الفصل السابع عشر: أكليمنضس الإسكندراني فيلسوف المعرفة المسيحية

الفصل السابع عشر:

أكليمنضس الإسكندراني

فيلسوف المعرفة المسيحية

المقدّمة

عندما نتطلّع إلى المركز الذي تبوّأته كنيسة الإسكندريّة بين الكنائس الكبرى، نتساءل عن السبب، فلا نجده في تأثيرها الذي ما تعدّى جزءًا من أفريقيا. حاءت الإسكندريّة قبل أنطاكية في تسلسل الكنائس الكبرى الأولى، مع أنّ أنطاكية أثّرت على كنيسة رومة والقسطنطينيّة تأثيرًا كبيرًا، ناهيك عن العالم السريانيّ الذي وصل انتشارُه إلى الصين ومنغوليا، في الشرق الأقصى. فلماذا هذه المكانة؟ بسبب المدرسة التي ازدهرت فيها، فراحت في خطّ أفلاطون وأفلوطين، واغتنت من فيلون في درس الكتاب المقدّس، قبل أن تأخذ بُعدًا  سيجد امتدادًا له في ما بعدُ، عند الآباء الكبادوكيّين مثل غريغوريوس النيصيّ أو غريغوريوس النازينزي. هذه المدرسة بدأت مع بانتينس ووصلت إلى إكليمنضس مع قمّتها في تعليم أوريجانس. عند إكليمنضس نتوقّف كمثل هام لمدرسة الإسكندريّة، فنقرأ بعض حياته، قل أن نصل إلى آثاره التي ضاع منها الكثير. ولكن ما بقي منها يكفينا بعض الكفاية لنتعرّف إلى فكر انطلق من العالم الغنوصيّ، عالم المعرفة الباطنيّة، ليصل بنا إلى المعرفة الحقيقيّة التي يعلّمنا إيّاها من هو اللوغوس، من هو المسيح.

1- حياة اكليمنضُس وشخصيّته

وُلد هذا القدّيس حوالى سنة 150م، في عائلة وثنيّة. أمّا مكان ولادته فهو محطّ جدل عند الكثير من المؤرّخين. فقال بعضهم إنّه ولد في الإسكندريّة. ولكنّ تعمّقه بالآداب والفلسفة اليونانيّة، ومعرفته بغالبيّة المدارس الفلسفيّة المنتشرة في ذاك الزمن كالأفلاطونيّة والأرسطاطاليّة وغيرها، حدا بقسم آخر من المؤرّخين إلى التأكيد على أنّه وُلد في أثينة. وعلى رأس هؤلاء أبو التاريخ الكنسيّ أوسابيوس القيصريّ. غير أنّ الرأي الأوّل يبقى الأصح.

راح اكليمنضُس ينشر هذه الأفكار الفلسفيّة في بلدان عديدة إلى أن وصل إلى الإسكندريّة واستقرّ فيها بعد أن اعتنق المسيحيّة، منفصلاً عن العبادات السرّانيّة المرتبطة بإلوسيس Eleusis. تبع هذا المذهب مدّةً طويلة، فجاءت توبته واعتناقه للمسيحيّة نتيجة بحث مستمرّ وطويل عن الحقيقة المطلقة وعن الله.

بعد سنوات عديدة في التعليم في الإسكندريّة، ومع بداية اضطهاد المسيحيّين سنة 202، إبّان عهد الإمبراطور سبتيمُس سويريوس. وبما أنّ إكليمنضُس كان حينها رئيسًا للمدرسة، وجد نفسه مرغمًا على ترك المدينة، فمات في المنفى حوالى سنة 215م، ووجد المؤرّخون ذلك مثبتًا من خلال الرسالة التي بعث بها الأسكندر أسقف أورشليم إلى أوريجانس وهو يتكلّم فيها عن اكليمنضُس معتبرًا إيّاه ميتًا.

يشدّد القدّيس إكليمنضُس الإسكندرانيّ في كتاباته تشديدًا خاصٌّا على سموّ الحقيقة المسيحيّة. فهي، بنظره، تمتاز عن الحقيقة الهلّينيّة أو اليونانيّة، بالرِّفعة والمعرفة وبالقدرة الإلهيّة، غير أنّه وفي كتابات عديدة دافع محافظًا على حقّ الفلسفة وعلى دورها التحضيريّ والتمهيديّ الذي أراده الله من أجل الوصول إلى الحقيقة المسيحيّة.

وما يميّز فيلسوفنا ارتكازه الدائم على التقليد، ممّا أعطى كتاباته غنى كبيرًا. كما تكمن أهميّة إكليمنضُس الإسكندرانيّ في مجالات عديدة، كالعقيدة والأخلاق والروحانيّات. ويشدّد في تعليمه على الحوار الحرّ. باختصار، إنّ اكليمنضُس هو صاحب ثقافة واسعة ومشوّقة.

كيف وصل إكليمنضُس إلى مثل هذه الثقافة؟

ينتمي كاتبنا إلى حقبة تاريخيّة مهمّة، وإلى وسط جغرافيّ غنيّ جدٌّا. من ناحية أولى، تُعتبر الإسكندريّة، في القرون الثلاثة الأولى للمسيحيّة، إحدى المدن الثلاث الكبرى والمعروفة في العالم. فهي عاصمة الثقافة والفكر والفنّ. كما هي عاصمة السياسة وملتقى الحضارات بين العالم الغربيّ والعالم الشرقيّ. عاش فيها الكثير من الفلاسفة والشعراء والأدباء في ظلّ مكتبة أسسّها الملك بطليمُوس الأوّل سوتير (367- 283)، فضمّت ما يزيد على 50 ألف مجلّد، بحسب أقوال المؤرّخين. كما أنّ معلّمين كثيرين أنشأوا فيها المدارس الفلسفيّة والفكريّة كالأفلاطونيّة واليهوديّة والمسيحيّة.

في جميع الأحوال، وبعد قراءة جديدة للنصوص الإكليمنضوسيّة، لا يجوز المزج بين مدرسة إكليمنضُس الإسكندرانيّ ومدرسة التعليم المسيحيّ الرسميّة الإسكندرانيّة التابعة للكنيسة.

وفي ختام هذه المقدّمة، وقبل الانتقال إلى لاهوت القدّيس اكليمنضُس الإسكندرانيّ ومؤلّفاته، علينا الاعتراف بعبقريّة فيلسوفنا المتميّزة وذكائه الذي قلّ نظيره. فهو صاحب شخصيّة كنسيّة استحقّت لقب رائد العلوم الدينيّة في عصر مرّ بظروف قاسية عرفتها المسيحيّة في مجابهة الفكر اليونانيّ الوثنيّ بجميع تيّاراته.

2- مؤلّفات اكليمنضُس

تُبرز مؤلّفاتُ إكليمنضُس الإسكندرانيّ وكتاباته ميزات شخصيّته بشكل واضح. واستنادًا إلى ما يمكن اعتباره أحد أركان، لا بل الركنَ الأساسيّ للعلوم الكنسيّة، فهذه الأعمال تُظهره إنسانًا واسع الثقافة إذ نجد فيها الكثير من الفلسفة والشعر، وعلم الآثار والأدب وغيرها. والجدير بالذكر أنّه يستند إلى الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد آلاف المرّات.

ثلاثة مؤلّفات تختصر مجمل الفكر الفلسفيّ واللاهوتيّ عند اكليمنضُس الإسكندرانيّ.

يتضمّن الأوّل »الخطاب إلى اليونانيّين« دعوة ملحّة إلى التوبة وإلى الدين الصحيح. ويقدّم الثاني »المربّي« للمعمّدين، المسيح الكلمة، كمعلّم ومثال، فهو يربّيهم وينشئهم كأطفال. أمّا الثالث »الموشّيات« فهو يُدخل المؤمن في حياة أكثر كمالاً. يحضّر الكتاب المؤمن إلى اعتناق العفّة، وحتّى إن اقتضى الأمر إلى الاستشهاد. كما ينشّئ المؤمن على الفلسفة الصحيحة التي ترتكز على الكتاب المقدّس، فتُوصل المؤمن إلى المعرفة الحقّة، أي إلى معرفة الله والاتّحاد به بحريّة داخليّة تامّة.

أ- الخطاب إلى اليونانيّين

هو من أوائل مؤلّفات اكليمنضُس الإسكندرانيّ. إنه يحمل إرشادًا خاصٌّا إلى اليونانيّين، فيحثّهم على التوبة، كي يحرّرهم ويخلّصهم من تقديم العبادة والتكريم للآلهة الوثنيّة، ويقودهم بالتالي إلى الدين الصحيح، أي إلى تعليم الكلمة الإلهيّ الذي ظهر بالمسيح بعد أن بشّر به الأنبياء في العهد القديم.

ب- المربّي

يتوجّه إكليمنضُس بكتابه هذا إلى كلّ الذين اعتنقوا الديانة المسيحيّة، وساروا بحسب إرشاداته التي وجّهها إليهم في كتابه الأوّل.

فالمسيح الكلمة هو المربّي الذي يعلّم التائبين كيف يقودون حياتهم. هو إذن، كتاب أخلاقيّ - أدبيّ، يهدف إلى إدخال النفس في حياة الفضيلة خاصّة من الناحية العمليّة. فيقول بهذا المعنى: »إنّ الهدف من كتابته هو جعل النفس أفضل، ليس بتثقيفها وحسب، بل بإدخالها في حياة فاضلة غير الحياة العاقلة« (المربّي 1/ 4)، ممّا يعني: »التربية هي تنشئة الأبناء«، ويتساءل بعدها: من هم هؤلاء الأبناء بحسب الكتاب المقدّس؟

يؤكّد إكليمنضُس أنّ الأبناء هم الذين تجدّدوا بالعماد وتحرّروا فأصبحوا أبناء لله: »بعمادنا تنوّرنا، وبتنويرنا أصبحنا أبناء، وبتبنّينا أصبحنا كاملين، وبكمالنا أصبحنا خالدين« (المربّي 1/ 6، 26).

فاللوغوس يربّي أبناءه بالحبّ، ممّا يعاكس وجهة نظر العهد القديم الذي يربّيهم بالخوف. فالربّ صالح وعادل في الوقت عينه، وهو يجمع بين القساوة والطيبة. هو إذن مربٍّ حكيم وماهر، لذلك فالخوف، إن حفظ من الخطيئة، صالح وجيّد: »الخوف المرير يضمّد جراحات خطايانا العميقة. وإذا كان الخوف مريرًا فهو أيضًا خلاصيّ. وكمرضى، نحن بحاجة حقٌّا إلى مخلّص، وكمشرّدين نحن بحاجة إلى من يهدينا. وكعميان نحن بحاجة إلى من يرشدنا إلى النور. وكعطشى نحن بحاجة إلى النبع الحيّ حيث يرتوي من يشرب منه (يو 4: 13-14). وكموتى نحن بحاجة إلى الحياة. وكخراف نحن بحاجة إلى راع. وكأولاد نحن بحاجة إلى مربٍّ. والإنسانيّة جمعاء بحاجة إلى المسيح المعلّم والمربّي الأوّل... ما بإمكانكم أن تتعلّموا، إذا أردتم، الحكمة السامية من الراعي والمربّي القدّوس، من كلمة الآب الكليّ القدرة، بما أنّه يقول عن ذاته إنّه راعي الخراف. هو مربّي الأبناء. ألم يقل للآباء على لسان حزقيال النبيّ: ''وأرعاهم في مروج خصيبة، وتكون جبال إسرائيل الشاهقة مراعي رائعة يُربضون في مراحها الطيّب، ويرعون في مراعٍ خصيبة على جبال إسرائيل. أنا أرعى غنمي، وأُربضها يقول السيّد الربّ، وأطلب الضالّ وأسترجع المطرود وأجبر الكسير وأعصب الجريح وأستأصل السّمين والقويّ، وأرعاها بعدل'' (حز 34: 41-16). هذه هي مواعيد الراعي الصالح. فارعَنا، نحن أبناءك، كما ترعى النعاج. نعم، أيّها السيّد، أشبعنا من البرّ، من مرعاك. نعم أيّها السيّد، اجعلنا نرعى على جبلك المقدّس، أعني كنيستك، التي هي سامية، وفوق الغيوم، وتطال السماء« (المربّي 1/ 9: 83، 2/84: 3) هذا بعض من فيض ما يحويه القسم الأوّل من كتاب »المربّي« المؤلّف من ثلاثة أقسام.

ويعرض القسمُ الثاني والثالث التفاصيلَ الأدبيّة اليوميّة في حياة المؤمن، بعد أن حاول القسم الأوّل أن يقدّم المبادئ العامّة، ويحذّر المسيحيّين من الوقوع في حياة الرفاهيّة والفسق والمجون التي يعيشها الإسكندرانيّون، فيقدّم لهم قانونًا أخلاقيٌّا يتوافق مع الحالة التي هم فيها.

ج -  الموشّيات

في نهاية مقدّمته في كتاب »المربّي«، يُبدي اكليمنضُس الملاحظة الآتية: »إنّ الكلمة الإلهيّ، انطلاقًا من رغبته الملحّة التي يريد من خلالها أن يوصلنا إلى الخلاص تدريجيٌّا بتربية قويّة وعميقة، يحثّنا أوّلاً، ثمّ يربّينا، وأخيرًا يعلّمنا« (المربّي 10/1: 3، 3)

انطلاقًا من هذه الكلمات التي ختم بها مقدّمة كتابه الثاني، نستنتج أنّ لدى اكليمنضُس النيّة بتأليف كتاب بعنوان »المعلّم« فتكتمل بذلك وتتعمّق المقولة التي ختم بها مقدّمة »المربّي«. إلاّ أنّه كتب مؤلّفه الأخير بخلاف ما توقّعنا بعنوان »الموشّيات« الذي يتألّف من ثمانية أقسام وهي تدرس العلاقة القائمة بين الديانة المسيحيّة والعلوم الدنيويّة عامّة، وبين الديانة المسيحيّة والفلسفة اليونانيّة خاصّة.

ففي القسم الأوّل، يدافع اكليمنضُس عن الفلسفة اليونانيّة. إنّها، في نظره، عطيّة من الله على مثال الناموس والشريعة بالنسبة إلى اليهود. وهي تؤدّي خدمة كبيرة ومهمّة إلى المسيحيّين الراغبين في التعمّق بمعرفة مضمون إيمانهم: »قبل مجيء الربّ، كانت الفلسفة ضروريّة لتبرير اليونانيّين. أمّا الآن، فهي ضروريّة لتقود النفوس إلى الله، لأنّها تهيئة ومقدّمة لتوضيح الإيمان، ''فتسلك آنئذٍ في طريقك آمنًا ولا تتعثّر قدمك'' (أم 3: 23)، إذا أعدنا جميع الأشياء الجميلة إلى الله صانعها، إن بالنسبة إلى اليونانيّين أو بالنسبة إلينا. وفي الواقع، إنّ الله هو سبب وجود كلّ شيء جميل، مثل العهد القديم أوّلاً، والفلسفة ثانيًا. وهذه الفلسفة أُعطيت إلى اليونانيّين لتقودهم إلى المسيح، كما الشريعة عند العبرانيّين. أمّا الآن، فإنّ الفلسفة تهيِّئ من يسير نحو المسيح بالكمال، وتساعده وتضعه على الطريق الصحيح« (الموشّيات 1/5: 28).

يتابع اكليمنضُس في هذا السياق، ويقارن بين فلسفة اليونانيّين وبين العهد القديم، الذي يحضّر الإنسانيّة لمجيء المسيح، هذا من جهة. ومن جهة أخرى إنّ الفلسفة اليونانيّة، وبالرغم من دورها التحضيريّ، يستحيل عليها أن تحتلّ مكانة الوحي الإلهيّ، فلا يمكنها إلاّ أن تمهّد، لقبول الإيمان. لذلك وفي القسم الثاني، يأخذ اكليمنضُس على عاتقه مهمّة الدفاع عن الإيمان في وجه الفلاسفة: »إنّ الإيمان، الذي يهاجمه اليونانيّين لأنّه، في نظرهم، باطل وغريب عن معتقدهم، هو في الواقع، إدراك إراديّ مسبق، وقناعة دينيّة، حسب الرسول الإلهيّ، و''ضمانة للأمور التي نرجوها، والدليل على الحقائق التي لا نراها''. وبواسطته، بنوع خاصّ، قد تبرّر الأقدمون، وبدونه (بدون هذا الإيمان)، ليس بالإمكان إرضاء الله« (الموشّيات 2، 2، 8، 4). فمعرفة الله إذًا لا تُدرَك إلاّ بالإيمان الذي هو أساس كلّ معرفة. واستند الفلاسفة اليونانيّون إلى الكثير من تعاليم أنبياء العهد القديم، وهذا ما يدلّ عليه وجود بذور من الحقيقة الإلهيّة في مختلف تعاليمهم ومذاهبهم الفلسفيّة. فيؤكّد اكليمنضُس أنّ أفلاطون نفسه اقتدى بموسى عندما سنّ شرائعه وقوانينه الخاصّة.

أمّا الأقسام الباقية من كتاب »الموشّيات« فهي تدحض الغنوصيّة ومبادئها وتعاليمها الأدبيّة والأخلاقيّة. لقد حاول اكليمنضُس شرحَ العلاقة القائمة بين المعرفة الحقيقيّة والإيمان ومدى عمقها وأهميّتها.

فهدفُ المعرفة الحقيقيّة هو الكمال الأخلاقيّ المرتكز على الطهارة وحبّ الله. ومن ثمّ، في نهاية القسم السابع، وبسبب عدم تمكّن اكليمنضُس من الإجابة على جميع الأسئلة المتعلّقة بالحياة اليوميّة للمسيحيّين، وعد بكتابة مؤلّف آخر يُكمل فيه ما لم يتمكّن من إنجازه في القسم السابع، فتوفّاه الله قبل أن يحقّق وعده.

د - المقتطفات والتفسيرات

من أهمّ مؤلّفات اكليمنضُوس المفقودة، هو كتاب التفسيرات حول الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد والذي يحمل عنوان »المقتطات والتفسيرات« وهو يقسم ثمانية أقسام. ويفسّر فيه أيضًا الكتابات غير القانونيّة، فنجد على سبيل المثال، تعليقات حول رسالة يهوذا والرسائل الكاثوليكيّة ورسالة برنابا ورؤيا القدّيس بطرس.

ويبقى بعضُ المقاطع القليلة التي نجدها بغالبيّتها عند أوسابيوس في كتابه »التاريخ الكنسيّ«، والتي تؤكّد لنا أنّ التفسيرات والتعليقات كانت رمزيّة، وهي تتناول بعض المقاطع والآيات المختارة، لا النصّ بكامله.

غير أنّ فوتيوس الذي انتقد بعنف اكليمنضُس الإسكندرانيّ، اعتبر أنّ هذا الكتاب مليء بالأخطاء، فقال بهذا المعنى: »في بعض المقاطع يلتزم اكليمنضُس التزامًا كلّيٌّا بالعقيدة وبتعاليم المسيح. ولكن، في مقاطع أخرى، نراه مشدودًا إلى أفكار خاصّة وملحدة. هو يؤكّد على خلود المادّة، ويعلن عن نظريّة خاطئة مستندة إلى بعض المقاطع من الكتاب المقدّس. ويجعل من الابن خليقة ككلّ المخلوقات، ويتحدّث عن التقمّص، وعن عوالم أخرى كانت موجودة قبل آدم. أمّا في ما يختصّ بأخذ حواء من آدم، فهو يستعمل كلمات مشينة، تتنافى مع روح الكتاب المقدّس. هو يتصوّر أن الملائكة قامت بعلاقة مع النساء، ووُلد من هذه العلاقة، أولاد. كما يؤكّد أنّ اللوغوس لم يتجسّد، ولكن شُبّه به، بينما الذي ظهر للبشر هو شبيه بالإنسان«. أترى هذا فكر إكليمنضس؟ أما نكتشف من خلال هذا النقد رفضًا للأسلوب الإسكندرانيّ في تفسير الكتاب المقدّس؟

3- الفكر اللاهوتيّ من خلال كتابات اكليمنضُس الإسكندرانيّ

ينتمي اكليمنضُس الإسكندرانيّ إلى مدرسة لاهوتيّة تجهد في الدفاع عن الإيمان وتعميقه بمساعدة الفلسفة.

وعى تمام الوعي خطر الحضارة الهلّينيّة فحارب المعرفة الخاطئة، وبشّر بمعرفة صحيحة وصادقة، واضعًا في خدمة الإيمان، كنزَ الحقيقة المخفيّة في مختلف التيّارات والمذاهب الفلسفيّة.

فأتباع المعرفة الخاطئة، يعلّمون استحالة التقارب بين العلم والإيمان. لهذا، سعى اكليمنضُس إلى إثبات التناغم بينهما. فما يجعل المسيحيّ المؤمن كاملاً، هو التوفيق بين الإيمان والمعرفة، إذ إنّ الإيمان هو بداية الفلسفة وأساسها. كما أنّ المؤمن الراغب في التبحّر بمضمون إيمانه بواسطة العقل، يحتاج كلّ الحاجة إلى الفلسفة.

من ناحية ثانية، يمكن للفلسفة أن تكشف عن المغالطات التي تستهدف الدين المسيحيّ: »الفلسفة اليونانيّة، متكاملة مع تعليم المخلّص. هي لا تجعل الحقيقة أقوى، بل تعتبر بحقّ كحظيرة وكحائط للكرمة إذ تجعل السفسطة غير قادرة على النيل منها، وتمنع المحاولات الماكرة ضدّها« (الموشّيات 1/20: 100)

انطلاقًا من هذه العلاقة الكيانيّة القائمة بين الإيمان والفلسفة، ما هي المقاربات التي توصّل إليها اكليمنضُس في تفسيره لبعض الحقائق الإيمانيّة؟

أ- عقيدة اللوغوس ودوره

النقطة الجوهريّة والمركزيّة في لاهوت اكليمنضُس الإسكندرانيّ، هي عقيدة الوحي الإلهيّ والكلمة اللوغوس في الوقت عينه، إذ إنّ المعرفة الحقيقيّة لله أوحى بها هو نفسه بواسطة كلمته »اللوغوس«.

هذه الكلمة هي نفسها التي تجسّدت بشخص المسيح الابن. فالخالق ظهر كمعلّم مع الحفاظ على طبيعته الإلهيّة.

إنّ تجسّدَ الكلمة هو »الحدث« الحدث على الإطلاق، إذ حمل إلى البشريّة النور والخلاص. فبقي على البشر أن يقبلوا هذا النور والخلاص. فإن رفضوه ولم يقبلوه، كانت حياتُهم كلّها مليئة بالخطايا.

ومبدأ اللوغوس عند اكليمنضُس الإسكندرانيّ هو الأكثر خصبًا وحسيّة. فهو خالق العالم، ويشكّل مع الآب والروح القدس الثالوث الإلهيّ. فبواسطته يمكننا أن نتعرّف إلى الله.

فاللوغوس هو معلّم الإنسانيّة ومشرّعها. أضف إلى ذلك أنّ اكليمنضُس يرى فيه مخلّص الجنس البشريّ وخالق الحياة الجديدة، تلك الحياة التي تبدأ بالإيمان، وتنمو بالعلم والتأمّل، وتقود بواسطة الحبّ والمحبّة إلى الخلود.

وفي ردّ على الهراطقة، يؤكّد اكليمنضُس أنّ الكلمة المتجسّد بشخص الابن، يسمو على كلّ الخلائق. هو الحكمة والمعرفة والحقيقة، هو مدرك كلّ شيء، وهو الذي بواسطته صنع الله كلّ شيء، وإليه يعود كلّ شيء.

ب- الكنيسة والتقليد في التدبير الإلهيّ

يؤمن اكليمنضُس بوجود كنيسة واحدة وجامعة، كما يؤمن بالله الواحد، الآب والابن والروح القدس. ويسمّي هذه الكنيسة الأم العذراء التي تقدّم لأولادها من حليب الكلمة الإلهيّ: »إنّه لسرّ عجيب! واحد هو الله الآب، أبو كلّ شيء. وواحد هو الله اللوغوس كلمة كلّ شيء، وواحد هو الروح القدس المتساوي لهما في كلّ شيء. لكنْ هناك أمّ- عذراء، أُحبّ أن أسمّيها الكنيسة. هذه الأم وحدها، ليس لها حليب لأنّها لم تصبح امرأة. هي أمّ وعذراء. لا عيب فيها كعذراء، وهي محبّة كأمّ. إنها تدعو أبناءها إليها لتغذّيهم من حليب القداسة الذي هو اللوغوس المعدّ لهؤلاء الأبناء« (الخطاب إلى اليونانيّين 1/ 6: 42).

في الفصل الأخير من كتاب »المربّي«، يسمّي اكليمنضُس الكنيسة عروسة المعلّم وأمَّه، هي المدرسة حيث يعلّم يسوعُ عريسُها: »يا أطفال تربيته السعيدة! فلنكمل (بحضورنا) صورة الكنيسة الرائعة، ولنركض، كأبناء، إلى أمّنا الصالحة. وبما أنّها جعلَتْنا مُصغين للكلمة، فلنمجّد الواهبة الطوباويّة التي رفعت الإنسان إلى مستوى ابن الله وقدّسته. وبعد تجارب الأرض، أعطته حقّ مواطنيّة السماء، حيث يرى الآب الذي عرفه في الأرض« (المربّي 3/ 12: 99، 1). تتميّز هذه الكنيسةُ نفسها عن الهرطقات، بوحدتها وبقِدَمها.

لكنّ اكليمنضُس يعرف جيّدًا من جهة أخرى أن العائق الذي يمنع اهتداء الوثنيّين واليهود، هو انقسام المسيحيّة بسبب البدع والهرطقات: »إنّهم يعترضون علينا قائلين: نحن لسنا مُجبَرين على الإيمان طالما هناك انقسامات في المذاهب. وإنّ الحقيقة تتشوَّه عندما نرى كلّ فئة تعلّم تعليمًا مغايرًا للأخرى، بحيث إنّ هناك عدّة عقائد وليس عقيدة واحدة«. وإلى هؤلاء نجيب: »عندكم، أنتم اليونان، نرى، بين الفلاسفة الكبار، نزعات متعدّدة وتعاليم متناقضة. ورغم ذلك، فإنّكم لا ترفضون الفلسفة أو اليهوديّة. ألم يتنبّأ السيّد المسيح على أنّه سيكون هناك انقسامات في كنيسته؟ ورغم ذلك، فإنّ النبوءة ستتمّ... وإذا رفض أحد إيمانَه الذي أعلنه سابقًا، فهل يحقّ لنا أن نتراجع لأنّ واحدًا منّا رفض هذا الإيمان؟

»إنّ الرجل الصالح يحبّ أن لا يرفض ما أعلنه من إيمانه إذا كان هناك من أعطى مثال شكّ وتراجع عن مبدئه. لذلك علينا أن لا نترك الكنيسة مهما كلّف الأمر، ومهما كانت الانقسامات موجودة. نحن نبقى ملتزمين بإيماننا وأوفياء لهذا الإيمان، حتّى ولو احتقره الهراطقة الذين ابتعدوا عن الكنيسة« (الموشّيات 7/ 15:89).

أمّا في ما يتعلّق بقراءة الكتاب المقدّس، فإنّ إكليمنضس يحذّر من الوقوع في مغالطات الهراطقة. فهو يؤمن إيمانًا ثابتًا بالإلهام الإلهيّ: »إنّ الذي يقرأ الكتب المقدّسة بإيمان، ينال من الله تأكيدًا لا يُضاهى. فالإيمان، في هذه الحالة، ليس بحاجة إلى برهان، إنّما برهانه فيه« (الموشّيات 2/ 9: 6).

وفي ما يختصّ بالسلطة في الكنيسة، فهي عنده تتألّف من درجات ثلاث: الأسقفيّة والكهنوت والشمّاسيّة، وهي تشبه الدرجات الملائكيّة: »حسبَ رأيي، إنّ منصب الأساقفة والكهنة والشمامسة في الكنيسة الأرضيّة يشابه منصب الملائكة ومجدهم في التدبير الذي، حسب الكتب المقدّسة، سيناله الذين اتّبعوا الكمال والبرّ هنا بحسب تعاليم الإنجيل«. (الموشّيات 6/ 13: 107).

ج- العماد والتثبيت

العماد في نظر اكليمنضُس هو ولادة جديدة، وتجديد مستمرّ. هو تنوير للنفس وكمال وخلود. به نصبح أبناء للآب السماويّ وهو ينيرنا لنرى نور الخلاص: »إنّ يسوع يريد أن نهتدي ونصبح كأطفال، معترفين بأبينا السماويّ الحقيقيّ، بعد أن نكون تجدّدنا بالماء. وهذا التجديد هو تجديد آخر بعد تجديدنا في الخلق« (الموشّيات 3/ 12: 87)

من المفاعيل المهمّة لهذا السرّ العظيم تنوير الإنسان المعتمد. وبحكم التنوير الذي حصل عليه من المعموديّة المقدّسة، يصبح إنسانًا خالدًا: »أنا قلت: إنّكم آلهة وجميعكم بنو العليّ« (مز 81: 6). ويُدعى هذا العماد حينًا النعمة، وحينًا آخر التنوير، ثمّ الكمال والغسل. إنّه الغسل الذي بواسطته نتطهّر من خطايانا. والنعمة التي تغفر آثامنا التي اقترفناها بواسطة تجاوزاتنا. والتنوير الذي يمنحنا نور قداسة خلاصنا. والنعمة التي بواسطتها يمكننا رؤية الله بوضوح. أمّا الكمال، فلأنّنا لا نعود نخطئ أبدًا. فماذا ينقص الذي يعرف الله حقٌّا؟ إنّه لمن العبث أن يستحقّ أمرٌ منقوص اسمَ عطيّة النعمة الإلهيّة« (المربّي 1/ 6: 26).

أمّا في ما يتعلّق بسرّ التثبيت، فلم يذكره اكليمنضُس بالتفصيل. إلاّ أنّه يعتبره مكمّلاً لسرّ العماد. فهو يعطي للمعتمد القوّة والثبات ولا يمنحه إلاّ الأسقف.

د- الإفخارستيّا

اعتقد كثير من اللاهوتيّين في بادئ الأمر أنّ اكليمنضُس الإسكندرانيّ تجاهل عقيدة الإفخارستيّا. ذلك لأنّ تعليمه حول هذا السرّ المقدّس ليس واضحًا، وقد خصّص فقرة في كتاب »الموشّيات« (7، 3)، تحملنا على الاعتقاد أنّه لا يؤمن بالذبائح: »إنّه لحقّ أن لا تقدّم الذبائح لله لأنّه ليس بحاجة إلى ذلك، خصوصًا وهو الذي يوزّع خيراته على الجميع. ولكنّنا نمجّد الذي قدّم ذاته ذبيحة عنّا. كذلك نقدّم ذواتنا نحن ذبيحةً على مثاله... لأنّ الله يفرح بخلاصنا«.

فمن الخطأ أن نستخلص من هذه الكلمات أنّ اكليمنضُس لا يعترف بالإفخارستيّا على أنّها ذبيحة العهد الجديد على الإطلاق. فالكلام الذي قاله يعني فقط الذبائح الوثنيّة، إذ تابع فقال: »في الحقيقة، نحن لا نقدّم الذبائح، للذي لا يتأثّر بالملذّات الشهوانيّة. بإمكاننا أن نقارن الذبيحة ببخار الدخان الذي يتوقّف تحت الغيوم ولا يصل إلى فوق، بل لا يصل إلى حيث أُرسل، أو إلى من أرسل إليه. ليست الألوهة بحاجة إلى أيّ شيء، ولا تحبّ الملذّات، ولا الأرباح ولا المال. إنّها تملك كلّ شيء وتوزّع ما تشاء على كلّ كائن يحتاج إلى شيء من الأشياء. إنّ الذبائح والتقادم لا تجعلها تميل إلى فلان أو فلان، وحتّى لا المجد ولا الكرامة تجعلها تفضّل فلانًا على فلان. تأثيراتٌ كهذه لا تستميلها، بل إنّها تتوجّه إلى البشر الصالحين لأنّهم لم يخونوا البرّ، ولم يخافوا من التهديد والوعيد، ولم تغرّهم الهدايا القيّمة« (الموشّيات 7/ 3: 14-15).

يقدّم لنا اكليمنضُس الإفخارستيّا على أنّها الغذاء الجديد الذي يسمح لنا باقتبال المسيح، ويجعل نفوسنا مسكنًا له. بعد ذلك، يعود فيميّز بين الدمّ الطبيعيّ ودمّ المسيح في الإفخارستيّا الذي يدعوه مزيج شراب اللوغوس. وقبول الإنسان لهذا الدمّ الإفخارستيّ، يقدّسه ويجعله شبيهًا بالله، وبذلك يتّحد بالمسيح ويتقدّس جسدًا ونفسًا. ويسيطر على شهواته، ويصبح جسدُه خالدًا كنفسه. كلّ ذلك هو ضمن المحبّة التي بدونها لا إفخارستيّا، كما أنّه بدون إفخارستيّا لا وجود للمحبّة.

ه- الخطيئة والتوبة

إنّ خطيئة آدم، في نظر اكليمنضُس، هي رفضه لتربية الله له، وقد انتقلت إلى كلّ الجنس البشريّ، لا بالوراثة، بل كنتيجة للقدوة السيّئة التي قدّمها آدم الأب الأوّل للبشريّة.

فبالنسبة له، وحده العمل الشخصيّ ينجّس الإنسان. بذلك عارض الغنوصيّين الذين يحمّلون المادّة كلّ المسؤوليّة، لأنّها بنظرهم دنسة وشرّيرة. لذلك يرى أنّ الغضب الإلهيّ ليس له سوى دور تطهيريّ.

كما يؤكّد اكليمنضُس أنّه لا يحقّ للمسيحيّ إلاّ بتوبة واحدة قبل العماد. ولأنّ الله رحوم للإنسان، فهو يمنحه الفرصة من أجل توبة ثانية لا تتجدّد أبدًا.

لكنّه في الوقت عينه يميّز بين الخطايا الإراديّة واللا إراديّة. فالخطايا اللا إراديّة وحدها يحقّ لها بالغفران بعد العماد. أمّا إذا ارتُكبت خطيئةٌ عمدًا بعد العماد، فعلى الخاطئ أن يخاف من حكم الله العادل.

و- الزواج والبتوليّة

اتّخذ اكليمنضُس على عاتقه مهمّة الدفاع عن الزواج في وجه الهجمات المتعدّدة، وبخاصّة من جهة البدع والتيّارات الغنوصيّة. فوصل به دفاعه إلى اعتبار الزواج واجبًا وطنيٌّا أساسيٌّا بالنسبة إلى تكاثر النسل وكمال العالم. فيقول: »إنّه لمن الضروريّ أن نتزوّج، أوّلاً من أجل خير بلادنا، وثانيًا من أجل إنجاب البنين، وثالثًا من أجل كمال العالم. وحتّى الشعراء يتأثّرون ويحزنون على الزواج غير الكامل الذي لا يُنجب أطفالاً، بينما يفرحون بالزواج المخصب الذي يعطي أولادًا«.

فالغاية من الزواج، في نظره، هي الإنجاب. إنّه بمثابة واجب على كلّ من يحبّ وطنه. إلاّ أنّ اكليمنضُس رفع الزواج إلى مستوى أعلى، فرأى فيه عملاً مشاركًا لعمل الخالق: »إنّ الإنسان يصبح على صورة الله بقدر ما يساهم في خلق إنسان آخر« (المربّي 2/10: 83، 2)

أمّا نظرته الأكثر روعة في الزواج، فنجدها في كتاب »الموشّيات« (3/ 10: 28)، إذ يقول: »من هم الاثنان أو الثلاثة الذين يجتمعون باسم الله ويكون هو بينهم؟ أليس هم الرجل والمرأة والولد، لأنّ الرجل والمراة همّا متّحدان بالله؟«

فالزواج هو أسمى من مجرّد اتّحاد جنسيّ. هو اتّحاد روحيّ بين الرجل والمرأة. »الزواج مقدّس، حتّى أنّ الموت لا يمكنه أن يفصم هذا الاتّحاد. لذلك فهو من المعارضين لزواج أحد الطرفين مرّة ثانية إن مات الشريك، لأنّ الرجل والمرأة يبقيان متزوّجين حتّى بعد موت أحدهما.

أمّا بالنسبة إلى العفّة، فهو يشجّعها إن أتت كعربون تكريس لله: »نحن نمدح العفّة والذين نذروها لله« (الموشّيات 3/ 12: 82).

من جهة أخرى، عندما يقارن بين الزواج والبتوليّة، فهو يجعل الإنسان المتزوّج في درجة أسمى من ذاك الذي يبقى عازبًا: »في الحقيقة، ذلك الذي اختار أن يعيش وحيدًا ليس برجل. فيتفوّق على الرجال، ذاك الذي يعيش بدون ملذّات وبدون شهوة في عائلته، فيكون مهتمٌّا بأولاده وببيته، ومتعلّقًا بحبّ الله رغم المشقّات والتجارب التي تأتيه من امرأته ومن أولاده ومن خدَمه. أمّا الذي ليس له عائلة، فإنّه يعيش بدون تجربة، خصوصًا وأنّه يهتمّ بنفسه وحسب. لذلك فإنّ المتزوّج الذي يكرّس نفسه لله ولعائلته هو أفضل (من العازب) في مسيرته الخلاصيّة« (الموشّيات 7/ 12: 70). والجدير بالذكر أنّ اكليمنضُس نفسه لم يتزوّج حبٌّا بالمسيح. باختصار، يعتبر اكليمنضُس أنّ الزواج هو سرّ مقدّس وعظيم. وهذه النظرة هي نتيجة للصراع العنيف بينه وبين الغنوصيّين الذين تحاملوا بعنف على هذا السرّ المقدّس.

الخاتمة

لا بدّ لنا في ختام هذا البحث أن نؤكّد ومن خلال مجمل أعمال اكليمنضُس الإسكندرانيّ، أنّه سعى في محاولته إلى إظهار مستويين أساسيّين في الحياة المسيحيّة: الحياة الجماعيّة من جهة، والكمال من جهة أخرى. وما يميّز اكليمنضُس هو أنّه تمكّن من إدخال العنصر الفكريّ إلى فكرة الكمال، مستندًا إلى المفاهيم الهلّينيّة اليونانيّة بشكل عام، والأفلاطونيّة بشكل خاصّ. كما أنّه أدخل أيضًا إلى العنصر الأدبيّ، المفاهيم الأدبيّة اليونانيّة كالرواقيّة والأرسطاطاليّة والفيتاغوريّة. إلاّ أنّ الإيمان يبقى هو الأساس، والمحبّة ديناميّة الحياة المسيحيّة الحقّة. لذلك يبقى من الضروريّ أن نتوقّف على عقيدة اكليمنضُس الروحيّة، ومدى تأثيرها على مُجمل الروحانيّة اليونانيّة. فهو يؤكّد صعوبة الارتفاع إلى الله بقوى الإنسان الشخصيّة. أمّا اللوغوس الموحي فقاد النفس للوصول إلى الدخول في سرّ الله.

اعتُبر اكليمنضُس اللاهوتيّ الأوّل في تاريخ الفكر المسيحيّ، لا سيّما وأنّ ميزته تكمن في لقاء الإيمان مع الحضارات الإنسانيّة (الفلسفة اليونانيّة على سبيل المثال). كما تكمن في القول إنّ المسيح »اللوغوس« المتجسّد، هو مربّي الجنس البشريّ والوسيط بين الله والعالم.

وإن أردنا أن نحدّد شخصيّة اكليمنضُس من منطلق مسيحيّ بحت نستطيع القول: »هو أبو الصلاة الدائمة، ومطلق الروحانيّة النسكيّة التي شدّد عليها، بعده، تلميذُه أوريجانس العظيم«. هو رجل الحوار والنقاش بامتياز، دون المساومة على عقيدته، هو مربّ من الطراز الأوّل على مثال معلّمه، اللوغوس، وهو أيضًا رجل الإيمان والكتاب المقدّس، فاعتُبر بذلك »الرسول«  دون منازع. »ورغم نزعته التكتّميّة الباطنيّة، التي اتّهم بها، فإنّه يبقى رجل الوضوح في تعاليمه التي أرشدت الكثيرين إلى قلب المسيح وإلى قلب الكنيسة الجامعة التي كان أحد دعائمها في فترة عصيبة من تاريخها المجيد«. إكليمنضُس هو ابن الإسكندريّة في العلم والتأثير، إن لم يكن في الولادة، كما ظنّ البعض. ويمكن أن نسمّيه »مؤسّس« مدرسة الإسكندريّة، التي تواصلت مع أوريجانس وأثناسيوس وكيرلّس، وما زالت آثارها اليوم حاضرة في اللاهوت المسيحيّ.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM