الفصل الخامس البيئة التاريخية

الفصل الخامس

البيئة التاريخية

تحدّثنا في فصل سابق عن البيئة الجغرافية، وأشرنا إلى تأثير الأرض على الإنسان. ونتعرّف الآن إلى البيئة التاريخية منطلقين من عالم الحفريات والسكّان، حتى نصل إلى تاريخ الشعب الذي وُلدت التوراة معه.
أ- عالم الحفريات
منذ القرن التاسع عشر بدأت أعمال التنقيب في الشرق.
في فلسطين: جازر، تعناك، مجدو، بيسان، السامرة، بيت شمس، تل دوير، أريحا، قمران، حاصور، أورشليم... إكتشفوا السلاح والأعمال الفنية والكتابات ولا سيّما نصب الفرعون سيتي الأول في بيسان أو نصب الملك ميشع في ذيبان.
خارج فلسطين: عُثر في نينوى على مكتبة أشور بانيبال، وفي ماري على مكتبة مؤلّفة من 20000 لوحة آجر مكتوبة بخط أكادي وتشتمل على مكاتبات رسمية ووثائق تجارية، وفي أوغاريت على الواح مكتوبة بلغة أوغاريتية، وفي إبله (تل مرديخ، جنوب حلب)، إكتشفوا 17000 لوحة دوّنت في المسمارية وتعود إلى أواسط الألف الثالث.
واكتشف المنقّبون آثار الحثيين في بغازكوي وكركميش، وآثار الفينيقيين في جبيل (قبر حيرام). وعثروا في مصر على الكثير من البرديات والكتابات، وعلى نصب منفتاح ورسائل تل العمارنة، ومخطوطات نجع حمادي وكتاب الموتى وأناشيد على جدران الهياكل.

ب- السكان
كانت فلسطين مركزاً سكنياً يعود إلى ما قبل التاريخ. وقد قامت مدينة أريحا منذ الألف الثامن ق. م. بأبراجها وأسوارها.
حلّ الكنعانيون في فلسطين منذ الألف الثالث، وأقاموا مدناً مثل حاصور ومجدو وبيسان. ومن لغتهم إشتقت العبرانية.
ولحق بالكنعانيين الأموريون الذين نزحوا من البقاع اللبناني في الألف الثاني ق. م. وأقاموا في المرتفعات.
أما في بلاد الرافدين، فأقام السومريون (وهم شعب غير سام). إشتهروا بسلالة أور وسلالة لارسا (من القرن الحادي والعشرين إلى القرن الثامن عشر). توغّلوا في عالم الحضارة والفكر، واخترعوا الكتابة المسمارية.
وسكن الاكاديون الساميون شمالي السومريين، واتّخذوا حضارتهم وكتبهم. من أشهر ملوكهم سرجون، ومن أشهر مدنهم أكاد.
عرفت البلاد الأموريين بمدينتهم ماري. ومن الأموريين نشأت سلالة بابل الأولى وأعظم رجالها حمورابي (1792- 1750) الذي اشتهر بمجموعة شرائعه. وعرفت الحوريين الذين أقاموا في نوزو (قرب كركوك اليوم. وجد فيها الواح تعود إلى القرن الخامس عشر)، وألّفوا نصف سكّان أوغاريت.
أما في مصر، فقد بدأت السلالات الأولى سنة 2900. تألّفت المملكة القديمة من السلالات الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة. كانت مدينتها ممفيس، وعهدها عهد الأهرام، وكتابتها الكتابة الهيروغليفية (كتابة في شكل صورة).
وامتدت المملكة الوسطى من سنة 2030 إلى سنة 1720. ولكن الهكسوس (الملوك الرعاة) إجتاحوا البلاد وظلّوا فيها حتى سنة 1552 حين طردهم أحموسيس الأول مؤسس السلالة الثامنة عشرة ومؤسس المملكة الحديثة التي دامت إلى سنة 1070. وقد عُرف من هذه السلالة تحوتموس الثالث الذي مدّ سلطانه إلى الفرات، وأميحوتف المعروف باخناتون والذي حاول أن ينظّم ديانة توحيدية حول أتون القرص الشمسي. وسيتي الأول الذي ترك نصباً في بيسان، ورعمسيس الثاني (1290- 1224) الذي أرهق الأسيويين، ومنهم العبرانيون، بالأشغال الشاقة، ومنفتاح الذي خلف رعمسيس وترك كتابة في طيبة (1220) تشير إلى انتصاره على بني إسرائيل.

ج- العبرانيون في أول عهدهم
في هذا الجو التاريخي عاش إبراهيم. توجّه من أور إلى حاران، قبل أن ينتقل إلى أرض كنعان. وتنقّل الآباء بين بلاد الرافدين وكنعان، ونزح قسم منهم (جماعة يوسف) إلى مصر.
هنا تتحدّث النصوص عن قبائل عبيرو، هؤلاء الغزاة في زمن السلم، والمرتزقة في زمن الحرب. أيكون هؤلاء أجداد العبرانيين؟ الأمر ممكن. حينئذ لا يكون بنو إسرائيل إلا قسماً من العبرانيين. هذا في التاريخ. أما في الكتاب المقدس، فالعبرانيون هم بنو إسرائيل أنفسهم والعكس بالعكس.
وبعد أن ذاقت جماعة يوسف (وغيرهم) الأمرّين في أيام رعمسيس الثاني، خرجوا من مصر حوالي السنة 1250 على يد موسى. فكان هذا الخروج إيذاناً بولادة شعب جديد وبدءاً بالتاريخ المقدس.
ودخل الشعب أرض كنعان بين سنة 1220 و1200، وعاشوا في أيام القضاة الذين كان آخرهم صموئيل والذي ارتبط اسمه باسم معبد شيلو. أقام العبرانيون في المناطق غير المأهولة، وكانوا على حرب مع سكان البلاد الأصليين (أي الكنعانيين) ومع الآتين من البحر (أي الفلسطيّين).
وتكاثرت الأخطار على بني إسرائيل الذين تجمّعوا في نظام أثنيعشري (تخدم كل من القبائل الإثنتي عشرة المعبد شهراً في السنة)، فطلبوا إلى صموئيل ملكاً يوحّد كلمتهم. إختار لهم شاول البناميني (1030- 1010) الذي انتصر على بني عمون والفلسطيين، ولكنّه مات على جبال جلبوع.

د- ألف سنة من التاريخ
وخلف داود (1010- 970) شاول، وافتتح أورشليم حوالي السنة 1000 (سكنها اليبوسيون وهم قبائل كنعانية)، وجعلها عاصمة مملكته. ثم انتصر على الفلسطيين والموآبيين والعمونيين والأدوميين. وخلفه سليمان (970- 933) إبنه، فنظّم البلاد، وبنى الهيكل، واتصل بفرعون ملك مصر وحيرام ملك صور، واعتنى بالتجارة متعاوناً مع الفينيقيين، فازدهرت البلاد في أيامه، لا سيما وأن أيامه كانت أيام سلام.
لقد وصل الشعب إلى قمّة إنتظاره. صار له أرض وملك وهيكل، فماذا ينتظر بعد؟ لهذا عاد إلى تقاليده القديمة يتذكّرها ويجسّدها أخباراً شيّقة. تذكّر الإختبار الأساسي، وهو إختبار التحرّر من مصر. واكتشف اللّه ذاك المخلّص والفادي. وجمع أخبار الآباء (إبراهيم، إسحق)، فبيّن أن وعد الله لإبراهيم تحقّق مع داود. الله هو إله البركة.
وحين مات سليمان سنة 933، إنقسمت مملكته قسمين: مملكة الجنوب أو مملكة يهوذا وعاصمتها أورشليم، ومملكة الشمال أو مملكة إسرائيل وعاصمتها السامرة. ظلّت مملكة يهوذا أمينة لسلالة داود. وكان الملك موحّد الأمة وممثّلها أمام الله الذي يقيم وسط شعبه في الهيكل.
وتنظّمت التقاليد في تاريخ مقدّس محوره يهوذا. وبرز في هذا الوقت أشعيا وميخا.
أما مملكة إسرائيل، فقطعت علاقاتها مع سلالة داود، فلم يعد للملك من أهمية دينية. من أجل هذا لعب النبيّ دور الملك فجمع الشعب وحافظ على الإيمان الذي هدّدته الديانة الكنعانية (بعل وعشتاروت). وتنظّمت التقاليد في تاريخ مقدّس محوره الشمال (شكيم، بيت أيل). وبرز الأنبياء إيليا، أليشاع، عاموس، هوشع. وجُمعت الشرائع في مملكة الشمال. وحين سقطت السامرة سنة 721 حمل الكتبة هذه الشرائع فأصبحت نواة سفر تثنية الإشتراع.
سقطت السامرة على يد الأشوريين. وستسقط أورشليم على يد البابليين سنة 587. وأجلى المحتلّ السكان. وهكذا عاش بنو يهوذا في المنفى مدة خمسين سنة. لقد خسروا كل شيء: خسروا ملكهم، خسروا أرضهم. فهل سيخسرون إيمانهم؟ قبل الكارثة، كان النبي إرميا قد نبّههم، ولكنهم رفضوا أن يسمعوا له. وبعد الكارثة، حاول كل من حزقيال وأشعيا الثاني أن ينعش فيهم الرجاء. وعاد الكهنة إلى التقاليد، فبحثوا عن معنى لآلام شعبهم. وهكذا دوّنوا ما يسمّى التقليد الكهنوتي.
في سنة 538، سمح الملك الفارسي كورش لليهود بالعودة إلى بلادهم. فعادوا وأقاموا في فلسطين. لقد تنقّت الجماعة بالألم الذي احتملته في المنفى، وها هي تعيش في فقر يفتح قلبها على نداء الله.
في هذه الفترة، صارت التقاليد كتباً. جُمعت أقوال الأنبياء، وتنظّمت إعتبارات الحكماء في كتب (الأمثال، طوبيا، أيوب، الجامعة). وحوالي السنة 400 جمع الكاتب عزرا التقاليد المختلفة فألفّ البنتاتوكس أو أسفار الشريعة الخمسة.
في سنة 333، إحتل الإسكندر الكبير الشرق الأوسط، ونشر فيه الحضارة اليونانية ولغتها. وفي سنة 167، حاول ملك أنطاكية أن يفرض على اليهود أن يتخلّوا عن إيمانهم. ومن رفض الخضوع كان عقابه الموت. وبدأ الإضطهاد وامتد ثلاث سنوات إلى أن عاد الشعب إلى حرّيته الدينية سنة 164. في هذه الفترة، برز كتاب أسفار الرؤى: إنتظروا تدخّل الله في نهاية العالم. وفي هذا الوقت أيضاً وُلدت ثلاث مجموعات: الصادوقيون، الفريسيون، الاسيانيون.
وفي سنة 63، سيطرت رومة على الشرق. وكان هيرودس ملك فلسطين قد حكمها منذ السنة 40 إلى السنة 4 ق. م. وفي أيامه وُلد يسوع المسيح.

خاتمة
نظرة جغرافية سريعة، ونظرة تاريخية سريعة. ولنا عودة إلى الجغرافيا والتاريخ فيما يلي. فقراءتنا للكتاب المقدس لا تنطلق من الكتب، بل من التاريخ الذي أحاط بولادة هذه الكتب، فتُبرز أكبر منعطفات التاريخ لدى شعب الكتاب المقدس. فالتحؤلات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية التي طرأت عليه، أحدثت أزمات في المجتمع ونظمه، كما في العلاقات بين الأفراد. فوجب على المؤمنين أن يعيدوا نظرتهم إلى طريقة حياتهم وتفكيرهم، كما إلى طريقة التعبير عن إيمانهم: كيف يفهمون الله وعلاقته بالكون والإنسان؟ وهكذا تشهد أسفار الكتاب على مجهود المؤمنين ليدركوا في كل أزمة ما هي المشكلة المطروحة وما هو الجواب الذي يقدّمه الله.
وهكذا سنتوقف عند المراحل المهمة في التاريخ البيبلي. نقدّم أولاً الأحداث التاريخية الحاسمة. ثم نتحدّث عن الأسفار التي دوّنت في كل مرحلة، فنبيّن كيف أن كل كاتب إجتهد أن يأخذ الحاضر في قلبه، فعبرَّ مرة أخرى عن إيمانه بلغة جديدة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM