الفصل التاسع الحياة الإقتصادية والإجتماعية والدينية في زمن القضاة

الفصل التاسع

الحياة الإقتصادية والإجتماعية والدينية في زمن القضاة

كيف بدت الحياة الإقتصادية والإجتماعية في زمن القضاة؟ كيف بدت النظم المدنية والعسكرية والدينية؟
نجد في سفر القضاة عدداً من المعلومات عن طريقة حياة العبرانيين، ولوحة مفيدة عن الحياة الإقتصادية والإجتماعية في ذلك الوقت. ونستطيع أن نكملّ هذه المعطيات بمعلومات نجدها في كتاب صموئيل وفي مجموعة الشرائع القديمة (خر 20: 24- 23: 19).

أ- الحياة الإقتصادية والإجتماعية
1- الزراعة
لم يُقم العبرانيون في سهول فلسطين الخصبة، بل في التلال والجبال. ولهذا وجب عليهم أن يزرعوا أراضي تكثر فيها الصخور. كانت الغلال قليلة وهي تتبع كمية المطر. تُفلح الأرض بمحراث من خشب جُعل فيه سكة من حديد لا بد من تحديدها (1 صم 13: 20). يجرّ هذا المحراث بقر يدفعها الفلاح بمنساسه (قض 3: 31). زرع العبرانيون الشعير (قض 7: 13) والحنطة (قض 6: 11) والكتان (يش 2: 6)، وحصدوها بالمنجل. وعرفوا أيضاً الفول والعدس (2 صم 17: 28).
إشتهرت منطقة حبرون (في أرض يهوذا) بكرومها وتينها ورمّانها (عد 23:13؛ تك 49: 11- 12). ولكن هذه الاشجار غُرست أيضاً في أماكن أخرى، كما غُرس الزيتون (قض 9: 8- 13، 27). وفي الواحات، كما في أريحا (قض 3: 13) وتامار (قض 1: 16)، زُرع النخل وأعطى أطيب الثمار.

2- تربية المواشي
يبدو أن تربية المواشي كانت النشاط الأهم لدى قبائل شرقي الأردن (عد 32: 1). كانت تُجمع قطعان الغنم والماعز عند المساء، في حظائر مصوّنة ببعض الأحجار المبنية (عد 36:32؛ قض 5: 16) لحمايتها من الوحوش واللصوص. كان الرعاة يصفرون للقطيع فيجمعونه (قض 5: 16). وكان جنوبي أرض يهوذا قاحلاً، فما كان ينفتح للزراعة، لهذا استُعمل لتربية المواشي بصورة مكثّفة (1 صم 25: 2). كان الأغنياء يسلّمون قطعانهم لرعاة يستأجرونهم (1 صم 25: 7- 8، 14- 17). ولكن العبرانيين مارسوا تربية المواشي في كل البلاد، ولو بأعداد قليلة. فوجب على الشرائع أن تحمي الزراعة من تخريب القطعان (خر 22: 4: إذا رعى احد بهيمته في حقل أو كرم...).
إستُعمل البقر فقط من أجل لحمه أو من أجل جرّ المحراث. والغنم والماعز من أجل لحمه وجلده وصوفه وشعره وحليبه. من هذا الحليب إستخرجوا الزبدة والقشطة كما صنعوا اللبن وجعلوه في القدور ليكون شراباً مبرّداً في زمن الحرّ (قض 19:4: هكذا سقت ياعيل سيسرا العطشان من زقّ اللبن؛ 5: 25)، وصنعوا منه الجبن بأشكاله (1 صم 17: 18). أما جزّ الغنم فكان مناسبة لإحتفالات يجري فيها النبيذ أنهاراً (1 صم 25: 4- 18).
إستُعمل الحمار لنقل الأثقال أو حلّ محلّ الثور لجرّ المحراث. أما الحصان فكان فقط للمركبات الحربية (يش 11: 4- 9؛ قض 3:4، 13؛ 5: 22- 28). ويبدو أن العبرانيين لم يكونوا يملكون خيلاً.
لم يعرف العبرانيون تربية الدواجن، ما عدا الحمام المستعمل في الذبائح. ولكنهم عرفوا تربية النحل واستخرجوا منه العسل (قض 14: 8- 9؛ 1 صم 27:14).

3- الصناعات العائلية
في البداية، كانت الصناعات كلها عائلية. ولم يعرف العبرانيون مهنة الصناعة إلا في زمن الملوك، وبعد أن أخذوا عن الغرباء التقنياث المختلفة.
كانوا ينسجون الصوف والكتان (قض 16: 13- 14). وكانوا يصبغون الأقمشة (قض 5: 30). كان الرداء لباسهم العادي ولكنهم لبسوا أيضاً القمصان المزركشة والجبب والعباءات (يش 7: 21).
وصنعوا أيضاً الصحون والجرار، ولكن تقنيتهم لم تكن متطوّرة، كما عند جيرانهم. ثم إن الفلسطيين حصروا في قبائلهم صناعات الآلات المعدنية وتحديدها (1 صم 19:13- 21): لم يكن يوجد في كل أرض إسرائيل حدّاد، لأن الفلسطيين منعوا العبرانيين أن يصنعوا سيفاً أو رمحاً. فكانوا ينزلون إلى الفلسطيين ليسنّوا السكة والمعول والفأس والمنجل.

4- السكن
علّمتنا الحفريات والتنقيبات أن البيوت القروّية بُنيت بأحجار من تراب أو ربما من قرميد. أما السطح فبالتراب. لا أثاث يُذكر في البيت. هناك موضع للحبوب، وجرة الماء ومدفأة، ومطحنة من حجرين. وهناك المعول والمقلاة (2 صم 13: 9)، والفرش والأسرّة.
أمام البيت رواق يعيش فيه الناس خلال الصيف. مثل هذه البيوت تتجمّع لتؤلّف القرية.

5- التجارة
التجارة محصورة في يد الكنعانيين الذين يحمون القوافل بفضل القلاع التي تتوزّع طرقات السهل والجبل (قض 9: 25). أما التبادل التجاري بين القبائل فلم يكن بالأمر السهل، ولهذا كان نادراً. تتحدّث النصوص عن الفضة (قض 9: 4؛ 16: 5؛ 17: 2). هذا يعني أن التجارة لم تقتصر على المقايضة (أي تبادل بضاعة ببضاعة). وكانت الشريعة قد بدأت تنظّم الإقتراض بالفائدة (خر 22: 24): "إذا أقرضت فضة لأحد من شعبي، لفقير عندك، فلا تكن له كالمرابي، ولا تفرضوا عليه ربي".

6- الجماعات المسلّحة من المرتزقة
قبل أن تصل مجموعة يشوع إلى كنعان، كانت العشائر العبرانية أجراء لدى الكنعانيين بشكل جنود مرتزقة. هذا هو وضع عشيرة ماكير. واستمرَّ هذا الوضع زمناً طويلاً. هذا ما فعله أبيمالك الذي استأجر رجالاً يتبعونه (قض 9: 4)، ويفتاح (قف 11: 1- 3)، وداود (1 صم 22: 1- 2؛ 27: 1- 2). رذل المجتمع هؤلاء الشبان، فكان لهم مثل هذا "الإرتزاق" المخرج الوحيد لما في وضعهم من خطر ومغامرة.

7- العبيد العبرانيون
كان العمل الزراعي يتطلّب عدداً كبيراً من العمّال، ولا سيما العبيد. تحدّثت نصوص التوراة ورسائل العمارنة عن هؤلاء العبيد (1 صم 13: 3، 7؛ 14: 11). كانوا يخدمون أسيادهم ست سنوات ويستعيدون حريتهم، إذا شاؤوا، في السنة السابعة (خر 21: 2- 7). نحن هنا أمام عادة إتخذها العبرانيون من السكان العائشين في كنعان، فشكّلت عقداً بين العبد وسيده.
وسوف ننتظر الزمن الملكي لنرى أشخاصاً مستعبدين بسبب دين عجزوا عن وفائه (عا 2: 6- 7).

8- خاتمة
خلال حقبة القضاة، إنتقلت القبائل الإسرائيلية من حياة البدو إلى حياة الحضر. بدأ هذا الإنتقال أولاً في قبائل الشمال، ثم كان دور قبائل وسط فلسطين. وسيتأخرّ فيما يخصّ قبائل الجنوب. حياة الحضر تعني الإقامة في موضع محدَّد. والأرض التي نزرعها أو نجعلها للمواشي تصبح مهمّة جداً. ففلسطين في نظر العبراني هي أرض الموعد. إنها أكثر من أرض تؤمّن له الطعام. هي البرهان الملموس على أمانة الله: دعا شعبه من عبودية مصر فأقتاده إلى أرض الحرية. فمن امتلك الأرض كان حراً، ومن خسر الأرض صار عبداً. هذا ما حصل للعبرانيين بعد الذهاب إلى المنفى في بابل. وهذا ما يحدث حين يضع الغني يده على أرض الفقير.
حياة الحضر تعني ترك الخيام والإقامة في البيوت والقرى، بانتظار السكن في المدينة. لا موضع للبدو يسمى باسمه (لا يقال هو من القرية الفلانية). لهذا يسمّى بأسم أبيه أو عشيرته أو قبيلته. أما الحضر فيسمّون بأسم بلدتهم الأصلية. نحن نكتشف هذا التطور في سفر القضاة. مثلاً، عتنيئيل هو إبن قناز أخو كالب الأصغر (قض 3: 9). وتولع هو إبن فوأة بن دودو، من قبيلة يساكر، وكان مقيماً بشامير في جبل إفرائيم (قض 10: 1. نحن هنا في انتقال من القبيلة إلى المكان). ونقرأ في قض 10: 3: "وقام يائير الجلعادي" (نسبة إلى موضع هو جلعاد، لا إلى أب). ونقرأ في قض 11: 1 عن يفتاح الجلعادي الذي كان محارباً باسلاً. إبصان هو من بيت لحم (قض 12: 8)، وعبدون هو من فرعتون (قض 12: 13).
في هذه الفترة كانت المدن في يد الكنعانيين. أما العبرانيون فأقاموا في الأرياف ولن يعرفوا حقاً حياة المدن إلا في الزمن الملكي.

ب- النظم المدنيّة والعسكرية والدينية
إن تحضّر (الانتقال الى حياة الحضر) العبرانيين كان السبب. في تحوّلات عميقة داخل النظم التي ورثوها من زمن البداوة. كما أنهم أخذوا بنظم جديدة وجدوها لدى آهل كنعان، فكيّفوها على وضعهم.

1- النظم المدنية
أولاً: الشيوخ
تجمعّت العائلات (أو البيوت) في قرية أو في جوار مدينة، فشكلّت عشيرة داخل القبيلة. وكان الشيوخ يوجّهون الحياة الإجتماعية في العشيرة. إنهم رؤساء العائلات الذين يشكّلون مجلساً (1 صم 26:30- 31): يتخذون قرارات على المستوى العسكري (يش 8: 10؛ قض 11: 5 - 11) والديني (يش 7: 6؛ قض 21: 16)، ويتحملون مسؤولية هذه القرارات (قض 8: 14- 16). وهم يحلّون المشاكل ويحكمون في النزاعات (يش 20: 4). وقد أعطيت لهم نصائح في خر 23: 1- 3، 6- 8: "لا تنقل خبراً كاذباً، ولا تضع يدك مع الشرير لشهادة زور. لا تتبع الكثيرين إلى فعل الشر، ولا تحرف في الدعاوى حين تشهد، ولا تمل جهة الكثيرين. ولا تحابِ المسكين في دعواه... لا تحرّف حق المسكين في دعواه. إبتعد عن القضية الكاذبة. لا تأخذ الرشوة، فإن الرشوة تعمي البصيرة وتفسد أقوال الأبرار". وسنجد فيما بعد مجموعة الشرائع التي تنظم القضاء في خر 24:20- 19:23، وهذا ما نسمّيه "دستور العهد".
نحن بعيدون هنا عن نظام المدن الكنعانية التي يحكمها ملك (يش 11: 1- 5). أو تلك التي يوجّهها مجلس يتألّف من ملاّكي الأرض الكبار، مثل شكيم (قض 9: 2)، وجبعون (يش 9: 3) وأريحا (يش 11:24).
وسيظلّ نظام الشيوخ حياً حتى في زمن الملوك، بل بعد الملوك، في زمن المنفى.

ثانياً: رابطة القبائل
أشار سفر القضاة مراراً إلى ما فعلته القبائل حين اجتمعت لتواجه خطراً مشتركاً: في قض 5: 14- 15، إجتمع إفرائيم وبنيامين وماكير وزبولون ويساكر ونفتالي، خلال معركة تعناك. ومع جدعون، سار منسى وأشير وزبولون ونفتالى، ليصدّوا غزوات بني مديان (قض 6: 35؛ 7: 23- 24). وسنجد هذه القبائل عينها في لوائح أخرى: نجد منسى وإفرائيم وزبولون وأشير ونفتالي وبنيامين، في مناسبة الحديث عن المدن الكنعانية التي لم يحتلّها العبرانيون (قض 1: 27- 33؛ رج 1: 21). ونجد أيضاً إفرائيم (يش 16: 5- 8) ومنسى (يش 17: 7- 10) وبنيامين (يش 18: 11- 20) وزبولون (يش 19: 10- 16) وأشير (يش 19: 24- 31) ونفتالي (يش 19: 23- 39)، في مناسبة وضع الحدود بين القبائل في يش 13: 19. أما سائر القبائل، فنجدها مرتبطة بالمدن المحتلّة.
تذكر النصوص دوماً قبائل الوسط والشمال (وهي ستة). ويبدو أنها شكلّت رابطة تجسّدت في اجتماع شكيم. واستمر هذا التجمّع الذي سيكون نواة مملكة شاول وابنه (2 صم 2: 9). ولن تضمّ هذه الرابطة الإثنتي عشرة قبيلة إلا مع مملكة داود.

2- النظم العسكرية: الحرب المقدسة
الحرب المقدسة في سفرَيْ يشوع والقضاة ليست حرباً دينية، هدفها أن تفرض بالسلاح الإيمان بالرب. نحن أمام حرب تسعى إلى المحافظة على وجود شعب وامتلاك أرض. والحرب هي ككل واقع الحياة في ذلك الزمان، ذا طابع مقدّس وهي تتبع شعائر دينية محدّدة.
الله هو الذي يحارب عن شعبه (يش 10: 14، 42)، ويمشي في مقدّمة الجيش (قض 4: 14). والعلامة المنظورة لحضوره هي تابوت العهد (أو صندوق العهد الذي يتضمّن لوحي الوصايا، وهي التعبير عن العهد) (عد 10: 33- 36؛ يش 3: 6؛ 1 صم 4: 3). حروب العبرانيين هي حروب الرب (عع 21: 14)، وأعداؤهم هم أعداء الرب (قض 5: 31). الرب هو الذي يُعلن الحرب (قض 1: 1- 2)، ويسلّم الأعداء إلى يدي شعبه (قض 1: 4؛ 4: 6- 7). أما المقاتلون، فهم متطوّعون يؤخذون من بين القادرين على حمل السلاح. فعليهم قبل كل شيء أن يؤمنوا بتدخّل الرب، عليهم أن لا يخافوا (يش 8: 1: قال الرب ليشوع: لا تخف ولا تفزع؛ 10: 8؛ قض 7: 2- 3). وأخيراً، يجندّ الرب لهذه الحرب قوى الطبيعة (البرَد في يش 10: 11؛ البحر في يش 24: 8؛ الكواكب في قض 5: 20- 21). ويجعل البلبلة في صفوف الأعداء (قض 7: 22؛ 1 صم 7: 10؛ 14: 15- 20).
تُكرَّس الأسلاب عادة للرب: يُقتل الرجال، تدمَّر الأموال والمواشي. هذا ما يسمّى شريعة التحريم (يش 6: 17- 22، 24؛ 8: 2، 24، 28؛ 11: 14). نحن لا نعلم إن كانت هذه الشريعة قد طُبّقت بحذافيرها. فالنصوص التي تشير إليها تعود إلى زمن حلّت فيه الحرب الدنيوية محلّ الحرب المقدسة. دوّنت هذه النصوص في زمن الملكية بجنودها المحترفين، بل في زمن الجلاء والمنفى (أي بعد سنة 587 ق. م).
إن هذه النظرة إلى الربّ على أنه إله محارب تصدمنا اليوم. لا ننسى أفكار ذاك العصر: الله هو الذي يمنح الأرض للبشر، وهو يلزم نفسه بالصراع الذي ينتج عن عمله. فمن خلال الإله المحارب الذي يعطي أرضاً للبدو، نجد خبرة العبرانيين لربّ يعمل من أجل شعبه وفي تاريخ هذا الشعب. الرب هو حاضر، إنه مع شعبه (خر 3: 6- 8، 12؛ يش 1: 5، 9؛ قض 6: 12- 16؛ 2 صم 7: 9). هو تعبير ناقص يجعل العبرانيين على مستوى سائر الشعوب، حيث لكل شعب إله يدافع عنه. ولكن سيأتي وقت نعرف فيه أن الحرب الحقيقية ليست حرب السلاح، بل الحرب على الشرّ في قلوبنا وفي مجتمعنا. وسيعرف العبرانيون أيضاً أن الله ليس إلههم وحدهم، بل هو إله الكون الذي سيرسل أنبياءه حتى إلى العالم الوثني، كما فعل مع يونان.

3- النظم الدينية
أولاً: المعابد
عُرفت بعض الأماكن في زمن القضاة، على أنها مواضع عبادة (مقامات) للقبائل العبرانية. هي معابد تقوم في الأرض العراء ولا تتضمّن هيكلاً (بل كومة من الحجارة). وكان الناس يحجّون إليها في أعيادهم.
في هذه المعابد، حُفظت تقاليد وتذكّرات عن الدخول إلى كنعان والإقامة فيها.
* الجلجال أي: الحلقة والدائرة. يَقع في جوار أريحا وتحدّه حجارة منتصبة وموضوعة بشكل دائري (يش 4: 19- 20). إحتفلت فيه مجموعة يشوع بدخولها إلى أرض كنعان (يش 5: 2- 8، 10- 15). في هذا المعبد تعاهد يشوع مع أهل جبعون وحلَف لهم (يش 9: 6- 15). وفيه قضى صموئيل لبني إسرائيل (1 صم 7: 16)، ونصِّب شاول ملكاً (1 صم 11: 15). في هذا المعبد، إحتفظ "اللاويون" بالتقاليد القديمة التي نجدها في يش 2- 10.
* شكيم أي: الكتف. تقع بين جبل عيبال وجبل جرزيم. وهي معبد تشير إليه أشجار كبيرة وصخرة منتصبة (يش 24: 26؛ قض 9: 6). فيه قُطع الميثاق بين قبائل الشمال ومجموعة يشوع (يش 24: 1- 28). وتجدّد هذا الميثاق مرة كل سنة في عيد العهد الذي احتفظ يش 8: 30- 35 ببعض آثاره. وقد ربط بشكيم مجموعة الشرائع القديمة التي نقرأها في خر 20: 24- 33: 19 والتي هي أساس "الشرائع والعادات" المعمول بها في رابطة القبائل الست (يش 24: 25). في هذا المعبد جُمعت التقاليد القديمة التي نقرأها في سفر القضاة.
* شيلو هو معبد صار مركز تجمّع للقبائل (يش 18: 1؛ 21: 21: 9، 12). بُني فيه هيكل، ووُضع تابوت العهد في هذا الهيكل (1 صم 1: 3- 7، 24؛ قض 18: 31).

ثانياً: تابوت العهد
نجد في خر 25: 10- 22 و37: 1- 9 رسماً عن تابوت العهد. إنه صندوق خشبي، طوله متر وربع المتر، عرضه وعلوه ثلاثة أرباع المتر. وُضعت فيه حلقات يدخل فيها قضبان تسمح برفعه على الأكتاف. تابوت العهد هو علامة حضور الله وسط شعبه 1عد 10: 35؛ 1 صم 4: 7، 22)، لهذا فهو مقدس (1 صم 5: 1- 12؛ 6: 12). تابوت العهد هو عرش الرب (1 صم 4: 4؛ 2 صم 6: 2) وهو يتضمّن نص الوصايا العشر (تث 10: 1- 5؛ 1 مل 8: 9). وهو أيضاً دستور العهد بين اللّه وشعبه، وكان يرافقهم في الحرب المقدسة.

ثالثاً: شعائر العبادة
هناك مذبح بُني حسب قواعد محدّدة (خر 20: 24- 25؛ يش 8: 31). وعليه تُقدّم الذبائح. لا يتحدّث سفر القضاة عن وظيفة محصورة بالكهنة. فربّ البيت أو القائد الحربي يقوم بها. ماذا يقدّمون من ذبائح؟ أفضل نتاج الحقل أو القطيع، وهكذا يدلّون على أنهم يريدون أن يتكرّسوا للّه بكليتهم وأن يطيعوه. تسمّى الذبيحة محرقة حين تُحرق الضحية كلها (قض 6: 18- 22، 25- 28). أو ذبيحة سلامة (أو إتحاد ومشاركة) حين يتقاسم اللّه (يُحرَق جزء من الضحية فقط) والمؤمن الذبيحة التي تؤكل في وليمة عائلية يدعى إليها الأقرباء والأصدقاء (يش 22: 26- 30). وهناك الذبائح النباتية: خبز فطير (بدون خمير، خر 23: 18؛ قض 6: 19- 21). والزيت والطحين (قض 13: 19). أُخذت شعائر العبادة هذه من الديانة الكنعانية، فمارسها العبرانيون ليحتفلوا بتدخلات الرب في تاريخهم. ولنا مثل في هذا تقدمة البواكير في
تث 26: 1- 11. حين يأتي المؤمن ليقدّمها، فهو يتذكّر خلاصه من العبودية: صرخنا إلى الرب فاستجاب لنا.

رابعاً: الأعياد والأزمنة المقدسة
طلبت الشريعة من العبراني بأن يذهب ثلاث مرات إلى الحج في السنة، فيؤمّ أحد معابد القبائل (خر 23: 14- 17). كان لهذا العيد طابع زراعي. يحتفلون بعيد الفطير في شهر السنابل، حين يُحصد الشعير. يأكلون خبزاً مصنوعاً من الحبّ الجديد فيدلّون على بداية الحياة الجديدة. وسيربُط هذا العيد فيما بعد بعيد الفصح. وسمّي عيد الحصاد عيد الأسابيع، لأنهم يحتفلون به بعد عيد الفطير بسبعة أسابيع (أي في اليوم الخمسين، لهذا سمّي في اليونانية: بنتيكستي أي العنصرة، 2 مك 12: 31 - 32). يرافق هذا العيد حصاد القمح، وكانوا يقدّمون فيه بواكير الغلال فيعبرّون عن فرحهم: إفرح أمام الرب إلهك أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك واللاوي الذي في مدنك والغريب واليتيم والأرملة (تث 16: 10- 12). ويأتي عيد القطاف في الخريف: يجمعون الثمار الناضجة ويقطفون العنب. كانوا يصنعون في الكروم خياماً أو أكواخاً أو مظالّ. لهذا سمي العيد عيد المظال أو عيد الأكواخ. هو أكثر الأعياد فرحاً لدى العبرانيين. كانت هذه الأعياد أعياد الكنعانيين فأخذ بها العبرانيون وربطوها بتاريخهم. هذا ما نعرفه عن العيد السنوي الذي أقيم في شيلو وجاء إليه بنو بنيامين (قض 21: 19- 21).
واحتفظ العبرانيون في الوقت نفسه بأعياد وأزمنة مقدسة، تعود إلى زمن البداوة. كانوا يحتفلون بعيد الفصح في العائلة وحسب الشعائر القديمة (خر 12: 21- 24). ولن يصبح هذا العيد عيد حجّ إلا مع إصلاح يوشيا (2 مل 23: 21- 23)، سنة 622 ق. م. وهناك راحة السبت (خر 23: 12) وجعل الأرض بوراً سنة من سبع سنوات (خر 23: 10- 11).

د- خاتمة
أخذ العبرانيون الشيء الكثير من الكنعانيين في المجال الزراعي والتقني، كما أخذوا نظمهم الدينية مع ما في هذا الأخذ من خطر على نقاوة الإيمان. تبنّوا عاداتهم فتبنّوا أيضاً آلهتهم الذين يؤمّنون خصب الأرض والنجاح في أعمال الزراعة. تسلّموا معابدهم وشعائرهم العبادية وأعيادهم، فخلطوا الرب مع الآلهة الكنعانية. كان الخطر حقيقياً، وهذا ما تبرهن عنه شرائع تمنع المؤمن من ذكر إسم الآلهة الأخرى (غير يهوه، خر 23: 13)، وتلميحات نشيد دبورة (قض 5: 8: تعبدوا لآلهة حديثة فأضمحلّت قوتهم)، وخبر جدعون (قض 6: 25- 32)، وملاحظات سفر القضاة المتأخرّة التي تحتفظ بتذكّرات عن إنجذاب العبرانيين إلى الآلهة الأخرى: نشأ جيل لا يعرف الرب، تبعوا آلهة أخر (قض 2: 10- 13). أقام العبرانيون بين الكنعانيين... وعبدوا آلهتهم (قض 3: 5- 7؛ رج 6: 10؛ 8: 33؛ 9: 4؛ 10: 6- 10). إن أحداث الخروج ودخول أرض كنعان صارت للأجيال الجديدة أموراً من الماضي لا ترتبط بحياتهم اليوم (قض 2: 10).
وما ساعد على الإحتفاظ بالإيمان بالرب حياً هو الإحتفالات الليتورجية وتدخّلات رؤساء القبائل الذين عملوا باسم الرب فحرّكوا همة المؤمنين وأعادوهم إلى عبادة اللّه الواحد.
عبادات ليتورجية في إطار عائلي. وعبادات ليتورجية في المعابد وخلال أعياد الحج. كل هذا كان مناسبة يتذكّر فيها المؤمنون تدخّلات الرب ليحرّر شعبه ويقوده إلى أرض كنعان. وهكذا تحقّقت بشكل شفهي القراءات الأولى للأحداث التي أسّست الشعب. ويمكننا أن نكوّن فكرة عنها في اتفاقية شكيم (يش 24) التي كانت تتجدّد سنة بعد سنة، أو في فعل الإعتراف الإيماني (في الشهادة) الذي يرافق تقدمة ثمار الأرض (تث 26: 1- 11) أو في شعائر عيد الفصح كما تحتفل به العائلة (خر 12: 25- 27).
وخلال هذه الإحتفالات، تجسّدت التقاليد حول الدخول إلى أرض كنعان (فلسطين)، عن المجهودات التي قاموا بها ليحتفظوا بأرض أقاموا فيها. فالرب نفسه هو الذي يعمل اليوم لكي يخلّص شعبه. وكانت ممارسة "الحرب المقدسة" مناسبة تجعلهم يدركون أن الخلاص ليس خبراً من الماضي بل واقعاً حالياً. ولقد ساعدت أناشيد النصر (نشيد دبورة، قض 5) على الإحتفال (في المعابد) بهذا الخلاص الحاضر الذي يؤوِّن (يحتفل بها وكأنها حصلت الآن) أعمالاً خلاصية من التاريخ الماضي.
ففي الأزمات، وساعة عرفت القبائل الضيق من أعداء جاؤوا من الخارج، قام قوّاد حربيون وحرّكوا الهمم. كانت مآثرهم الحربية هي الأحداث الوحيدة المعروفة في هذه الحقبة، وقد رواها لنا سفر القضاة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM