الفصل الثامن التاريخ في زمن القضاة

الفصل الثامن.

التاريخ في زمن القضاة

ونبدأ مسيرتنا في هذا الفصل مع الإقامة في أرض كنعان حتى نصل إلى زمن القضاة، وهي حقبة تمتدّ من سنة 1200 تقريباً، إلى سنة 1030، ساعة أعلن شاول ملكاً.
حوالي سنة 1200 ق. م. إجتمعت في أرض كنعان الفئات التي ستشكّل الشعب العبراني. تنوّعت الطرق التي قادتهم إلى هنا، وتنوّع التاريخ. وانشدَّت الروابط التي توحّد القبائل خلال القرنين الثاني عشر والحادي عشر. غير أن الوحدة السياسية لن تتحقق إلا مع تأسيس الملكية حوالي سنة 1030 ق. م. فهذه الحقبة التي عرفت تكوين الشعب العبراني تسمّى "زمن القضاة". حقبة من التاريخ لم تزل غامضة، ولكنها كانت حاسمة بالنسبة إلى المستقبل.
ندرس في هذا الفصل التاريخ العبراني في زمن القضاة، على أن نتوقف عند الحياة الإقتصادية والإجتماعية والدينية في فصل لاحق. وسيلي هذا فصل ثالث حول تقاليد سفر القضاة: ننطلق من الأحداث البارزة، فنصل إلى ما تبقّى من "أدب" ديني في تلك الحقبة.
نتعرّف في قسم أول إلى الوضع السياسي، ونرافق في قسم ثانٍ كل قبيلة من قبائل العبرانيين، سواء عاشت في فلسطين أو في شرقي الأردن، في شمال البلاد أو في وسطها وجنوبها.

أ- الوضع السياسي في الشرق الأوسط
في القرنين 12- 11 ق. م.
إرتبط التاريخ العبراني خلال زمن القضاة، بتاريخ البلدان المجاورة. وفي الوقت عينه، إنطبع بماضي القبائل. فالإقامة في كنعان، أي الإنتقال من حالة البداوة (رعاية الغنم والماعز) إلى حالة الحضارة (بناء البيت، أعمال الزراعة في القرية)، كانت السبب في تحوّلات عميقة في المجال الإقتصادي والإجتماعي السياسي لدى الشعب. وهذا ما قاد العبرانيين إلى خلق أشكال جديدة للتعبير عن إيمانهم بالإله المحرّر الذي عرفوه في الخروج. وأخيراً، ظهرت أحداث طبعت البلاد بطابعها، ومنافسة أدّت إلى الخصومة بين القبائل، فأشرفت على تاريخ العبرانيين اللاحق إلى أجيال طويلة. هذا على المستوى الداخلي. وإذا انتقلنا إلى المستوى الخارجي، نجد أن ما ساعد على إقامة العبرانيين في فلسطين هو ضعف القوى العظمى التي كانت مسيطرة على المسرح السياسي: مصر وأشورية. لهذا توصلّت شعوب صغيرة إلى بعض الإستقرار السياسي. هم: العمونيون، الموآبيون، الأدوميون، الأراميون، الفينيقيون، الفلسطيون.

1- مصر
خلال القرنين 12- 11، ضعفت مصر بسبب المنافسات السياسية بين كهنة الإله أمون في طيبة، الذين يمارسون سلطانهم في مصر العليا، وبين أمراء تانيس (صوعن) الذين لا تتعدّى سلطتهم مصر السفلى. ثم إن مصر لم تعد تسيطر على أرض كنعان، على مناجم النحاس في العربة، ومقالع الفيروز (حجر كريم أزرق) في سيناء. غير أنها سوف تستعيد قوتها في القرن العاشر.

2- أشورية
إهتم الملوك الأشوريون في هذه الحقبة بحماية بلادهم ضد غزوات الأراميين الآتين من الصحراء. دفعهم القحط أو المجاعة، فحاولوا أن يحتلّوا أراضي الحضر. وهكذا لا تستطيع أشورية أن تتدخّل الآن في فلسطين. ولكنها ستفعل فيما بعد.

3- العمونيون
جاء العمونيون من الصحرائين السورية والعربية. أقاموا عند مجرى اليبوق (نهر الزرقاء) الأعلى، في شرقي الأردن. وسيطروا على تجارة القوافل الآتية من الصحراء. سيصبحون مملكة منظّمة في أيام شاول، في نهاية القرن الحادي عشر. نقرأ في 1 صم 11: 1: "صعد ناحاش العموني". ونقرأ في 2 صم 10: 1: "وبعد أن توفّي ملك العمونيين، ملك حنون إبنه مكانه".

4- الموآبيون
من أين جاء الموآبيون؟ إن التوراة تربطهم رباطاً وثيقاً بالعمونيين (تك 19: 35- 38). كانت حدود بلادهم كما يلي: إلى الغرب البحر الميت، وإلى الشرق الصحراء، وإلى الجنوب وادي زارد (أي الحسا)، وإلى الشمال أرنون (وادي الموجب). إشتهرت أرض موآب بغناها من الخراف والماعز. حين دخل العبرانيون مع يشوع إلى فلسطين، كان المواَبيون قد تنظّموا في مملكة (عد 21: 26: ملك موآب) وعرفوا نواة إدارية.

5- الأدوميون
وكانت حدود أرض أدوم كما يلي: إلى الشمال وادي زارد، إلى الغرب العربة، إلى الشمال والشرق الصحراء. وهكذا إتصل الأدوميون بالبدو المقيمين في الصحراء. نتج غناهم عن مناجم النحاس في العربة، بعد أن سيطروا عليها. إحتفظوا في القرن 12- 11 بنظام العشائر التي يقودها رئيس (تك 36: 15- 20؛ خر 15: 15: زعماء أدوم). ولن يؤلّفوا مملكة موحدّة إلا في القرن العاشر.

6- الأراميون
ما زال الأراميون في هذه الفترة مجموعات من البدو تجوب شمال صحراء عرابية. إنهم يشكلون تهديداً متواصلاً لأشورية خلال القرنين 12 و11 ولن يشكّلوا مملكة إلا في زمان داود فيقيمون فيما بين سلسلتي جبل لبنان (2 صم 3:8) وحول دمشق (2 صم 8: 5).

7- الفينيقيون
أقام الفينيقيون على شاطئ البحر المتوسط الذي تشرف عليه جبال لبنان. ما كان لهم أرض في الداخل، فتطلّعوا إلى البحر ومارسوا التجارة. وهكذا كانت المدن الفينيقية الهامة مرافئ: بيبلوس (جبيل)، بيروت، صيدون، صور. في القرن 13، توسّعت تجارة الفينيقيين مع المصريين، ولكن هجوم شعوب البحر أضعف مصر فصار التبادل ضعيفاً في القرنين 12 و11، ولن يعود إلى سابق عهده إلاّ بعد القرن العاشر.

8- الفلسطيون
الفلسطيون هم أحد "شعوب البحر" الذين حاولوا أن يجتاحوا مصر حوالي سنة 1190 ق. م. ردّهم الفرعون رعمسيس الثالث على أعقابهم فأقاموا على شاطئ فلسطين. تقول التوراة إنهم جاؤوا من كفتور أي من جزيرة كريت (97: 7؛ ار 47: 4). ولكن لم تكن هذه الجزيرة إلاّ مرحلة في هجرتهم. فقد جاؤوا أبعد من هناك: ربّما من القفقاس أو البلقان. أقاموا أولاً في السهل الساحلي بين غزة ويافا، ثم امتدوا إلى الهضاب الداخلية (تث 2: 23). تتوّزع أرضهم خمس مدن: غزة، أشقلون، أشدود، جت، عقرون، وهي مدن أسّسها الكنعانيون قبل مجيء الفلسطيين إليها.
ليس الفلسطيون شعباً سامياً، وهم لا يمارسون شريعة الختان. لهذا تكتفي التوراة بأن تسميّهم مراراً "غير المختونين" (أو: القُلف) (قض 3:14؛ 18:15). حملوا معهم من جزر البحر المتوسط (قبرص، كريت، رودس) تقنية خاصة من أجل صنع الخزفيات وزخرفتها. تتألف الخزفيات (سيراميك) من الجرار، والصحون، والأواني والأوعية المصنوعة من مزيج ترابي. وجلب الفلسطيون خصوصاً معرفة عدانة (إستخراج المعادن وصناعتها) الحديد. فالتنقيبات في مدينة أشدود دلّت على أحياء صناعية، وكشفت عن كمية كبيرة. من بقايا الحديد، خلال إقامة الفلسطيين فيها.
وكان للفلسطيين تنظيم سياسي خاص بهم: حلقة حكم تتألّف من خمسة أمراء يتخّذون معاً القرارات المتعلّقة بالأمور المدنية والدينية والعسكرية (قض 16: 5، 23؛ 1 صم 5: 8؛ 7: 7).

ب- تاريخ قبائل العبرانيين
يقدّم لنا سفر يشوع خبر الدخول إلى فلسطين وكأن العبرانيين شعب موحَّد يتألف من 12 قبيلة (يش 2:4: خذوا اثني عشر رجلاً، من كل سبط رجلاً). هذه نظرة جاءت فيما بعد، وهي تعود إلى زمن الملوك، يوم توحَّد الشعب كله لإمرة داود. وهذا الوضع المصوّر هنا يعارضه سفر القضاة. فإن تاريخ القبائل يدل على أن العبرانيين لم يتألّفوا من 12 قبيلة متّحدة إتحاداً سياسياً لا حين الدخول إلى أرض كنعان، ولا في زمن القضاة. فقد كوّن المؤرخون ماضي القبائل إنطلاقاً من نصوص بيبلية متفرّقة؟ أقوال عن القبائل تلفّظ بها يعقوب (تك 49) أو موسى (تث 33)، توزيع أراضي كنعان ومدنها بين القبائل (يش 13: 15- 19: 48. نصحّح هذا التقسيم فنقرأ قض 1: 1- 36، نشيد دبورة (قض 5)، سلسلة أنساب القبائل المرتبطة بيعقوب، أبى الآباء (تك 21:29- 24:30).
بهذا النظام الذي يعتبر الأسباط الإثني عشر كأبناء أب واحد، هو يعقوب، أعلن العبرانيون أنهم شعب واحد، مهما كان أصلَ هذه القبائل وتاريخها السابق. ولكن ترتيب ولادة الأبناء الإثني عشر (رأوبين، شمعون)، ووضع أمّهم الإجتماعي (أمرأة حرة أو جارية: ليئة وراحيل بلهة وزلفة)، يدلان على أهمية كل قبيلة وعلى أصالتها.
هذه النصوص الواردة في التوراة قد دوّنت في أزمنة مختلفة (بعد القرن 10 والزمن الملكي)، فعبرّت عن نظرات مختلفة. ولكن التقاليد التي نقلتها هي سابقة للزمن الذي دوِّنت فيه.

1- قبائل شمال فلسطين
أولاً: أشير
ترتبط هذه القبيلة بيعقوب عبر زلفة، جارية ليئة (تك 30: 12- 13). أقامت على المرتفعات التي تمتد شمالي عكا (يش 19: 24- 31. نقرأ قض 1: 31- 32 ونصحّح). إذا عدنا إلى قض 17:5 نرى أن أفراد هذه القبيلة عملوا كمفرغي بضائع في المرافئ أو بحارين في السفن. عُرف إسم أشير في هذه المنطقة منذ القرن الرابع عشر في النصوص المصرية. هذا يعني إذن أن قبيلة أشير لم تُقم في مصر ولم تشارك في مسيرة الخروج والعبور.

ثانياً: نفتالي
ترتبط هذه القبيلة بيعقوب عبر بلهة، جارية راحيل (تك 7:30- 8). أقامت في المرتفعات التي تشرف على بحيرة طبرية ومجرى الأردن الأعلى، أقامت في جبل نفتالي واتخذت إسمه (قض 19: 32- 39). إرتبطت بقبيلة زبولون، فانتصرت على جيش يابين، ملك حاصور، في مرتفعات ميروم (يش 11: 5- 9؛ قض 18:5)، واحتلت حاصور، تلك القلعة الكنعانية الحصينة والمشهورة. حصلت المعركة ساعة دخول العبرانيين إلى فلسطين مع يشوع. في ذلك الوقت، كانت نفتالي تقيم حيث هي، وهذا يعني أنها لم تذهب إلى مصر.

ثالثاً: يساكر
ترتبط هذه القبيلة بيعقوب عبر ليئة، ولكن مولد يساكر لاحقٌ لمولد الأبناء الأربعة الأولين. وهذا يعني أن هذه القبيلة إرتبطت بالعبرانيين في زمن متأخر (تك 30: 14- 18). ثم إن يش 17:19- 23 منحها أرضاً محصورة. وإن قض 1: 30 لا يعرف إلاّ زبولون كقبيلة مقيمة في هذه المنطقة: يساكر كانت في ذلك الوقت قسماً من زبولون. معنى يساكر: إنسان الرهن والأجرة. كان بنو يساكر أناساً يسخرّهم ملك مجدو في أراضٍ تخصّ فراعنة مصر. هذا ما تقوله مراسلات تل العمارنة. وهناك قول نقرأه في تك 49: 14- 15 وهو يصوّر هذا الوضع: "يساكر حمار ضخم... أحنى كتفه للحمل، فأختصّ بالسخرة المحفوظة للعبيد". ولكن هؤلاء العبيد تمرّدوا على سيّدهم وتحرّروا بمناسبة وصول مجموعة يشوع إلى فلسطين أو إنتصار نفتالي وزبولون في ميروم.

رابعاً: زبولون
ترتبط قبيلة زبولون، شأنها شأن قبيلة يساكر، بيعقوب عبر ليئة، وتأتي بعد سائر القبائل (وبالتالي بعد سائر الأبناء). أقامت على الهضاب، جنوبي شرقي أرض أشير (يش 19: 10- 16). ولكنها لم تحتلّ المدن الهامة (قض 1: 30). عمل أفرادها في أعمال السخرة، أو كمفرّغي بضائع في المرافئ أو بحّارة (تك 13:49؛ تث 18:33- 19).
ماذا نستطيع أن نقوله عن قبائل أقامت في شمال فلسطين؟ إن هذه القبائل الأربع لم تُقم في مصر، ولم تشارك في مسيرة الخروج مع موسى ويشوع. فكيف ارتبطت مع القبائل التي خرجت من مصر؟ دخلت معها في رابطة وشركة. وقد تمّ هذا الإرتباط في اجتماع شكيم (يش 24): عرض يشوعِ على مجموعات الشمال هذه أن يعلنوا الرب (يهوه) إلههم، وأن يتركوا آلهة قبائلهم وآلهة الكنعانيين. نقرأ في آ14- 15: "فاتّقوا الرب (يهوه) واعبدوه بكمال وإخلاص، وانزعوا الآلهة التي عبدها آباؤكم... إختاروا لكم اليوم من تعبدون: الآلهة التي عبدها آباؤكم... آلهة الأموريين الذين أنتم مقيمون بأرضهم... أما أنا وبيتي فنعبد الرب". "فالآن، إنزعوا الآلهة الغربية التي فيما بينكم، ووجهّوا قلوبكم إلى يهوه" (آ 23).
قدّم يشوع عرضه، فقبله أهل الشمال. وقد يكون فرضه بالقوة. ونحن نفهم في هذا السياق ثورة قبائل الشمال التي أنتهت بمعركة ميروم. فهذه القبائل إختبرت في تاريخها أن الرب هو إله يحرّر. وهكذا تتجذّر وحدة العبرانيين في خبرة الإيمان هذه.

2- قبائل فلسطين الوسطى
إن القبائل التي احتلت وسط فلسطين قد سمّتها التوراة "بيت يوسف" (قض 1: 22- 23؛ 2 صم 19: 21؛ 1 مل 11: 28). تعود هذه التسمية إلى بداية الملكية. وفي هذا الوقت عينه، تحدّثت التوراة أيضاً عن "بيت يهوذا" فدلّت على تجمّع قبائل الجنوب (2 صم 7: 10- 11).

أولاً: ماكير ومنسى
في الأصل، كانت ماكير قبيلة حقيقية، أقامت في منطقة شكيم حيث ستُقيم قبيلة منسّى (قض 5: 14). ماكير تعني "المباع". فهي تدلّ على قبيلة من المرتزقة تبيع خدماتها لسكان شكيم الكنعانيين. هذا ما تؤكّده مراسلات تل العمارنة في القرنين 14- 13. ونقرأ في يش 17: 1: "ماكير هو رجل حرب". هجرت هذه القبيلة أرضها بعد أن طردتها قبيلة منسى خلال زمن القضاة، وانتقلت إلى شرقي الأردن (عد 32: 29- 42). وهناك اتخذت إسم "نصف قبيلة منسى" (تث 13:3- 15؛ يش 13: 29- 31). وإذا رجعنا إلى نظام الأنساب، رأينا أن منسّى صار أباً لماكير. تبنّى يوسف منسى، فأمّن له مكاناً شرعياً بين القبائل العبرانية (تك 23:50). وهذه القبيلة لم تشارك في مسيرة الخروج.
لا تظهر قبيلة منسى في النصوص إلا في زمن متأخر (قض 15:6- 35)، وهي ستحل محل ماكير في منطقة شكيم الجبلية (يش 7:17- 13). لم تهتمّ بأحتلال هذه المدينة، ممّا يدل على أنها عاشت بتفاهم تام مع الشعب الكنعاني. توقّف امتدادها إلى الشمال بسبب القلاع الكنعانية المقامة في سهل يزرعيل: مجدو، تعناك، بيت شان.

ثانيا: إفرائيم
حملت هذه القبيلة إسم المنطقة التي أقاموا فيها، وهي جبل إفرائيم. ضمت أرضها (يش 16: 5- 10) بيت إيل (قض 1: 22- 26 يروي إحتلالها) لا جازر (يش 16: 10). هي أرض ضيّقة. وإذ أرادت هذه القبيلة أن تتوسّع، قطعت أشجار التلال المحيطة بالسامرة (يش 17: 14- 18). كانت إفرائيم أم قبيلة في "بيت يوسف". منها خرج يشوع (عد 1628:13)، وستعطي لمملكة الشمال العتيدة ملكها الأول يربعام 11 مل 11: 26). أزاحت قبيلة منسى (يش 9:16؛ 8:17- 10)، وهذا ما يدل عليه نظام الأنساب الذي يجعل الإبن الثاني يمر قبل الأكبر (تك 13:48- 20).

ثالثاً: بنيامين
إن إسم هذه القبيلة يعني "إبن اليمين"، أي إبن الجنوب. فإذا أراد العبرانيون أن يعرفوا وجهة سيرهم، تطلعوا إلى الشمس المشرقة، في الشرق، لا إلى الشمال. وهكذا يكون الجنوب عن يمينهم.
إحتلّ بينامين أرضاً جنوب إفرائيم، ولم يتخذ إسمه هذا إلا حين أقام في فلسطين. فهو الإبن الذي يقال عنه وحده إنه ولد في كنعان (تك 16:35- 18). إنحصرت أرضه (يش 18: 11- 20) بين بيت إيل التي تخصّ إفرائيم وأورشليم التي ظلّت في يد الكنعانيين. ولكن، كان على أرضه مركز ديني مهمّ هو الجلجال الذي يقع، على ما يبدو، شمالي أريحا (يش 4: 19- 20).
ما الذي نستطيع أن نقوله عن قبائل فلسطين الوسطى؟ إرتبطت قبيلتا منسى وإفرائيم بيعقوب عبر يوسف الذي وُلد لراحيل (تك 20: 22- 24). تبنّاهما يعقوب (تك 48: 5- 12) وأعتبرهم مثل رأوبين وشمعون. ولقد كوّنتا مع بنيامين، المولود هو أيضاً من راحيل، مجموعة تحدّرت من يعقوب عبر راحيل لا عبر ليئة. ثم نلاحظ أن يعقوب يحمل أيضاً إسم إسرائيل المرتبط إرتباطاً وثيقاً بفلسطين الوسطى ولا سيما شكيم (تك 33: 20) حيث بدأ خبر يوسف (تك 37: 12- 14). وفي هذه المنطقة أيضاً، وبالتحديد قرب بيت إيل، وُلد بنيامين (تك 35: 16- 18)، كما دُفنت راحيل في الرامة (1 صم 10: 2: ار 31: 15). إذن، وُجدت في الأصل مجموعتان من القبائل: مجموعة يعقوب ليئة ومجموعة إسرائيل راحيل. وستندمج هاتان المجموعتان فيما بعد، فينتج عن هذا الدمج إسمان لأبي الآباء: يعقوب وإسرائيل. وفي تجمّع شكيم، إنتسب يشوع الذي هو من قبيلة إفرائيم، إلى "إله إسرائيل" (يش 24: 2). وقد تكون مجموعة إسرائيل راحيل، "وبيت يوسف" النواة الأهم في القبائل التي شاركت في مسيرة الخروج من مصر والدخول إلى أرض كنعان بقيادة يشوع.

3- قبائل جنوب فلسطين
أولا: يهوذا
تحمل هذه القبيلة إسم المنطقة التي أقامت فيها، أي جبل يهوذا الذي يمتدّ من أورشليم إلى الجنوب. نجد في أساس القبيلة عشيرة من عشائر إفرائيم إسمها أفراته. جاءت منطقة واقعة بين بيت إيل والرامة (تك 19:35)، وأقامت في بيت لحم. وتكوّنت حول هذه العشيرة قبيلة يهوذا التي تضمّ عدداً من المجموعات التي ما زالت أنصاف بدو: الكالبيون الذين تجذّروا في منطقة حبرون (يش 14: 6- 14). القنازيون الذين أقاموا حول دبير (يش 15: 15- 17؛ قض 1: 11- 15). القينيون (إرتبطوا بقايين) الذين أقاموا جنوبي البحر الميت (قض 1: 16). اليرحمئيليون الذين ثبتّوا أقدامهم في النقب (1 صم 27: 10؛ 29:30). دخلت هذه المجموعات المختلفة إلى الجنوب بطريقة مسالمة، ودون المرور بمصر. وبسبب حياتهم المطبوعة بالبداوة، فقد تأخرت وحدة قبيلة يهوذا التي امتدت أرضها إلى الجنوب، حتى واحة قادش برنيع (يش 15: 1- 12). أما إلى الشمال فقد كانت حدودها قلاع كنعانية شكلّت حاجزاً بين يهوذا وقبائل فلسطين الوسطى. وهذه القلاع هي: جازر، أيالون، بيت شمس، أورشليم.

ثانياً: شمعون
حفظ لنا التقليد ذكرى إقامة قبيلة شمعون في الجنوب وحول بئر سبع (يش 19: 1- 9: قض 1: 3- 17). ولكن قبيلة يهوذا إمتصّت تدريجياً هذه القبيلة. لهذا لم يذكرها تث 33. كما أن المدن التي أعطيت لها قد امتلكتها قبيلة يهوذا (ق يش 15: 21- 32 مع يش 19: 1- 9). قد تكون قبيلة شمعون قد أقامت في مصر ثم دخلت إلى فلسطين عبر الجنوب مع مجموعات من قبيلة لاوي.

ثالثاً: لاوي
في الأصل، كانت لاوي قبيلة مثل سائر القبائل. كانت متأصلة في أرض يهوذا، إلى الجنوب من حبرون. هذا ما نفهمه حين نقرأ لائحة العشائر في عد 26: 1- 10. وفيما بعد تخصّصت لاوي في خدمة المعابد وانتشرت في كل أرض فلسطين فلم يعد لها أرض خاصة بها. كل هذا حدَثَ خلال حقبة القضاة: فاللاويون المتجوّلون (قض 17: 7؛ 19: 1) يحتفظون برباطات وثيقة مع قبيلة يهوذا. هناك قول في تك 49: 5- 7 يعتبر لاوي قبيلة محاربة، ولكن تث 8:33- 11 لا يعرف إلا وظيفتها الكهنوتية.
ماذا نقول في قبائل جنوبي فلسطين؟ لا حديث في زمن القضاة عن قبيلة شمعون التي إمتصتها قبيلة يهوذا، ولا عن قبيلة يهوذا التي تأخرّت في توحيد عشائرها، وانعزلت عن سائر القبائل بحاجز المدن الكنعانية، وظلّت خارج فلسطين الوسطى التي تحدّث عنها سفر القضاة. وهذا التاريخ الخاص بقبيلة يهوذا يفسّر الصعوبات التي واجهها داود حين أراد أن يحقق الوحدة السياسية في شعبه، وتلك التي ستواجهها المملكة فيما بعد قبل أن تنقسم سنة 933.

4- قبيلتان في شرقي الأردن
أولاً: جاد
إرتبطت هذه القبيلة بيعقوب عبر زلفة، جارية ليئة (تك 9:35- 10). وهذا يدلّ على أن هذه القبيلة لم تكن عريقة، شـأنها شأن سائر القبائل. إحتلت أرض يعزير وجلعاد بين أرنون ويبوق (يش 13: 21- 28؛ عد 32: 34- 36)، وهي أرض مراعي (عد 32: 1- 36). كانت هذه القبيلة مقيمة في هذا الموضع قبل وصول المجموعات الآتية مع موسى ويشوع. إذن، لم تشارك في مسيرة الخروج من مصر. في وقت من الأوقات، سُمّيَت هذه القبيلة جلعاد (قض 17:5) باسم المنطقة التي أقامت فيها.

ثانياً: رأوبين
إذا رجعنا إلى سلسلة الأنساب، نجد أن رأوبين هو بكر يعقوب من ليئة (تك 32:29). لأجل هذا يرد إسم قبيلته قبل سائر القبائل الإثنتي عشرة. إذن، نحن في الأصل أمام قبيلة قوية، سوف تضعف شيئاً فشيئاً كما يقول تث 6:33: "يا ليت رأوبين يحيا ولا يموت، ويبقى له رجاله القليلو العدد". إحتل منطقة واقعة بين أرنون ومنطقة جاد التي ما عتّمت أن امتصته (عد 32: 34- 38). يمكن أن تكون قبيلة رأوبين قد شاركت في مسيرة الخروج مع موسى ويشوع.

5- قبيلة متنقلة: دان
حاولت هذه القبيلة أن تقيم على هضاب تقع غربي بينامين وإفرائيم. ولكنها لم تستطع أن تتمركز إلا في بعض القرى في وادي سوريق وصرعة وإشتاؤول (قض 1: 34- 35؛ 18: 11). ظلّت هذه المجموعات نشيطة في زمن شمشون قبل أن تمتصها قبيلتا بنيامين وإفرائيم. ولكن هجرت عشيرة من عشائرها إلى الشمال فاحتلت مدينة لائيش (أو: لاشم) وسمتها دان (يش 19: 40- 48؛ قض 18). تمت هذه الهجرة حوالي سنة 1100 ق. م. نشير إلى أن دان إرتبط بيعقوب عبر بلهة، جارية راحيل (تك 30: 1- 6).

ماذا نقول عن تاريخ القبائل العبرانية؟
إن خبر القبائل وتوزيعها في أرض كنعان يقودنا إلى بعض الإستنتاجات الهامة.
الإستنتاج الأول. أقامت القبائل في المناطق الجبلية التي تكثر فيها الإحراج. فالتغلغل فيها سهل لأن لا حصون كنعانية مهمّة. لم يتوصّل العبرانيون إلى إحتلال هذه الحصون (قض 1: 27- 36)، ما عدا بيت إيل (قض 1: 22- 26) وحاصور. أما مدينتا جبعون (يش 9: 1- 10: 27) وشكيم فاستعملتا العبرانيين كجماعات مسلّحة تدافع عنهما، وذلك على إثر اتفاقية ومعاهدة. أما دخول مجموعة يشوع إلى فلسطين، فقد رافقه ولا شك بعض المعارك، ولكنه لم يكن حرب إحتلال وإفناء السكان كما يصوّرها سفر يشوع (ف 2- 12)، بل عملية تغلغل بطيء وتدريجي.
الإستنتاج الثاني. كوّنت القبائل ثلاث كتل. فهناك سهل يزرعيل في الشمال مع مدنه المحصّنة، وحاجز القلاع الكنعانية في الجنوب. وهذا ما جعل الإتصال بين القبائل صعباً. ولن يكون هناك وحدة سياسية قبل أن تسقط هذه الحواجز.
الإستنتاج الثالث. ظل العبرانيون ممتزجين مع شعب الأرض حتى في المناطق التي احتلوها (قض 1: 27- 33). فتعلّموا منهم أساليب الزراعة والصناعة. تبعوا طريقة حياة الكنعانيين ولكنهم لم يتعبدّوا لإلهتهم. هذا يعود إلى الخبرة التاريخية التي عاشوها مع الرب محرّرهم من عبودية مصر. وهذا الإيمان بالله الذي يعمل في التاريخ، قد حملته مجموعة يشوع وتقاسمته سائر القبائل وعاشته كخميرة تحرّر. وهذا الإيمان ساعد على تماسك الشعب وهيّأ فيما بعد الطريق إلى الوحدة السياسية، رغم العوائق الجغرافية، واجتذاب الديانة الكنعانية، وإتجاه القبائل إلى التفرّد والعزلة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM