الفصل الثالث: من بولس عبد يسوع المسيح

الفصل الثالث

من بولس عبد يسوع المسيح

عرف العالمُ اليونانيّ والرومانيّ عددًا كبيرًا من الرسائل تتوزَّع بين الرسائل الرسميَّة أو الخاصَّة، والرسائل التي تحمل مقالاً خاصٌّا في اللاهوت أو في الفلسفة أو في أمور أخرى. وبولس الرسول اختار هذا الفنَّ الأدبيّ، الفنَّ الرسائليّ، لكي يوصلَ أفكاره من بعيد، ويواصل تعليمه إلى الجماعات التي أسَّسها، في آسية الصغرى أو اليونان وصولاً إلى ما يُدعى اليوم أوروبّا الشرقيَّة. والرسالة إلى رومة جاءت في خطِّ الرسائل التي وصلت إلينا سواء من الفيلسوف اليونانيّ أفلاطون (427-348/347 ق.م.) أو من المفكِّر اللاتينيّ سينيكا (4 ق.م.- 65 ب.م.) ابن قرطبة في إسبانيا، أو من خطيب رومة الشهير شيشرون (106-43ق.م.) الذي احتفظ لنا سكرتيره تيرون (كان عبدًا وحرَّره) برسائله وسائر مؤلَّفاته فوصلت إلينا كاملة. كاتب الرسالة إلى رومة اسمه ترتيوس (رو 16: 2) الذي يسلِّم هو أيضًا على جماعة رومة. وفيبة، الشمّاسة في كنخريَّة (16: 1أ) حملت هذه الرسالة، فقال بولس: »تقبَّلوها في الربِّ قبولاً يليق بالإخوة القدّيسين (آ1ب).

الرسالة إلى رومة رسالة طويلة، بل أطول الرسائل البولسيَّة، ولهذا وُضعت في رأس الرسائل، كما كانت العادة في ذلك الزمان. مع أنَّها كتبت سنة 67-68 وأرسلت من كورنتُوس. رسالة تحمل العقيدة الأساسيَّة: التبرير بالإيمان، فتقدِّم نظرة إلى كنيسة كورنتوس تنطبق على كنيسة رومة. فيها نتعرَّف إلى بولس الرسول فيكتشف »المسؤول« هويَّته بحسب الربِّ يسوع، لا بحسب البشر. ونتعرَّف إلى »نبيّ« في العهد الجديد، يكشف الخطيئة في المحيط الذي فيه ولا يموّه على نفسه وعلى الجماعة المسيحيَّة على مثال »الفرّيسيّين المرائين« الذين يتوقَّفون عند الظاهر وينسون الباطن (مت 23: 27). ونتعرَّف أخيرًا إلى »معلِّم« يدعو المؤمنين في مختلف حالاتهم إلى المحبَّة واحترام الآخرين ولاسيَّما الضعفاء.

1- بولس الرسول

منذ البداية عرَّفنا بولس بنفسه، كما اعتادت الرسائل القديمة أن تفعل وعرَّفنا بالجماعة التي يكتب إليها.

بولس. اسم بولس في العالم اليونانيّ يرتبط بالراحة. أمّا اسمه في العالم الشرقيّ فهو شاول، اسم أوَّل ملك على القبائل العبرانيَّة (1 صم 10: 21). ترك بولس اسمه العبرانيّ حين كان في قبرص، خلال الرحلة الرسوليَّة الأولى (أع 13 : 9: فامتلأ شاول، واسمه أيضًا بولس) بسبب رنَّته اللغويَّة (من يرقص بشكل مخنَّث σαλος) . ولكنَّه لا ينسى أبدًا ذاك الاسم الذي به دعاه الربُّ على طريق دمشق: »شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟« (أع 9: 4). كما قال الربُّ لعبده وعابده: »دعوتك باسمك وجعلتك لي« (إش 43: 1).

عبد. كلمة عبد في مفهومنا الحديث لا تفي بالمراد، بل هي تعطي المعنى المعاكس لما في الكتاب المقدَّس. في القاموس، هو الزنجيّ، المملوك المولود من عبد وأمة. ولكنَّ موسى هو »عبد« الله، وكذلك داود. والوزير هو عبد الملك. يعني هو صنيعة الملك، بحسب الاشتقاق السامي لفعل »ع ب د« في العبريَّة والآراميَّة والسريانيَّة. العبد، أو الوزير الأوَّل، يكون قرب الملك. يسمع نصائحه، يخدمه، يطيعه. كدتُ أقول: يلتصق به ولا يتركه مهما كانت الأمور. من هنا يقول لنا القاموس: »عبدَ الله أي وحَّده وخدمه وخضع وذلَّ وطاع له«. عبدُ الله هو »ملكه« الذي لا يريد أن يتصرَّف إلاَّ كما سيِّده يريد.

ذاك هو بولس. ذاك هو الرسول. هو صنيعة الربِّ. فلو لم يتدخَّل يسوع في حياته، لكان »شاول« فرّيسيٌّا بين الفرّيسيّين العديدين، وحائكًا بين الحائكين في مدينة طرسوس (أع 18: 3: صناعة الخيام). غير أنَّ الله اختاره ليحمل اسمه إلى الأمم والملوك وبني إسرائيل (أع 9: 15). وقال الربُّ فيه: »سأريه كم يجب أن يتحمَّل من الآلام في سبيل اسمي« (آ16).

»كما أرسلني أبي هكذا أنا أرسلكم« (يو 20: 21). صار بولس رسولاً بين الرسل، على مثال »المعلِّم« الإلهيّ. وسيقول عن نفسه إنَّه  »وكيل« وما يُطلَب من الوكيل هو أن يكون أمينًا (1 كو 4: 2). لهذا هو يرفض أن »يدينه« أحد. بل هو لا يدين نفسه. ديّانه هو الله. والمقياس الأمانة للرسالة. ودعا بولس نفسه »السفير« الذي يعظ يسوع بلسانه (2 كو 5: 20). يعظ كلمة المصالحة (آ19) ويُبعد كلَّ خلاف من قلب الجماعة: لا مجال للعداوة والخصام والحسد (غل 5: 20-21).

ارتبط بولس بيسوع ارتباطًا جعله »مغرَمًا« بذلك الذي دعاه رسولاً »مع أنّي اضطهدتُ كنيسة الله« (1 كو 15: 9). ولكنَّه عرف ضعفه في الوقت عينه، فإن كان »الإناءَ المختار« كما قيل لحنانيّا الدمشقيّ، فهو يعلن أنَّه وحاملي الرسالة »آنية من خزف تحمل هذا الكنز، ليظهر أنَّ تلك القدرة هي من الله لا منّا« (2 كو 4: 7). غير أنَّ ضعفه يدلُّ على أنَّ يسوع يعمل فيه. لهذا افتخر بهذا الضعف (2 كو 11: 30). وسمع الربُّ يقول له: »تكفيك نعمتي. في الضعف يظهر كمالُ قدرتي« (2 كو 12: 9).

وفي أيِّ حال، ما أراد أن يتقوَّى بقوَّة البشر. لا بالمال ولا بالعلم ولا »بالرئاسة« ولا بالعظمة. كلُّ هذا حسبه نفاية تجاه معرفة يسوع المسيح. قال »ما كان لي من ربح، حسبته خسارة من أجل المسيح، بل أحسب كلَّ شيء خسارة من أجل الربح الأعظم، وهو معرفة يسوع المسيح ربّي. من أجله خسرتُ كلَّ شيء وحسبتُ كلَّ شيء نفاية لأربح المسيح وأكون فيه« (فل 3: 7-9).

بعد هذا، أتُراه يستند إلى البشر؟ كلاّ. أيطلب رسالة توصية من بطرس أو من يعقوب أو من يوحنّا الذين يُعتَبرون العمد في الكنيسة (غل 2: 9)؟ كلاّ. لهذا نسمعه يقول: »هل أنا أستعطف الناس؟ كلاّ. بل أستعطف الله، أيكون أنّي أطلب رضى الناس؟ فلو كنتُ إلى اليوم أطلب رضى الناس، لمّا كنتُ عبدًا للمسيح!« (غل 1: 10). أكبر شرف له أن يكون »عبدًا« للمسيح، لا عبدًا للناس وما يمكن أن يعطونه من مال أو اعتبار. أكبر شرف له أنَّه رفض تعليم البشر واستند إلى »وحي يسوع المسيح« (آ12). أكبر شرف له أنَّه ترك حكمة العالم وأخذ بحكمة الصليب. »ما أردتُ أن أعرف بينكم سوى يسوع المسيح ويسوع المسيح مصلوبًا« (1 كو 2: 2).

دعاه الله واختاره. ويعرِّفنا بولس بنفسه في خطِّ ما قال يسوع لتلاميذه: »ما اخترتموني أنتم، بل أنا اخترتُكم وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بالثمر، ويدوم ثمركم« (يو 15: 116). الربُّ دعا بولس كما دعا »الأنبياء«. كما دعا عاموس العائش في جنوب البلاد، وأرسله إلى الشمال، إلى معبد الملك في بيت إيل، قرب السامرة. هو ما أعدَّ نفسه، ولو فعل لكان لبس لباس الأنبياء أو صار »ابن نبي« مثل إليشع بالنسبة إلى إيليّا (1 مل 19: 19ي). تحدَّث عن نفسه قال: »أنا راعي غنم وقاطف جمَّيز. أخذني الربُّ من وراء الغنم وقال لي: إذهب تنبَّأ لشعبي إسرائيل« (عا 7: 14-15).

كما أخذ الربُّ عاموس أخذ »شاول«، وإرميا قال له الربّ: »قبل أن أصوِّرك في البطن أخذتُك، وقبل أن تخرج من الرحم كرَّستك (قدَّستك، جعلتك لي) وجعلتُك نبيٌّا للأمم« (إر 1: 5). أراد أن يتهرَّب: »أنا لا أعرف أن أتكلَّم لأنّي صغير« (آ6). رفض الربُّ مثلَ هذا العذر. »كلُّ ما آمرك به تقوله... لأنّي في فمك أضع كلامي« (آ7-8). وبولس أيضًا اختاره الله وهو في حشا أمِّه. قال عن نفسه في الرسالة إلى غلاطية: »ولكنَّ الله بنعمته اختارني وأنا في بطن أمّي، فدعاني إلى خدمته. وعندما شاء أن يُعلن ابنَه فيَّ لأبشِّر به بين الأمم، ما استشرتُ بشرًا... بل ذهبتُ على الفور إلى بلاد العرب (حوران في سورية الجنوبيَّة، ومناطق واقعة شرقيّ نهر الأردنّ) ومنها عدتُ إلى دمشق« (غل 1: 15-17). وهناك »سارع إلى التبشير في المجامع بأنَّ يسوعَ هو ابنُ الله« (أع 9: 20).

أيُّها الكاهن، اعرف نفسك! وليكن بولس مرآة لك فتعرف كرامتك. وتعرف بمن آمنت (2 تم 1: 12): هو قادر أن يحفظ وديعتي »إلى ذلك اليوم«.

2- أحبّاء الله في رومة

بولس مدعوّ، وجماعة رومة هم »مدعوُّون ليكونوا قدّيسين« (رو 1: 7). فالمؤمنون كلُّهم مدعوُّون إلى القداسة، التي بدونها لا نستطيع أن نرضي ربَّنا. بدأ بولس فهنَّأ كنيسة رومة »لأنَّ إيمانكم ذاع خبرُه في العالمِ كلِّه« (رو 1: 8). فرومة عاصمة الإمبراطوريَّة. إليها وصل الإنجيل كما وصل إلى أنطاكية والإسكندريَّة قبل أن يصل إليها الرسل. ومنها يستطيع الإنجيل أن ينطلق، بل إنَّ الرسول أراد أن ينطلق منها لكي يحمل البشارة إلى إسبانية (رو 15: 24). فكما انطلق شاول (بولس) مع برنابا من أنطاكية مزوَّدًا ببركة الجماعة (أع 13: 3)، كذلك استعدَّ لأن يجعل من رومة مركز الانطلاق الجديد بحيث تصل البشارة »إلى أقاصي الأرض« (أع 1: 8). وأقاصي الأرض هي جبل طارق أو »عمود هرقل« الذي يُسند الأرض في زاوية من زواياها.

واشتاق بولس لكي يرى هذه الكنيسة (رو 1: 11أ) وفيها من فيها من المسيحيّين المعروفين: بريسكيلا وأكيلا، أبينيتوس الحبيب، مريم، أندرونيكوس ويونيّا... (رو 16: 3ي). كما اشتاق أن يشارك هذه الجماعة في إيمانها (آ11ب)، وفي ما نالته من مواهب سوف يذكرها فيما بعد: موهبة النبوءة، موهبة الخدمة، موهبة التعليم، موهبة الوعظ، موهبة العطاء، موهبة الرئاسة، موهبة الرحمة (رو 12: 6-8). يبقى عليها أن تنسِّق هذه المواهب بحيث يعرف الجميع أنَّ النبع هو واحد: الروح القدس (1 كو 12: 5)، وأنَّ كلَّ عمل إنَّما هو من أجل بناء الجماعة (1 كو 14: 26)، لا من أجل بناء شخصنا في أنانيَّة قاتلة (آ4). وفي النهاية، العامل الحقيقيّ لا يمكن أن يكون الإنسان بحيث يفتخر بما نال من مواهب (1 كو 1: 23). بل »الله الذي يعمل كلَّ شيء في الجميع« (1 كو 12: 6).

ونلاحظ تواضع الرسول تجاه تلك الجماعة التي ارتبطت ببطرس بحسب التقليد المسيحيّ، والتي منها أرسلت رسالة بطرس الأولى. »كنيسة بابل (هي ترمز إلى رومة، عاصمة الإمبراطوريَّة، رؤ 17: 5)، وهي مثلكم مختارة من الله، تسلِّم عليكم« (1 بط 5: 13). ما قال الرسول: »جئتُ لكي أشجِّعكم، لكي أقوِّيكم« بل »ليشجِّع بعضنا بعضًا... بالإيمان المشترك بيني وبينكم« (رو 1: 12). حين كتب بولس إلى كنيسة تسالونيكي قال لهم: »أرسلنا تيموتاوس... ليشجِّعكم ويقوّي إيمانكم لئلاّ يتزعزع أحدٌ منكم في هذه الشدائد« (1 تس 3: 2-3). أمّا هنا، فبولس يطلب التشجيع من أجل الرسالة الجديدة التي يتطلَّع إليها، ومن أجل الصعوبات التي قد تعترضه حين الذهاب إلى اليهوديَّة وأورشليم (رو 15: 25). كما يطلب الصلاة: »فأناشدكم، أيُّها الإخوة، باسم ربِّنا يسوع المسيح وبمحبَّة الروح، أن تجاهدوا معي برفع صلواتكم إلى الله، من أجلي، لينقذني من أيدي الخارجين على الإيمان في اليهوديَّة، ويجعل خدمتي مقبولة عند الإخوة القدّيسين« (آ30-31)، أي الإخوة الذين في أورشليم.

أجل، بولس ضعيف وهو يطلب معونة من المؤمنين، الصلاة وربَّما أكثر من الصلاة. فهل تلبّي الجماعة طلبه؟ وفي أيِّ حال، سوف تبدأ الصعوبات بالنسبة إلى بولس في أورشليم، فيصل إلى رومة »كسجين المسيح« (غل 4: 1: السجين في الربّ). فتأتي الجماعة وتستقبله في »ساحة مدينة أبيّوس والحوانيت الثلاثة« (أع 28: 15أ). ويقول لنا لوقا، صاحب سفر الأعمال: »فلمّا رآهم بولس شكر الله وتشجَّع« (آ15ب).

فرح بولس بجماعة رومة وهنّأها، ولكنَّه مارس معها »موهبة النبوءة«. فالنبيّ هو الذي يدخل في سرِّ الله ويكشفه للمؤمنين. والنبيّ لا يخاف أن يقول الحقيقة ولو كلَّفه السجن والعذاب والموت. وبولس جاء في خطِّ الأنبياء فندَّدوا بخطايا الشعب الذين استندوا إلى »الهيكل« (إر 7: 4). »فخدعوا أنفسهم، وما أصلحوا طرقهم وأعمالهم، ولا قضوا بالعدل بين الواحد والآخر، بل جاروا على الغريب واليتيم والأرملة، وسفكوا الدم الزكي« (آ5-6).

وخطايا مدينة رومة كبيرة سواء لدى الوثنيّين أو لدى اليهود. فالوثنيّون غاصوا في عبادة الأوثان، وما اكتفوا »بصور على شاكلة الإنسان الفاني« بل تطلَّعوا أيضًا إلى »الطيور والدواب والزحّافات« (رو 1: 23). وبسبب هذا الضلال تنكَّروا لله، فما اكتشفوا »صفاته الخفيَّة، أي قدرته الأزليَّة وألوهيَّته« (آ20). هم »ما مجَّدوا الله ولا شكروه، بل زاغت عقولهم« (آ21). والنتيجة: عيش الزنى بأشكاله: »فاستبدلت نساؤهم بالوصال الطبيعيّ الوصال غير الطبيعيّ. وكذلك ترك الرجال الوصال الطبيعيّ للنساء والتهبَ بعضُهم شهوة لبعض، وفعل الرجال الفحشاء بالرجال ونالوا في أنفسهم الجزاء العادل لضلالهم« (آ26-27).

صورة قاتمة عن جماعة رومة. استوحاها الرسول ممّا يرى في كورنتوس من زنى وفجور، بحيث اخترع الكتّاب من اسم المدينة فعل »كرنتس« ليصوِّر هذه الحالة التي قرأناها في بداية الرسالة إلى رومة. أتُرى المؤمنون في رومة لم يتركوا بعدُ العادات الوثنيَّة، مثل إخوتهم في كورنتوس الذين يعيِّدون مع الوثنيّين في ظلِّ معابد الآلهة ويأكلون اللحوم المكرَّسة لهذه الآلهة الكاذبة؟ (1 كو 10: 14-22).

ولمّا رسم بولس الحالة التي وصل إليها الوثنيّون، ظنَّ الهيود أنَّهم أفضل منهم ولكنَّهم أخطأوا. فإذا كان الوثنيّون »بلا عذر« (رو 1: 20) لأنَّهم عرفوا الله ولكنَّهم رفضوه (آ28). »وامتلأوا بأنواع الإثم والشرِّ والطمع والفساد« (آ29)، فاليهود ليسوا أفضل منهم. قال الرسول: »لذلك لا عُذرَ لك أيٌّا كنتَ، يا من يدين الآخرين ويعمل أعمالهم« (رو 2: 1).

فهذا »اليهودي« الذي يمثِّل اليهود في كنيسة رومة، يشبه الفرّيسيّ الذي أتى يصلّي في الهيكل: »ما أنا مثل سائر الناس الطامعين الظالمين الزناة« (لو 18: 11). حكمَ هذا الفرّيسيّ بشكل خاصّ على »هذا العشّار« الذي يجبي الضرائب فيظلم الفقير ويبني الثروات الطائلة بعد أن يعطي الدولة الحاكمة حقَّها. واليهود، في زمن بيلاطس، حكموا على الوثنيّين. فأحدرهم الرسول من عليائهم: هم ليسوا أفضل من الوثنيّين. »دينونة الله« (رو 2: 2) تصيب الوثنيّين وتصيب اليهود أيضًا.

»وأنت، يا من يدين الذين يعملونها ويفعل مثلهم، أتظنُّ أنَّك تنجو من دينونة الله؟ أم أنَّك تستهين بعظيم رأفته وصبره واحتماله، غير عارف أنَّ الله يريد أن يقودك إلى التوبة؟« (آ3-4).

أيُّها الكاهن، اعرف رعيَّتك! شجِّع حين يجب التشجيع، ونبِّه حين يجب التنبيه. في وقته وفي غير وقته. ولا تخف أن تمارس رسالتك النبويَّة لأنَّه يأتي وقت يرفضون التعليم الصحيح »فيتبعون معلِّمين يكلِّمونهم بما يُطرب آذانهم« (2 تم 4: 3).

3- وبِّخْ وأنذرْ وعظْ

إلى مثل هذا العمل دعا بولس تلميذه تيموتاوس: »أناشدك أمام الله والمسيح يسوع الذي سيدين الأحياء والأموات عند ظهوره ومجيء ملكوته، أن تبشِّر بكلام الله وتلحَّ في إعلانه في وقته وفي غير وقته، وأن توبِّخَ وتُنذر وتعظ صابرًا كلَّ الصبر في التعليم« (2 تم 4: 1-2).

فإن هو دعا تلميذه، فهو سوف يقوم به في كورنتوس أوَّلاً، وفي رومة ثانيًا من خلال هذه الرسالة التي بدأت فقدَّمت »التعليم الصحيح«. بعد لوحة قاتمة عن البشريَّة التي لا تقدر أن تعمل الأعمال الصالحة، هي دعوة إلى العالم الوثنيّ الذي لم تحفظه حكمتُه من الأصناميَّة ولا من اللاخلقيَّة. أمّا العالم اليهوديّ فلا يمكنه أن يكتفي ببرارة ظاهرة في عيون الناس، بل تُفرَض عليه الاستقامة قدَّام الله. إذًا على اليهوديّ أن يسأل نفسَه إذا كان »مختون القلب« مثل الوثنيّين الذين يعملون بالشريعة دون أن يعرفوها.

الجميع هم خطأة، والجميع يحتاجون إلى الخلاص المجّانيّ ينالونه في الإيمان مثل إبراهيم. فوعدُ الله جعله أبًا لليهود وأبًا للوثنيّين، ومثالاً لجميع الذين يؤمنون بقدرة الله الخالق الذي يقدر أن يقيم الموتى.

ويصوِّر الرسول في هذه الرسالة (ف 5-8) صراع الإنسان مع الخطيئة التي تحاول أن تسيطر عليه. وبفضل حبِّ الله، يسير المؤمن بحسب الروح الذي يحقِّق فيه ما لم يستطع العنصرُ البشريّ أن يفعل. وهذا الإنسان الروحيّ يختبر حرِّيَّة التعلُّق بمخطَّط الله بالرغم من آلام الحياة الحاضرة. وإذ يمتلئ رجاء، تتصوَّر فيه صورةُ الابن الذي مات وقام ودخل الآن في المجد. وهكذا يتجاوب مع حبِّ الآب الذي لم يوفِّر ابنه، فيستسلم بالمحبَّة إلى جميع الضيقات التي تولِّده الحربُ في هذه الحياة بحسب الروح:

»ولكنَّنا في هذه الشدائد ننتصر كلَّ الانتصار بالذي أحبَّنا. وأنا على يقين أنَّ لا الموت ولا الحياة، ولا الملائكة ولا رؤساء الملائكة، ولا الحاضر ولا المستقبل، ولا قوى الأرض ولا قوى السماء، ولا شيء في الخليقة كلِّها يقدر أن يفصلنا عن محبَّة الله التي هي في المسيح يسوع ربِّنا« (رو 8: 37-39).

بعد هذا التعليم اللاهوتيّ يأتي التعليم الخلقيّ. فالرسول لا يجعل »بخطِّه« أخلاقيّات سطحيَّة فحسب، فيتوقَّف عند بعض الرذائل والخطايا وكأنَّه يُسرُّ بالكلام عنها. إمّا لضعف في العقيدة، وإمّا لسهولة بها يكرز الكاهن فلا يجُرُّ نفسه على التأمُّل في كلام الله والدخول في مكنوناته.

بعد هذه النظرة إلى الإنسان الخاطئ والذي خلَّصه يسوع بموته وآلامه وقيامته، يبدأ التوبيخ والإنذار، ولاسيَّما على مستوى المحبَّة الأخويَّة. هنا يحملنا الرسول إلى القسم الثاني من الرسالة إلى أهل رومة، وبدايتها: »أناشدكم أيُّها الإخوة« (رو 12: 1).

أوَّل تنبيه يكون على المحبَّة بين الإخوة »مفضِّلين بعضكم على بعض في الكرامة«، ثمَّ محبَّة الأعداء على مثال ما نقرأ في عظة الجبل (مت 5-7): »باركوا مضطهديكم، باركوا ولا تلعنوا« (رو 12: 14). فالمؤمنون يعيشون وسط الضيقات والاضطهادات، فهل يردُّون على الشرِّ بالشرّ؟ كلاّ. بل يتركون الأمر لله، ولا يسمحون للشرِّ أن يتغلَّب عليهم (آ26)، ولا للحقد أن يسيطر.

أمّا المسألة الأساسيَّة التي جعلت الخلاف داخل جماعة رومة، فهو التعامل بين الآتين من العالم الوثنيّ والآتين من العالم اليهوديّ. هؤلاء كانوا الأكثريَّة في بداية كنيسة رومة، ثمَّ أخذ الوثنيّون »يطعَّمون« (رو 11: 18) شيئًا فشيئًا في الأصل. ولكن سنة 49، أمر الإمبراطور كلود (10-54ب.م.) جميع اليهود بأن يتركوا رومة بسبب الخلاف فيما بينهم حول »خرستوس« أو: المسيح. منهم من انتقل إلى المسيحيَّة ومنهم من لبث يهوديٌّا. غير أنَّ الإمبراطور ما فرَّق بين الاثنين. عندئذٍ صار العنصر اليهوديّ في الكنيسة أقلِّيَّة بالنسبة إلى العنصر الوثنيّ. فقال: »قُطعتْ تلك الفروع (الآتية من العالم اليهوديّ) حتّى أطعَّم أنا« (آ19)، أنا الآتي من العالم الوثنيّ.

وجاء الصراع بين الأقوياء الذين هم الأكثريَّة وبين اليهود الذين هم الأقلِّيَّة. بين العائشين في حرِّيَّة المسيح، فلا يهتمُّون للطعام ولا للشراب، وبين المحافظين على الشريعة فبدوا »ضعاف الإيمان« (رو 14: 1) لأنَّهم لم يتجرَّدوا عن كلِّ شيء ليعرفوا أنَّ الخلاص بيسوع المسيح لا يحتاج إلى الختان ولا إلى الامتناع عن بعض الأطعمة. فاليهوديّ يأتي إلى يسوع من خلال الحالة التي هو فيها. والوثنيّ يأتي إلى يسوع من عالمه الذي لا يعرف الشرائع اليهوديَّة ولا فرائضها. هو لا يحتاج الختان لأنَّه لا يزيده شيئًا. وهكذا قسم الرسول الجماعة قسمين:

»فمن الناس من يرى أن يأكل من كلِّ شيء« (آ2أ). هؤلاء هم المسيحيّون الآتون من العالم الوثنيّ. »ومنهم من هو ضعيف الإيمان فلا يأكل إلاَّ البقول« (آ2ب). كيف يكون التصرُّف؟ في المحبَّة. صاحب الحرِّيَّة لا يحتقر الآخرين فيقول: هم ما وصلوا بعد إلى ملء الحياة في المسيح. وصاحب الشريعة لا يدين أولئك الذين تحرَّروا من عادات صارت »بشريَّة« في نظر الحياة الجديدة في المسيح. عن الأوَّلين قال الرسول: »فعلى من يأكل من كلِّ شيء أن لا يحتقر من لا يأكل مثله« (آ3أ). وعن الآخرين قال: »وعلى من لا يأكل من كلِّ شيء أن لا يدين من يأكل كلَّ شيء« (آ3ب). إذا كان الله يقبل هؤلاء وأولئك، »فمن أنت لتدين خادم غيرك؟« (آ4)، خادم الربّ.

هذا المناخ يجعلنا قريبين من مسألة عرفتها كنيسة كورنتوس: كلُّ اللحوم الآتية من ذبائح الأوثان. مع أنَّ الوثن ليس بشيء، ومع أنَّ اللحوم المذبوحة في عيد من أعياد المدينة لا تفترق عن اللحوم لدى قصّاب في المدينة، إلاَّ أنَّ المؤمن العائش في المحبَّة يمتنع عن أكل مثل هذا اللحم. وأعطى بولس السبب: »فإذا كان بعضُ الطعام سببًا لسقوط أخي، فلن آكل اللحم أبدًا لئلاّ أكون سببًا لسقوط أخي« (1 كو 8: 13).

وقال بولس في الرسالة إلى أهل رومة: »فإذا أسأتَ إلى أخيك بما تأكله، فأنت لا تكون سالكًا في طريق المحبَّة. فلا تجعل من طعامك سببًا لهلاك من مات المسيح من أجله« (رو 14: 15). الطعام خيرٌ فلماذا يصبح سببًا للشرِّ وللخطيئة بحيث يتشكَّك أخي. الطعام شيء عابر فلماذا نعتبره جوهريٌّا في علاقتنا مع الإخوة والأخوات. فقال الرسول: »فما ملكوت الله طعام وشراب، بل برٌّ وسلام وفرح في الروح القدس. فمن خدم المسيح مثلَ هذه الخدمة نال رضى الله وقبول الناس« (آ17-18).

أجل، الأقوياء يحتملون ضعف الضعفاء (رو 15: 1)، على مستوى الإيمان، على مستوى الطعام والشراب، على مستوى الأزمنة والأوقات. الحديث في الإيمان يستند إلى من سبقه فانضمَّ إلى كنيسة المسيح. واليهوديّ الذي صار أقلِّيَّة في الجماعة لا ينسى أنَّه »من الفروع الطبيعيَّة« (رو 11: 20). فيستطيع أن يعود إلى »زيتونة المسيح« لأنَّ مكانه محفوظ على مثال الابن الضالّ. يكفي أن يعود ليكون له استقبال البنين في بيت أبيهم. والوثنيّ الذي اعتبرَ نفسه أفضل من اليهوديّ بعد أن حلَّ محلَّه، يخاف لأنَّه يمكن أن يحصل له ما حصل لليهوديّ: هذا سقط فما أبقى الله عليه. والوثنيّ يسقط فلا يبقي الله عليه (آ21-22). فإذا كان الله يجازي كلَّ واحد بحسب أعماله (رو 2: 6)، فليتبرَّر كلُّ إنسان.

إنَّه يجازى »بالحياة الأبديَّة لمن يواظبون على العمل الصالح ويسعون إلى المجد والكرامة« (آ7). من؟ »الذي يعمل الخير من اليهود أوَّلاً ثمَّ من اليونانيّين (آ10). وهو يجازي »بالغضب والسخط على المتمرِّدين الذين يرفضون الحقَّ وينقادون للباطل« (آ8)، كلَّ إنسان يعمل الشرَّ من اليهود أوَّلاً ثمَّ من اليونانيّين« (آ9).

أيُّها الكاهن، تعلَّم من الرسول في عملك الرعائيّ. اهتمَّ بالضعفاء، داوِ الخطأة لأنَّ المسيح جاء من أجلهم. احمل البشارة إلى المساكين لأنَّهم أوَّل من يكون لهم ملكوت السماء.

الخاتمة

حاولنا أن نقرأ الرسالة إلى رومة بما فيها من تعليم عقيديّ ونظرة أخلاقيَّة، وتعرَّفنا إلى شخص بولس الذي افتخر أنَّه »عبد« ليسوع المسيح، التصق به مدى الحياة، بل بعد هذه الحياة فقال: »وإن متُّ فذلك ربحٌ لي« (فل 1: 22). وعرف بولس رعيَّته وكشف الشرور التي فيها وحاول أن يقتلع الزؤان من حقل الربّ على أساس كلام الكتاب: »يزول الشرّ من بينكم« (تث 21: 21). من أجل هذا، قام بولس بمهمَّة الوعظ والإنذار والتوبيخ مشدِّدًا على المحبَّة الأخويَّة التي يجب أن تسود داخل الجماعة وخارجها، بين الإخوة والأخوات كما مع الذين في الخارج وإن كانوا من المضطهدين. قال الرسول: »لا يكن عليكم لأحد دين إلاَّ محبَّة بعضكم بعض. فمن أحبَّ قريبه أتمَّ العمل بالشريعة« (رو 13: 8).

تلك هي صورة بولس ونحن الكهنة نحاول أن نقتدي به كما هو اقتدى بالمسيح (1 كو 11: 1).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM