الفصل العاشر تقاليد سفر القضاة

الفصل العاشر

تقاليد سفر القضاة

نتوقف في هذا الفصل عند محطتين اثنتين. الأولى: أحداث بارزة في زمن القضاة. الثانية: التقاليد الأدبية في زمن القضاة.

أ- الاحداث البارزة في زمن القضاة
تدلّ كلمة "قاضٍ" على وظيفة من يعمل في المحاكم. ولكن الفعل العربي يعني أيضاً: حَكَم الشعب، قاد الجيش. وفي العربية عبارة قضى في الناس تعني اهتم بأمورهم.
لا نعرف من أعمال القضاة إلاّ مآثرهم الحربية. سمّوا في الاصل "قوادا" يرعون الشعب (2 صم 7: 7). أما تسمية زمن القضاة بهذا الاسم، فقد جاءت متأخرة (را 1: 1؛ 2 صم 23: 22). واستعمل الكاتب ليتحدّث عن هؤلاء القضاة فعل "خلّص" (قض 2: 9؛ 6: 15؛ 10: 1) أو لقب "مخلّص" (قض 3: 9؛ 15) الذي اعتاد سفر القضاة أن يحتفظ به لله. إذن هم محرّرون يقيمهم الله في الأوقات المتأزمة. هذا ما تدل عليه عبارة "كان روح الرب عليه"، أمسك روح الرب عتنيئيل (قض 3: 10) وجدعون (قض 6: 34) ويفتاح (قض 11: 29)... و بعد أن يتم هؤلاء عمل الخلاص، يتابع بعضهم رعاية الشعب. ويتوقّف البعض الآخر كما فعل أهود (قض 3: 12- 20) وشمجر (قض 3: 31) ودبّورة (قض 4- 5).
في هذه الحقبة التي ما زالت غامضة بالنسبة إلينا، تبرز بعضُ الأحداث الهامة.

1- النصر على سيسرا (قض 4- 5).
تحالف بعض الأمراء الكنعانيّين على العبرانيين وساروا عليهم بقيادة سيسرا. كانت المعركة في سهل يزرعيل، قرب تعناك، على مقربة من وادي قيشون. سقط مطر غزير فمنع مركبات الحرب من التحرّك. إنتصر العبرانيون فأمنّوا الاتصال بين قبائل الشمال وقبائل الوسط. حدّد زمن المعركة: حوالي سنة 1150. وانشدت دبّورة خلاصاً تمّ لشعبها (قض 5).

2- انتصار جدعون على المديانيين (قض 6- 8)
المديانيون شعب من البدو يتنقّل في برية عرابية شمالاً وغرباً. إستفادوا من ضعف الامراء الكنعانيين (ربما بعد معركة تعناك) وبُعد مصر التي لم تعد تسيطر على سهل يزرعيل، فقاموا بعمليّات السلب والنهب في مواشي العبرانيين ومزارعهم (قض 6: 1- 6). إنتصر جدعون، وهو من قبيلة منسّى على هؤلاء الغزاة بمساعدة قبائل الشمال (قف 6: 35؛ 7: 23). نلاحظ هنا أن قبيلة منسّى حلّت محل قبيلة ماكير. كما نلاحظ التزاحم بين القبائل: لم ترضَ قبيلة افرائيم أن تتمّ هذه العملية العسكرية من دون معرفتها (قض 8: 1- 3).
طلبت القبائل من جدعون أن يتسلّط عليهم (قض 8: 22- 3. لم يتلفّظوا بعد باسم الملك). ها قد بدأت فكرة الملكية تسير مسيرتها وسط القبائل.

3- سلطان أبيملك في شكيم (قض 9)
كان أسياد شكيم التي ظلت مدينة كنعانية يجنّدون المرتزقة ليؤمّنوا الدفاع عن المدينة. وكانوا يدفعون لهم أجرهم من حقّ المرور الذي تدفعه القوافل. فشكيم تشرف على الوادي الذي يمرّ في فلسطين من الشرق الى الغرب. وإذ كان ابيملك قائد المرتزقة، أعلن نفسه "ملكاً" على شكيم. ولكن "مملكته" لم تدم طويلاً. متى حصل هذا الحدث؟ لا نعرف. غير أن هذه المحاولة ولّدت مثلاً معادياً لمملكته. قال يوتام: ذهبت الاشجار ليمسحن عليهنّ ملكاً... (قض 9: 7- 10). وعبّر هذا المثل عن معارضة قوية في قبيلة منسّى ضد النظام الملكي الذي اعتُبر عديم الجدوى.

4- يفتاح وحربه ضد العمونيين (قض 10: 6- 12: 7)
كان يفتاح من قبيلة جلعاد، فقاد زمرة من المرتزقة. دعاه شيوخ القبيلة ليقف بوجه العمونيين وتهديداتهم (قض 11: 5- 11). نحن أمام قضية خاصة بجلعاد. ولكن غارت قبيلة إفرائيم على سلطتها، فحاولت أن تستفيد من هذه العملية، ولكن عبثاً (قض 12: 1- 6).
في هذه المناسبة، تُروى قصّة بنت يفتاح التي نذر أبوها بأن يقدّمها ذبيحة. وقبل أن تُذبح، ذهبت مع رفيقاتها إلى جبل جلعاد لكي تبكي صباها (قض 11: 29- 40).

5- شمشون والفلسطيون (قض 13- 16)
شمشون هو بطل منعزل (لا جيش له). إحتال على الفلسطيين الذين يسيطرون على البلاد، فضايقهم بأعمال اقلقت الناس. لا تعني هذه الأخبار إلا وادي سوريق حيث أقامت بعض عشائر دان (قض 13: 2- 25؛ 16: 3- 31). لا نعرف متى حصلت هذه الاحداث التي يبدو فيها الفلسطيون أعداء يحاولون أن يمدّوا سيطرتهم على أرض كنعان.

6- صموئيل آخر القضاة
أشرف صموئيل على ولادة الملكية، فأنهى حقبة القضاة. جعله التقليد كاهناً (ام 7: 8- 10؛ 9: 12- 13) ونبياً أو رائياً (1 صم 3: 1 – 21؛ 9: 9- 11) وقاضياً (1 صم 7؛ 5- 15) يخلّص شعبه في الحرب.
إنحصر نشاط صموئيل في أرض بنيامين (بيت ايل، الجلجال، المصفاة، الرامة) وهي قبيلة لا يذكرها سفر القضاة. ولكن فيها سيتم اختيار أوّل ملك لبني اسرائيل. وهذا يعني أن بنيامين لعبت دوراً هاماً مع إفرائيم التي ارتبطت بها في آخر زمن القضاة. وهذا ما يشير إليه قض 21.
حاول الفلسطيون منذ بداية القرن الحادي عشر التغلغل في المنطقة الجبلية التي يقيم فيها العبرانيون. وكانت المعركة الأولى في أفيق (سهل شارون) حوالي سنة 1050. إنتهت هذه المعركة بهزيمة بني إسرائيل 1 صم 4: 1- 11). أخذ الفلسطيون تابوت العهد، فنتج عن ذلك أزمة دينية في القلوب: قُهر (يهوه) رب الحرب المقدسة وغُلب على أمره.
وبدأ الفلسطيون يحاوطون القبائل العبرانية ويسيطرون على الوديان والسهول. فلم يبقَ امام العبرانيين إلا أن يتّحدوا. وهذا ما فعلوا حين جعلوا على رأسهم ملكاً هو شاول.

ب- التقاليد الأدبية في زمن القضاة
كانت الكتابة في زمن القضاة اختراعاً قديماً. والنظام الابجدي الذي رتبه الفينيقيون في القرن الرابع عشر، جعل الكتابة امراً سهلاً. ومع هذا، إنتقلت التقاليد العبرية في هذه المرحلة بطريقةٍ شفهية. غير أن الكتابة ستتعمّم تدريجياً (قض 8: 14: غلام من أهل سكوت كتب لجدعون). فيمكن أن تكون دُوِّنت نصوص في نهاية زمن القضاة وأودعت في المعابد كما كان يفعل الفينيقيون مثلاً.
ماذا وصل إلينا من هذه الحقبة؟ تقاليد تاريخية نجدها في سفريّ يشوع والقضاة. أقوال مأثورة وأمثال مزروعة في سفر القضاة. مجموعة من الشرائع القديمة احتفظ بها خر 20: 24- 23: 19. أناشيد حرب وهتافات تُتلى خلال الاحتفالات الليتورجية.

1- التقاليد التاريخية
تمّ تدوين سفريْ يشوع والقضاة في إطار التاريخ الاشتراعي. اما هنا فنتحدّث عن التقاليد التي تعود إلى زمن القضاة.
ففي سفر يشوع، تقدّم ف 2- 9 عناصر قديمة وسابقة لزمن الملكية. إنها تعني المجموعة التي دخلت إلى كنعان مع يشوع، وقد حُفظت في معبد الجلجال. ويعود ف 10 الى تذكّرات قديمة من قبيلة يهوذا. وجُمع في معبد شكيم (نصّ 11: 1- 9) عن معركة ميروم عناصر سنقرأها في يش 24.
إذن إنطبعت هذه التقاليد بالطابع المحلي. فاهتمت كل قبيلة او مجموعة قبائل بتذكرات صراعها لتقيم في أرض "سُجِّلت" حدودها.
وفي سفر القضاة، إحتفظت ف 4- 12 بأقدم التقاليد، فعنت فقط قبائل نفتالي وزبولون (4- 5؛ 12: 13- 15) ومنسّى (6- 9) ويساكر (0 1: 1- 2) وجلعاد (10: 3- 12: 7) وأشير (7: 23). وهي القبائل التي شاركت في رابطة القبائل. جمعت قبيلة منسّى هذه التقاليد وجعلتها في معبد شكيم. وهي تقاليد معادية لقبيلة إفرائيم (8: 1- 3؛ 12: 1- 6). تدلّ هذه المجموعة على اتحاد بين بعض القبائل ومزاحمة بين البعض الآخر، وذلك قبل إقامة الملكية.
وجمعت قبيلة يهوذا، في جنوب فلسطين، تعاليق على عتنيئيل (3: 7- 11) الذي انتمى إلى زمن يشوع ولم يكن قاضياً (يش 15: 16- 19؛ قض 1: 12- 15)، وعلى أهود (من قبيلة بنيامين، قضى 2: 12- 30)، كما جمعت مآثر شمشون (قض 12- 16).
إن التقاليد القديمة في قض 4- 12 لا تبدو معادية لقوّاد بني اسرائيل، لهؤلاء القضاة الذين اختارهم الرب لكي يخلّصوا شعبه. ولكنها قاسية بالنسبة إلى الملكية الناهجة النهج الكنعاني: إنها تضايق الناس ولا تفيدهم (قض 9: 7- 15)، وسنجد هذه المعارضة في كتاب صموئيل وساعة اختيار شاول. بعد هذا، سيعود هوشع، وهو المرتبط ارتباطاً وثيقاً بتقاليد شكيم، فينتقد الملكية انتقاداً لاذعاً. إذن نحن هنا أمام تيّار عميق سيمتدّ طويلاً في تاريخ بني أسرائيل.

2- أمثال وأقوال مأثورة
تتوزّع سفر القضاة أحاجٍ صغيرة، إشارات هازئة، كما تتضمن مثلاً معادياً للنظام الملكي.
رجل يقصّ على صاحبه حلماً. قال: حلمت كأني برغيف خبز من شعير يتقلّب في معسكر مديان. فانقلب حتى صار إلى الخيمة وصدمها فسقطت، وقلبها إلى فوق وسقطت الخيمة. فأجاب صاحبه: هذا سيف جدعون بن يوآش (7: 13- 14).
قالت شمشون: إني مُلقٍ عليكم لغزاً... خرج من الآكل أكل ومن الشديد حلاوة... أجاب رجال المدينة: أي شيء أحلى من العسل؟ أي شيء اشدّ من الاسد (14: 12- 18)؟
قال جدعون متهكّماً: إن خصاصة (أي ما بقي بعد القطاف) إفرائيم أفضل من قطاف ابيعازر (عشيرة جدعون) (قض 8: 3).
قالت شمشون: بذقن حمار ضربتهم، وبفكّ حمار قتلت ألف رجل (قض 15: 16).
أما المثل الذي قاله يوتام ضد الملكية (9: 8- 15) فهو يبيّن أن الاشجار المفيدة لا ترضى أن تكون ملكة. كيف تتخلّى الزيتونة عن زيتها، والتينة عن حلاوتها وثمرتها الطيبة، والكرمة عن نبيذها؟ أما العوسجة التي لا تنفع شيئاً فستصير ملكة.
نستطيع أن نقابل هذه النصوص بأقوال عن القبائل نقرأها في تك 49 وتث 33. كل هذا يجد جذوره في حياة القبائل ويرتبط بعالم الزراعة. قال شمشون: "لو لم تفلحوا مع عجلتي (أي المرأة التي أحببت والتي إليها بُحت بسرّي)، لما وجدتم لغزي". فقبل ولادة مدارس الكتبة في زمن الملكية، وقبل مجموعة سفر الامثال، وُجد تقليد من الحكمة الشعبية في أرض كنعان وصلت الينا بعض آثاره في سفر القضاة.

3- شرائع خر 20: 24- 23: 19
تعود مجموعة الشرائع المسمّاة "دستور العهد" (بسبب موقعها الحالي في سفر الخروج، رج 24: 7: أخذ كتاب العهد) إلى بداية انتقال العبرانيين من عالم البدو إلى عالم الحضر. نجد فيها أقوالاً ترتدي أشكالاً منوّعة.
هناك أقوال ترد في صيغة الإيجاب. مثلاً: تصنع لي مذبحاً من تراب وتذبح عليه محرقاتك (خر 20: 24). وهناك أقوال ترد في صيغة الشرط: إذا اشتريت عبداً عبرانياً، إن جاء وحده فلينصرف وحده، وإن جاء مع زوجته فلتنصرف امرأته معه (خر 21: 2 5). وأخيراً هناك أقوال تبدأ (في العبرية) في صيغة اسم الفاعل: ضارب (من يضرب) إنسان حتى الموت يُقتل قتلاً (خر 21: 12). تدل هذه التعابير على ان هذه الشرائع تتجذّر في محيطات مختلفة.
تُذكّر العبارات الايجابية (خر 20: 24- 26؛ 22: 20- 23: 19) بالوصايا العشر. انها تتوسّع فيها وتطبّقها على وضع جديد يعرفه شعب انتقل إلى عالم الحضر. وهي تعني العلاقات مع اللّه: المذبح، 20: 24- 26؛ العبادة، 22: 28- 30؛ الأعياد والأزمنة المقدّسة، 23: 10- 19)؛ ومع القريب، لاسيما الفقير والمهاجر، الارملة، اليتيم، 22: 20- 26؛ كما تعنى موقف القاضي في المحاكم، 23: 1- 8.
إعتُبرت هذه الشرائع كوصايا الله. وسعت في شقّها الاجتماعي إلى تنظيم الأخوّة وسط الشعب (21: 4- 5: إذ لقيت ثور عدوّك أو حماره ضالاً، فردّه اليه) وإلى حماية الضعفاء. قد تكون أُعلنت في فترات محدّدة في المعابد ومن خلال احتفالات الجماعة بشعائرها الدينية. نستطيع أن نقرّبها من التعابير التي تبدأ باسم الفاعل (21: 12- 17: 22: 17- 19) وتنتهي بالحكم بالاعدام (فليُقتل قتلاً)، إنها قريبة من الملاعنة (ملعون من يصنع تمثالاً ... من يحتقر أباه وأمه) التي أعلنت في شكيم خلال عيد تجديد العهد (تث 27).
وتدل التقارير الشَرطية أنها تحاول أن تنظّم أموراً ملموسة في الحياة اليومية. لقد اتخذت قرارات الشيوخ القانونية شكل شريعة، فكوّنت مجموعة الفتاوى. ونحن نجد هذه التعابير الشرطية في مجموعات شرائع الشرق القديم مثل مجموعة حمورابي. إنها تنظم في سفر الخروج وضع العبد "العبراني" (21: 1- 11) والخلافات والمنازعات (21: 18- 22: 3) خاصة بين المزارعين وأصحاب المواشي (22: 4- 14) وفي حالات اغتصاب فتاة (22: 15- 16). وهكذا نكتشف مسائل جديدة طُرحت على شعب انتقل من حياة البدو الى حياة الحضر.

4- اناشيد دينية
إحتفظ سفرُ القضاة بقصيدة أنشدتها دبّورة بعد النصر على سيسرا (قض 5). وقد رافقت اناشيد دينية اخرى تجمّعات القبائل في المعابد، فضمّها متاب المستقيم (يش 10: 13؛ 2 صم 1: 18) بين دفّتيه، كما جُمعت في "سفر حروب يهوه" (عد 21: 14):
"واهب في سوفة مع سيوله
ارنون ومصبّ أوديته
تنحدر إلى مساكن عار
وتستند إلى تخوم موآب".
ويتضمن مز 28 بعض الصور القديمة والاساليب الشعرية التي تبدو قريبة من نشيد دبّورة:
الله يقوم فيتشتّت أعداؤه...
رجفت الأرض، قطرت السماء
أمام الله، إله سيناء
أمام الله، إله اسرائيل (رج قض 5: 5)
أعطى الرب أوامره
فكان رسله جيشاً كبيراً
الملوك يهربون والجيوش يهربون
وأنت تقسم تحف البيوت اسلاباً.
فلم تضّجعون في الحظائر (رج قض 5: 16)؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM