الفصل الرابع البيئة الجغرافية

الفصل الرابع

البيئة الجغرافية

الكتاب المقدّس يرتبط بأرض هي في الأساس فنسطين، بل يرتبط بكل الشرق الأوسط من مصر إلى العراق مروراً بسورية ولبنان والأردن وصولاً إلى إيران. ويمتدّ إلى الغرب حتى يصل إلى رومة مركز الأمبراطورية التي وُلد في أيامها المسيح. هذا ما نسمّيه البيئة الجغرافية.
والكتاب المقدس يرتبط ببشر هم أولئك الذين عاشوا في أرض فلسطين، ولكنه يرتبط أيضاً بالمصريين وما حملوه من حضارة، وبالسومريين والأشوريين والفينيقيين والحثيين. مرحلة تمتدّ على ألفي سنة تلاقت فيها الشعوب للسلام أو للحرب قبل أن تُدعى كلها لعبادة الله الواحد. هذا ما نسميّه البيئة التاريخية: فيها تدخّل الله عبر أشخاص إختارهم بانتظار أن يدخله في شخص ابنه يسوع المسيح.

أ- أرض كنعان أو فلسطين
تقسم أرض كنعان أربعة أقسام:
على الساحل: سهل عكا، سهل الشارون، السهل الساحلي، سهل يزرعيل (وهو مرج إبن عامر) الذي يقع بين الكرمل وبيسان ويسقيه نهر فيشون (اليوم: النهر المقطّع).
المنطقة الجبلية: تلال الجليل حول الناصرة، وعند حيفا تبدأ سلسلة الكرمل، وسلسلة البلاد الجبلية الوسطى مع جرزيم وعيبال، ثم أعالي أورشليم وجبل الزيتون والخليل.
غور الأردن: يخترق المنطقة من الشمال إلى الجنوب، ويجري فيه نهر الأردن الذي يمر ببحيرة طبرية ويصب في البحر الميت.
شرقي الأردن الذي يمتد إلى الشرق من نهر الأردن.

ب- بلاد كنعان
سكن الكنعانيون الجليل منذ قديم الأيام. وكانت مدينتهم الرئيسية حاصور في الشمال. وإلى الشرق من يزرعيل قامت بيت شان وكانت مركزاً مصرياً قوياً. وقد حصن سليمان مدينة مجدو (تل المتسلّم) التي قُربَها سيسقط يوشيا الملك إذ كان يصدّ الزحف المصري باتجاه الفرات.
وفي الجزء الأوسط من كنعان، قام جبل إفرائيم بعاصمته السامرة التي حلّت محل ترصة. وظهرت مدينة شكيم على ملتقى الطرق، وكان يحيط بها جبل عيبال وجبل جزريم.
تألّفت اليهودية من الجبل، من شمالي بيت لحم حتى جنوبي حبرون (أو الخليل). كانت أورشليم أعظم مدينة في هذه المنطقة والمركز الديني الرسمي منذ أيام داود.
ويقع النقب جنوبي اليهودية ويتصّل بسيناء. أشهر مدنه بئر سبع وقد سكن هذه المنطقة بنو عماليق.
وسكنت جماعة أدوم (جدّهم عيسو) في شرقي البحر الميت ووادي العربة. كانت بصرة عاصمة أدوم واشتهرت تيمان بالحكمة. وبطرا كمدينة للأنباط، بدأت تزدهر منذ القرن السادس ق. م.
وفي شرقي الأردن. سكنت قبائل المديانيين جنوبي الأدوميين. أما شماليهم، فكان موآب بوديانه: أرنون (أي: الموجب) وزارد (أي: الحسا). وكان مركز موآب قبر حارسة (أي الكرك). وأهم أماكنه: عروعير، ذيبان، قلعة مكاور، مادبا، نبو. وكان عمون إلى جانب موآب من الناحية الشمالية الشرقية، وقد وصلت حدوده إلى جنوبي اليبوق (أي: سيل الزرقاء). وأهم مدنه: ربة عمون (أي: عمّان الحالية). أما مدن جلعاد فكانت جرش، جادارا (أم قيس) بلاّ (خربة فحل).

ج- البلدان التي حول كنعان
مصر هي بلاد النيل. وتقسم إلى قسمين: مصر السفلى تقع في منطقة الدلتا، ومصر العليا (جنوبي القاهرة)، وهو ما يسمى اليوم الصعيد. كانت مدينة ممفيس عاصمة مصر القديمة. وطيبة عاصمة المملكة الجديدة. وكانت اخناتون (أي تل العمارنة) مدينة ملكيّة ومركزاً دينياً هاماً.
بدأت مصر في وادي النيل في الألف الثالث ق. م. وصارت شعباً قوياً حكمه ملوك سمّوا فراعنة، وكانت سلالات عديدة. وقد حدث الخروج في أيام السلالة التاسعة عشرة أي حوالي سنة 1250 ق. م.
بلاد الرافدين (أو بلاد ما بين النهرين اللذين هما دجلة والفرات) وتسمّى أيضاً منطقة الهلال الخصيب. كانت مهد الحضارة وقد امتدت حتى جبال فارس (منطقة عيلام أي البلاد العالية).
سكن السومريون الجزء الجنوبي من بلاد الرافدين واشتهرت من مدنهم مدينة أور (أي تل المقير). وإلى شمالهم، إمتدت بلاد الأكاديين وعاصمتها كيش القريبة من بابل. وقد عُرفت هذه المنطقة ببلاد بابل القديمة. وأقام في الشمال الأشوريون وأهم مدنهم نينوى (تجاه الموصل).
وأحتل المادايون بلاد عيلام وكانت عاصمتهم أكباتان (همدان اليوم). وجاء بعدهم الفرس بعاصمتهم شوش.
وأقام الأراميون في سورية (دمشق، حماة)، والأموريون في حلب وكركميش (جرابلس اليوم). وكانت ماري (تل الحريري) على ضفاف الفرات. وإلى جنوبي دمشق كانت باشان (حوران والجولان) المشهورة بأحراجها ومراعيها.
أما آسية الصغرى (تركيا) فعرفت الحثيين بعاصمتهم حتوسة (بغازكوي). إمتدوا إلى سورية الشمالية، وهناك أقاموا دويلات منها كركميش.
وامتدت فينيقية من مصب نهر العاصي شمالي أوغاريت (راس شمرا) إلى جبل الكرمل. وأهم مدنها: أوغاريت، أرواد، طرابلس، بيبلوس (جبيل)، بيروت، صيدون (صيدا) وصور وعكا. تنظّم الفينيقيون دويلات تطلّعت إلى البحر فسيطرت عليه من سنة 1500 إلى سنة 700 ق. م، وأنشأت المستعمرات العديدة وأهمّها قرطاجة على الشاطىء الإفريقي.
نشير إلى أنه في القرن الثاني عشر أقامت القبائل العبرانية في أرض كنعان. وخلال القرن الثاني عشر، أقام الفلسطيون على شاطىء أرض كنعان، وكانت مدنهم غزة، أشدود، جت، عسقلان، عقرون.
سيطرت مصر على كنعان قبل أن يقيم فيها بنو إسرائيل. وبعد أن وصلت إلى القمة مع السلالة التاسعة عشرة (رعمسيس)، إنحطت تدريجياً، ولكنّها ما زالت تضايق أرض كنعان. ويأتي اللاجيون (أو البطالسة) بعد الإسكندر، فيحكمون مصر حتى سنة 63 ق. م. ويسيطرون على فلسطين من سنة 320 إلى سنة 198.
وامتدّ سلطان أشور خلال القرن التاسع ق. م. فوصل إلى البحر المتوسط. إحتل السامرة (سنة 721) وغيرها من المدن، ولكنه فشل في مصر (سنة 660) فعرف انحطاطاً سريعاً كانت خاتمته سقوط نينوى بيد البابليين سنة 612 ق. م.
وإزدهر البابليون في القرن الثامن عشر وبالأخص مع حمورابي، ثمّ خضعوا للأشوريين. ولكن عادت إليهم قوتهم بعد سنة 625. إحتلوا أورشليم سنة 597 ودمّروها سنة 587. سيدمّر الفرس بابل سنة 538.
وتقوّت بلاد فارس إبتداءً من ملك كورش (550- 529). إحتلت الشرق الأوسط ووصلت إلى الهند. ولكن تغلّب عليها الإسكندر الكبير سنة 330.
واحتل الإسكندر فلسطين سنة 333. وبعده سيسيطر عليها قواده: اللاجيون (من مصر) من سنة 320 إلى سنة 198، والسلوقيون (من أنطاكية) من سنة 198 إلى سنة 63 ق. م.
وجاءت رومة إلى الشرق فقهر بومبيوس السلوقيين سنة 63، فخضعت فلسطين لسلطة رومة. وحين ثارت أورشليم سيطر عليها تيطس ودمّرها سنة 70 ب. م.

د- ذهنية هذه الشعوب
كل شعب يتأثّر بأرضه.
فالمصري يعيش في طبيعة يسيطر عليها النور. وإن غابت الشمس في المساء فهي ستطلع في الصباح وتنتصر على قوى الليل (الشمس أول الآلهة). وللنيل فيضاناته ولكنّها تحدث في أوقات معيّنة فتُخصب الأرض بالتراب وترويها بالماء. كل هذا جعل المصري متفائلاً. آلهته آلهة خير، وهم يسهرون على البشر. وبعد الموت، ينتظر المؤمنون حياة جديدة تشعّ بهاء.
ويعيش أهل بلاد الرافدين في وادٍ تفيض مياهه فتحدث طوفاناً لا ينتظره الناس. وتجتاجه قبائل غريبة، فتلحق به الدمار والخراب. لهذا سيطر التشاؤم على ذهنية هؤلاء السكان. فالآلهة أصحاب نزوات، وهم متبدّلون ومتقلّبون. يصارعون بعضهم بعضاً فيتلقّى الإنسان نتيجة صراعهم وضربات غضبهم. أعطوا الإنسان الموت وجبلوه بالكذب. مملكة الموت مملكة الحزن يعيش فيها الأموات ولا يعرفون الفرح.
هذا ما نكتشفه في ملحمة اتراحسيس (نشيد من 1645 بيتاً يعود إلى القرن السادس عشر ق. م. ويبين أن الإنسان خُلق للعمل والتعب) ونشيد أنوما اليش (1100 ق. م.. يتكلّم عن خلق الإنسان) وملحمة جلجامش (إكتشف ثقل الموت فراح يبحث عن الخلود).
ولقد اتّصلنا بالفكر الكنعاني بعد اكتشافات مدينة أوغاريت التي عرفت حضارة رفيعة حوالي السنة 1500. إلههم الأول هو إيل. وهم يعبدون قوى الطبيعة المؤلّهة: بعل، إله العاصفة والمطر، وعناة شقيقته (ستسمّى عشتاروت) وإلاهة الحرب والحب والخصب. تأثرّت مملكة السامرة تأثراً عميقاً بالعبادة الكنعانية، فأقامت شعائر العبادة للآلاهة العارية طالبةً منها خصباً لأراضيها ونمواً لمواشيها.
أما العقلية العبرانية فمبنيّة على عبادة الله الواحد الذي أحب شعبه حباً مجانياً. ولهذا لا تكون الطقوس عند المؤمن عملاً سحرياً يسيطر به الإنسان على الله، بل جواب الإنسان على نداء الله.
إرتبطت فلسطين بما حولها من بلدان، وارتبط الكتاب المقدس بما يحمل من غنى بهذا التاريخ الذي صار قريباً منا بفضل النصوص القديمة التي وصلت إلينا، والحفريات التي تمتّ في هذا الشرق من تركيا إلى مصر، مروراً بلبنان وسورية والعراق وفلسطين والأردن

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM