الفصل الثاني: بولس الرسول وخبرة الطريق إلى دمشق

الفصل الثاني

بولس الرسول وخبرة الطريق إلى دمشق

كان شابٌّ ماضيًا من أورشليم إلى دمشق يرافقه عددٌ من الرفاق، ومعهم رسائل إلى مجامع دمشق فيعتقلون الرجال والنساء الذين يجدونهم هناك على مذهب الربّ، بحسب »الطريق« التي خطَّها يسوع وما زالت تنتشر دون أن يستطيع أحد أن يوقفها. ولكن حصل ما أوقف هذه »الفرقة« مع رئيس »ينفث صدره تهديدًا وتقتيلاً لتلاميذ الرب« (أع 9: 1). نور من السماء في قلب الظهيرة. صوت كالرعد يتكلَّم ويعلن: »صعبٌ عليك أن تقاوم«، أن »ترفس المناخس« فتُشبه الجوادَ الذي يرفض أن يقوده فارسُه (آ5). من أرسل النور من السماء؟ ذاك الذي حُسب ميتًا. ومن نادى بالصوت العالي: شاول، شاول؟ هو الربُّ يسوع الذي أدرك هذا المقاتلَ قبل أن يدركه، الذي صرعَ ذاك الذي أراد أن يصرع »القائم من الموت« من خلال أشخاص أشعلوا النار في قلب المجتمع اليهوديّ، بعد أن حسب الذين صلبوا يسوع أنَّهم في سلام. قال الربُّ: »جئتُ لألقي نارًا على الأرض، وكم أتمنّى أن تكون اشتعلت« (لو 12: 49). أجل اشتعلت ولا يستطيع أحدٌ أن يطفئها. حسبَ أعضاءُ المجلس اليهوديّ أنَّهم يستطيعون أن يُسكتوا صوت يسوع بمجرَّد أن يمنعوا الرسل »أن ينطقوا أو يعلِّموا« (أع 4: 18). اعتبر هذا المجلس أنَّ مشروع يسوع مشروع بشريّ، ولكنَّ معلِّمهم الكبير غملائيل أفهمهم أنَّهم لا يستطيعون أن يزيلوه »لئلاَّ يصيروا أعداء الله« (أع 5: 39).

أمّا هذا الشابّ المنطلق إلى دمشق فاعتبر أنَّه أزال »المسيحيَّة« من أورشليم والجوار، وها هو يمضي لمحاربتها في دمشق. فناداه الربُّ يسوع باسمه العبرانيّ: شاول، شاول. فسقط هذا الشابُّ الذي خُلق ليكون قائدًا إلى الأرض، راكعًا، ساجدًا، فينتظر الأوامر ممَّن غلبه وأوقعه أرضًا. قالوا له: يسوع مات لأنَّه خالفَ الشريعة ودعا نفسه إلهًا. قالت الشريعة، فلا مجال للجدال. فهي لا تُخطئ. ولمّا رأى هذا الشاب القبر مفتوحًا ولا جثَّة فيه، سأل فأجيب: »جاء تلاميذه في الليل وسرقوه« (مت 28: 13). ولهذا نحن نلاحقهم على كذبهم. غير أنَّ شاول يسمع صوتًا آخر، بل صوتين. الأوَّل من التلاميذ: يسوع الذي »صلبتموه وقتلتموه«، أقامه الله وحطَّم قيود الموت« (أع 2: 23-24). ولكن من هم هؤلاء »الأمِّيّون« الذين يتحدَّون الشريعة ورؤساء الكهنة؟ هل يستحقّون أن نهتمَّ لما يقولون؟ في الحالات العاديَّة، لا. أمّا هنا، فهناك صوت ثانٍ يسمعه شاول وهو يتهرَّب منه لأنَّه »يزعجه« في يقيناته الماضية. صوتٌ في الداخل مثل مياه تتسرَّب وتتسرَّب ولا نعرف متى تنفجر.

»حياتي هي الشريعة« يمكن أن يكون شاول، ذاك الذي هو عبرانيّ ابن عبرانيّ. وفي الشريعة فرّيسيّ، متمسِّك بكلِّ التقاليد (فل 3: 5). قال عن نفسه: »في التقوى حسب الشريعة، أنا بلا لوم« (آ6). فهل هناك أمرٌ آخر غير الشريعة؟ بلى. هناك صوت يسمعه: »قيل لكم... أمّا أنا فأقول لكم« (مت 5: 21). وأضاف: »إن لم يزد برُّكم على برِّ الكتبة والفرّيسيّين، لن تدخلوا ملكوت السماوات« (آ20).

صراع في داخل القلب بين يسوع »الحي« كما يقول تلاميذه، ويسوع »الميت« كما يقول الكهنة باسم الشريعة. لهذا كان شاول قاسيًا في اضطهاده وكأنَّه يريد أن »يغلب« المسيح من خلال المؤمنين. وهذا ما نفهمه من الرؤيا على طريق دمشق. لم يقل يسوع: لماذا تضطهد المؤمنين؟ بل قال: »شاول، لماذا تضطهدني«، أنا يسوع (أع 9: 4). فهمَ هذا الشابُّ وهو ساجد أرضًا أنَّ هذا الصوت الداخليّ الذي سمعه مرارًا هو صوت »يسوع الذي يضطهده«. إذًا، يسوع حيّ وليس ميتًا، كما قيل له. فهل يقبل شاول أن يبدِّل حياته؟ أمّا الآن، فهذا القائد يحتاج إلى من يقوده، لأنَّه »لا يبصر شيئًا« (آ8) قيل عنه: »قادوه بيده إلى دمشق«. صار أعمى، مكفوف البصر. أين هو الاندفاع والعنفوان؟ زال كلُّ شيء. وهذا الأسد صار حملاً وديعًا وسوف يقوده يسوع شيئًا فشيئًا. هذا الشجاع صار »المرتعب، الخائف«. وسأل: »يا ربّ، ماذا تريد أن أفعل؟« (آ6)

*  *  *

انقلاب كامل. لا مجال للعودة إلى الوراء. ولكن ماذا كان هذا الشابُّ ومن أين هو؟ هو من يهود الشتات »من بني إسرائيل، ومن عشيرة بنيامين« (فل 3: 5). وُلد في طرسوس، تلك المدينة الجامعيَّة (في تركيّا الحاليَّة) التي عُدَّت ربع مليون نسمة، وهو عدد كبير حين نعرف أنَّ رومة (أو: الإسكندريَّة) أكبر مدن العالم، عُدَّت مليون نسمة. أسرته ميسورة وهو الذي وُلد مواطنًا رومانيٌّا ساعة قال قائد الألف: »دفعتُ مالاً كثيرًا حتّى حصلتُ على هذه الجنسيَّة« (أع 22: 28).

في طرسوس تعلَّم شاول الذي سيكون اسمه بولس في العالم اليونانيّ، الشعر أوَّلاً فأورد في خطبة أثينا كلام شاعرين، الأوَّل، أبيمينيد الذي عاش في القرن السادس ق.م.: »فنحن فيه نحيا ونتحرَّك ونوجَد« (أع 17: 28). والثاني: أراتوس ابن القرن الثالث ق.م.: »ونحن أيضًا أبناؤه«، أو »من نسله«. وما قاله هذا الشاعر قريب من الفكر الرواقيّ مع كليانت، تلميذ زينون الفينيقيّ، مؤسِّس المدرسة الرواقيَّة. وفي خطبة أثينا برز الفكر الرواقيّ أيضًا حين قال الرسول: »خلق البشر كلَّهم من أصل واحد، وأسكنهم على وجه الأرض كلِّها (آ26). فالرواقيّون الذين جادلهم بولس، يعتبرون أنَّ الكون هو كلٌّ يدبِّره العقل، لهذا فالحكيم هو من يجعل تصرُّفه متوافقًا مع النظام الطبيعيّ. ثمَّ إنَّ العالم كلَّه يشبه قرية صغيرة، ويجب على البشر أن يتكاتفوا ويتضامنوا. هنا نفهم ما قاله الرسول إلى أهل كورنتوس حين شبَّه الكنيسة بجسد واحد له أعضاء كثيرة (1 كو 12: 12). وتجاه الرواقيَّة هي الإبّيقوريَّة التي أسَّسها إبّيقور مؤسِّسة مدرسة البستان الفلسفيَّة التي طلبت الهدوء للنفس في بحث عن اللذَّة الطبيعيَّة والضروريَّة.

مع الشعر والفلسفة هي البلاغة التي تعلِّم الكاتب والواعظ كيف يرتِّب أفكاره لكي يُقنع القارئ والسامع. وهكذا تميَّز بولس بشريٌّا عن الرسل الاثني عشر. ولكنَّه سوف يقول: »ولكن ما كان لي من ربح، حسبته خسارة من أجل المسيح« (فل 3: 7). وأضاف: »من أجل يسوع، خسرت كلَّ شيء وحسبتُ كلَّ شيء نفاية لأربح المسيح وأكون فيه« (آ8-9).

*     *     *

وهذا المواطن الرومانيّ الذي دخل في الثقافة اليونانيَّة، لم ينسَ أصوله اليهوديَّة. »هو المختون في اليوم الثامن«. تربّى كما تربّى أترابه. تعلَّم الشريعة بدءًا بقراءة سفر اللاويّين وأنشد المزامير، واعتاد أن يمضي إلى المجمع يوم السبت. ولمّا بلغ الثانية عشرة، صار »ابن الوصيَّة«. كان هناك امتحان، كما حصل ليسوع حين أضاعه والداه في الهيكل (لو 2: 41ي). لا شكَّ في أنَّ شاول (بولس) كان مُجلاٌّ. لهذا ما اكتفى والده بما تعلَّم في المجمع، بل أرسله إلى أورشليم. وهناك تعلَّم لدى غملائيل الأوَّل ذاك الرابّي المعروف، وافتخر بذلك في إحدى دفاعاته: »أنا رجل يهوديّ وُلدتُ في طرسوس من أعمال كيليكية، لكنّي نشأتُ هنا في هذه المدينة، وتعلَّمتُ عند قدمي غملائيل شريعة آبائنا تعليمًا صحيحًا« (أع 22: 3).

هذا يعني أنَّ شاول عرف اللغة العبريَّة التي لم تكن تعرفها سوى قلَّة قليلة، كما عرف أصول التفسير لدى المعلِّمين. خطبته أمام اليهود في أنطاكية بسيدية خير شاهد على إلمامه بتاريخ شعبه: »إله هذا الشعب اختار آباءنا، ورفع قدر هذا الشعب...« (أع 13: 17). وفي نهاية سفر الأعمال، كان الحوار شبه متواصل مع بني قومه: »أخذ بولس يحدِّثهم من الصباح إلى المساء، شاهدًا لملكوت الله، محاولاً أن يقنعهم برسالة يسوع مستندًا إلى شريعة موسى وكتب الأنبياء« (أع 28: 23). ولنا بعض الأمثلة عن شروح الرابّينيّين أوردها بولس في رسائله. في 1 كو 10: 1-5، الكلام عن مسيرة الشعب برفقة موسى: المرور في البحر، السحابة، وفي النهاية تلك الصخرة التي ترافق الشعب فتؤمِّن لهم المياه في البرِّيَّة حتى الوصول إلى أرض الموعد (عد 20: 8-11). والمقابلة بين سارة وهاجر، بين الولادة من الجارية والولادة من الحرَّة (غل 4: 21ي). والإشارة إلى موسى الذي شعَّ وجهه من خلال اللقاء بالله (خر 34: 29).

*     *     *

ولكنَّ معرفة بولس بالتفسير اليهوديّ لم تقف عند هذا التفسير، بل أوصلته إلى يسوع المسيح. إذا لم يكن هكذا، فما معنى ذاك اللقاء على طريق دمشق؟ »كان وجه موسى يلمع في كلامه مع الربّ... فخافوا أن يقتربوا إليه« (خر 34: 29-30). قال بولس: هذا مجد زائل، ومع ذلك لم يقدر بنو إسرائيل »أن ينظروا وجه موسى« (2 كو 3: 7). وواصل كلامه: »كيف يكون مجد خدمة الروح«؟ لم نعد على مستوى العهد القديم لكي يبقى هذا البرقع على قلوبنا عند قراءة شريعة موسى. فمن يزيل هذا البرقع، هذا القناع؟ الاهتداء إلى الربّ، فالربُّ روح وحيث يكون روح الربِّ هناك تكون الحرِّيَّة (آ17). وفي النهاية »نحن جميعًا نعكس صورة مجد الربِّ بوجوه مكشوفة، فنتحوَّل إلى تلك الصورة ذاتها« (آ18).

هذه »الحرِّيَّة« المسيحيَّة التي حرَّرت بولس من الشريعة، فحرَّر الوثنيّين الآتين إلى الإيمان من الختانة ومن الامتناع عن بعض الأطعمة، قرأها الرسول في المقابلة بين هاجر وسارة. قال: هو رمز. »لأنَّ هاتين المرأتين تمثِّلان العهدين. فإحداهما هاجر من جبل سيناء تلد للعبوديَّة، وجبل سيناء في بلاد العرب، وهاجر تعني أورشليم الحاضرة التي هي وبنوها في العبوديَّة« (غل 4: 24). نلاحظ هذا الانقلاب العميق في حياة »شاول«، ذاك اليهوديّ الذي وجب عليه ألاَّ ينسى موسى وشريعة سيناء حيث ظهر الله في البروق والرعود. كلُّ هذا صار وراءه. وأورشليم حيث المؤمن يلتقي بالربِّ فينشد: متى آتي وأحضر أمام الله. أورشليم ارتبطت »بالعبوديَّة«. ذاك كان الحوار بين يسوع واليهود في إنجيل يوحنّا. قال الربّ: »تعرفون الحقَّ والحقُّ يحرِّركم« (يو 8: 32). والحقُّ هو يسوع المسيح. أجاب اليهود: »إنَّنا ذرِّيَّة إبراهيم ولم يستعبدنا أحد، فكيف تقول أنت: إنَّكم تصيرون أحرارًا« (آ33). أجل لبث اليهود »عبيدًا« لأنَّهم تعلَّقوا بأورشليم الأرضيَّة. ويواصل الرسول: »أمّا أورشليم السماويَّة فحرَّة وهي أمَّنا« (غل 4: 26). واستند بولس إلى نصٍّ من إشعيا ليعلن حرِّيَّة البنين (والبنات): »فما نحن إذًا، يا إخوتي، أبناء الجارية، بل أبناء الحرَّة« (آ31).

ونقول الشيء عينه بالنسبة إلى تلك الصخرة الروحيَّة. قال الرسول: »وهذه الصخرة هي المسيح« (1 كو 10: 4). فما هو هذا الماء الذي تحتاج السامريَّة أن تأتي كلَّ يوم لتملأ منه جرَّتها؟ قال الربّ: »فالماء الذي أعطيه يصير فيه نبعًا يفيض بالحياة الأبديَّة« (يو 4: 14). لهذا هتفت تلك المرأة: »أعطني من هذا الماء، يا سيِّدي، فلا أعطش« (آ15).

ماذا كان شعار بولس بعد اهتدائه إلى الربّ؟ »أترك ما وراءي وأنبطح إلى ما أمامي فأجري إلى الهدف، للفوز بالجائزة التي هي دعوة الله السماويَّة في يسوع المسيح« (فل 3: 13). والشريعة، أين صارت؟ قال في الرسالة عينها: »لا أتبرَّر بالشريعة، بل بالإيمان بالمسيح، وهو التبرير الذي يمنحه الله على أساس الإيمان، فأغرف المسيح وأعرف القوَّة التي تجلَّت في قيامته وأشاركه في آلامه وأتشبَّه به في موته، على رجاء قيامتي من بين الأموات« (آ9-10).

*  *  *

ما الذي حصل لهذا الشابّ الآتي إلى أورشليم لكي يدافع عن ديانة آبائه؟ هو الذي قال في دفاعه عن نفسه في أورشليم: »واضطهدتُ طريق يسوع حتّى الموت. فاعتقلتُ الرجال والنساء وألقيتهم في السجون« (أع 22: 4). ولكنَّه انتقل من »نير« إلى نير. من نير الشريعة الثقيل الذي يرزح المؤمن تحت ثقله (مت 11: 28) إلى نير المسيح »الوديع والمتواضع القلب«. فهو هيِّن وخفيف. مثل هذا الانتقال جعل اليهود حتّى في أيّامنا يحسبون بولس خائنًا. ولكنَّه لم يكن خائنًا، بل قرأ العهد القديم وأوصله إلى كماله، إلى يسوع المسيح، الذي قال: »ما جئت لأنقض، بل لأكمِّل« (مت 5: 17). أمّا اليهود فلبثوا في العهد القديم وما أرادوا الخروج منه. وبولس نفسه كان موافقًا لولا تلك »الصدمة« التي حصلت له على طريق دمشق.

»شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟« ماذا تريد يا ربّ أن أعمل؟ ذاك كان جواب ذاك الماضي ليحارب يسوع في كلِّ مكان. ما جادل، ما ناقش. ولكنَّه أحسَّ بالصعوبة. فالاهتداء إلى الربِّ يبدأ مثل نارٍ في القشّ، في الاندفاع. ولكن بعد وقتٍ قصير يحسُّ المؤمن بما يجب أن يتركه. سوف نرى بولس الذي ترك ماضيَه كلَّه. هو ابن طرسوس، لم يمرَّ فيها خلال رسالته. وأورشليم حيث »وُلد« إلى شريعة موسى، صارت ممرٌّا. لا مقرٌّا، فنقطة الانطلاق في رحلاته الرسوليَّة، ستكون أنطاكية. ونحن نعرف المرَّة الأولى وما فيها من صيغة احتفاليَّة: »قال لهم الروح القدس: خصِّصوا لي برنابا وشاول لعملٍ دعوتُهما إليه. فصاموا وصلّوا، ثمَّ وضعوا أيديهم عليهما وصرفوهما« (أع 13: 2-3). وحين انتهت المهمَّة، قدَّم بولس وبرنابا تقريرًا في أنطاكية، لا في أورشليم: »جمعا الكنيسة وأخبرا بكلِّ ما أجرى الله على أيديهما وكيف فتح باب الإيمان للأمم« (أع 14: 27).

قال الربُّ جوابًا على إعلان بطرس: »ما من أحد ترك بيتًا أو إخوة أو أخوات...« (مر 10: 29)، وأضاف لوقا: »امرأة« (لو 18: 29). مع أنَّ بولس كان متزوِّجًا، أراد أن يكون حرٌّا فما اصطحب معه امرأته مثل بطرس وإخوة الربّ (1 كو 9: 5). ومع أنَّ له الحقَّ أن يعيش من البشارة، أعلن »أجرتي هي أن أبشِّر مجّانًا وأتنازل عن حقّي من خدمة البشارة« (آ18).

وطلب الربّ: »من جاء إليَّ وما أحبَّني أكثر من حبِّه لأبيه وأمِّه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته، بل أكثر من حبِّه لنفسه، لا يقدر أن يكون لي تلميذًا« (لو 14: 36). أما كان هذا حبُّ بولس ليسوع، فأعلن يومًا: »حياتي هي المسيح وإن متُّ فذلك ربحٌ لي؟« وواصل الربُّ كلامه: »ومن لا يحمل صليبه ويتبعني لا يقدر أن يكون لي تلميذًا« (آ17). قال بعضهم، ويا لتعاسة ما قالوا: بولس »مؤسِّس« المسيحيَّة؟ لا، بولس دعا نفسه »عبد« يسوع المسيح. والعبد يلتصق بسيِّده. والعبد في مفهوم الكتاب هو القريب جدٌّا من الملك. رأى »معلِّمه« ملتصقًا بالصليب، فالتصق هو. قال: »أمّا أنا فلن أفاخر إلاَّ بصليب ربِّنا يسوع المسيح. به صار العالم مصلوبًا بالنسبة إليَّ، وصرتُ أنا مصلوبًا بالنسبة إلى العالم« (غل 6: 14). بالصليب أدخلَ المسيحُ البشرَ في الخليقة الجديدة. فما عاد الرسول يهتمُّ بالعالم القديم، لا على المستوى اليهوديّ مع الختان أو عدم الختان، ولا على المستوى الوثنيّ مع »حكمته« التي هي حماقة في نظرالربّ. لا أمان للمسيحيّ في هذا العالم، ولا افتخار. فالرسول متعلِّق بالصليب ولا يريد أن يتعلَّق إلاَّ بالصليب. فقال: »أحمل في جسدي سمات يسوع« (آ17). تلك التي أراها لتوما الذي رفض أن يؤمن (يو 20: 27). هي العلامة التي تميِّز يسوع، كما تميِّز الرسول الحقيقيّ: »نحن ننادي بالمسيح مصلوبًا، وهذا عقبة لليهود وحماقة في نظر الوثنيّين« (1 كو 1: 23). ترك بولس الحكمة »اليونانيَّة« وأخذ بحكمةٍ من نوع آخر. وترك المسلَّمات اليهوديَّة التي تطلب الآية بعد الآية، مع أنَّ يسوع كثَّر لهم الأرغفة وأطعم خمسة آلاف (يو 6).

*  *  *

في أيِّ مدرسة دخل »شاول« لكي ينال هذا التعليم الجديد؟ في مدرسة يسوع الذي قال: »لا تسمحوا بأن يدعوكم أحد: يا معلِّم، لأنَّكم كلَّكم إخوة ولكم معلِّم واحد« (مت 23: 8) وأوَّل تعليم كان التواضع. ما أرسله الربُّ يسوع إلى بطرس ولا إلى يعقوب ولا إلى العُمُد (غل 2: 9) في الكنيسة، بل إلى شخص مجهول في دمشق اسمه حنانيا. ثمَّ لم يقل له ماذا يجب أن يفعل. فهذا المخطِّط الكبير لا يُقال له شيء عن الهدف الأخير. فشابه إبراهيم: أنا أريك في الوقت المناسب. وهكذا كان الأمرُ بالنسبة إلى شاول. وضع هذا »المسؤول« في إحدى الجماعات المسيحيَّة يدَه على شاول »فتساقط من عينيه ما يشبه القشور، وعاد البصرُ إليه فقام وتعمَّد. ثمَّ أكل فعادت إليه قواه« (أع 9: 18-19).

كان بالإمكان أن يعود هذا المعمَّد جديدًا إلى أورشليم. ولكنَّه ما فعل. دعاه الربُّ فمضى إلى الجماعات المسيحيَّة في ما يُسمّى اليوم حوران وإلى الشرق من نهر الأردنّ. هناك المدن العشر التي وصل إليها الإنجيل. ومنها »جرش« وغيرها. هناك عاش مع المسيحيّين الأوَّلين، وشاركهم في عشاء الربِّ فأورد ما عرف في الرسالة الأولى إلى كورنتوس: »تسلَّمتُ ما سلَّمته إليكم، وهو أنَّ الربَّ يسوع في الليلة التي أُسلم فيها...« (1 كو 11: 23). واكتنز تعليم يسوع كما وصل إلى الجماعات ، فتذكَّر أقوال الربّ قبل أن تُكتَب الأناجيل. وبولس صاحب الثقافة الواسعة، والمعرفة العميقة بالكتاب المقدَّس، وابن العبقريَّة التي هي عطيَّة من عطايا الربّ، أعطانا أوَّل إنجيل، أوَّل خبر طيِّب: بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت (رو 5: 12)، وبإنسان واحد هو يسوع المسيح »سادت الحياة« (آ17).

اعتدنا أن نتكلَّم عن الأناجيل الأربعة، متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا. ولكن قبل هذه الأناجيل بعشرات السنين، قال بولس: »ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرار عند الله... حسب إنجيلي بيسوع المسيح« (رو 2: 13، 16). ويعلن الرسول: »فأنا لا أستحي بإنجيل المسيح، لأنَّه قوَّة لخلاص كلِّ مؤمن، لليهوديّ أوَّلاً ثمَّ لليوناني« (رو 1: 16). في الرسالة الأولى إلى كورنتوس: »ويلٌ لي إن كنت لا أبشِّر« (1 كو 9: 16). وأضاف: »لا أريد أن أبني على أساس غيري« (رو 15: 20). وهكذا نراه في سفر الأعمال ينتقل من مدينة إلى مدينة، بالرغم من الصعوبات التي تجابهه. في قبرص مع عليما الساحر (أع 13: 8). في أنطاكية بسيدية، المعارضة والشتيمة (آ45). في إيقونية، الإهانة والاستعداد للرجم (أع 14: 5). في لسترة »رجموا بولس وجرُّوه إلى خارج المدينة وهم يحسبون أنَّه مات« (آ19).

مدرسة يسوع التي دخل فيها بولس امتدَّت، لا بضع دقائق على طريق دمشق، بل طوال حياته. فيسوع يرافقه من خلال حوار بدأ ولن ينتهي إلاَّ بموت الرسول بعد أن قُطع رأسه على طريق أوستيا، قرب رومة. بدأ يبشِّر في مجامع دمشق، فطُرد من هناك وهرَّبوه في سلَّة أُنزلت من على السور. وفي أورشليم، زعج الجماعة لأنَّه راح في خطِّ إسطفانس. لهذا »حاول اليهود أن يقتلوه« (أع 9: 29). وهناك سمع صوت الربِّ يقول له: »اذهب فإنّي أرسلك إلى الأمم بعيدًا« (أع 22: 21)، أي إلى العالم الوثنيّ. وفي كورنتوس، سمع بولس الربَّ يقول له: »لا تخف! بل تكلَّم ولا تسكت. فأنا معك، ولن يؤذيك أحد. فلي شعبٌ كثير في هذه المدينة« (أع 18: 9-10).

ولاحقه الخصوم ولاحقوه. فكان مرَّة أولى في السجن، بين قيصريَّة ورومة. ومرَّة ثانية أحسَّ بدنوِّ أجله، في ذلك السجن القاسي، فهتف: »أمّا أنا فذبيحة يراق دمُها وساعة رحيلي اقتربت. جاهدتُ الجهاد الحسن، وأتممتُ شوطي، وحافظتُ على الإيمان« (2 تم 4: 6-7).

الخاتمة

إلى هنا قادت طريقُ دمشق بولس الرسول. كان بإمكانه أن يعيش في طرسوس، في كنف والديه، وربَّما مع إخوته وأخواته. ربَّما يعلِّم في الجامعة، أو يحمل في هذه المهنة اليدويَّة التي تميَّز بها الفرّيسيّون والمعلّمون اليهود. هذا »الزعيم« الذي ترأَّس حملة عسكريَّة لكي يحارب المسيحيَّة، ترك السباق في الميدان من أجل إكليل يفنى، وطلب إكليلاً لا يفنى (1 كو 9: 25). أمامه مستقبل جامعيّ! تركه. أمامه مستقبل في أورشليم، في خطِّ هؤلاء المعلِّمين الكبار! تركه. أمامه ثورة يمكن أن يقودها كما سوف يعمل العديدون وآخرهم ابن الكوكب يوم سقطت أورشليم سنة 132-135! هذا الشابّ هو سيِّد نفسه، ولا يسير وراء أحد، إلاَّ شخص يسوع المسيح. فهو يسير في موكبه عارفًا بمن وضع ثقته. »أنا عالم بمن آمنت وعارف أنَّه قادر أن يحفظ وديعتي إلى يوم ربِّنا«. أجل، ترك كلَّ الضمانات البشريَّة وما احتفظ إلاَّ بضمانة الصليب، ممّا يدلُّ على إيمانه العميق واستسلامه التامّ على ما نقرأ في الرسالة إلى رومة: من إيمان إلى إيمان. آمن الله به فآمن بالله. كان الله أمينًا لرسوله، فكان الرسول أمينًا لربِّه. لهذا هتف في الرسالة الأولى إلى كورنتوس: »فليعتبرنا الناس خدَّامًا للمسيح ووكلاء أسرار الله، وكلُّ ما يُطلَب من الوكلاء هو أن يكون كلُّ واحد منهم أمينًا« (1 كو 4: 1-2). ذاك هو بولس الذي تحوَّلت حياته كلُّها في الطريق إلى دمشق.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM