الفصل الأول: الأسفار البريّة والبحريّة في زمن القدّيس بولس

الفصل الأول

الأسفار البريّة والبحريّة

في زمن القدّيس بولس

السفر في العالم القديم أمرٌ عرفه الكثيرون منذ عولس(1) الذي انطلق من طروادة بعد سقوطها بيد اليونان، وطالت سفرته وامرأته بنيلوبي تنتظره في جزيرة إتاكة، إلى تيزيه(2) ذلك الملك الأسطوريّ الذي انطلق من أثينة تاركًا طمأنينة البرّ، مارٌّا في برزخ كورنتوس، فقيل عنه إنه قام بأعمال تعادل نصف أعمال هرقل، إلى جازون(3) الذي صعد سفينة ومضى يبحث عن جزيرة (الصدف) الذهبيّة؛ أما بيتياس(4) فانطلق من مرسيليا في جنوب فرنسا، ومرّ في مضيق جبل طارق، وراح بجانب المحيط الأطلسي وصولاً إلى ايسلندا في شمال أوروبا حيث النهارات تطول في قسم من السنة والليالي تطول في قسم آخر. وكانت لبيتياس مغامرةٌ أخرى وصلت به إلى شواطئ بولندا وبحر البلطيق.

مغامرات تدلّ على الشجاعة والعناد والمخيّلة، وتتحدّى الصعاب ولا تقف في وجهها العوائق. وكانت أسفار للدرس والاستطلاع، ونذكر بعد بيتياس هيرودوت(5) الذي انطلق لكي يتعرّف على مصر وعلى بلاد فارس. وأخيرًا كانت أسفار نستطيع أن ندعوها »السياحة الحضاريّة والثقافيّة«. من أجل هؤلاء والذين جاءوا بعدهم ، ألَّف باوسانياس(6) وصفًا مفصّلاً وشرحًا عن اليونان للأشخاص الميسورين، مثل الامبراطور أدريان(7)، الذين اهتمّوا بالحضارة اليونانيّة وثقافتها، فمضوا يزورون المواقع الرئيسيّة في هذه البلاد بانتظار أن ينطلقوا إلى آسية الصغرى وإلى مصر(8).

أمّا أسفار بولس الرسول فجاءت في منظار يختلف كلّ الاختلاف عن هؤلاء المسافرين والمغامرين، ربّما بحثًا عن المعادن من ذهب وفضّة ونحاس وقصدير. فهو يسافر لكي يحمل الإنجيل على مثال البرنامج الذي وضعه الربّ للرسل: من أورشليم واليهوديّة، إلى السامرة وإلى أقاصي الأرض (أع 1: 8). أسفار بولس كانت في الاتجاهات الرئيسيّة لانتشار المسيحيّة في الأمبراطوريّة الرومانيّة؛ فهذا الرسول جسّد التجسيدَ الكامل للمسافر في الزمن القديم، لأنه امتلك المعارف النظريّة والعمليّة من أجل نجاح مهمّته: الحقوق، الطبّ، اللغات (لاتينيّة، يونانيّة بالإضافة إلى العبريّة والآراميّة)، العلاقات مع أشخاص عديدين (نقرأ اللائحة في رو 16: 1 ي)، مهنة تتيح له أن يؤمّن حياته وحياة الفريق الرسولي (أع 18: 3: صناعة الخيام مع أكيلا وبرسكلّه)، الخبرة لمجابهة الأخطار، الفهم، بُعد النظر... بفضلِ عملِ هذا الرسول، استَطاعت المسيحيّة الأولى أن تنغرس في مختلف المدن اليونانيّة من أنطاكية وصولاً إلى كورنتوس وأثينة وتسالونيكي(9)...

ونحن في هذا المقال، نتعرّف إلى المدن التي مرّ فيها بولس الرسول، ونرافقه في الصعوبات التي واجهَتْه خلال رسالته، كما يقول في الرسالة الثانية إلى كورنتوس. وفي القسم الثالث والأخير، نكتشف ظروف السفر في البحر والبرّ بحيث نعرف ما قام به هذا الرسول في وقت كانت وسائل السفر مختلفة بين الفقراء والأغنياء، بين رجال الدولة والأفراد الذين لا يملكون سوى أرجلهم لكي يسيروا في البرّ، ويُحشَرون حشرًا في السفينة حين يكون السَفر في البحر، على مثال ما حصل لبولس في الرحلة إلى رومة وهو سجين المسيح.

1- المدن التي بشّرها بولس

بولس (أو شاول) هو ابن طرسوس. واعتاد أن يأتي إلى أورشليم مرارًا. فله أخت في المدينة المقدّسة، وابنُها هو الذي نبّهَ قائد الحامية إلى المؤامرة التي تُحاك على خاله (أع 23: 16ي). ثم هو تعلّم عند قدمَي المعلِّم الكبير، غملائيل الأول (أع 22: 3). المسافة 600-700 كلم، وفي المشوار الذي تبدلت حياته، مضى إلى أورشليم، ومن أورشليم إلى دمشق (حوالى 200 كلم). ومن دمشق إلى بلاد العرب، سواء في حوران (سورية) أو مملكة الأردن الحاليّة. ظنّ البعض أنّ »شاول« كان من الطبقة الأرستقراطيّة، فاعتبروه راكبًا جوادًا حين المضيّ إلى دمشق، بحيث إنّ هذا المنطلق ليقبض على المسيحيّين سقط عن الجواد »جندله« يسوع وكأنّه كان في مبارزة مع الربّ الذي انتصر عليه. نحن هنا أمام رمز إلى ذلك الصراع بين يسوع وشاول: مَن يتغلّب على الآخر؟ لا يستطيع شاول أن يصل إلى يسوع، لهذا يحارب تلاميذه فيمنع أيًا منهم أن يتلفّظ باسم يسوع. لهذا قال له الربّ: »شاول، لماذا تضطّهدني؟« (أع 9: 4). ونقرأ في أع 26: 14: »يصعب عليك أن ترفس المهماز«. الجواد يَرفس ولكنّه لا يستطيع أن يصيب المهماز. من هنا اعتُبِرت هذه الصورة التي تعني استحالة المقاومة، إشارةً إلى الجواد. لا، بولس كان يسير على القدَمين مع الذين معه، شأنه شأن المشاة في الجيوش، وهو حين سقط أرضًا إنّما سقط ساجدًا أمام الربّ الذي أشعّ نوره فأعمى منه العينين.

وعاد بولس من بلاد العرب إلى دمشق حيث »سارع إلى التبشير في المجامع بأنّ يسوع هو ابن الله« (أع 9: 20). ومن دمشق مضى إلى أورشليم حيث لبث وقتًا قصيرًا قبل أن يُرحَّل إلى طرسوس، عبر مرفأ قيصريّة (آ 30). ومن طرسوس جاء شاول إلى انطاكية بعد أن دعاه برنابا (300-400 كلم). أقام بولس مع برنابا سنة كاملة في انطاكية (أع 11: 26) التي كانت من أكبر المدن في الأمبراطوريّة الرومانيّة.

بعد هذه الخبرة في أنطاكية في تبشير اليونانيّين، لا اليهود، استعدّ شاول للانطلاق في الرسالة لا من أورشليم، تلك المدينة المنغلقة على نفسها، بل من أنطاكية الحاملة الحضارتَين الآراميّة واليونانيّة.

اعتاد الشرّاح أن يتحدّثوا عن ثلاث رحلات رسوليّة: الأولى، راح فيها شاول (بولس) وبرنابا بعد أن وَضعت عليهما الأيدي كنيسةُ أنطاكية (أع 13: 3). مرَّا في عدد من المدن ثم عادَا في الطريق عينها »يشدّدان عزائم التلاميذ ويشجّعانهم على الثبات في إيمانهم« (أع 14: 22). في الرحلة الثانية، رافق سيلا بولسَ بعد »مجمع أورشليم«، الذي كان حوالي سنة 49. ما اكتفى الرسولان بتركيّا الحاليّة، بَل عبرَا البحر الأسود وصولاً إلى أوروبّا، بعد أن جاء مَن يقول لبولس: »أعبر إلى مكدونية وأغثنا« (أع 16: 9). وبعد الرسالة في كورنتوس عاد بولس إلى أنطاكية (أع 18: 18 ي)، إلى مركز القيادة العامّة. ثم راح في رحلة ثالثة قادته أيضًا إلى مكدونية واليونان وصولاً إلى الليريكون (رو 15: 19)، وهي منطقة تمتدّ من البحر الأدرياتيكي إلى نهر الدانوب، أي ما يقابل البلدان السلافيّة، مثل يوغوسلافيا القديمة وتشيكوسلوفاكيا التي انقسمت اليوم دولتين.

انطلقت الرحلة الأولى من انطاكية فوصلت إلى جزيرة قبرص بعد إبحار من سلوكية (أع 13: 4)، قرابة 400 كلم. وصل الرسولان إلى سلامينه وما توقّفا فيها، بل »اجتازَا الجزيرة كلّها حتّى مدينة بافوس«، أي من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وتركَا الجزيرة وأبحرَا من جديد إلى آسية الصغرى. ما عادَا إلى أنطاكية، بل إلى برجة في بمفيلية. هذه المدينة تبعد 15 كلم عن أنتاليا (أتاليا)، وقد أسّسها اليونان بعد حرب طروادة. وسارَا مسافة 200 أو 300 كلم، فوصلاَ إلى أنطاكية الواقعة اليوم في قلب تركيّا الحاليّة (يلواص). هي في بسيدية تمييزًا لها عن أنطاكية الواقعة عند مصبّ نهر العاصي. وحين تُبَشَّر المدينة، تُبَشّر القرى المحيطة بها. فقال لوقا في سفر الأعمال: »وانتشر كلام الربّ في تلك البلاد (المنطقة) كلّها« (أع 13: 49).

كيف نتخيّل هذين الرسولَين مسافرَين؟ أَمِثْلَ قوّاد في الجيش الرومانيّ. كلّ واحد له جواده يبدّله في المحطّات الموزَّعة على الطرقات الرومانيّة؟ إذا كان الأمرُ كذلك، فكيف ينفضان »غبار أقدامهما« (آ 51) حين الانتقال إلى أيقونية التي تبعد عنها قرابة 200 كلم؟ أيقونية (أو إيقونيوم) هي اليوم كونيا في تركيّا. كانت في ذلك الوقت بعض غلاطية الرومانيّة.

ولو أنّ الوصول إلى مدينة ما، كان يعطي بعض الراحة لَهَان الأمر؛ فالمسافرون الفقراء يُحشَرون في »خان« مخصّص للقوافل؛ لا ماء لغسل الأرجل، ولا رقاد بسبب الحشرات والروائح من الآتين من هنا وهناك. ولو أنّ الرسولين يُستَقْبَلان الاستقبال اللائق وهما يحملان بشرى الخلاص! هو الاضطّهاد في كلّ مكان والطرد، وكأنّهما مجرمان هاربان من يد العدالة. في أنطاكية بسيدية »اضطّهدوا بولسَ وبرنابا وطردوهما من ديارهم« (آ 50)، حينئذ ردّدَا كلام الربّ: »إذا اضطّهدوكم في مدينة، فاهربوا إلى غيرها« (مت 10: 23). ولكن في المدينة التالية، في أيقونية، أُعِدَّت الإهانة والرجم (أع 14: 5)، فوجب الانتقال إلى لسترة التي لا تبعد كثيرًا عن أيقونية (أقلّ من مئة كلم). في أيقونية أفلت بولس من الرجم، لا في لسترة. قيل: »فرَجموا بولس وجرّوه إلى خارج المدينة وهم يحسبون أنّه مات« (آ 19)، بل قام ودخل المدينة، وكانت المحطّة الأخيرة دربة (كلباسان في تركيا) الواقعة بين لسترة وطرسوس. سارَا قرابة 200 كلم مع المبدأ الرسوليّ: »لا بدّ من أن نجتاز كثيرًا من المصاعب« (آ 22).

هل حسبنا عدد الكيلومترات التي اجتازها الرسولان؟ يجب أن نضربها باثنين بعد أن عادَا أدراجهما عبر مقاطعتَين، بسيدية وبمفيلية. وكانت النهاية في مرفأ أتالية، ومن هناك »سافرَا في البحر إلى أنطاكيّة« (آ 26).

مصاعب مادّيّة، لا بأس. مصاعب من الخارج، لا بأس. ولكن مصاعب من الداخل! هي لا تُحتمَل. جاء من يهدم الرسالة من أساسها، ويُعيد الكنيسة إلى مستوى الحركة الفرّيسية، أو في أحسن الأحوال لكي يجعلها امتدادًا للديانة اليهوديّة. فكلّ هؤلاء الوثنيّين الذين اعتمدوا باسم الربّ يسوع، يجب أن يُختَنوا. يكونون »يهودًا«  في درجة أولى، ثم يُعَمَّدون. فكأنّ المعمودية لا تكفي، بل هي صارت مساعدة للختان على ما يفعل اليهود مع الوثنيّين الذين يطلبون الانتماء إلى »شعب الله« كما دَعوا نفوسَهم.

جاء كلام فئة كبيرة من الكنيسة مثل زلزال على هؤلاء الذين فتح الربّ باب الإيمان لهم (آ 27): »لا خلاص لكم إلاّ إذا اختتنتم على شريعة موسى« (أع 15: 1). هنا أُجْبِر بولس وبرنابا على الصعود إلى أورشليم للدفاع عن الرسالة. سَفَرٌ آخرَ كانَا بغنى عنه لو أنّ الجماعة »اليهومسيحيّة« قبلت منذ البداية كلام بطرس في »مجمع أورشليم«: »نحن نؤمن أنّنا نخلص بنعمة الربّ يسوع كما هم يخلصون« (آ 11).  أجل، قال بطرس: »فما فرّق (الله) بيننا (نحن اليهود) وبينهم (الأمم الوثنيّة) في شيء، فهو طهّر قلوبهم بالإيمان« (آ 9). إذًا، لا حاجة إلى الختان، وإن فُرضت بعضُ الشرائع الطعاميّة وغيرها (آ 20) مراعاة لبعض المؤمنين من اليهود في الكنيسة.

تحرّر الفريقُ الرسوليّ وانطلق بعد أن أوصل الرسائل من أورشليم إلى أنطاكية. مئات الكليومترات، ولكنّها بدت قصيرة بالنسبة إلى الرسالة التي تنتظر؛ فمَن يستطيع أن يُوقف النار والرياح تنفحها؟ ومَن يستطيع أن يوقف بولس والروح يوجّهه من مكان إلى آخرَ؟ فبعد مرور في دربة ولسترة وأيقونية (أع 16: 1ي)، مرَّا بنواحي فريجية وغلاطية (آ 16). ولماذا لم يمرَّا في آسية (الصغرى) بعاصمتها أفسس؟ »لأن الروح القدس منعهما'' (آ 6ب). نعم، الروح القدس هو القائد الأعلى في الرسالة. وإذا كان يسوع وعدهم بأن الروح يعلّمهم كيف يتكلّمون (مت 10: 19-20)، فهذا الروح يعلّمهم الآن كيف يتحرّكون، فيعطيهم دفعًا بعد دفع، فينسون الراحة والطعام والشراب. هو ركضٌ مسرع. قال الرسول: أحاول أن أدرك المسيح الذي أدركني. لا مجال للتوقّف، وأعمال الرسل واضح في هذا المجال؛ حتّى في السجن، بولس يواصل الرسالة، »فيبشّر بملكوت الله معلنًا بكلّ جرأةٍ وحرّيّة تعليمه في الربّ يسوع« (أع 28: 31).

مرّة أولى منع الروح القدس الفريق الرسوليّ، ومرّة ثانية حاولوا الاتجاه إلى ميسية التي هي منطقة واقعة على حدود خليج البوسفور، والدخول إلى بثينية القريبة من برغامس. ولكن »ما سمح لهم روح يسوع« (أع 16: 7). أُغلقت كلّ الطرق في وجههم، فما بقي سوى طريق واحد: ترواس. مرفأ يذكّرنا بطروادة، يقع عند مضيق الدردانيل. من هناك يجب أن يُبحروا، ونحن نعرف رمز البحر في الأدب القديم: هو يحمل الشرّ والموت. عوائق مادّيّة مَنعت الفريق الرسوليّ من التوجّه إلى حيث »يفكّرون«. ولكن ها هو صوت بشريّ، اكتشفوا فيه كما في هذه العوائق توجيه الروح القدس: »فلمّا رأى بولس هذه الرؤية، طلبنا السفر في الحال إلى مكدونية، متيقّنين أنّ الله دعانا إلى التبشير فيها« (آ 10).

قرأ المرسَلون »كلام الروح« في هذه الوجهة الجديدة؛ فالكتاب المقدّس لا يهمّه السبب المادّيّ. ولكنّنا نستطيع أن نتخيّل نحن الصعوبات التي منعتهم من التبشير في آسية: ربّما كان سيل فائض فما استطاعوا عبوره، أو طريق مقطوعة. ولا ننسَ اللصوص وقطّاع الطرق. ولكن لا خوف على هؤلاء الرسل العائشين بحسب توصية الربّ: »لا تحملوا نقودًا من ذهب ولا من نحاس في جيوبكم، ولا كيسًا للطريق، ولا ثوبًا آخر، ولا حذاء، ولا عصا« (مت 10: 9 - 10).

200-300 كلم من سفر في البحر للوصول إلى ساموتراكية، تلك الجزيرة في بحر إيجه. ومن ساموتركية حطّوا في أوروبا، وفي أوّل مدينة بلغوها: نيابوليس، المدينة الجديدة (اليوم هي كافالا) ومرفأ فيلبّي. في فيلبّي عَرف بولس السجن: »جلَدوا بولس وسيلا وألقوهما في السجن« (أع 16: 23). هاجت الجموع. اثنان غريبان يمرّان في المدينة، ليس لهما من يدافع عنهما. وبهذه الطريقة أرضى الحكّامُ الناس. أمَا هكذا فعل بيلاطس بيسوع إرضاء لليهود؟ »ليس تلميذ أفضل من معلّمه، ولا خادم أعظم من سيّده« (مت 10: 24). لهذا قيل عن المرسلين: »كان بولس وسيلا يصلّيان ويسبّحان الله، والسجناء يُصغون إليهما« (أع 16: 25). »إذا عيّروكم واضطّهدوكم... إفرحوا وابتهجوا« (مت 5: 11، 22).

وكما في آسية (الصغرى)، كذلك في أوروبّا. من فيلبّي إلى تسالونيكي مرورًا بأمفيبوليس وأبولونية (300 كلم تقريبًا من السفر على الأقدام). تسالونيكي مدينة أسّسها أحد قوّاد الاسكندر ودعاها باسم امرأته. وأمفيبوليس (اليوم: نيوخوروي في اليونان). وقعت قرب بحيرة بولهي، على الطريق الأغناتيّة، وهي طريق رئيسيّة تصل رومة بالشرق، عليها تمرّ الجيوش والبريد الأمبراطوريّ والوفود المرسلة من رومة إلى البلدان المختلفة، وهذان الرسولان اللذان يقطعان المسافات والمسافات التي لا يمكن أن نتخيّلها.

قامت الفتنة عليهما، فأتيَا إلى بيرية (اليوم: فيريا في اليونان) بانتظار الوصول إلى أثينة. 400 كلم على الأقلّ، وانتقال من مقاطعة مكدونية إلى مقاطعة أخائية. تقريبًا اليونان كلّها من الشمال إلى الجنوب. ولكن أثينة ليست المحطّة الأخيرة في الرحلة الرسولية الثانية، بل كورنتوس التي تبعد عن أثينة قرابة 150 كلم.

وكما في الذهاب كذلك يكون في الإياب: سَفَر في البحر إلى سورية، محطّة في أفسس، ثم إبحار إلى قيصريّة »ومنها صعد (الفريق) إلى أورشليم« (أع 18: 22).

لم يلبث بولس مدّة طويلة في أورشليم. منذ البداية رُفض، مع أنّ برنابا قدّمه إلى الجماعة، »وروى لهم كيف رأى شاولُ الربّ في الطريق إلى دمشق وكلّمه الربّ، وكيف بشّر بشجاعة باسم يسوع في دمشق« (أع 9: 27). وفي »مجمع أورشليم« عرف صعوبات نرى صداها في أنطاكية حيث قاوم بولُس بطرسَ »وجهاً لوجه« (غل 2: 11). وفي أيّ حال، مجيء بولس إلى أورشليم، في نهاية الرحلة الرسوليّة الثالثة، سيحمل إليه السجن وصولاً إلى الموت.

لن نطيل الكلام هنا، فنكتفي بالقول إنّ بولس، بعد أن سلّم على الكنيسة في أورشليم، نزل إلى غلاطية (أع 18: 22)، ثم إلى غلاطية وفريجية (آ 23) حيث سبق له وأسّس كنائس. في أفسس قامت الفتنة عليه (أع 19: 21ي). حينئذ ودَّع التلاميذ ومضى إلى مكدونية، ثم إلى اليونان (أع 20: 1 ي). أراد العودة إلى سورية بطريق البحر، ولكنّه خاف من مؤامرة يهوديّة، فراح في طريق البرّ »بطريق مكدونية« (آ 3). حطّ في ترواس، ومضى إلى أسّوس (بهرام كالي في تركيا) على الخليج، ثمّ إلى ميتيلينة في جزيرة لسبوس. صعود إلى السفينة، نزول من السفينة، لا وقت للاستراحة ولا للتنفّس: »فلمّا لحق بنا إلى أسّوس، أصعدناه إلى السفينة وجئنا إلى ميتيلينة، ثم أبحرنا منها في اليوم الثاني، فأشرفنا على خيوس (جزيرة تجاه إزمير)، وسرنا في اليوم التالي بمحاذاة ساموس (في بحر إيجه)، ثمّ وصلنا في اليوم الرابع إلى ميليتس« (أع 20: 14). وفي ميليتس ودّع الرسولُ شيوخَ  أفسس.

حين نقرأ هذا الخبر، نتخيّل أنّنا في رحلة استجماميّة على إحدى البواخر الفخمة. ننزل في مدينة فنزور آثارها ومواقعها، ثم نصعد إلى الباخرة فنغتسل ونستحمّ ونرتاح دون همّ في قلوبنا. كم نحن بعيدون عن هذه الصورة اليوتوبية(10) التي تعزلنا عن المكان والزمان. قال الرسول عن نفسه: »وهذا كلّه إلى جانب ما أعانيه كلّ يوم من اهتمام بالكنائس« (كو 11: 28).

ويتواصل السفر باتّجاه جزيرة كــوس الــصــغـيرة (298 كلـم مربّع) ثمّ رودس، جزيرة السيّاح في عالمنا. »ومنها إلى باترة«، المرفأ السلوقيّ في لوقية. ويتابع القدّيس لوقا: »فوجدنا هناك سفينة مسافرة إلى فينيقية، فركبناها وسرنا« (أع 21: 2). قبرص، سورية، صور، قيصريّة، أورشليم.

والرحلة الأخيرة إلى رومة مع صعوباتها. ومن يدري؟ ربما كانت رحلة إلى إسبانية. وزيارة الكنائس بعد أن أُطلق سراحُ بولس، لأنّ أحدًا من اليهود لم يحضر. وهكذا كتب قبل موته إلى تلميذه تيموتاوس: »أمّا أنا فذبيحة يُراق دمها، وساعة رحيلي اقتربت. جاهدتُ الجهادَ الحسن، وأتممتُ شوطي، وحافظت على الإيمان« (2 تم 4: 6 - 7).

2- في قلب الخطر والصعوبات

ما تكلّم بولس مرّة واحدة عمّا قاساه في أسفاره، ولا هو حسب حسابات الكيلومترات التي قطعها لكي يصل إلى هذه الكنيسة أو تلك. ولكنّه أُجبر مرّةً فقال ما في قلبه. والمناسبة؟ اعتبره بعض الكورنثيّين رسولاً من الدرجة الثانية، لأنّه لم يرافق يسوع خلال حياته على الأرض، لهذا فهو يحتاج إلى »رسائل توصية« من بطرس أو يعقوب أو يوحنّا الذين يُعتَبَرون »العمد في الكنيسة« (غل 2: 9). وفي أيّ حال، ماذا عمل هذا الذي دعا نفسه »السقط« (1 كو 15: 8) »وأصغر الرسل... لأّنه اضطّهد كنيسة الله؟« (آ 9).

عند ذاك أُجبر بولس على الكلام: هو ليس أقلّ من سائر الرسل على جميع الصعد: هم عبرانيّون، وأنا أيضًا. هم من ذرّيّة إبراهيم، وأنا أيضًا. هم خدّام المسيح. »أقول هذا كأحمق: فأنا أَفُوقهم« (2 كو 11: 23).

أ - سفر في البحر

ويذكر الرسول جهاده. ونذكر نحن منه ما قال: »انكسرت بي السفينة ثلاث مرات، وقضيتُ نهارًا وليلة في عرض البحر« (آ 25). فحين نقول إنّه انتقل من سفينة إلى سفينة، فليس بالأمر الهيّن: فلوقا يروي لنا حين يأتي الخطر: »ولكنّ ريحًا شرقيّة شماليّة عاصفة يُقال له أورأكيلون(11)، ثارت بعد قليل من جهة الجزيرة وضربت السفينة؛ فلمّا تعذّر على السفينة أن تقاومها، اندفعت السفينة في مهبّ الريح« (أع 27: 14 - 15). احتمى البحّارة بعض الوقت، ولكن »قويَت العاصفة في اليوم الثاني، فأخذوا يرمون الحمولة في البحر، وفي اليوم الثالث، أمسكوا أدوات السفينة ورموها في البحر. ومرّت أيام كثيرة ما رأينا فيها الشمس ولا النوْم، وبقيت الريح تعصف حتى قطعنا كلّ أمل لنا في النجاة« (آ 18 - .2).

ولماذا هذه الحالة؟ لأنهم أبحروا في الشتاء. فبحسب علم الأرصاد الجويّة في البحر المتوسّط، ميّز الرومان بعد اليونان، بين الفصل الحلو المؤاتي للإبحار، والفصل الرديء حيث يُغلَق البحر(12) وتُعلَّق النشاطات البحريّة. متى يُغلَق؟ في الشتاء، بلا شك. وفي الربيع والخريف بحسب السنوات. ولكنّ الخطر يبقى حاضرًا. نشير هنا إلى أنّ الملاحة بدأت تنتظم باكرًا مع الفينيقيّين ثم تبعهم اليونان، بحيث إنّ أسرار البحر صارت معروفة منذ القرن الثامن ق.م.، في البحر المتوسّط. وهذا البحر يتيح بسبب مظهره الخارجيّ من رؤوس وخلجان ومرافئ عديدة، إبحارًا يحاذي الشاطئ بحيث يدوم الإبحار بضعة أيام، وهذا ما لاحظناه في مسيرة بولس خلال الرحلة الرسوليّة الثالثة. وهكذا تتمّ كل سفرة بحريّة بشكل عامّ في أزمنة ثلاثة: إبحار بمحاذاة الشاطئ منذ مرفأ الانطلاق إلى موضع نستطيع أن نراه على الشاطئ، ويُدعَى الصوّة(13). ثم الملاحة في عرض البحر بين صوّة وصوّة. وأخيرًا، ملاحة أخرى شاطئيّة من أجل الوصول إلى المرفأ الذي نريد. في مثل هذا النظام، وبغياب الخرائط وسائر أدوات الملاحة، استند الملاّحون إلى معرفة عميقة بالشواطئ والنجوم والرياح.

أمّا معرفة الشواطئ والأماكن التي يمكن اللجوء إليها من العواصف أو النزول فيها من أجل التزوّد بالماء والطعام، فترتكز على الخبرة التي انتقلت بشكل شفهيّ قبل أن تُدوَّن في مجموعة نصائح وتوجيهات دُعيت »رحلة بحريّة«(14)، بانتظار الكتب الحديثة التي تُدعى »تعليمات ملاحيّة«(15). أمّا أقدم مجموعة في أيدينا فتعود إلى القرن الرابع، ولكنّها تفترض وجود نماذج سابقة. وساعة تكون الضرورة بأن يبتعد قائد السفينة عن الشاطئ لينطلق في عرض البحر، كان يَجري بحسب التخمينات، فيقدّر الاتجاه الذي يسير فيه والمسافة، مستندًا إلى النجوم والرياح. أمّا في النهار، فموقع الشمس يعطيه الاتجاه الذي يَأخذ. كلّ هذا يرتبط بنوعيّة السفينة وتنافسيّتها. وتبقى الساعةُ الصعبة ساعةَ الوصول إلى الشاطئ، ولا سيّما إذا لم يكن خليج تنزل فيه السفينة. ذاك ما حصل للسفينة التي أقلَّت بولس إلى رومة(16).

»وبينما كنّا في الليلة الرابعة عشرة تائهين في بحر أدريا (يفصل اليونان عن صقلية في الجغرافيا القديمة)، ظنّ البحّارة عند منتصف الليل أنهم يقتربون من البرّ. فلمّا قاسوا عمق البحر، وجدوه مئة وعشرين قدماً. ثم قاسوه بعد مسافة قصيرة، فوجدوه نحوَ تسعين قدماً. فخافوا أن تصطدم السفينة بأماكن صخريّة، فألقوا من مؤخّر السفينة أربع مراسٍ، وترقّبوا طلوع الفجر بفارغ الصبر« (أع 27: 27 - 29). ولكن الحمد لله أن السفينة لم تضرب بالصخور.

وهكذا يتابع لوقا وصول السفينة إلى جزيرة مالطة: »ولمّا طلع الفجر تعذَّر على البحّارة أن يعرفوا إلى أي أرض وصلوا. ولكنّهم أبصروا شاطئ خليج صغير، فعزموا على أن يدفعوا السفينة إليه إذا أمكن. فقطعوا المراسي وتركوها تسقط في البحر، وحلّوا في الوقت نفسه الحبال التي تربط دفّة السفينة، ثم رفعوا الشراع الصغير للريح واتّجهوا نحو الشاطئ. ولكن السفينة اصطدمت بتلّة من الرمل بين المياه، فغرز فيها مقدّمها، وعاد لا يتحرّك. أما مؤخّرها فتحطّم من شدّة الأمواج« (آ 39 - 41). فمن استطاع السباحة سبح. ومن تعلّق بخشبة من حطام السفينة نجا. والآخرون؟ من يدري ما يكون مصيرهم.

عُرفت السفن أقلّه منذ القرن السادس عشر ق.م. ، وتطوّرت تطوّرًا واضحًا في بداية الألف الأوّل ق.م. هناك المجاذيف في طبقة، وفي طبقتَين، وفي ثلاث طبقات. وهناك الشراع الذي لبث عاملاً حتّى اكتشاف المحرّك على البخار. هي سفن صغيرة وسفن كبيرة. تصل حمولة بعضها إلى ألف طن، وإلى ألفين. وكانت سفينة صقلّية استثنائيّة، فحملت خمسة آلاف طنّ. أما سفينة »بولس« فكان فيها 276 نفسًا. وإذا حسبنا الطعام والمياه وسائر المعدات، يمكن أن نتخيّل ضخامة هذه السفينة. ونتذكّر هنا أنّ السفينة الحربيّة في ثلاث طبقات كانت تضمّ 170 جاذفًا وثلاثين بحَّارًا، هذا يعني السرعة التي يمكن أن تسير فيها(17).

ب - سفر في البرّ

ويتابع الرسول كلامه إلى أهل كورنتوس: »وفي أسفاري المتعدّدة تعرّضتُ لخطر الأنهار واللصوص... وواجهتُ أخطارًا في المدن وأخطارًا في البراري« (2 كو 11: 26). ما كفى الرسول أخطار البحر، بل عرف أخطار البرّ. ذكر الأنهار وَالسيولَ العديدة التي قد يكون حاول العبور فيها، فجرفته مياهها. فالجسور لم تكن موجودة في كل مكان، بل بشكل خاص على الطرقات الرومانيّة الأساسيّة من أجل تنقّل الجيوش بالدرجة الأولى.

وأخطار اللصوص الذين يأخذون من المسافر الأعزل حتّى ثوبه. أمَّا هذا الذي حصل لذاك النازل من أورشليم إلى أريحا كيف »وقع بأيدي اللصوص، فعرّوه وضربوه، ثم تركوه بين حيّ وميت« (لو 10: 30). فالكتّاب القدماء يتحدَّثون عن اللصوص الذين هم فقراء، يعتاشون من بعض الزراعة ورعاية غنمة أو بقرة واحدة. هكذا يستطيعون أن يقوموا بأودهم. عادةً يختبئون في الجبال والأحراج، في البراري وعند المستنقعات، ويقعون على المسافرين، ممّا جعل الناس يتحدّثون عن غياب الأمان في البلاد(18).

فالسفر اعتُبر منذ البداية مغامرة خطرة، بل »مغامرة مأساويّة«. والمثال على ذلك عولس العائد إلى بيته، وابنه الماضي من طروادة إلى رومة عبر أفريقيا الشماليّة(19). فاليونان في زمن هومير، لا يسافرون إلاّ مكرَهين، وكأنّ الإله يأمرهم بذلك. أمّا الرومانيّ في زمن الجمهوريّة، وهو الفلاّح المتعلّق بالأرض الرومانيّة، فيتصوّر السفر انقلاعًا، ولهذا فهو لا يسافر إلاّ إذا دعاه الواجب. وسوف ننتظر الحقبة الهلِّنستيّة، أي بعد احتلال الإسكندر للشرق، لنرى اليونان يسافرون بفرح ، بسبب الموفدين اليونان أو المستوطنات الموزّعة في الشرق. هنا تأتي أعمال اكسينوفون الأتيني (427-553 ق م.) ولا سيّما »الصعود«(20) من جبال فارس باتجاه البحر.

كيف كان الناس يسافرون؟ سيرًا على الأقدام. وتشير المراجع إلى غياب الراحة، وإلى صعوبة المنامة، أين يبيت المسافر عند المساء؟ في العالم اليونانيّ، يبيت المسافر في بيت من البيوت، بشكل مجّانيّ أو لا. وهكذا تُنسَج رباطاتٌ من الضيافة الفرديّة أو الرسميّة في الحواضر. ويتبادل الضيف والمضيف الهدايا. وكانت »فنادق«(21) في المعابد التي هي موضع التجمّعات الكبرى(22). أمّا أوّل عمارة تستقبل المسافرين فقد بناها سكّان مدينة ثيبة سنة 427 قرب هيرايون(23) كما يروي المؤرّخ توسيديد. ولعب رواق كورنتوس الجنوبيّ دَور المضافة. ثمّ قُدّمت بيوتٌ كبيرة على أنّها فنادق: فيلاّ الحظّ السعيد في أولنتي(24)، عمارة كاسوبي(25). ودُعيَ بعض المرّات بريتاينون(26)، كذلك الذي وُجد قرب مسرح ديلوس. هي أبنية مخصّصة للنخبة. أمّا الأشخاص العاديّون فيخيّمون في الساحة. والفنادق البسيطة في المدن والمرافئ لم تكن معروفة مثل هذه العمارات الضخمة، بل كانت بيوتًا مثل سائر البيوت في المدينة. خدمتُها خدمةُ حانة(27) أو نُزُل(28). مثل هذه »النزل« لا تشرّف الآتين إليها، ومع ذلك هم مجبَرون.

نحن لا نتخيّل بولس نازلاً في هذه »الفنادق الضخمة«، ولا في هذه الحانات. بل كان يسأل عن أهل صناعته ويقيم عندهم. ذاك ما فعل حين وصل إلى كورنتوس: جاء بولس إلى أكيلا (من أهل البنط) وامرأته برسكلة، »فأقام يعمل عندهما، لأنّه كان من أهل صناعتهما، صناعة الخيام« (أع 18: 2 -3). في فيلبّي، لا نعرف أين أقام في الأيّام الأولى مع سيلا، ولكنّ ليدية سوف تستقبلهما سريعًا: »قالت لنا راجية: أدخلوا بيتي وأقيموا فيه« (أع 16: 15). في لسترة نزل ربّما عند تيموتاوس (أع 16: 1) الذي كان يسكن مع جدّته لوئيس وأمّه أفنيكة (2 تم 1: 5).

أعلن سقراط أنه لم يترك أثينة يومًا إلاّ حين شارك كجنديّ (29) في الغزوات. وأوذيسة هومير هي نشيد العودة البطوليّة، لا نشيد السفر. هذا يعني الشجاعة التي تحلّى بها بولس ورفاقه، لا سيّما وأنّ السفر يكون سيرًا على الأقدام مع هذه المسافات الطويلة. ثمّ إنّ الدابّة يمكن أن تصير سلبًا بيد اللصوص(30).

3 - السفر والأسفار

ما عرف العالمُ القديم السياحة كما نعرفها اليوم، ولكنّ عددًا من الناس كانوا يسافرون. وما يدلّ على ذلك الرسائل، الأخبار، الكتابات على جدران المعابد، والكتب التي تدلّ المسافر على طريقه وعلى المواضع التي يحب زيارتها.

فالرومان، كما سبق وقلنا، تعلّقوا بأرضهم وما أرادوا أن يتركوها. ولكن منذ القرن الثاني ق. م.، اعتادوا على الانتقال إلى خارج بلادهم لضرورة سياسيّة أو اقتصاديّة، أو حبٌّا بالسفر. وإذا أخذنا بقول بْلِين الأصغر، كان هناك بعض »التفاخر، السنوبيسم« في القيام بأسفار خارج إيطالية. كتب في بداية القرن الثاني ب.م.: »هناك أمور عديدة في رومة وفي الجوار المباشرِ، لم نرَه أبداً ولم نسمع به، ولكنها تُعرَف وتصوَّر وتُزاد وتنال الأعجاب إن وُجدت في اليونان، في مصر، في آسية الصغرى أو في كل موضع يجتذب الزوّار والسيّاح«(31).

يسافر وفدٌ من قبل رومة، أو والٍ من الولاة يرافقه الحرس »الإيطالي«، ولكنّ هذه الأسفار صارت مناسبة لاكتشاف عالم لم يعرفوا عنه سوى ما قرأوه في الكتب. مثلاً بول-اميل قهَر برسيه ملك مكدونية في معركة فدنة(32) سنة 167 ق.م.؛ وبعد ذلك قام برحلة سياحيّة إلى اليونان، »فجال في اليونان وزار جميع المواقع التي تتحدّث عنها الشهرة، ويُبرزها التقليد الشفهيّ، وتُجمّلها شهادةُ الذين رأوها«، بحسب كلام تيت ليف(33) . وهكذا مضى إلى دلفي، إلى معبد أبّولون(34)، وإلى هيكل جوبيتر ترو فونيوس في ليباديه(35). وراح إلى خلقيس حيث »شاهد أوريبي وأوباي(36)؛ فأوباي هذه الجزيرة الكبيرة »ترتبط بالأرض بواسطة جسر«. وزار أيضًا هيكل ديانا (إلاهة الصيد في أوليس) حيث ذُبحت إيفيجيني بيد والدها الملك أغاممنون قبل المضيّ إلى حرب طروادة. وزار أوروبوس مع »هيكلها القديم وهو موقع كلّه عذوبة بسبب الينابيع والسواقي«. ومرّ بشكل خاصّ في أثينة حيث أورد تيت ليف لائحة »بالأمور التي تستحقّ الزيارة«، والتي أعجب بها بول-إميل: »القلعة، أبنية الرؤساء الكبار، تماثيل الآلهة والرجال المشهورة بتنوّع المادة والفنّ، والأسوار التي تربط بيراي بالمدينة، والأحواض التي فيها تُصنع الفن«(37).

سَفَرٌ مثلُ هذا خاصّ بالعظماء، لا بالفريق الرسوليّ؛ ففي البحر لا نجد مثل هذه السفن الفخمة، ولا الخطوط البحريّة المنظَّمة كما هو الأمر اليوم. مرّات كثيرة يصعد المسافر إلى »سفينة شحن«؛ فالسعر أرخص والراحة نادرة، أو إلى »سفينة حربيّة«. وهو لا يجد هناك غرفة خاصة. هو يقيم على خيمة، على جسر السفينة. يجب عليه أن يحمل طعامه وفراشه. والملاّحون لا يعطونه سوى الماء ليشرب، هذا إذا كان لا يدفع ثمنه. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، ينتقّل المسافر مرّات من سفينة إلى سفينة بحسب الظروف. مثلاً، في رحلة بولس إلى رومة. قال الراوي: »ركبنا سفينة (آتية) من أدراميت (قريبة من ترواس) متّجهة (= راجعة) إلى شواطئ آسية...« (أع 27: 2). انطلقنا من قيصريّة، »فوصلنا في اليوم الثاني إلى صيدا« (آ 3). توقّفٌ قصير، »ثمّ أبحرنا من هناك بمحاذاة قبرص لأنّ الريح كانت مخالفة لنا« (آ 4). وسارت السفينة قرب شواطئ تركيا الحالية: كيليكية، بمفيلية، ميسية. »ونزلنا إلى ميناء ميرة« (آ 5) (هي دمري في تركيا، على نهر ميرو المشهور بجمال موقعه). هنا يجب الانتقال من سفينة إلى سفينة. سجناء مربوطون بالجنود.

»فوجد القائد يوليوس سفينة من الإسكندريّة مسافرة إلى إيطالية، فأصعدَنا إليها، وسارت بنا السفينة ببطء عدّة أيام« (آ 6-7). كانت النقليّات مؤمَّنة بعض الشيء، لأنّ مصر كانت ترسل قمحها إلى إيطالية.

أمّا السفر في البرّ فهو في متناول الإنسان العاديّ، مع الطرقات الرومانيّة بجسورها وبالمحطّات التي يتوقّفون فيها. وكان »البريد« ينقل الموظّفين والجنود الكبار، ولا يحقّ له أن ينقل الأفراد ولو دفعوا المال. فالقانون يعاقبهم. »البريد« وحده يعطي الأمان في السفر. لهذا يحاول المسافر أن يؤمّن على حياته، فيرافق إحدى »القوافل« الرسميّة »من بعيد لبعيد«. ومن يدري؟ ربّما استفاد بولس من هذا الوضع، فحدّث الناس عن المسيح، كما فعل فيلبّس الذي سار قرب مركبة وزير ملكة الحبشة (أع 8: 26 ي).

وأين يبيت المسافر؟ فإن هو بات في موضع ما، لا يستطيع أن يبقى أكثر من ثلاثة أيام. ومن هنا القول المأثور: »الضيف مثل السمك، بعد ثلاثة أيام بتطلع ريحتو«، أي يجب أن يترك المكان. ولكن ما العمل إذا كان »المسافر لا يستطيع أن يسافر«؟ أين يُقيم؟ في العراء؟ أو يبحث عن موضع آخر يستضيفه. ولا ننسَ أنّ المضافات كانت غالية الثمن، فكيف للفريق الرسوليّ الذين قالوا عن أنفسهم إنهم »فقراء«، إنّ »لا شيء لهم« (2 كو 6: 10)، أن ينزلوا حيث ينزل الأغنياء؟

هذا إذا كان السَفر في الصيف. أمّا في الشتاء، فالصعوبات والأخطار تتكاثر . تحدّثنا عمّا حصل لبولس ورفاقه حين أبحروا في الشتاء، وكيف تحطّمت سفينتُهم قرب مالطة. في هذا قال سينكيا، الفيلسوف الرومانيّ: »الإنسان سريع العطب، وهو لا يحتمل كلّ سماء« (بغيومها وشتائها). وهناك صعوبات أخرى يعرفها الغريب: يرفضه أهل البلد إذا كان من عِرق آخر، يسلبه، يقتله ولا من يدافع عنه. أمّا بولس فعرف بشكل خاصّ عداوة اليهود التي لاحقته من مدينة إلى مدينة، بل فرضت عليه مرّة أن يبدّل طريقه فيمضي في البرّ لا في البحر درءًا للخطر. منذ الانطلاقة الأولى، اليهود هم هنا. في أنطاكية بسيدية »اضطَّهدوا بولس ورفاقه وطردوهم من ديارهم« (أع 13: 50). في أيقونية استعدّوا لأن يرجموا المرسلين (أع 14: 5). في لسترة، كان الرجم (آ 19). ولم يكن الأمر أفضل في تسالونيكي (أع 17: 5 ي) وفي بيرية (آ 13). ونتخيّل أسفار بولس في مثل هذه الظروف، هذا مع العلم أنّ »الجمارك« توزّعت على الطرقات، فيؤخذ من المسافر ما يمكن أن يرغب فيه »الموظَّف الرومانيّ«، أو هو يدفع ويدفع، والويل له إن كان لا يحمل المال.

بعد مثل هذه المحن، يعود المسافر الذي قطع المسافات الشاسعة في البرّ والبحر إلى بلده مثل »بولس« رجلاً علّمته الخبرةُ الكثيرَ، علّمته الفطنة والحذر بحيث يستطيع أن يعلّم قائد السفينة. ذاك ما فعله بولس حين نصح »القبطان«. قال: »كان يجب أن تسمعوا لي فلا تُبحروا من كريت، فتسلَموا من هذه الأخطار والخسائر« (أع 37: 21). الجميع خافوا، ارتعبوا. حاول البحّارة أن يهربوا على القوارب. والسجناء؟ بل نقتلهم لئلاّ يُفلتوا. تحلّى الرسول بالشجاعة وبُعْد النظر، فرتّب الأمور: »لن يفقد أحد منكم حياته، إلاّ أنّ السفينة وحدها تتحطّم« (آ 22)،  »فأناشدكم أن تتشجّعوا«(38).

قال العديدون إنّ بولس هو الذي فتح الطريق أمام المرسَلين في جميع العصور. علّمهم كيف يكتشفون البلاد التي ينطلقون إليها. في الظاهر، أسفاره لم تختلف عن أسفار الوجهاء في عصره؛ فهو لا يسير حيث الآخرون، بل يترك الفضول يفعل فعله. مثلاً، مضى إلى ليكونية، إلى »برابرة« يتكلّمون لغة لا يعرفها اليونان. وفي مالطة، كانت مغامرة خاصّة. ما بدا بولس »مبتدئًا« في فنّ السفر، بل عارفًا كلّ المعرفة؛ ففي الرحلة الرسوليّة الثانية، بدّل طريقه مرّتين ليمضي في النهاية باتجاه أوروبّا، ولكن هو عمل الروح.

تحدّث سفرُ الأعمال عن »قيادة الروح القدس«. ولكنّ الروح يعمل معنا ويستفيد من مواهبنا. وكذا نقول في الرحلة إلى رومة. بدا  هو قائدَ السفينة، أمّا القائد الرسميّ فبدا متقلّبًا لا يدري ماذا يعمل ولا كيف يتوجّه. في النهاية »رفعوا الشراع الصغير للريح« (أع 27: 40). إلى أين هم ماضون؟ لا يعرفون. أمّا بولس فيعرف: »في هذه الليلة جاءني ملاك من إلهي الذي أعبده وقال لي: لا تخف، يا بولس! فلا بدّ لك أن تحضر لدى القيصر« (آ 23).

مسيرة بولس »محدّدة«، لا في المعنى المادّيّ، بل الروحيّ: انتقال من العالم اليهودي إلى المشرق الهلّينيّ. انطلاق من آسية إلى أوروبّا عبورًا في البحر ومخاطره. وفي النهاية، تركَ العالمَ اليونانيّ وتوجّه إلى رومة عاصمة الأمبراطوريّة التي منها سينطلق ليصل إلى اسبانية، كما قال في الرسالة إلى رومة. هَمُّ هذا الرسول أن يصل الإنجيل إلى كلّ مكان: البحر الأسود، هناك كان عمود أوّل يُسند الأرض. وفي جبل طارق (مضيق هرقل) العمود الثاني. وفي الليريكون حيث حدود العالم اليونانيّ؛ فهذا الذي لا يريد أن يبني على أساس غيره، ما أراد أيضًا أن يترك بقعة لم تصل إليها البشارة.

حين »سافر« بولس، نظّم أسفاره بحسب اتجاهات مهَّد لها. ما كان ذلك المغامر الذي يترك الطريق تقوده. لا شكّ في أنّه توقّف في غلاطية دون أن يريد، لأنّ المرض أقعده. ولكنّه مع ذلك استفاد من هذا الظرف لكي يحمل الإنجيل إلى هذه المنطقة الجبليّة الوعرة. ولا كان ذاك الدارس والباحث عن الأمور الجديدة، ولا عن الآثار التي تركها الأقدمون. فتنقّلاته في آسية الصغرى واليونان اتّخذت شكل »الدورة« التقليديّة التي نعرفها اليوم. في الرحلة الأولى، انطلق من أنطاكية وعاد إلى أنطاكية. أرسلته الجماعة وزوّدته، فعاد وقدّم تقريرًا عن الرسالة: »كيف فتح الله باب الإيمان للأمم«! (أع 14: 27). وكذا نقول بالنسبة إلى أورشليم.

سَفَرُ بولس من أجل الرسالة. وهو يسير خطوة خطوة ويعرف أن يتكيّف مع الظروف. بدأ فمضى إلى قبرص مراعاة لبرنابا ابن تلك الجزيرة. بعد ذلك، راح في آسية الصغرى. وتروي أعمال بولس وتقلا (المنحولة) أنّ برنابا عاد إلى قبرص على أثر الخلاف بينه وبين بولس. أخذ الطرق الرومانيّة، ونزل حيث الأصحاب يستقبلونه. مضى إلى المدن ومنها شعّ: من أفسس شعّ في آسية الصغرى. من كورنتوس بشّر أخائية... وفي النهاية حين صار شيخًا، خفّف الأسفار كما فعل في أفسس حيث لبث ثلاث سنوات. فالسَفَر هو في خدمة الرسالة وليس العكس، وإلاّ تحوّل الرسول إلى كشّاف في رحلة علميّة على مثال ما يفعل الباحثون الذين يمضون إلى القبائل البدائيّة(39).

الخاتمــة

ما كان بولس في أورشليم ليبقى معتزلاً فيها يأتي كلّ يوم إلى الهيكل مثل الرسل (أع 3: 1). ولا كان من أثينة ليسجن نفسه كما فعل سقراط، ولا كان من رومة ليشابه سينيكا أو شيشرون. هو من الشتات اليهوديّ، والسَفَرُ في دمه. لا يستطيع أن يتوقّف عن الانطلاق. وفي كلّ سفرة يفتح آفاقاً جديدة، مثل موج البحر الذي يتقدّم ويتقدّم حتى يصل إلى الشاطئ. ولماذا يخاف من السفر وهو متعدّد اللغات: اليونانية، اللاتينية، العبرية، الآرامية؟ ولماذا يخاف وهو ابن الجامعة الطرسوسيّة التي فتحته على الفلسفة والشعر، فاجتاح الأثينيّين في عقر دارهم، وهناك كلّمهم عن الإله المجهول؟ مع اليهود هو يهوديّ يعرف الشريعة وتفاسيرها، ومع الأمم هو أمميّ. عرف القوانين الرومانيّة فدافع عن نفسه، وعرف بعضَ الطبّ الذي مارسه في مالطة. وتكيّف مع المجموعات المختلفة. في فيلبّي، لا مجمع لليهود، فمضى إلى شاطئ النهر. في أنطاكية بسيدية عددٌ كبير من اليهود، فمضى إليهم. في أثينة، وقف في الأريوباغوس. في السفينة حمل الإنجيل، وكذلك على الطرقات الطويلة، فشابه المسيح الذي صوّره الإنجيليّون حاضرًا في المجمع، في البيت، في الساحة العامّة، في الهيكل. لا مكان مغلقًا على الإنجيل. وفي النهاية، مَن سافر؟ لا شكّ بولس. ولكن في عمق أعمال الرسل هي »الكلمة« مضت من أورشليم فوصلت إلى أقاصي الأرض، وهي تتواصل، مع أنّ بولس وُضع في السجن، ومات بقطع الرأس على طريق أوسيتا... ولا شيء يوقفها حتّى مجيء المسيح الثاني.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM