإسكندرانيّ، بعد رؤيا يوحنّا. فديناميّة التوسُّع والحصر أثَّرت على كتب »متنازع فيها«(53) أقلَّه منذ أوريجان. وهي كتب لبث عددها وطبيعتها متقلِّبين. وارتسم تمييز آخر بين كتب »متنازع عليها« وبين التي رُذلت في النهاية بشكل كامل.

والحرب الكنسيّة على الغنوصيّين اجتذبت (كما قلنا) رذْلَ أناجيل أو نصوص نُسبت إلى تلاميذ يسوع، واعتادوا على قراءتها. وهذا ما نقوله أيضًا عن كتاباتٍ كانت التعبيرَ عن تيّارات يهوديّة مسيحيّة في المعنى الدقيق للفظ. منذ الآن، فالضمّ إلى مجموعة يكونُ تعليمُها وممارستها  مثار شكّ، صار سببًا كافيًا للرذل. ولنا مثل واضح في مصير إنجيل بطرس: ما رأى سيرابيون الأنطاكيّ ما يتَّهمه به، ما لم يقنعوه أنَّه يُقرأ في روسوس Rhossos لدى أناس اتُّهموا بالهرطقة، وما لم يلاحظ، في أنطاكية، وجوده لدى أشخاص اتّهموا بأنَّهم من الظاهريّين، بل هو يكتفي بأن يقول، حول المعنى، إنَّه وجد »في جزئه الأكبر، التعليم المستقيم عن المخلِّص مع بعض إضافات مختلفة«. وأن يرتّب هذا الكتابْ مع البسودو كتابات(54) على »بطرس وسائر الرسل« لا يكون نقصًا إلاّ في إطار الظنّ الأوّل(55).

وفي حالات مماثلة، لجأ كليمان إلى ستراتجيّة أخرى: إذ أشار إلى أنّ هذا القول الذي ذكره الخصوم غير موجود »في الأناجيل الأربعة التي سُلِّمت إلينا، بل في إنجيل المصريّين«، تفنَّن في إعطائه معنى يوافق تعليمًا يحسبه مستقيمًا. هذا العمل من التمثُّل الأرثوذكسيّ لكلّ كلام يُنسَب إلى يسوع أو إلى تلاميذه ورسله، يخضع لديه لستراتيجيّة ثابتة(56). ولكنَّه يخالف الآخرين، حيث العادة المتَّبعة هي الاستبعاد. والانتقاء الذي نتج عن ذلك، مع قوننة الكتابات العهد جديدة، لا يلاقي الإجماع، فيَظهر تنوُّعٌ كبير حسب النصوص، وفي حقبات وأوساط مختلفة. والنموذج في هذا الوضع هو رؤيا يوحنّا. دخل في لائحة الكتابات التي أقرَّ بها الغرب باكرًا، بالرغم من علامات الرفض في رومة في بداية القرن الثالث(57)، وبقي سفر الرؤيا موضوع نزاع مدّة طويلة في الشرق، بعد انتقادات ديونيسيوس الإسكندرانيّ التي حرَّكتها قوّة التيّار الألفانيّ في مصر. واستطاع أمفيلوك، أسقف إيقونية، أن يكتب بعدُ، في نهاية القرن الرابع: »أمّا رؤيا يوحنّا أيضًا، فالبعض يوافقون. ولكن العدد الأكبر يدعونها مزوَّرة«(58).

والوضع الذي ما زال غير أكيد نسبيٌّا في القرن الثالث، بالنسبة إلى كتابات رُذلت فيما بعد على أنَّها منحولة، يجد صورة عنه في الطريقة التي بها تصرَّف أوريجان. هو الذي اعتاد أن يورد أعمال الرسل وينسبها إلى لوقا، استعمل »أعمالاً« أخرى لم يسمِّها، وإن ذكرها بطريقة فطنة، ليُسند التقليد المتعلِّق بالمناطق التي بشّرها الرسل(59).

يستحيل علينا هنا أن نقدِّم حتّى لائحة العناصر التي يجب أن تَلفت انتباهَنا لعرض وضع مسألة القانون العهد جديديّ(60). نكتفي هنا بأن نورد (ونفسِّر بإيجاز) نصٌّا مفصليٌّا يدلّ على تردُّدات باقية في العقود الأولى من القرن الرابع، ويشير إلى معايير الانتقاء المعمول بها في ذلك الوقت. هو عرض أوسابيوس القيصريّ في التاريخ الكنسيّّ(61)، الكتاب الثالث الفصل الخامس والعشرين:

1. إذ وصلنا إلى هذه النقطة، يبدو لنا مناسبًا أن نعطي لائحةً تستعيد كتابات العهد الجديد، كما أشرنا إليها. وينبغي من دون شكّ أن نضع في الدرجة الأولى رباعيّة الأناجيل المقدَّسة التي يليها كتاب أعمال الرسل.

2. بعد هذا الكتاب، يجب ذكر رسائل بولس. ويجب أن نقِرّ في إثرها بالأولى المنسوبة إلى يوحنّا وكذلك رسالة بطرس الأولى. بالإضافة إلى هذه النصوص، يجب أن نصنِّف، إن بدا ذلك حسنًا، رؤيا يوحنّا. سوف نعرض في الوقت المناسب الآراء في هذا المجال.

3. تلك هي النصوص التي تُوضَع بين الكتب المسلَّمة. وبين الكتابات المتنازَع عليها، والتي يعرفها العدد الكبير، هناك رسالة منسوبة إلى يعقوب، ورسالة يهوذا. وكذلك رسالة بطرس الثانية والرسالتان المدعوّتان الثانية والثالثة ليوحنّا، سواء كانتا من الإنجيليّ أو من شخص آخر يحمل الاسم عينه.

4. بين اللاصحيحة، يجب أن نرتِّب أيضًا أعمال بولس، والمؤلَّف المعْنوَن الراعي، ورؤيا بطرس. وإلى ذلك، الرسالة المنسوبة إلى برنابا والمؤلَّف المدعوّ تعاليم الرسل. وأيضًا كما قلت: رؤيا يوحنّا، إذا بدا ذلك حسنًا. فالبعض، كما قلت، يرفضونها لكنّ آخرين يضمّونها إلى الكتب المسلَّمة.

5. وبعضهم أحصى في هذه المجموعة عينها الإنجيل بحسب العبرانيّين الذي يرضي خصوصًا العبرانيّين الذين اقتبلوا المسيح.

كلّ هذه الكتب يمكن أن تكون في عداد الكتابات المتنازَع فيها.

6. ووجدنا من الضروريّ أن نضع كذلك لائحة، فنميِّز الكتابات الحقّة بحسب التقليد الكنسيّ، اللامفبركة (المعتَرَف بها شرعًا)، عن التي تختلف عنها: هي كتابات لاإيصائيّة (لاعهديّة)، بل متنازَع عليها، مع أنّ معظمَ الذين ينتمون إلى الكنيسة يعرفونها. هكذا نستطيع أن نعرف ماهيّة هذه الكتب وغيرها التي يقدمها الهراطقة باسم الرسل. هي تتضمَّن أناجيل تعتبر لبطرس، لتوما، لمتّى، لآخرين أيضًا«. وأعمال تُعتَبر لأندراوس، ليوحنّا، وسائر الرسل. هذه الكتابات، ما من أحد بين أهل الكنيسة الذين يحدوهم التعاقب (الشرعيّ)، اعتبرها أهلاً لأن تُذكَر في شكل من الأشكال في مؤلَّف ما.

7. بالإضافة إلى ذلك، ابتعد فيها طابعُ التعبير عن الأسلوب الرسوليّ. والفكرة التي فيها والمرمى، يختلفان ملء الاختلاف عن الأرثوذكسيّة الصحيحة. كلّها براهين واضحة بأنَّها »فبركة« مزيِّفين مهرطقين. لهذا، يجب أن لا نصنِّفها بين الكتب اللاصحيحة، بل يجب أن نحرِّمها على أنَّها عبثيّة وكافرة(62).

استعاد هذا الفصل ملاحظات، قدَّمها أوسابيوس منطلقًا من وثائق جمعها لدى سابقيه، وحاول أن يعرض، في شميلة، أحكامًا حول نصوص اعتبرت أنَّه يحقّ لها أن تكون في لائحة كتابات العهد الجديد، في وقت أو في آخر، في مكان أو في آخر. كما أراد أن يثبت ما دُعيَ قبل الوقت »قانون العهد الجديد«. إنّ النظرة الاستطلاعيّة التي ألقاها أوسابيوس على التاريخ السابق، محاولاً أن يحدِّد قواعد من أجل الحاضر، جعلته يرتبك. وهذا الارتباك لا يظهر فقط أمام الموضع اللاأكيد لسفر الرؤيا، حيث يُفرَض على المؤرِّخ أن يورده بين الكتب المسلَّمة وبين الكتب الزائفة معًا، بل أيضًا عبر التباس فئة الكتابات »المتنازع عليها«، التي وُضعت أيضًا بأنَّها زائفة، ساعة بعضٌ منها نَعِم بسلطة نسبيّة منحها وضعٌ يجعل أهل الكنيسة يعرفونها. وهو التباس يحاول أوسابيوس أن يتحرَّر منه، فيُدخل في النهاية تمييزًا قاطعًا بين كتب فقط »متنازع عليها« و»فبركات مزيّفين هراطقة«.

هذا الارتباك يعلِّمنا الكثير، لأنَّه يذكِّرنا بإيقاظ الحسّ النقديّ أيضًا في أيّامنا، حين نتفحَّص مسيرة القوننة، أي تنظيم الكتب المقدَّسة في قانون، في لائحة ستصبح مقفلة. وعرضُ أسابيوس مفيدٌ أيضًا، لأنَّه في الوقت عينه، عرضُ باحث وعرضُ رجل كنيسة. هو يبرز التفاعل المتشعِّب بين النقد العلميّ الصحيح، والموروث من الفيلولوجيا الهلنستيّة، وبين الهمّ الرعائيّ الذي يحاول أن يُبرز القواعد. من هذه القواعد، الأرثوذكسيّة (الإيمان القويم)(63)، وإقرار أكثريّة الكنائس.

بيَّن هذا العرضُ التلخيصيّ وسائرُ توسُّعات أوسابيوس حول الموضوع، أنَّ قاعدة الرسوليّة (الارتباط برسول) لا تَسير بنا إلى فرض يقينٍ مطلق حول هويّة الكاتب. فالعلم النقديّ والتعليم العقائديّ يسيران هنا معًا. أمّا الانزعاج الذي يبرز هنا في المصطلحات والتمييزات المقترحة، فهو يدلّ على مقاومة الواقع لعمل يسعى لأن يُوقف برهة واحدة الأمواج المتعدِّدة التي تارة تُوسِّع الشاطئ المتحرِّك لليابسة، وطورًا تضيِّعه، هذا إذا لم يأتِ موج من القعر. في المنطقة اللاأكيدة من التيّارات المعارضة، ما زالت قاعدةُ توافق الأكثريّة، تصدم شرعيّة أخرى، هي شرعيّة العادات المحلّيّة. والتحرُّكات التي تهزّ محيط الدائرة، لا يمكن إلاّ أن تؤثِّر على نقطة الدائرة، على القانون عينه.

خاتمة

إن تعدُّد الأبحاث الجديدة حول الآداب »المنحولة« (كما يقولون أو المكتومة، الأبوكريف) خلال العقود الأخيرة، قد لفت الانتباه إلى محيط الدائرة هذا، سواء تكلَّمنا عن العهد القديم أو العهد الجديد. والعلاقة التي يجب الحفاظ عليها بين تاريخ تكوين القانون، وتاريخ التفسير، عادت أيضًا في قلب الأبحاث. والاستعمال الاجتماعيّ للنصوص، في مختلف الجماعات، أتاح للباحث أن يحيط إحاطة أفضل بأسباب امتداد المجموعة الكتابيّة، وبروز »كتابات أخرى« كما قال أثناز. والأعمال حول ترتيب القانون والنقد النصوصيّ، قد استغلَّها مؤرِّخو القوننة. وكان »لجسم« القانون نتائج سيكولوجيّة. فمن الأكيد أنَّ تطوُّر تقنيّة الكتاب، في القرن الرابع، ساعة صار بالإمكان أن نجمع في كتاب واحد، مجمل البيبليا المسيحيّة، بعهديها القديم والجديد، كلّ هذا أعطى لمدلول القانون شكلاً ملموسًا بحيث لا تكون عودةٌ عن مسيرة تقود إلى تحديده (التعريف به)(64).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM