الفصل الحادي عشر نشيد دبورة قض 5

الفصل الحادي عشر

نشيد دبورة قض 5

من الأناشيد الدينية التي احتفظ بها سفر القضاة، نتوقّف عند نشيد دبورة (قض 5: 2- 31).

أ- موقع النص وترتيبه
1- النص في الكتاب
إن قض 5 هو جواب على ما حدث في قض 4. "باع" الرب شعبه ليابين ملك حاصور مع رئيس جيشه سيسرا. وحين صرخ بنو إسرائيل، خلّصهم الرب رغم تفاوت القوى بين شعبه وبين الكنعانيين: هُزم الجيش، قُتل رئيسه، فأنشدت دبورة نصر الرب.
غير أننا نجد إختلافات بين الخبر (قض 4) وبين النشيد (قض 5). لا يتحدّث قض 4 إلاّ عن قبيلتَيْ نفتالي وزبولون (آ 6، 10) اللتين حاربتا يابين ملك حاصور في ميروم، في الأعالي (أو: المشارف) (5: 18). أمّا 5: 14- 15 فيذكر عدداً أكبر من القبائل، ويجعل المعركة تندلع في السهل لا على الجبال. والخصم هو سيسرا وحده. إذن، دمج قض 4 معركتي ميروم وتعناك.
يقول 5: 15 إن دبورة ارتبطت بقبائل الشمال. أما 4: 4- 5 فيجعلها مع إفرائيم. وهكذا تبدو قبيلة إفرائيم وكأنها تحاول أن تكسب لنفسها معركة تعناك. وهذا يدلّ على أن قض 4 دوّن بعد نشيد دبورة في قص5.

2- ترتيب النص
دوّن النص في صيغة المتكلّم المفرد: "إني للرب أرنّم (أنا)، أشيد للرب إله إسرائيل" (آ 3). قالت آ 1: أنشد دبورة وباراق. فيبدو أنه لا دبورة ولا باراق أنشده. فهما مذكوران في آ 15: "رؤساء يساكر يسيرون مع دبورة، ويساكر يزحف إلى السهل مثل باراق". كما أن النشيد يوجّه كلامه إلى دبورة فيقول لها: "فرغت القرى من سكانها فرغت، حتى قمتِ، يا دبورة، قمتِ أُماً في إسرائيل" (آ 7). ونقرأ في آ 12 كلاماً يتوجّه إلى دبورة وباراق: "إنهضي، إنهضي يا دبوّرة. إنهضي، إنهضي وإهتفي بنشيد. إنهض يا باراق، وإستعد للسبي يا ابن أبينوعم".
هذا يعني أن الكاتب شخص مجهول، ألّف قصيدته قرب أحد المعابد، ولكن جاء من زاد عليها ى آ 1- 5 وآ 31، وجعلها في فم دبورة وباراق بن أبينوعم.
ب- تفسير النص
1- حرب مقدسة (آ 2- 5)
إلمحاربون هم متطوّعون، قدّموا نفوسهم بحرية (آ 2). قبل الذهاب إلى الحرب، حلّوا شعورهم المجدولة وأطلقوها في الهواء فدلّوا على تكريسهم الكامل للرب (آ 2؛ رج مز 68: 22؛ تث 32: 42). ولكن المحارب الرئيسي هو الرب، إله البدو الآتين من الصحراء (آ 4- 5؛ رج تث 33: 2). صحراء أدوم هي هضبة تمتد إلى سيناء. ولهذا جاء شرحٌ زاده أحد الكتبة فقال: أمام الرب "إله سيناء" (آ 5؛ من مز 68: 9). جاء الرب فحمل معه العاصفة والمطر التي جعلت وادي قيشون يفيض بالمياه (آ 4؛ ق مز 68: 9- 10).

2- خطر يهدّد القبائل (آ 6- 8)
إنقطعت الإتصالات بين قبائل الشمال وقبائل الوسط (آ 6). فصار الوضع حرجاً. وعلى المستوى الديني تبنّى العبرانيون آلهة الكنعانيينِ. وكانت ضائقة إقتصادية، ونقصَ خبزُ الشعير كما يقول النص اليوناني في آ 8. كما نقص السلاح الضروري للمدافعة عن البلاد (ق 1 صم 13: 19- 22).

3- تذكّر الانتصارات السابقة (آ 9- 11)
إن تذكّر انتصارات حصل الشعب عليها من الرب، يُشعل حماس القبائل (آ 11). وتنتقل هذه التذكّرات عبر أقوال الرؤساء، خلال السفر، أو حين يوزع الرعاة مواشيهم بين حياض الماء (آ 10- 11). حينئذ حمل الشعب سلاحه واجتمع عند أبواب المدن (آ 11).

4- تجنيد القبائل (آ 12- 15 أ)
وأرسلت دبورة نداءها مع باراق، فجاءت ست قبائل كانت تؤلّف في ذلك الوقت رابطة وإتحاداً: إفرائيم، ماكير (أي: منسّى)، زبولون، بنيامين، يساكر، نفتالي.

5- نداء إلى قبائل لهم تتحرك (آ 15 ب- 7)
أريع قبائل: رأوبين، جلعاد، دان، أشير. لم تلعن كما لعن سكان ميروز (آ 23). إعتبرت هذه القبائل غير معنيّة بما يحصل لحلف القبائل الست.

6- تصوير المعركة (آ 19- 22)
لا يقول النص شيئاً عن الأعمال الحربية التي قامت بها القبائل. فالشيء الوحيد الذي يحسب له حساب هو تدخّل الرب وقوى الطبيعة التي يحرّكها: هذا ما نسميّه الحرب المقدّسة.

7- مباركة ياعيل (آ 23- 28)
وإحدى ميزات الحرب المقدسة هي أن النسوة (رغم ضعفهنّ) يحصلن على النصر. فدبورة وياعيل اللتان لم تُحسبا بين المقاتلين (رج قض 9: 35- 54 وردّة فعل أبيملك) فعلتا ما لم يفعله المقاتلون. إن عمل الله يتعظَّم حين يستعمل وسائل لا نتوقعها (قض 7: 2- 7).

8- إنتظار أم سيسرا (آ 29- 30)
كانت دبورة وياعيل في خدمة عمل الرب، أما أم سيسرا فهي قلقة ومربوطة اليدين. إنتظرت السلب؛ ولكن سيخيب إنتظارها (ق 2 صم 1: 24). تكلّمت أحكم الحكيمات بين الأميرات، ولكن كلامها بدا جهلاً وحماقة (آ 30).

ج- الشعر في نشيد دبورة
يتحلّى نشيد دبورة بنفحة ملحمية وإيقاع موزون. لقد إستعمل الشاعر عدداً من الأساليب الأدبية. أكثرها تأثيراً تكرار الكلمات والعبارات: "أمام الرب، أمام الرب، إله إسرائيل" (آ 5). "من جري، من جري الخيول" (آ 32). "لم يزحفوا لنصرة الرب، لنصرة الرب مع الأبطال" (آ 23). ونكتشف هذا التكرار أيضاً في آ 7، 11، 12.
ونجد هذا التكرار أيضاً بشكل "كياسما" أي تشابك وتصالب (أ، ب، ب، أ): "مباركة بين النساء ياعيل، بين النساء الساكنات في الأخبية هي مباركة" (آ 24). ونقرأ في آ 21: "نهر قيشون جرفهم، نهر القدم، نهر قيشون"! ويتوسّع الشاعر في التكرار في آ 27 فيدلّ على سحق سيسرا كما تسحق قطعة من قماش بالٍ : "خرّ لدى قدمها، سقط، إنطرح. لدى قدميها خرّ وسقط. وحيث خرّ سقط صريعاً". وتخيّل الشاعر حلم الأميرات يتصوّرون الغنيمة المنتظرة: "سبتة، سبياتان لكل بطل. لسيسرا رياش مزخرفة، رياش موّشاة، حلّة، حلّتان لعنقه" (آ 30).
هي بداية شعرية ستنمو شيئاً فشيئاً فتصل بنا إلى ما نقرأه لدى الأنبياء أو في المزامير.

د- أهمية هذا النص
لنشيد دبورة أهمية تاريخية كبيرة: نظرته إلى الحرب المقدسة، كيفية عمل حلف القبائل، العلاقات بين هذه القبائل والكنعانيين في سهل يزرعيل.
ولكن أهميته الكبرى تكمن في الطريقة التي بها يدلّ على أن الإيمان بإله الخروج يُلهب مشاعر الرجال لكي يفكّوا عنهم حصار المدن الكنعانية. والذين دعوا القبائل إلى الحرب لم يكونوا فقط "القضاة" (أو: المخلصين)، بل نساء أيضاً: لقد نالت دبورة لقب "أم إسرائيل". وسيسمّى فيما بعد الملك ووزيره الأول "أباً" للشعب (1 صم 24: 12؛ أش 9: 5؛ 22: 21). وياعيل هي مباركة بين النساء، وهذا مديح ستناله مريم، أم يسوع (لو 1: 42).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM