الفصل الثامن عشر: أوريجانس مفسر الكتب الإلهية.

الفصل الثامن عشر

أوريجانس مفسر الكتب الإلهية

حين نعود إلى الأجيال الأولى في الكنيسة، يَبرز اسمُ أوريجانس عاليًا. في ذلك الوقت، كانت الكنيسة عامّة، وكنيسة الإسكندريّة خاصّة، في موقع الدفاع. لهذا كتب أوريجانس لاهوتًا دفاعيٌّا في أكثر من مناسبة، ولاسيما »الردّ على قلسيوس« ذاك الفيلسوف الوثنيّ. ويبقى الأثر الكبير الذي لم يجارَ حتّى الآن في التاريخ الكنسيّ، هو ما تركه هذا الباحث الكبير في عالم الكتاب المقدَّس.

إلى أوريجانس نتعرّف في محطّة أولى ونلج في ما تركه في عالم الكتاب. فنقسم كلامنا قسمين: أوريجانس مفسِّر الكتاب. ثمَّ الدراسات والعظات.

1- من هو أوريجانس؟

أ- المصادر

في مقابلات مع كتّاب مسيحيّين آخرين، معلوماتنا شبه كافية عن أوريجانس. فأوسابيوس القيصريّ حدَّثنا عنه في الكتاب السادس من التاريخ الكنسيّ(1). انطلق ممّا وصل إلى أوريجانس من رسائل محفوظة في مكتبة قيصريّة، على الشاطئ الفلسطينيّ، وقدَّم سيرة أوريجانس في إطار تقويّ وكأنَّه أحد القدّيسين. ونحن نعرف أنّ أوريجانس لم يُعلَن قدّيسًا ولا أبًا من آباء الكنيسة، لأسباب عدائيّة من معاصريه وخصوصًا من الذين جاؤوا بعده. سلبوا الكثير من كتبه ساعة كانوا يهاجمون أفكاره وآراءه.

نورد هنا الفصل الثامن من الكتاب السادس، حول جرأة أوريجانس:

1   وفي ذلك الوقت، بينما كان أوريجانس يقوم بتعليم الإيمان في الإسكندريّة، أتى عملاً يدلّ على عقل لم ينضج بعد، وتفكير صبيانيّ. ولكنَّه في الوقت نفسه يعطي أعظم برهان على الإيمان والعفّة وضبط النفس.

2   لأنَّه أخذ هذه الكلمات »يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات« (مت 19: 2أ) حرفيٌّا، وذهب في فهم معناها إلى أقصى حدودها، ولكيّ يتمِّم كلمات المخلِّص، وفي الوقت نفسه يقطع كلَّ فرصة قد يتَّخذها غيرُ المؤمنين لإساءة الظنّ، لأنَّه كان يلتقي بالرجال والنساء(2) عند تدريس الإلهيّات، بالرغم من حداثة سنِّه، فقد نفَّذ عمليٌّا كلمة المخلِّص. وقد ظنّ أنّ هذا لن يُعرَف بين الكثيرين من معارفه. ولكن، كان من المستحيل إخفاء عمل كهذا بالرغم ممّا بذله لإبقائه سرٌّا مخفيٌّا.

3   ولمّا علم بالأمر أخيرًا ديمتريوس الذي كان يرأس تلك الأبرشيّة (الإسكندريّة)، أعجب جدٌّا بالجرأة التي تجلَّت في طبيعة تصرُّفه، وإذ أدرك سيرته وصدق إيمانه، قدَّم له النصائح في الحال، وشجَّعه، وحثَّه للاستمرار في تعليم الإيمان.

4   هكذا كان تصرُّفه وقتئذ. ولكن (ديمتريوس)، بعد ذلك مباشرة، إذ رأى أنّ أوريجانس كان ناجحًا، ويزداد عظمة وشهرة بين كلِّ الناس، غلب عليه الضعف البشريّ، وكتب إلى الأساقفة في كلِّ العالم، واصفًا تصرُّف أوريجانس بأنَّه في منتهى الطيش. ولكن أسقفَيْ قيصريّة وأورشليم، اللذين كانا من أبرز أساقفة فلسطين، اعتبرا أوريجانس خليقًا بأعظم درجات الإكرام، فرسماه كاهنًا.

ويواصل أوسابيوس كلامه في الكتاب عينه، ف 23، فيتحدَّث عن غيرة أوريجانس وارتقائه إلى الدرجة الكهنوتيّة:

1   في ذلك الوقت، بدأ أوريجانس تفاسيره عن الأسفار الإلهيّة، وبعد أن حثَّه على هذا أمبروسيوس الذي استخدم كلام التشجيع والنصح. وما اكتفى بذلك، بل أمدَّه بالمعونات التي كان يحتاج إليها.

2   كان أكثر من سبعة ناقلين سريعين بقربه، حين كان يُملي، متناوبين في الأوقات المحدَّدة. ولم يكن لديه أقلّ من النسّاخ، كما من الفتيات المتمرِّسات في الخطّ. وكان أمبروسيوس يقدِّم بوفرة ما كان ضروريٌّا لمعاش الجميع. وأكثر من ذلك، كان يحمل حماسًا لا يُوصَف، للدرس والغيرة على الوحي الإلهيّ. ولهذا كان يحضّ أوريجانس على تأليف التعليقات.

4   في تلك الأزمنة (حوالي سنة 230) ولتلبية الضرورات الطارئة للشؤون الكنسيّة، مضى أوريجانس إلى اليونان عبر فلسطين، وإلى قيصريّة، وتقبَّل من يد أساقفة هذه البلاد السيامة الكهنوتيّة.

ذكرنا أوسابيوس وأطلنا. ونذكر أيضًا الكاهن بمفيل(3) الذي واصل التعليم في مدرسة قيصريّة التي أسَّسها أوريجانس. سُجن خلال اضطهاد مكسيمين دايا سنة 307. وكتب في السجن حتّى إعدامه في 16 شباط 309 أو 310. كتب دفاعًا عن أوريجانس(4) في خمسة كتب. وأضاف عليها تلميذُه أوسابيوس كتابًا سادسًا. لم يبقَ لنا من هذا المؤلَّف سوى الكتاب الأوّل(5). ولكنّنا نستطيع أن نقرأ ملخَّص الكتب الخمسة الباقية في »مكتبة فوتيوس« بطريرك القسطنطينيّة (820-895)(6). »توجَّهت هذه »الأبولوجيّا« إلى الذين حُكم عليهم بأن يعملوا في المناجم من أجل اسم المسيح. كان رئيسهم باتارميتيوس الذي أنهى حياته حرقًا مع رفاقه، بعد موت بمفيل بقليل. وبعبارة أخرى، توجَّهت إلى شهداء فلسطين الذين عارضوا لاهوت أوريجانس. فدافع بمفيل وأوسابيوس عن معلِّمهما، وقدَّما المقاطع العديدة من تعليمه(7).

بعد أوسابيوس وبمفيل، نذكر تلميذًا لأوريجانس، دُعي على ما يبدو، غريغوريوس العجائبيّ. قبل أن يترك مدرسة قيصريّة، سنة 238، وجَّه إلى معلِّمه أوريجانس، خطاب شكر حُفظ لنا، وهو يتضمَّن شهادة ثمينة حول ممارسات المدرسة وبرنامجها.

من هو غريغوريوس هذا؟ وُلد في عائلة وثنيّة رفيعة، في قيصريّة الجديدة. في البنطس، على البحر الأسود، حوالي سنة 213. كان اسمه تيودورس، على ما يبدو، وصار غريغوريوس حين نال العماد. درس البلاغة والحقوق في مدينته. واستعدَّ أن يمضي مع أخيه أتينودورس إلى بيروت لكي يكمِّل تعليمه. ولكن دعته شقيقته إلى قيصريّة البحريّة حيث عُيِّن زوجُها حاكمًا على فلسطين باسم الإمبراطور. فلمّا سمع بعض الدروس من أوريجانس، تحوَّلت حياته كلُّها(8). قال عن نفسه:

»مثل شرارات مشتعلة في نفسي، اشتعل حبّي والتهب تجاه الذي يتجاوز كلَّ رغبة بسبب جماله الذي لا يُوصَف، الكلمة القدّوس والمحبوب، وتجاه هذا الرجل الذي هو صديقه ونبيّه. تأثَّرتُ في العمق. فأهملتُ كلَّ ما كان يهمُّني: الأعمال، الدروس، الحقوق حبيبة قلبي، أسرتي ووالديّ، بل أولئك الذين أقمتُ عندهم. شيء واحدٌ كان عزيزًا عليّ ولامسنَي: الفلسفة وأستاذها(9)، هذا الإنسان الإلهيّ«.

هي خطبة مهمّة بالنسبة إلى أوريجانس، بعد أن تابع غريغوريوس وشقيقه الدروس في قيصريّة خمس سنوات (233-238)(10). ماذا في هذه الخطبة؟ أعلن الكاتب في المقدِّمة (1-30) أنّ دراسة اللاتينيّة أضعفت إمكانيّته على التعبير في اللغة اليونانيّة، وأنّ وسع الموضوع، دفعاه إلى السكوت. ولكن عرفان الجميل تجاه أوريجانس فرض عليه أن يتكلَّم. في القسم الأوّل (31-92) شكر الله وملاكه الحارس اللذين وجّهاه. وتذكّر القسم الأوّل من حياته، ولقاءه بأوريجانس الذي أشعل نفسه بحبّ الفلسفة. وفي القسم الثاني (93-183) قدَّم برنامج تعليم أوريجانس. بعد تكوين علم المنطق بحسب النمط السقراطيّ، ينتقلون إلى علوم الطبيعة ثمّ إلى العلوم الأخلاقيّة. وفي النهاية، الدروس اللاهوتيّة التي تتوسَّع في مرحلتين: في الأولى، يقرأون الفلاسفة اليونان (ما عدا الملحدين منهم) ويفسِّرونهم. وفي الثانية، يَصلون إلى الأسفار المقدَّسة، حيث يوضح أوريجانس كلّ مستعصٍ فيها. وفي قسم أخير (184-207)، عبَّر غريغوريوس عن حزنه لأنَّه يترك قيصريّة، وطلب من أوريجانس أن يصلّي من أجل تلاميذه الذين يتركونه(11).

ب- سيرة أوريجانس

حين استُشهد والدُ أوريجانس المسيحيّ وكان اسمه ليونيدس، كما قال أوسابيوس، ضحيّة سبتيمس سويريوس سنة 202، كان ابنه في عامه السابع عشر. هذا يعني أنَّ أوريجانس وُلد سنة 185، في الإسكندريّة. بحسب أوسابيوس، درَّسه أبوه النصوص الدنيويّة والبيبليّة. بعد موت الوالد، استقبلت مسيحيّة غنيّة، أوريجانس لديها، فأتاحت له أن يواصل دراسات الغراماطيق (الصرف والنحو). وبما أنّه كان الابنَ البكر في البيت، شرع يدرِّس الغراماطيق ليؤمِّن حاجات العيلة بعد أن صادروا أموال الوالد. في وضع كان معلِّمو الفقاهة (التعليم) المسيحيّ قد تركوا المدينة خوفًا من الاضطهاد، أخذ أوريجانس  يوسِّع نشاطه الفقاهيّ. وخلال موجة ثانية من الاضطهاد، حرَّكها الحاكم أكيلا سنة 206-210، هلك عددٌ من تلاميذ أوريجانس.

لمّا عاد ديمتريوس الأسقف إلى الإسكندريّة، بعد ذهاب أكيلا، اعترف بتعليم أوريجانس وكلَّفه إدارة مدرسة الفقاهة. بعد ذلك، ترك أوريجانس تعليم الغراماطيق. باع مكتبته، وبدأ يحيا حياة النسك. في تلك الفترة، كان أوريجانس يدرس الفلسفة لدى أمونيوس ساكا، من المدرسة الأفلاطونيّة الحديثة، ورافقه في التلمذة أفلوطين، بحسب قطعة لبورفيريوس أوردها أوسابيوس. وثبَّت أوريجانس نفسه، في رسالة دوَّنها، أنَّه قام بالدراسات الفلسفيّة، دون أن يذكر اسم معلِّمه. وحوالي سنة 215، أي في زمن البابا زيفيرين (199-217)، قام بسفرة إلى رومة.

بعد عودته، كان لأوريجانس لقاء مع أمبروسيوس، ذاك الإسكندرانيّ الغنيّ صاحب الأفكار الغنوصيّة. عاد إلى الإيمان القويم، فجعل في خدمة أوريجانس الوسائل الحاسمة لتأليف كتبه. ولبثت المساعدات تصل إلى أوريجانس حتّى عندما ترك الإسكندريّة. أمّا ذهابه إلى عرابية (الأردنّ الحاليّة) وفلسطين فيبقى موضوع جدال. وفي سفرة ثانية فُرضت عليه بسبب التوتُّر مع ديمتريوس أسقف الإسكندريّة، ارتبط أوريجانس بصداقة مع الإسكندر، أسقف أورشليم، وتيوكتستس، أسقف قيصريّة، فرسماه كاهنًا. حينئذ احتجّ ديمتريوس فدعا أوريجانس إليه. في سنة 231، كانت أمّ الإمبراطور(12) الإسكندر سويريوس في أنطاكية مع ابنها. اهتمَّت بالمسيحيّة. ولمّا سمعت بأوريجانس دعته إليها فلبث هناك حتّى سنة 232. وما إن عاد إلى الإسكندريّة، حتّى انطلق إلى أثينة. مرّ في فلسطين، في قيصريّة، فرسمه تيوكتستس »شيخ الكهنة«(13). كانت ردّة فعل ديمتريوس قاسية. فتوجَّه إلى رومة واتَّهم أوريجانس، فيما اتَّهمه، بكلام عن خلاص إبليس.

هذا الحادث شكَّل قطعًا أساسيٌّا في حياة أوريجانس، فما عاد بعدُ إلى الإسكندريّة. لا شكّ في أنَّ ديمتريوس توفّي، ولكن خلفه هرقلاس(14) الذي كان تلميذ أوريجانس ثمّ رفيقه في العمل، فلم يكن أقلّ قساوة على معلِّمه القديم. فأقام أوريجانس في الإسكندريّة. وأرسل إليه أمبروسيوس الكتبة (بالاختزال) ليستعيد شرحه لإنجيل يوحنّا، بعد أن بدأ الكتاب السادس قبل أن يترك الإسكندريّة. في ذلك الوقت، كان نشاط الوعظ عنده واسعًا جدٌّا، فترك 279 عظة. ونقول الشيء عينه عن نشاطه في تفسير الأسفار المقدَّسة، والعمل الجبّار في الهكسبلة أو البيبليا في ستّة عواميد. كلُّ هذا كان قد بدأه أوريجانس حين كان في الإسكندريّة.

أخذ الأسقفان، الإسكندر وتيوكتستس، أوريجانس معهما إلى سينودوسات الأساقفة ليحكم في أوضاع أساقفة وإكليروس متَّهمين بالهرطقة. وهو من كتب المرافعة الرئيسيّة، في البصرة، في شأن الأسقف بيرلُّس، كما في عرابية (على ما يبدو) في شأن الأسقف هرقليد. وقام أيضًا بالأسفار إلى نيقوميدية، وإلى أثينة. سنة 250، أمر الإمبراطور داقيوس جميع المواطنين بتقديم الذبائح لآلهة الإمبراطوريّة. في ذلك الاضطهاد العنيف، أُوقف أوريجانس، عُذِّب، ولكنَّه لم يتراجع. وبعد موت داقيوس سنة 251، كان بعد حيٌّا بحسب رسائل قرأها أوسابيوس. ولكنَّه توفّي بعد ذلك الوقت بقليل، بنتيجة العذابات التي احتملها، سنة 253 أو 254. أكَّد فوتيوس، منطلقًا من دفاع بمفيل، أنّ أوريجانس مات في قيصريّة. ولكنَّه أورد تقليدًا آخر (وصل إليه من إيرونيمس، على ما يبدو) يقول إنّ أوريجانس توفّي في صور وهناك دُفن. واعتبر أنّ هذا التقليد الأخير هو الأصحّ، بدليل رسائل أوريجانس، هذا إذا كانت منه(15).

2- أوريجانس يفسِّر الكتاب

جاء عمل أوريجانس التفسيريّ في ثلاثة أشكال(16). هكذا ميَّزها إيرونيمس في مطلع ترجمة عظات إيرونيمس حول إرميا وحزقيال. السكوليّات(17) أو الشروح القصيرة لمقاطع منعزلة. التفاسير(18) وهي شروح متواصلة ومنهجيّة لمختلف أسفار الكتاب المقدَّس. العظات(19) حول النصوص البيبليّة. ندرس الشكلين الأوّلين هنا. ثمّ نعود إلى العظات، وقد ترك لنا منها أوريجانس العدد الكبير.

أ- السكوليّات أو التعاليق

ذكر إيرونيمس(20) كتابين من »عظات مختلفة« حول سفر التكوين. هو عنوان غامض. قد يدلّ على عظات وسكوليّات. فهناك جزء حول تك 5: 16 قد ورد في مخطوط من جبل آثوس (لاورا 184) على أنَّه يرجع إلى سكوليّات حول تكوين أوريجانس كما يقول مفتاح الآباء اليونان في الجزء الأوّل (1412)(21).

وأورد إيرونيمس سكوليّات حول سفر الخروج، وقد حُفظ بعضها في الفيلوكاليا أو المقتطفات أو في السلسلات التأويليّة(22). هناك مقاطع في السلسلات ترتبط بما في خر 12، بانت على أنّها جزء من مقالة حول الفصح (مفتاح 1413).

وتحدَّث إيرونيمس أيضًا عن سكوليّات حول سفر اللاويّين، وقد حُفظ جزء منها في السلسلات (مفتاح 1415). شهد على سكوليّات حول سفر العدد، روفينس، في مطلع ترجمة عظات أوريجانس حول العدد، حيث يعلن أنّه دمجها مع ترجمته. أمّا في ما يتعلَّق بمقاطع مرتبطة بهذا الكتاب، المحفوظة في السلسلات التأويليّة، فلسنا أكيدين من الموضع الذي أتت منه، ولا من صحّة نسبتها (مفتاح 1417). وفي ما يختصّ بسفر التثنية، ظنّ نوتان (حاشية 10) أنَّه وجد تلميحًا إلى سكوليّات على هذا السفر في مقطع من عظات أوريجانس حول لو 8: 3. فبالنسبة إلى هذا السفر الذي تكوَّن من 13 عظة، كما قال إيرونيمس، بقيت مقاطع تبدو نسبتُها مثار شكّ (مفتاح 1419).

وفي ما خصّ المزامير، ذكر إيرونيمس سكوليّات حول مُجمل المزامير. كما ذكر سلسلة أخرى حول مز 1-15. أمّا أوسابيوس فتحدَّث عن مز 1-25 وهذا أمر معقول. ورأى نوتان (حاشية 10) أنّ السكوليّات حول مجمل المزامير (مفتاح 1427) هي مقتطفات من تفسير كبير حول المزامير(23)، الذي ألِّف في قيصريّة فلسطين. أمّا المزامير الأخرى (مفتاح 1425) فهي تنتمي إلى الحقبة الإسكندرانيّة. من كتابَي السكوليّات هذه، لم يبقَ سوى مقاطع في السلسلات التأويليّة.

ونورد هنا ما قاله أوسابيوس (تاريخ الكنيسة، 6/24):

1   إلى ذلك، من الضروريّ أن نضيف أنَّه (= أوريجانس) يشير في الكتاب السادس من »التعليقات على الإنجيل بحسب يوحنّا« إلى أنَّه ألَّف الكتب الخمسة الأولى منه (= إنجيل يوحنّا)، وهو لا يزال في الإسكندريّة. وأنّ من العمل على الإنجيل كاملاً، وصل إلينا فقط 22 مجلَّدًا.

2   وفي الكتاب التاسع من »التعليقات على سفر التكوين« وجملته 12 كتابًا، لا يشير فقط إلى أنّ تلك التي تقدَّمت الفصل التاسع حُرِّرت في الإسكندريّة، كما التعليقات على المزامير الاثني عشر الأولى...

وتبقى مقاطع سكوليّات (أو: تعليقات) حول سفر الجامعة (مفتاح 1431) وسكوليّات حول أشعيا (مفتاح 1431). كلّ هذا ذكره إيرونيمس.

وأخيرًا تكلَّم إيرونيمس عن كتاب سكوليّات حول بعض أجزاء إنجيل يوحنّا، التي إليها تنتمي مقاطع من السلسلات (يُشكُّ في نسبتها). بدا أوريجانس وكأنَّه يشير إليها في مقطع من تفسير إنجيل متّى (مفتاح 1453). أمّا وجود سكوليّات أوريجانيّة حول سفر الرؤيا (مفتاح 1468)، فأمر مشكوك فيه جدٌّا(24).

ب- التفاسير

أوَّلاً: العهد القديم

من تفسير في ثلاثة عشر كتابًا (14 على لائحة إيرونيمس، ويبدو أنّنا أمام خطأ) حول سفر التكوين، بقيت لنا مقاطع في »أبولوجيا بمفيل« في مختلف مؤلَّفات أوسابيوس، في الفيلوكاليا، في السلسلات التأويليّة، ومقطعان على الورق البرديّ (مفتاح 1410، يُشكّ في أمرهما).

المزامير. أورد إيرونيمس تفاسير منفصلة حول 39 مزمورًا، وصولاً إلى مز 72 الذي شُرح أوَّله فقط. كلُّها في كتاب واحد، ما عدا تفاسير حول مز 43 (في كتابين) 44 (في ثلاثة كتب) 50 (في كتابين). ثمّ كتابان حول مز 103 (بل مز 118 كما قال نوتان). يبدو أنّ هذه النصوص انتمت إلى محاولة واسعة (لم تنتهِ) لشرح المزامير. حُدِّد موقعها حين الإقامة في قيصريّة. بقيت مقاطع من المقدِّمة وحول مزامير مختلفة في الفيلوكاليا والسلسلات التأويليّة.

وقبل أن نواصل هذه السلسلة الطويلة التي لا بدّ من التعرُّف إليها لكي نكتشف العمل الجبّار الذي قام به أوريجانس، ذاك الذي ما جاراه عالم في تاريخ الكنيسة على امتداده، نسأل: لماذا ضاع هذا كلُّه، ساعة بقيت آثارُ أوغسطينس في الغرب أو الذهبيّ الفم في الشرق؟ كلّ هذا يعود إلى الجدالات الأوريجانيّة. تُركت الآثار، أتلفت، أحرقت، كما حصل مثلاً لتيودورس أسقف المصيصة. أمّا ما بقي من مؤلَّفات أوريجانس فما وصل في اللغة الأصليّة، اللغة اليونانيّة، بل في اللغة اللاتينيّة. أمّا السريانيّة (وفي خطِّها الأرمنيّة) فلم تترجمه، لأنَّها رفضت أصلاً أسلوبه في الاستعارة، التي فيها نقرأ معنى آخر غير الموجود في الكتاب. ذاك في الواقع هو معنى اللفظ »ألّيغوريّا«، كما كشفه الشرّاح اليونان في كتبهم القديمة.

إنّ اللائحة الكاملة لمؤلَّفات أوريجانس، التي أضافها أوسابيوس إلى السيرة التي دوَّنها صديقه ومعلِّمه بمفيل، ضاعت هي أيضًا. وحسب إيرونيمس (في كلامه إلى روفينس 2: 22) الذي استعان بهذا النصّ، فالمقالات وصلت إلى 2000 مقالة. واعتبر إبيفانيوس (الهراطقة 64: 63) أنّ نتاج أوريجانس الأدبيّ عدّ 6000 كتابًا (أو مقالاً). هذا ما يذكِّرنا بما قيل عن أفرام السريانيّ حيث وصلت أشعاره إلى الملايين، كما قال كاتبو سيرته من بعده. يبقى بالنسبة إلى أوريجانس أنّنا لا نعرف سوى 800 عنوان لهذه المقالات. وقد ذكرها إيرونيمس في رسالة إلى باولا (الرسالة 33). وإن كان أوريجانس استطاع أن ينشر هذه المؤلَّفات العديدة، فلأنَّه وجد المساعدة على كلِّ الصعد. بناء كبير دمَّره الناس إن لم تدمِّره الأيّام. ونضيف بأنّ الترجمات لم تكن دومًا على عمق النصّ.

سفر الأمثال: ذكر إيرونيمس سبع عظات حول الأمثال. كما ذكر شرحًا في ثلاثة كتب مع كتاب »أسئلة«: إلى هذه المؤلَّفات الثلاثة ينتمي مقطعان صحيحان يتضمّنهما »دفاع بمفيل عن أوريجانس«، كما ينتمي اثنان آخران (يُشكّ في أمرهما) نجدهما في السلسلات التأويليّة (مفتاح 1430). إحتفظت الفيلوكاليا بمقطع لتفسير في كتابين حول نشيد الأناشيد، »ألِّف في وقت الصباح«، كما قال إيرونيمس (مفتاح 1434). بعد ذلك، كان تفسير في عشرة كتب. حفظه لنا روفينس حين نقله إلى اللاتينيّة وأوجزه في أربعة كتب(25). كما حُفظت مقاطع في اليونانيّة (مفتاح 1433).

أشعيا. كان شرحٌ في ثلاثين كتابًا حول أشعيا. وقال إيرونيمس: 36 كتابًا (أخطأ لأنَّه ضخَّم). بقيت مقاطع (مفتاح 1435). المراثي: خمسة كتب. (مفتاح 1439) حزقيال: 25 كتابًا (بحسب أوسابيوس. قال إيرونيمس 29 كتابًا، مفتاح 1440). وعُرف لهوشع كتاب واحد حول اسم أفرائيم. كما بقي لنا من تفسير آخر لهوشع عرفه أوسابيوس، بعد أن خسر بدايته ونهايته، مقطع واحد في الفيلوكاليا (مفتاح 1433). ووُجد مقطع واحد على الورق البرديّ لشرح يوئيل في كتاب واحد. مقابل ذلك، لم يبقَ شيء من شرح عاموس (في ستّة كتب) ويونان (كتاب واحد) وميخا (3 كتب) وناحوم (كتابان) وحبقوق (3 كتب) وصفنيا (كتابان) وحجّاي (كتاب واحد) وبداية زكريّا (كتابان) وملاخي (3 كتب).

ثانيًا: العهد الجديد

في العظات، توخّى أوريجانس بناء الجماعة وإرشاد المؤمنين. أمّا في التفاسير، فاهتمّ بإعطاء التأويل العلميّ. فنجد عنده مزيجًا من المعلومات الفلسفيّة والنصوصيّة والتاريخيّة، بالإضافة إلى ملاحظات لاهوتيّة وفكريّة. أعتنى أوريجانس، قبل كلِّ شيء، بالمعنى التصوُّفي، المستيكيّ. أراد أن يدخل في سرّ الإيمان والدين، ويكتشف عمق الكتاب. فلا يبقى عند الحرف والمعنى اللفظيّ الذي لا يجسر على الخروج من النصّ. مثل هذا الشرح الذي يعرفه الكثير اليوم، يبقى خارج النصّ، فيكرِّره ويلوكه. ويبقى عند القشرة دون الوصول إلى اللبّ. أدرك أوريجانس المدلول العميق للأسفار البيبليّة في شكل يدلّ على موهبة جعلته يلج المعنى الروحيّ، وهو أمرٌ غاب عن عدد من الشرّاح الذين جاؤوا بعده. ولكن كما لاحظنا، لم يبقَ سوى القليل من هذا الفيض في تفسير الكتاب المقدَّس.

شرحُ إنجيل متّى. دُوِّن سنة 214. في قيصريّة، في 25 كتابًا. بقي لنا في اليونانيّة 8 كتب. هي 10-17 التي تعالج مت 13: 36-22: 33. وبقي أيضًا مقاطع عند أوسابيوس، بمفيل، في الفيلوكاليا، وفي السلسلات التأويليّة. كما بقي أيضًا ترجمة لاتينيّة لما في 16: 13- 27: 63. قُسمت بشكل مصطنع في عظات. وهي تُنشَر، بالنسبة إلى النصّ الموازي في اليونانيّة (حتّى مت 22: 33) بحسب قسمة النصّ اليونانيّ. وما تبقّى، يُنشَر في عنوان: مجموعة تفاسير(26).

إنجيل لوقا. ذكر إيرونيمس تفسيرًا في 15 كتابًا لم يبقَ سوى أجزاء، ونحن لا نستطيع أن نعرف إن كانت من هذا التفسير أو من مؤلّفات أوريجانيّة غيرها.

إنجيل يوحنّا. 22 كتابًا. بقي 1، 2، 6، 10، 13، 19، 20، 28، 32 (ينتهي مع يو 13: 33). والأجزاء التي نقلتها السلسلات التأويليّة، ليست بأكيدة. وقد تعود إلى مؤلّفين آخرين.

تحدَّث إيرونيمس وروفينس عن تفسير للرسالة إلى رومة في 15 كتابًا(27)، بقيت ترجمة لاتينيّة في 10 كتب. نقلها روفينس الذي لم يجد الأصل كلَّه. فأكمل من عنده، كما أوجز نصّ أوريجانس. وحُفظت أجزاء يونانيّة في الفيلوكاليا، في برديّة طورا (روم 3: 5-5: 7)، عند بمفيل، عند باسيليوس القيصريّ، في مخطوط في جبل آثوس، وفي السلسلات التأويليّة (مفتاح 1457). وكانت الرسالة إلى غلاطية في 15 كتابًا فحُفظت منها مقاطع عند بمفيل (مفتاح 1459). وفي أبولوجيا على روفينس بيد إيرونيمس، وفي السلسلات، وُجدت أجزاء من 3 كتب حول الرسالة إلى أفسس (مفتاح 1460). لم يبقَ من تفسير فيلبّي في كتاب واحد سوى بعض الإشارات في مخطوط لاورا 184 في جبل آثوس. وحفظت أجزاء قليلة من 3 كتب عن الرسالة إلى كولوسّي (مفتاح 1461)، من 3 كتب حول 1 تس، ولا كتاب واحد حول 2 تس (مفتاح 1462-1463)، ونقول الشيء عينه عن كتاب واحد حول تيطس، وكتاب واحد حول فيلمون (مفتاح 1465). في الدفاع، أورد بمفيل أربعة أجزاء من »كتب حول عب« (مفتاح 1467). قد تأتي من تفسير لم يُذكَر في موضع آخر، أو من عظات سترد فيما بعد(28).

ثالثًا: متى دوِّنت هذه التفاسير

قبل أن نجيب عن هذا السؤال، نودّ أن نقول بعض السبب الذي جعل التفاسير تضيع إلاّ القليل منها، ساعة بقيَت لنا العظات. لا شكّ، طول التفاسير. أسلوبها الصعب الذي يتطلَّب البحث والتنقيب. وفيها يجد القارئ العناصر الأساسيّة في لاهوت أوريجانس وفكره. وفي أيّ حال، ما اهتمّ النسّاخ على مدى التاريخ بأن ينسخوا جميع التفاسير، بعد أن اعتبروا العظات كافية.

ونعود إلى كرونولوجيّة التفاسير. ونقرأ أوسابيوس في الكتاب السادس (24): كان بعد في الإسكندريّة حين ألَّف الكتب الخمسة الأولى من إنجيل يوحنّا. ألّف كتاب »المبادئ« قبل رحيله من الإسكندريّة. قرأ أوسابيوس نصوص أوريجانس، وحدَّد أيضًا أنّه ألَّف في الإسكندريّة تفسير سفر التكوين في ثمانية كتب. وكذلك تفسير مز 1-25 ثم حول المراثي. وفي مقدِّمة الكتاب السادس من تفسير يوحنّا، شرح أوريجانس لأمبروسيوس صديقه، أنَّه بدأ يدوِّن هذا الكتاب في الإسكندريّة. والآن، وقد استعاد بعض السلام في قيصريّة، رجع إلى البداية، لأنَّه لم يأتِ بتلك »البداية« معه من الإسكندريّة (6: 8-12). وظنّ نوتان أنَّه يستطيع أن يحدِّد زمن تفاسير مز 1-25، مرا، سنة 222-225. وتفسير سفر التكوين (كتب 1-8) حوالي سنة 229، مع كتاب المبادئ. والكتب 1-5 من تفسير يوحنّا إلى سنة 231-232. وقد يكون ألَّف الكتاب الخامس خلال إقامته في أنطاكية، والكتاب السادس، بعد الإقامة في أنطاكية بوقت قليل. أمّا تأليف الكتب التالية، فيتوزَّع في ما تبقّى من حياته. أمّا تفسير نش فهو من زمن الصبا، وبالتالي قبل جميع هذه المؤلَّفات.

وحسب الكتاب السادس للتاريخ الكنسيّ (ف 32)، نعرف أنَّه ألَّف التفاسير حول أشعيا وحزقيال، في زمن غورديانس (238-244). وخلال سفر إلى أثينة أنهى هناك الكتب في حزقيال. كان ذلك سنة 240. وكتب في الوقت عينه، خمسة كتب حول نشيد الأناشيد. وأنهى التفسير في قيصريّة مع الكتاب العاشر. وانتمى تفسير متّى والأنبياء الاثني عشر إلى حقبة فيلبّس العربيّ (244-249)، حسب أوسابيوس (6/36:2). كان الإيمان يتضاعف »وعقيدتُنا يبشِّر بها الجميعُ بكلِّ حرّيّة«، وكان أوريجانس، كما قيل، قد بلغ أكثر من ستّين عامًا (سنة 245)، واكتسب من جرّاء إعداده الطويل مرونة كبيرة. لهذا، »سمح لناقلين سريعين بتدوين الأحاديث التي يلقيها علانية« (6/36: 1). ونوجز ذلك مع نوتان: أش + حز، 244-245. نش، مز، أم، جا، أنبياء صغار: 245-247. لوقا ومتّى، 249.

رابعًا: هدف أوريجانس ونهجه

* الهدف من التفسير

خطَّط أوريجانس منذ البداية، من أجل تفسير منهجيّ للأسفار المقدَّسة. وفي ما يتعلَّق بالأوكتاتوكس أو المجلَّدات الثمانية، استطاع أن يحقِّق تفسير جزئين لسفر التكوين. وسكوليّات (تعليق) فقط لما تبقّى من سفر التكوين، حتّى سفر العدد، وربّما سفر التثنية. ومن الأنبياء، فسَّر أشعيا وحزقيال والأنبياء الصغار. وإذ كان يفسِّر الأنبياء الصغار، وبعد تفسير أشعيا، تطرَّق إلى الكتب الحكميّة. بدأ بنشيد الأناشيد ثمّ انتقل إلى المزامير وسفر الأمثال. وراعى ترتيب البيبليا اليونانيّة: مز، أم، جا، نش، أي. وما توصَّل أن يكتب عن جا سوى سكوليّات. ولم يكتب شيئًا عن أيّوب.

شكَّل هذا المشروع الواسع أمرًا جديدًا في المسيحيّة القديمة. فقبل أوريجانس، لا نمتلك سوى تفسير لبعض الأسفار كما فعل إكليمنضُس الإسكندرانيّ حين انطلق من آية بيبليّة وكتب الحواشي في شأنها، لا التفسير المنهجيّ. ارتبط هذا، على ما يبدو، بنهج تعليميّ وأراد أن يتوسَّع في المواضيع اللاهوتيّة، انطلاقًا من تأويل مقاطع كتابيّة في إطار التأويل المنهجيّ للأسفار البيبليّة. في هذا المعنى، أتاحت التفاسير أيضًا بالبلوغ إلى طريقة التعليم لدى أوريجانس. ولكن يبقى أنّ أوريجانس لا يوسِّع دومًا في التفاسير، المواضيعَ اللاهوتيّة التي يُوحي بها النصّ. مثلاً، في تفسير يو 6: 14، تحدَّث عن مسائل حول النفس، دون أن يناقشها في هذا الموضع.

قبل أن نصل إلى النهج والأسلوب، نرافق أوريجانس الذي يُعلن أنّ ينبوع كلِّ حقيقة دينيّة هي تعليم المسيح ورسالته (كيرغماتا، الكرازة). هذا ما نعرفه حين نقرأ مقدِّمة »في المبادئ«:

فالذين اعتقدوا وتيقَّنوا أنّ النعمة والحقّ يأتيان بيسوع المسيح، وأنّ المسيح هو الحقّ عينه، بحسب قوله الواضح: »أنا هو الحقّ«. هؤلاء لا يطلبون علم الفضيلة والسعادة إلاّ في أقوال المسيح نفسها وفي تعليمه. هذا لا يعني أنّنا نفهم فقط الألفاظ التي تلفَّظ بها على أنّه إنسان، في حياته وموته. فالمسيح، كلمة الله، كان قبل ذلك الوقت في موسى وفي الأنبياء. فكيف كان باستطاعتهم، من دون كلمة الله أن ينبئوا المسيح؟ فإذا أردنا أن نبرهن عن ذلك، لن يكون من الصعب أن نبيِّن بواسطة الكتب الإلهيّة، أنَّهم امتلأوا من روح المسيح. فتكلَّم موسى والأنبياء وفعلوا كلَّ ما فعلوا... والمسيح بعد صعوده يواصل التكلُّم في الرسل. وهذا ما يدلّ عليه بولس حين يقول: »أتريدون أن تمتحنوا ذاك الذي يتكلَّم فيّ، المسيح؟«

ويعتبر أوريجانس أنّ الأنبياء والرسل لم يكتبوا كلّ شيء. بل تركوا للأجيال اللاحقة أن تواصل العمل بهدْيِ الروح القدس. فواصل كلامَه في مقدِّمة المبادئ، 3:

يجب أن نعلم أنّ الرسل القدّيسين الذين كرزوا الإيمان بالمسيح، بيَّنوا لجميع المؤمنين، حتّى لأولئك الذين لم يطلبوا بإلحاح العلم الإلهيّ، بعضَ النقاط التي اعتبروها ضروريّة، وتركوا الاهتمام بالبرهان على هذه الأقوال، للذين تأهَّلوا بعطايا الروح السامية، وخصوصًا للذين نالوا من الروح القدس بالذات، نعمةَ الكلام والحكمة والعلم. اكتفوا بأن يقولوا ما كان، دون أن يشرحوا السبب والكيفيّة. وهكذا تركوا في الأزمنة الآتية، للأحبّاء المؤمنين، بالدرس والحكمة، مادّة يتمرَّسون فيها ويُثمرون.

* النهج والأسلوب

أمّا في ما يتعلَّق بنهج أوريجانس، فلا نستطيع أن نقدِّم هنا سوى لمحة نمطيّة. فالفرضيّة السابقة، الفرضيّة الأفلاطونيّة الأساسيّة، أي التمييز بين مستوى الواقع المعقول، الروحيّ، الكامل (أو الواقع الحقيقيّ) وبين المستوى المحسوس العابر، الناقص. فهذا صورة عن الأوّل. كلّ هذا يجد تقابلاً في فكرة تقول: في الكتاب مستويان من المعنى: المعنى الحرفيّ، هو في متناول الجميع. هو في الواقع الواجهة التي وراءها يختفي المعنى الروحيّ. وهو صورة الواقع الإلهيّ. أن يُخفي المعنى الحرفيّ للكتاب مدلولاً أكثر عمقًا وأكثر حقيقة، ليس فكرة من أوريجانس. فالفلاسفة اليونان لجأوا إلى الألّيغوريّا(29) ليستخرجوا حقائق عميقة من نصوص هوميرس ومن الميتولوجيّا. وفي الإسكندريّة، استند فيلون هو أيضًا إلى الأفلاطونيّة، فوسَّع قراءة ألِّيغوريّة للبنتاتوكس. ولكنّنا نجد أيضًا، في داخل المسيحيّة، ميلاً يروح في هذا الاتّجاه. فمسيحيّة البداية اعتبرت حياة يسوع على أنّها المجيء (الأوّل) للمسيح. وبالتالي اعتبرت نفسها الجماعة الإسكاتولوجيّة. ففي الواحدة كما في الأخرى، تحقَّقت النبوءات البيبليّة الموجَّهة صراحةً نحو المستقبل. وهكذا يجد الوحي البيبليّ كلّه أكمل معناه.

هنا يتمكَّن المؤمن، بل تُفرَض عليه قراءة تمضي إلى ما وراء المعنى المباشر للنصوص. فيفهم انطلاقًا من الإيمان بيسوع المسيح، كيف أنّ الله سبق وتبيَّن أنّ كلّ التاريخ المقدَّس يجب أن يتمّ في يسوع. وهكذا استطاع بولس أن يؤكِّد أن الصخر الذي شرب منه العبرانيّون في البرّيّة، كان المسيح. وأنّ الأحداث التي حصلت لشعب إسرائيل في البرّيّة، ورواها الخروج، شكّلت »نماذج لنا« نحن العائشين في تمام الأزمنة (1كور 10: 1-11). وأن خبر ابنَي إبراهيم في سفر التكوين قد »قيل ألّيغوريٌّا« (غل 4: 24). هذا يعني أنّ له مدلولاً يختلف عن مدلوله الظاهر، بحيث يُحيلنا إلى العهدين وإلى الأورشليميّين، أورشليم الأرضيّة وأرشليم السماويّة.

هذا المقطع الأخير يبيِّن منذ الآن كيف نستطيع بسهولة، في منظار المسيحيّين الأوّلين، أن نربط ألّيغوريّا »عبوديّة« (تحيلنا إلى حقائق حاضرة ولكن سامية) شبيهة بألّيغوريّة فيلون، وألّيغوريّا »أفقيّة« (تحيلنا إلى حقائق مقبلة بالنسبة إلى زمن تحرير النصّ)، بهذا ترسم الأقوالُ البيبليّة مسبقًا خبر يَسوع الحاضر وخبر المسيحيّن. والرسالة إلى العبرانيّين هي المثل الصارخ عن توسُّع كبير في هذين الاتّجاهين. في هذا المنظار، ينحطّ المعنى المباشر للنصوص إلى وضع صورة ناقصة، ويمثِّل المعنى الألّيغوريّ الواقعَ وتتمتّه.

خامسًا: ثلاثة مستويات

كان كلّ التأويل المسيحيّ السابق لأوريجانس متأثِّرًا بهذا اليقين. ولكنَّ الفضل يعود إلى أوريجانس في أنَّه جعله في نهج مرتَّب. قبل كلِّ شيء، طرح مسألة المعايير التي تُحدِّد متطلِّبات تفسير ألّيغوريّ للمعنى البيبليّ. فوجدها بدون صعوبة في عناصر داخليّة للنصّ نفسه، تمنعنا من أخذ هذا النصّ في معناه الأصرح. نحن هنا أمام تأثير الإحساس لدى المحيط المثقَّف، اللايهوديّ واللامسيحيّ، الذي اكتشف في البيبليا كمّيّة عناصر لا تليق بالله مثل الأنتروبومورفيّة (أو تصوير الله في شبه الإنسان) واللاأخلاقيّة. وكانوا يشكِّكون في ذلك(30).

في كتاب »المبادئ« (4: 3) جمع أوريجانس لائحة بأمثلة في مقاطع بدا المعنى فيها مستحيلاً أو لامعقولاً، إذا فُهمت فهمًا حرفيٌّا. فاستنتج أنّ أمورًا عديدة لا يمكن أن تكون حصلت، وأن فرائض عديدة لا يمكن أن تُنفَّذ. والنصوص من هذا النوع لا ترد فقط في العهد القديم، بل في العهد الجديد أيضًا. مثلاً لماذا نقتلع العين اليُمنى إذا كانت مناسبة خطيئة، ساعة لم تكن خاطئة أكثر من اليسرى؟ (مت 5: 29- ناقش أوريجانس هذا في تفسير متّى 15/2). ولعب أيضًا دورًا هامّا يقينٌ يقول بأنَّ لا شيء في الكتاب المقدَّس يكون بلا معنى وبلا فائدة من أجل بنيان الجماعة وتعليمها. ذاك هو الوضع مثلاً في فرائض عديدة نقرأها في سفر اللاويّين، إن قرأناها في حرفيّتها. ينتج عن ذلك، الحقّ، بل الضرورة بأن نطبِّق تطبيقًا منهجيٌّا على النصوص البيبليّة، البحث عن معنى أعمق. ويبقى أنَّ أوريجانس يبرِّر هذا النهج، فيبحث مرارًا وأكثر، عن لاتماسك في النصّ البيبليّ(31).

إنّ البحث عن المعنى الخفيّ سيُبنى بعد ذلك بحسب خطوط متنوِّعة. ربط أوريجانس الأنتروبولوجيّا المعروفة، المؤسَّسة على التمييز بين الجسد والنفس والروح، بثلاثة مستويات لقراءة النصوص المقدَّسة: القراءة الحرفيّة، القراءة الخلقيّة، القراءة الروحيّة.

هنا نقرأ بعض ما ورد في كتاب »المبادئ« (4/1: 11):

يبدو لي أنّ الطريقة التي بها يجب أن نقرأ الكتب المقدَّسة، ونبحث عن مدلولها هي التالية: »نستند إلى الكتب نفسها. وقد وصلتنا من سليمان، في سفر الأمثال، قاعدةٌ حول التعليم الإلهيّ للكتاب: »ترسمُها في ثلاثة أشكال، في المشورة والعلم، لتجيب عن أقوال الحقّ للذين يعرضونها عليك« (أم 22: 20-21). إذًا، ينبغي أن نترجم أفكار الكتاب المقدَّس في ذاته، في ثلاثة أشكال مختلفة. البسيط يُبنى بالكتاب بواسطة البشريّ (باللحم والدم)، إذا استطعنا أن نقول هكذا، هذا ما ندعوه المعنى الطبيعيّ. والذي تَقدَّم بعض الشيء يُبنى بالنفس، في شكل من الأشكال. أمّا الكامل فيُبنى بواسطة الشريعة الروحيّة التي تتضمَّن ظلَّ الخيرات الآتية. فكما أنّ الإنسان يتكوَّن من جسد ونفس وروح، كذلك الكتاب المقدَّس: أقامه الله لكي يمنح الخلاص للبشر.

إنّ القراءة الروحيّة تستطيع أن تحمل أكثر من إسناد: واقع الرباط بين النفس والله أو المسيح. المسيح ذاته. الكنيسة. الأزمنة الأخيرة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، لا تكون التتمّةُ الحقيقيّة، خلال المجيء الأوّل للمسيح، ولا في حاضر الكنيسة. فهذه المعطيات هي أيضًا صور عن هذه التتمّة التي تكون مع مجيء المسيح في المجد. فالشريعة ظلٌّ يجد تحقيقه في مجيء المسيح الأوّل. وهذا المجيء الأوّل هو بدوره ظلّ يتحقَّق في المجيء الثاني، في ما يدعوه سفر الرؤيا، الإنجيلَ الأبديّ (رؤ 14: 6) ليقابله مع الإنجيل الحاضر الذي هو في الزمن (المبادئ 4/3: 13)(32).

وفي موضع آخر، يُعبَّر عن العلاقة بين هذه الأزمنة الثلاثة، انطلاقًا من الرسالة إلى العبرانيّين (10: 1) التي تقول: »تتضمَّن الشريعة ظلّ الخيرات الآتية، لا صورة الواقع نفسها«. بحسب هذه الرسمة، الذبيحة في العهد القديم هي الظلّ. وتتبعه في درجة أعلى، الصورةُ التي تقابل ذبيحة المسيح. وأخيرًا، يتكوَّن الواقع بالخيرات السماويّة المرتبطة بتشفُّع المسيح الممجَّد لدى الآب (عظة حول مز 38، 222). ولكنَّ العهد الجديد ليس فقط صورة الواقع الإسكاتولوجيّ أو الإنجيل الأبديّ، بل أيضًا صورة الواقع الروحيّ المتعلِّق بتتمّة الخلاص في الكنيسة. هكذا دلَّت الأشفية التي أجراها يسوع، على أنَّه شفى من الضلال والخطيئة.

سادسًا: تفسير يوحنّا

نأخذ مثلاً من تفسير يوحنّا: شرح يو 2: 14-17: طرد الباعة من الهيكل (التفسير 10: 119-124). لاحظ أوريجانس أوَّلاً أنّ متّى ومرقس ولوقا ربطوا هذا الحدث بدخول يسوع الظافر إلى أورشليم، قبل الحاش والآلام. أمّا يوحنّا فحدَّد موقع الحدثين (طرد الباعة، ودخول يسوع) في زمنين مختلفين من حياة يسوع: مثلُ هذا التعارض يمنعنا منذ الآن من التوقُّف عند الخبر، historia في المعنى الحرفيّ. لهذا، راح أوريجانس يبحث بالتفصيل عن المعنى الخفيّ kekrummena. فأورشليم في المعنى الروحيّ، هي المدينة السماويّة التي مواطنوها منذ الآن النفوس القادرة على الارتفاع إلى الأمور المعقولة (= على مستوى العقل). ولكنَّ سكّانها أيضًا قد يكونون في حالة الخطيئة. حينئذٍ تمثِّل أورشليم بالأحرى الكنيسة، بحسب تفسير آخر عزيز على قلب أوريجانس.

في المقطع الذي نقرأ، يتمّ التماهي الصريح بين الهيكل والكنيسة. في أيِّ حال، دخل يسوع إلى المدينة وإلى الهيكل، ليحمل الخلاص. ففي الكنيسة تجّار عديدون. وأن يكون يسوع قلبَ الموائدَ التي كان عليها مال التجّار، يدلّ على أنَّه يقلب ويدمِّر الطمع في النفوس (إذًا هنا، الهيكل هو النفس). ثمّ إنّ طرد الحيوانات المهيّأة للذبائح، تبيِّن أنّها لن تُنحَر بعد في الزمن القريب، بحسب العادات اليهوديّة. بعد ذلك، فُسِّرت الحيوانات المطرودة في فئات، على أنّها رموز للميول الشرّيرة في النفس.

هنا نقرأ شرح يوحنّا(33) (10: 141-142)

141 يمكن للنفس الناعمة بالعقل logos، والتي بفضل هذا العقل الفطريّ، يكون لها مسكنٌ أعلى من الجسد، يمكنها أن تكون بالطبيعة هيكلاً إليه صعد يسوع متواضعًا حين خرج من كفرناحوم التي هي في الأدنى الأدنى. فقبل أن يعاقبها يسوع، وُجدت فيها تحرُّكات أرضيّة، لا عاقلة، لا مرغوبة، وخيرات مزعومة وما هي بخيرات. بواسطة الكلام حيث تتداخل تعاليماً قادرة على الإقناع والردّ، طردها يسوع(34)، لكي لا يعود بيتُ أبيه فيكون بيت تجارة (يو 2: 6)، فيتقبّل أيضًا من أجل خلاصه وخلاص العدد الكبير، عبادة الله التي نحتفل بها حسب النواميس السماويّة والروحيّة.

142 البقرة رمز التحرُّكات الأرضيّة، لأنّها تعمل في الأرض. الخروف رمز التحرُّكات البليدة والبهيميّة، لأنّه مستعبَد أكثر من حيوانات عديدة، لا عقل لها. والحمامة رمز البراهين الفارغة والمهلهلة. والمال رمز الخيرات المزعومة.

ردّ أوريجانس على اعتراض يمكن أن يقدِّم على هذا التفسير الألّيغوريّ: الحيوانات المذكورة هنا هي طاهرة (بحسب الشريعة، فتقدَّم ذبائح). أجاب: في أيِّ حال، يستحيل أن نُدخل إلى الهيكل، من أجل الذبائح، حيوانات نجسة. نظنّ أنّ أوريجانس أُخذ في تناقض على نفسه في غفلة منه، لأنَّه لم يقبل بالمعنى الناقص. ولكن نلاحظ حالاً أنّ الأمر ليس هكذا: فالمسألة تقوم في تاريخيّة الواقع، لأنّنا لا نرى كيف أنّ يسوع استطاع أن يقوم بهذا الفعل، وحده (لأنّ التلاميذ لا يُذكَرون في هذا الموضع) دون أن يلقى مقاومة. انطلق أوريجانس من هنا، وحلَّل الخبر الموازي للدخول إلى أورشليم في مت 21، فبيّن عددًا من الصعوبات من أجل التفسير الحرفيّ: أيّة فائدة في أن يُروى عن يسوع أنّه جلس على أتان وجحش؟ ألا يحقِّق هذا التفصيل نبوءة أوردها متّى (زك 9: 10). أو أيضًا: هل يحتاج ابن الله إلى أتان؟ وأخيرًا، كانت أمور لامعقولة، بينها إمكانيّة حقيقيّة بأن يطرد يسوع وحده البائعين والشارين العديدين. وهذا ما يعيدنا إلى الصعوبة التي واجهناها في البداية عند يوحنّا.

هذا ما يُتيح لأوريجانس أن يقدِّم تأويلاً ألّيغوريٌّا مفصَّلاً. ونحن نورد منه 10: 174-175 (حاشية 33، ص 488-491):

يسوع هو كلمة الله. أراد أن يَدخل في النفس المسمّاة أورشليم، فركب أتانًا حرَّرها التلاميذ من قيودها، من الحرف المجرَّد والبسيط في العهد القديم. استنارت بيد التلميذين اللذين فكّا رباطها. واحد كيَّف النصّ على شفاء النفس، وأخرج منه ألّيغوريّات (أو معاني جديدة)، وآخر أرى الخيرات الحقيقيّة الآتية عبر تلك التي في الظلّ. ويسوع محمول أيضًا على جحش صغير، هو العهد الجديد. فنستطيع أن نجد في هذا وذاك (العهدين) كلام الحقّ الذي يطهِّرنا ويطرد كلَّ البراهين التي تهتمّ فينا، بالبيع الشراء.

سابعًا: تأويل هرقليون وردّ أوريجانس

دوَّن أوريجانس تفسير يوحنّا وقدَّمه لصديقه أمبروسيوس. وإذ كان يشرح، جعل أمامه تفسير هرقليون(35). ونحن نقدِّم أوَّلاً تأويل هرقليون، ثمّ ردّ أوريجانس.

تأويل هرقليون 10: 33:

210 نرى أيضًا تفسير هرقليون الذي أكَّد أنّ الصعود إلى أورشليم يدلّ على صعود الربّ، الذي انتقل من الأمور المادّيّة (ترمز إليها كفرناحوم، 6/11: 48) إلى المنطقة البسيخيائيّة (بسيخي، النفس) التي صورتُها أورشليم(36).

211 فإن كُتب أنّه »كان في الهيكل« (يو 2: 14) لا »في الرواق«، فقد ظُنّ أنَّه قال لئلاّ يتخيَّل أحد أنّ المدعوّين وحدهم، المحرومين من الروح، ينالون عون الربّ. فهو يفترض أن hiéron هو قدس الأقداس، الذي لا يدخله سوى عظيم الكهنة (عب 9: 7)، وحيث يُدخل الروحيّين. فالرواق pronaos (أمام الناووس، المعبد) حيث يكون اللاويّون، هو رمز البسيخيائيّين الذين ليسوا جزءًا من البليروما، والذين يخلصون مع ذلك.

212 ثمّ، بحسب تفسيره (هرقليون): باعة البقر والخراف والحمام والصرّافون، الذين وجدهم يسوع في الهيكل (يو 2: 14) يدلّون على الذين لا يبيعون لأحدٍ شيئًا مجّانًا. بل يعتبرون مجيء الغرباء إلى الهيكل مناسبة للتجارة والربح، فينظّمون الذبائح المقدَّمة لعبادة الله من أجل منفعتهم الشخصيّة وحبّ الغنى.

213 أمّا السوط الذي ما تسلَّمه يسوع من شخص آخر، بل جدله بنفسه (يو 2: 15) فيشرحه (هرقليون) بطريقته ويقول: السوط هو رمز قوّة الروح القدس ونشاطه، هذا الروح الذي يشتّت الأشرار بنَفَسه. فالسوط والكتّان وكلّ قماش نباتيّ وكلّ الأغراض التي من هذا النوع، هي صورة عن قدرة الروح القدس ونشاطه.

214 ثمّ يأخذ على نفسه بأن يضيف ما لم يُكتَب. أيّ أنّ السوط تثبّت بقطعة خشب. ثمّ يشرح: قطعة الخشب هذه هي مثل صورة الصليب(37). وقال: على هذا الصليب يهلك ويفنى التجّار ولاعبو الحظّ وكلّ شرّير.

215 لستُ أدري لماذا سعى لكي يفهم ما صنعه يسوع، فقال بلا تمييز أنّ السوط  فُبرك بواسطة هاتين المادّتين (الخشب والحبال) لأنَّه (كما قال) ما أراد أن ينسجه بنعل حيوان ميت (وإلاّ نجِّس الهيكل)، بحيث لا تكون كنيسته (جماعة الروحيّين) بعدُ مغارة لصوص وتجّار، بل بيتَ أبيه (مت 21: 13؛ يو 2: 16).

216 نرتكز على هذه الأقوال، فنقدِّم له (هرقليون) الملاحظات الضرورية حول الألوهة. إن أعلن يسوع أنّ أورشليم هي بيت أبيه، وأنّ هذا الهيكل بُنيَ لمجد خالق السماء والأرض (رؤ 10: 6)، فكيف لا نتعلَّم بوضوح فنرى أنَّ ابن الله هو ابن خالق (باري) السماء والأرض، لا ابن أحد آخر(38).

34: 217 بما أنَّه بيت صلاة، ففي هذا البيت، بيت أبي يسوع، أمر الملاك رسل المسيح، كما نرى ذلك في أعمال الرسل، بأن يقفوا ويُعلنوا »للشعب كلّ كلمات هذه الحياة« (أع 5: 20).

218 وبما أنّه بيت صلاة، مضوا يصلّون فيه، مرورًا بالباب الجميل (أع 3: 1-2). ما كانوا ليعملوا ذلك لو لم يعرفوا أنَّ إلههم هو ذاك الذي يعبده أولئك الذين قدَّسوا هذا المعبد.

219 ولأجل هذا أيضًا. أطاع بطرس والرسل الله، لا الناس، فقالوا: »إله آبائنا أقام يسوع الذي قتلتموه حين علَّقتموه على الخشبة« (أع 5: 29-30). فقد عرفوا أنّ يسوع ما أُقيم من الموت بيد إله آخر غير إله آبائهم. فهو ذاك الذي مجَّده يسوع حين دعاه إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، الذين ليسوا أمواتًا بل أحياء (مت 22: 32).

220 وإن لم يكن هذا البيت بيت الله بالذات، الذي هو إله المسيح، فكيف تذكّر التلاميذ مقطع مز 69: 10: »غيرتي على بيتك أكلتني«. فهذا ما يقوله نصّ النبيّ (داود)، لا: يأكلني (الآن).

223 ما فكَّر هرقليون إطلاقًا. فنسب »غيرة بيتك أكلتني« إلى القوّات التي طردها المخلِّص وأفناها (مت 27: 34، 48؛ لو 23: 36؛ يو 19: 28): إنَّه لا يستطيع بهذه الطريقة أن يحافظ على تسلسلات نبوءة هذا المزمور الذي يعتبر أن قد تلفَّظ به، قوّاتٌ طُردت وفنيَت.

224 ويتبع بحسبه (= هرقليون) أنّ آية المزمور عينه: »جعلوا في طعامي مرٌّا« (آ22) هي منها (من هذه القوّات). يبدو أنَّه تبلبل باللفظ »يأكلني«. ففكَّر أنّ مثل هذا الإعلان لا يمكن أن يأتي من المسيح، لأنَّه لم يدرك عادة (الكتاب) في الكلام عن الله والمسيح: يستعمل عبارات تدلّ على أحداث من الحياة البشريّة(39).

التفسير الألّيغوريّ

أطلنا هذا النصّ، لما فيه من تعرُّف إلى مقال هرقليون وردّ أوريجانس عليه. ونحن نقول بشكل عامّ: يشكِّل تفسيرُ يوحنّا تحفةَ أوريجانس مفسِّر الكتب المقدَّسة. والنصّ الذي هو موضوع التفسير، كما الجدال نقطة بعد نقطة مع أفضل ما ترك التأويل الغنوصيّ (تفسير هرقليون)، قدَّما لأوريجانس المناسبة للتعمُّق في نقاط تعليميّة صعبة ودقيقة، ترتبط بأزليّة الابن وبعلاقته بالآب(40).

وننهي هذا الكلام من تفسير يوحنّا مع كلام عن إعادة الأتان والجحش (10/30):

185 أمّا التلميذان اللذان انطلقا فوجدا الأتان مربوطة فحلاّها. وبسبب الحجاب الموضوع على الشريعة (2كور 3: 15)، ما امتلكتْ يسوع.

186 وُجد الجحش معها، لأنّهما كانا ضائعين الواحد والآخر، قبل يسوع، أعني المؤمنين الآتين من الختان وأولئك الآتين من الأمم.

187 لماذا أعيدا حالاً، بعد أن ركب عليهما يسوع من أجل دخوله إلى أورشليم؟ نقول وإن خاطرنا: لأنّ هذا سرّ يرتبط بتحوَّل القدّيسين إلى ملائكة(41) ويتبع هذا التحوُّل، في الدهر الآتي، إطلاقهم في الرسالة(42). وهو إطلاق شبيه بإطلاق الأرواح المكلَّفة بخدمة. يُرسَلون كخدّام لخير الذين بفضل هذا، يصيرون وارثي الحياة الأبديّة.

188 إن كانت الأتان والجحش هما نصَّ العهد القديم والعهد الجديد، الذي يحمل كلمة الله، لن يكون من الصعب أن نبيِّن، بعد أن تجلّى الكلمة فيهما، كيف أُطلِقا وكيف لم يلبثا، بعد دخول الكلمة إلى أورشليم، في أولئك الذين رذلوا كلَّ براهين التجّار والشارين.

3- الدروس والعظات

أ- الدروس

كان أوريجانس أوَّل مؤوِّل للكتاب المقدَّس في الكنيسة الكاثوليكيّة. وقد كرَّس القسم الأكبر من حياته لنقد النصوص. فاستحقَّ لقب المعلِّم البيبليّ. والهكسبلة(43) (أو: البيبليا المسدَّسة) تمثِّل أوَّل محاولة قام بها عالم لكي يثبِّت نصٌّا نقديٌّا للعهد القديم. عملٌ كبير جدٌّا. فيه رتَّب في ستّة عواميد النصّ العبريّ في حرف عبريّ. ثمّ النصّ العبريّ في حرف يونانيّ متين اللفظ. وجاءت ترجمة أكيلا، ذاك اليهوديّ العائش في زمن هدريانس، وترجمة اليهوديّ سيماك الذي عاصر سبتيمُس سويريوس، وترجمة السبعينيّة، وترجمة اليهوديّ تيودوسيون (180 ب. م.) قام عملُ أوريجانس النقديّ بأن يجعل علامة في العمود الخامس، ليبيِّن علاقة نصّ السبعينيّة بالأصل العبريّ.

روى أوسابيوس أنّ أوريجانس قدَّم نشرة لا تحتوي سوى النصوص اليونانيّة الأربعة، فصارت التترابلة (أو المربَّعة العواميد). وفي القسم المخصَّص للمزامير، أضاف ثلاثة ترجمات جديدة. فصارت الإنيابلة (تسعة عواميد). لم يبقَ من هذا العمل الضخم سوى أجزاء. ما أعيد نسخُه مرّة واحدة، ومن يجرؤ على ذلك؟ فبقي خلال قرون من الزمن في مكتبة قيصريّة، في متناول الباحثين. هناك قرأه إيرونيمس ولاحظ أنَّه النسخة الوحيدة التي رآها (شروح قصيرة في المزامير، 5). العمود الخامس الذي تضمَّن السبعينيّة، نُسخ أكثر من مرّة. ووُجدت عنه ترجمة سريانيّة تكاد تكون كاملة، تعود إلى القرن السادس(44).

أوَّلاً: نقطة الانطلاق

كان أوريجانس يستعمل الترجمة اليونانيّة للعهد القديم، التي أخذت بها الكنائس المسيحيّة، السبعينيّة. ولكنَّه لاحظ مسائل تطرحها هذه الترجمة. من جهة، هناك الاختلافات بين المخطوطات، تطرح سؤالاً حول الاختلافة التي يجب أن نعتبرها أصيلة. هذا الوضع طرحه أوسابيوس وطرحه آخرون غيره. وأورد أوسابيوس في تاريخ الكنيسة (5/28: 15-18) مقاطع لمقال ضدّ تلاميذ أرتيمون. دوَّنه كاتبه، في رومة، بعد سنة 217 بقليل. فهاجم جميع الذين يتجرَّأون أن يتدخّلوا في الأسفار المقدَّسة ويصحِّحوها(45). نجد هنا المرمى الفيلولوجيّ الذي يتوخّى إلغاء للاّتوافقات، وينسى عمل الروح القدس.

وهناك أيضًا مسألة الاختلافات بين السبعينيّة والترجمات اليونانيّة الأخرى التي يتداولها اليهود: كان هؤلاء يتَّهمون المسيحيّين بأنّهم أخذوا بترجمة غير أمينة. والمقطع الذي كان أكثر المقاطع جدالاً (ولم يكن وحده) كان أش 7: 14: في السبعينيّة نجد حبل العذراء والولادة. ولكن لا في النصّ العبريّ، ولا في سائر الترجات اليونانيّة. في أيِّ حال، عرف أوريجانس أنّ السبعينيّة تضمّنت، بالنسبة إلى الأصل العبريّ، اختلافات لا يمكن أن تنحصر في أخطاء النسّاخ. فنسبَها، بشكل فرضيّة، إلى أصل عبريّ مختلف عن ذاك المعروف في أيّامه. وإلى اختيار حرّ لدى المترجمين.

أمّا المسألة التي طرحتها الاختلافاتُ في مخطوطات السبعينيّة، فأخذ أوريجانس بمبدأ تفضيل تلك التي تقابل النصّ العبريّ. ولكنَّه لم يكن يعرف بما فيه الكفاية اللغة العبريّة، لكي يتحقَّق من ذلك في شكل مستقلّ. فكوَّن لنفسه أداة عمل: نسخة من العهد القديم في عواميد ستّة. جعل في كلّ عمود »قُ ل ا« يتضمَّن لفظًا أو أكثر. من الواضح، أنّه جعل فريق الناسخين والمشاركين، يقومون بهذا العمل المادّيّ الضخم. واحتفظ لنفسه بإعادة النظر والسهر بشكل خاصّ على نصّ السبعينيّة.

من هذه العمارة الكبيرة، وُجد مخطوط (أو بالأحرى مخطوطات النشرتين اللتين تحدَّثنا عنهما) أصيل حُفظ في مكتبة قيصريّة وتحقَّق منه أوسابيوس. غير أنّ أوسابيوس، ومعلِّمه بمفيل، نسخا وصحَّحا نسخات من نصّ السبعينيّة الذي ثبَّته أوريجانس »مصحِّحًا« السبعينيّة المعروفة بمساعدة إزائيّة (نصوص المخطوطات متوازية). وهذا ما تدلّ عليه كولوفونات (التوقيع في نهاية المخطوط) وصلَتْ إلينا في نسخات لاحقة قام بها بمفيل وأوسابيوس. غير أنّنا لا نستطيع أن نُثبت، بوضوح، إن كانت نسخة أوريجانس للسبعينيّة وُجدت في الإزائيّة نفسها. فكانت مرّات تحمل مخطوطاتُ السبعينيّة، في الهامش، اختلافاتِ الترجمات الأخرى، والمأخوذة من مؤلَّف أوريجانس. تلك هي حال نموذج النسخة السريانيّة المدعوّة الهكسبلة السريانيّة التي قام بها بولس، أسقف تلاّ، سنة 616-617، على أساس النسخة الأوريجانيّة، والتي حافظت على علامات التشكيل لدى أوريجانس. كما على الاختلافات الهامشيّة والكولوفونات لمختلف الكتب.

بالإضافة إلى ذلك، حُفظت في مخطوطات تحمل الاختلافات في الهوامش، نصوص تضمَّنتها الهكسبلة، ووصلت إلينا في إيرادات آبائيّة وفي سلسلات تأويليّة (أي تفاسير بيبليّة تألَّفت من إيرادات مأخوذة من كتابات الآباء ومضمومة بعد كلّ مقطع مشروح). هناك أربعة مخطوطات حفظت أجزاء من سفر المزامير، بحسب الترتيب الأصيل في عواميد (في شكل يتضمَّن أربع ترجمات). جاءت، على ما يبدو، من سلسلة حول المزامير، حيث أدرج الناسخ بعد كلّ عبارة، المقطع الذي يوافق نصّ أوريجانس. وأخيرًا، نمتلك في ما يخصّ الهكسبلة، معلومات من أوسابيوس القيصريّ (6: 16) التي قرأها في مكتبة قيصريّة، من إبيفانيوس أسقف سلامينة (باناريون 64/3: 5)، من إيرونيمس (شرح تيطس 3: 9؛ الرجال المشهورون 54). بيَّن نوتان أنَّ شهادة أوسابيوس أصيلة لأنّها كانت قريبة من المكتبة. والآخرون يرتبطون به. ويكون إبيفانيوس مفيدًا بقدر ما يستعمل »أبولوجيّا أوريجانس« لبمفيل وأوسابيوس التي ضاعت.

ثانيًا: النصوص

استند نوتان إلى أوسابيوس وإلى الأجزاء الموجودة هنا وهناك. فبيَّن بشكل يبدو مقنعًا إلى حدٍّ ما، أنَّه بالرغم ممّا قاله إبيفانيوس وتبعه إيرونيمس، لم يضع أوريجانس، في العمود الأوّل، النصّ العبريّ في الحرف العبريّ، ثمّ في الحرف اليونانيّ، بل فقط النصّ العبريّ بالحرف اليونانيّ. وأورد أوسابيوس (التاريخ الكنسيّ 6/16: 4) نسختين من الإزائيّة: واحدة دُعيَت »المربَّعة«(46) وتضمَّنت مع السبعينيّة (والعبريّ في الحرف اليونانيّ) نسخات أكيلا وسيماك وتيودوسيون. وأضافت النسخة الثانية في الإزائيّة »عمودًا خامسًا وسادسًا وسابعًا«.

بما أنّ استعمال أوريجانس للترجمات الأربع الأولى، شهدت عليه كتابات من الحقبة الإسكندرانيّة، وفي بداية الإقامة في قيصريّة، فقد دُوِّنت المربَّعة في الإسكندريّة. بعد أن ترك أوريجانس الإسكندريّة، أخذ من أسيوط (في مصر) ومن فلسطين، ترجمات يونانيّة أخرى، كما يروي هو نفسه في مقطع حفظته بعضُ السلسلات حول المزامير، وأوجزه أوسابيوس. غير أنّ هذا المقطع لا يُحصي سوى ترجمتين خامسة وسادسة، ويلمِّح إلى بعض الاختلافات والملاحظات في شأن الترجمة الخامسة. قد يكون هذا ما دفع أوسابيوس للكلام عن سبع ترجمات. إذًا، قدَّم نشرة جديدة مع ستّ ترجمات والاستنساخ العبريّ في الحرف اليونانيّ. ولكنّنا لا نعلم إن كان فعل هذا بالنسبة إلى العهد القديم كلِّه، أو الأسفار التي كان سوف يفسِّرها.

كانت السبعينيّة النصّ الأساسيّ لأوريجانس، وجُعلت في الموقع الثالث بعد أكيلا وسيماك وقبل تيودوسيون. كيف نفسِّر هذا الوضع الذي سبق وطرح سؤالاً على القدماء؟ يُظنُّ أنّ أوريجانس انطلق من إزائيّة يهوديّة، تضمَّنت النصّ العبريّ واستنساخه وترجمته الحرفيّة مع أكيلا. وكان الهدفُ إتاحة القراءة الليتورجيّة (التي تُقرأ في العبريّة) وفهم النصّ المقدَّس في عالم الشتات اليهوديّ الذي لا يعرف العبريّة. وقدَّم سيماك ترجمته وجعلها في العمود التالي كجزء من الإزائيّة. بما أنّنا نعرف أنّ أوريجانس تلقّى مخطوطات كانت تخصّ سيماك، ظنّ نوتان أنّ الإزائيّة كانت جزءًا من هذه المخطوطات. نسخها أوريجانس وألغى عمود الحروف العبريّة وأضاف السبعينيّة وتيودوسيون. وحين اقتنى في قيصريّة الترجمات الأخرى، نسخ النصوص (لا نعرف أيّها، كما قيل. لا شكّ في أنّ البنتاتوكس لم يكن جزءًا منها)، فأتمّ الهكسبلة. أمّا عمود السبعينيّة، فيصعب علينا أن نعرف إن هو تضمَّن النسخة التي حقَّقها أوريجانس على أساس التواجه مع سائر الترجمات، أو إذا كانت النسخة عملاً جانبيٌّا بحيث إنّ الهكسبلة تضمَّنت السبعينيّة المعروفة. إنّ الأجزاء المحفوظة تقودنا في هذا الاتّجاه الثاني: هذه الأجزاء، تمتلك نصّ السبعينيّة المعروف دون علامات التشكيل.

حيث كان أوريجانس يلاحظ في السبعينيّة، غيابَ مقطع من نصّ تورده الترجمات الموازية، كان يدرجه ويشير إليه مع نجيمة (*)، كما يشير بواسطة أوبيلة obêle (؟) إلى مقاطع موجودة فقط في السبعينيّة. وفي الحالتين يشير إلى نهاية المقطع. كانت النجيمة والأوبيلة علامتَي تشكيل استعملهما الفيلولوجيّون اليونان منذ القرن الثالث ق.م. ولكنّ أوريجانس غيَّر مدلولهما.

ب- العظات

العظات هي إرشادات حول فصول أو مقاطع من الكتب المقدَّسة. ألقاها أوريجانس في إطار الجماعات الليتورجيّة. حسب سقراط (التاريخ الكنسيّ 5: 33). كان يعظ يومَي الأربعاء والجمعة. أمّا كاتب سيرته، بمفيل، فقال إنَّه كان يعظ كلَّ يوم. وهكذا ترك مواعظ حول مجمل الأسفار المقدَّسة. وبالرغم من هذه الوفرة، بقيت فقط عشرون عظة حول إرميا، وعظة واحدة في 1صم 28: 3-25 (عرّافة عين دور) (مفتاح 1423) في اللغة اليونانيّة، كما كُشفت أجزاء يونانيّة للعظة الأخيرة في لوقا، و25 عظة في متّى.

نقل روفينس إلى اللاتينيّة 16 عظة حول التكوين (مفتاح 1411)، 13 حول الخروج (مفتاح 1414)، 16 حول سفر اللاويّين (مفتاح 1416)، 28 حول سفر العدد (مفتاح، 1418)، 25 حول يشوع (مفتاح، 1420)، 9 حول سفر القضاة (مفتاح، 1421)، 9 حول المزامير. وترجم القدّيس إيرونيمس إلى اللاتينيّة: عظتين حول نشيد الأناشيد، 9 عظات عن أشعيا، 14 عن حزقيال، 29 عن إنجيل لوقا.

ذُكرت 574 عظة. بقي منها 20 في النصّ اليونانيّ الأصليّ. 338 في ترجمة لاتينيّة. إنّها تقدِّم لنا أوريجانس في وجه جديد. لقد استقى من تفسير الكتاب، طعامًا روحيٌّا من أجل بناء المؤمنين وخير النفوس.

كانت 13 عظة حول سفر التثنية (مفتاح، 1418). ضاعت كلُّها ما عدا بعض الأجزاء. وهناك 8 عظات حول الفصح (خر 12) مع مقاطع توراتيّة أخرى تتعلَّق بهذا الموضوع. ذكرها إيرونيمس في هذا الموضع من لائحة المؤلَّفات، فشكَّلت مجموعة مواعظ وكتابات أخرى، قد نقرأ بعضها في مقالين عن الفصح وُجدت في تورا. وتحدَّث إيرونيمس وكاسيودور عن عظة حول 1صم 1: 2 نقلها روفينس.

بالنسبة إلى المزامير، ذكر إيرونيمس 128 عظة في 63  مزمورًا. بقي لنا 5 عظات حول مز 37 وعظتان حول مز 38، وعظتان حول مز 39. نقلها روفينس إلى اللاتينيّة. وذكر أوسابيوس في التاريخ الكنسيّ (6: 38، مفتاح، 1428) مقطعًا من عظة حول مز 83. ويُطرَح السؤال حول 74 عظة حول المزامير (مفتاح، 1429). قيل إنّها لإيرونيمس. ولكن يبدو أنّها لأوريجانس (حاشية 23).

من 22 عظة عن أيّوب بقيت مقاطع في السلسلات التأويليّة (مفتاح، 1424) وبعض شذرات في عظات على أيّوب لهيلاريون، أسقف بواتييه. من 7 عظات حول الأمثال (مفتاح، 1430)، ومن 8 حول سفر الجامعة (مفتاح، 1431) بقيت أجزاء في السلسلات. حُفظت عظتان حول نشيد الأناشيد في ترجمة إيرونيمس. ومن إيرونيمس أيضًا (الذي عرف 25 عظة) بقيت 9 عظات من 32 حول أشعيا (وواحدة يشكّ في صحّة نسبتها. مفتاح، 1437). ومن 25 عظة حول إرميا، حفظت 20 في اليونانيّة، و14 (منها 12 تقابل ما في اليونانيّ) في ترجمة إيرونيمس مع مقاطع مشكوك في أمرها في اليونانيّة (مفتاح، 1438). حول حزقيال، هناك 14 عظة في ترجمة إيرونيمس (مفتاح، 1441).

أوّلاً: عظات مختلفة

وقبل أن نتحدَّث عن العهد الجديد، نورد بعض ما في الرسالة إلى رومة (5: 9)، في امتداد عظة حول سفر اللاويّين (8: 3). أمّا الموضوع فهو الخطيئة الأصليّة والعماد.

*   »إذا أردتم أن تعرفوا ما فكَّر فيه قدّيسون آخرون حول الولادة الطبيعيّة، فاسمعوا داود حين يقول: »حُبل بي (كما نقرأ) في الإثم، وأمّي ولدتْني في الخطيئة« (مز 51: 7). وهكذا بيَّن أنّ كلَّ نفس وُلدت في البشريّ (في اللحم والدم)، تحمل لطخة الإثم والخطيئة. هذا يشرح الكلام الذي أوردناه أعلاه: »ما من أحد نقيّ من الخطيئة، وإن طالت حياتُه يومًا واحدًا« (أي 14: 4). ونقدر أن نضيف إلى هذا، اعتبارًا حول السبب الذي لأجله اعتادت الكنيسة أن تعمِّد حتّى الأطفال، ساعة تمنح هذا السرّ لغفران الخطايا. من الأكيد أنّ نعمة المعموديّة لن تبدو ضروريّة، إن لم يكن لدى الأطفال حاجة إلى غفران الخطايا«.

*   »وتسلَّمتِ الكنيسة من الرسل عادة إعطاء العماد للأولاد. فالذين سُلِّمت إليهم خفايا الأسرار الإلهيّة، عرفوا كلَّ المعرفة أنّ الجميع يحملون لطخة الخطيئة الأصليّة، التي يجب أن تُغسَل بالماء والروح«.

ونورد العظة 85 من إنجيل متّى، حول الإفخارستيّا:

»هذا الخبز الذي يرى فيه الله الكلمةُ جسده، هو الكلمة الذي يغذّي النفس. الكلمة الذي يصدر من الكلمة. هو الخبز الذي يصدر عن الخبز السماويّ. الذي يُوضَع على المائدة وعنه يُقال: »تهيّئ مائدة أمامي تجاه مضايقيّ« (مز 23: 5). هذا الشراب الذي يرى فيه الله الكلمة دمه، هو الكلمة الذي يروي ويُسكر بشكل عجيب، قلْبَ الذين يأخذونه. هو شراب تلك الكأس التي قيل فيها: »ما أعجبَ كأسك المسكرة!«. ما دعا الله الكلمة جسده، الخبزَ المنظور الذي يمسكه بيديه، بل الكلمة في السرّ، التي بها يُكسَر الخبز. وليس أيضًا ذاك الشراب المنظور ما يدعوه دمه، بل الكلمة في السرّ التي بها يُصبّ هذا الشراب. ما يمكن أن يكون جسد الله الكلمة أو دمه، سوى الكلمة التي تغذّي القلب وتبهجه؟«

أمّا في ما يتعلَّق بالعهد الجديد، فضاعت 25 عظة حول متّى. وبقيت في ترجمة إيرونيمس 39 عظة حول لوقا (مفتاح، 1451). وبقي مقطع واحد من العظة الرابعة، من 17 عظة حول سفر الأعمال (مفتاح، 1451). كانت عظات لا نعرف عددها حول 1كور (11 عظة حول 2كور. بقيت مقاطع في السلسلات، مفتاح 1459). 7 عظات حول غل، وعظتان حول 1تس، 2تس، عظة واحدة حول تي. لم يبقَ شيء، في عب عظة. بقي مقطعان عند أوسابيوس، تاريخ الكنيسة 6/25: 11-14) حيث يعارض أوريجانس نسبة الرسالة إلى بولس.

ثانيًا: من الرسالة إلى العبرانيّين

11  إلى ذلك، يشرح ما يلي في شأن الرسالة إلى العبرانيّين، في المواعظ الملقاة فيها.

إنّ طابع الرسالة المعنونة »إلى العبرانيّين«، لا يملك البساطة في الخطاب، التي للرسول الذي يعترف بأنَّه بنفسه بسيط في لغته (2كور 11: 6) أي جملته. لكنَّ الرسالة يونانيّة جدٌّا في تركيب الأسلوب. وكلّ رجلٍ قادرٍ على الفصل في اختلافات الأساليب، سوف يتعرَّف إلى ذلك.

12  من جهة أخرى، أن تكون أفكار الرسالة رائعة، وليست أدنى من أفكار الرسائل البولسيّة المسلَّم بها، فهذا أيضًا أيُّ كان يهتمّ بقراءة رسائل الرسل، سوف يمكنه الاعتراف بأنّ ذلك صحيح.

13  وبعد أمور أخرى يضيف هذه الكلمات: »أمّا أنا، فإن كنتُ سأبدي رأيي، فسوف أقول إنّ الأفكار هي للرسول. لكنّ التركيب والأسلوب هما لأحدٍ ما، ينقل عقيدة الرسول. وتقريبًا (هما) لمحرِّر يكتب الأمور التي يقولها المعلِّم. وإن اعتبرت كنيسةٌ ما، أنّ هذه الرسالة هي عمل بولس، فلتُهنَّأ على ذلك. فليس صدفة أنّ القدماء نقلوها باعتبارها لبولس.

14  ولكن، من كتب الرسالة؟ الله يعلم. إنَّ التقليد الذي وصل إلينا يتحدَّث عن بعض يقولون: أقليمس، أسقف رومة، كتب هذه الرسالة. وآخرون قالوا: هو لوقا مؤلِّف الإنجيل والأعمال«.

ونورد من الرسالة إلى العبرانيّين مقطعًا (24: 9-35) يجعلنا في قلب الثالوث مع لفظ: من جوهر واحد، مساوٍ في الجوهر homoousios:

»هل نستطيع أن نفرض أنّ النور الأزليّ يكون شيئًا آخر سوى الله الآب، الذي لا نستطيع أن نقول عنه إنّ بهاءه غاب عنه، وهو النور (عب 1: 3)؟ فالنور من دون بهائه، فرضيّة تعاكس العقل. ولكن في هذه الحالة، لم يكن أبدًا زمنٌ لم يكن الابنُ فيه الابنَ. وكما سبق وقلنا عن النور الأزليّ، لن يكون (هذا الإبن) من دون ولادة (فكأنّنا ندخل مبدأين للنور) ولكنَّه في الحقيقة هو بهاء النور اللامولود الذي يمتلك هذا النور كمبدأ وكينبوع. مولود حقٌّا من هذا. ولكن لم يكن زمنٌ لم يُوجَد فيه.

»والحكمة أيضًا تصدر عن الله. وُلدت من الجوهر الإلهيّ نفسه. في صورة فيضٍ جسديّ، دُعيَت بدورها ''قوّة صافية فاضت من مجد القدير'' (حك 7: 25). هذان التشبيهان يدلاّن بوضوح على جوهر مشترك بين الآب والإبن. فهناك فيضٌ يبدو  homoousios أي من جوهر يتماهى مع جوهر الجسم الذي يُصدره أو يُنتجه«.

ثالثًا: العظات في محيطها الحياتيّ

كلّ هذه العظات ألقيَت في الحقبة التي فيها أقام أوريجانس بقيصريّة، وكان شيخ الكهنة، والتي دُوِّنت جاءت في السنوات الأخيرة من حياته بحسب أوسابيوس (التاريخ 6/36: 1) الذي قال إنّ إوريجانس سمح لأهل الاختذال أن ينسخوا عظاته، بعد عامه الستّين، أي بعد سنة 245. والأصالة الداخليّة بين عظة وعظة تساعدنا لكي نقول إنّ العظات الأولى كانت على المزامير. ثمّ على سائر الأسفار الحكميّة، ثمّ الأنبياء، وأخيرًا الأسفار التاريخيّة. وقد أعاد نوتان ترتيب الاجتماعات الليتورجيّة ودورة القراءات في قيصريّة. ولكن ليس بأكيد أنّ ما يقوله كان معمولاً به في زمن أوريجانس. فحسب موناتشي كستانيو(47)، يبدو أنّ أوريجانس هو الذي أدخل الشرح المنهجيّ للكتاب المقدَّس في عظات موجَّهة إلى الموعوظين. بدأ بالمزامير، لا بحسب دورة تمتدّ على ثلاثة سنوات، بل لأنّ توالي الكتب بدا له مكيَّفًا مع تكوين سامعيه. في أيّ حال، ألقيت العظات حول العهد القديم، في اجتماعات للموعوظين تتمّ أكثر من مرّة في الأسبوع. يبدو أنّ الاحتفال بالإفخارستيّا يتمّ مساء الجمعة (يوم صوم مثل الأربعاء) ويوم الأحد. وكانت تُقرأ نصوص العهد الجديد في الاجتماعات الإفخارستيّة التي لا يشارك فيها الموعوظون. يقرأ قارئٌ النصّ. والواعظ يتلو العظة. بعد ذلك تأتي الصلاة المشتركة. أمّا الوقت المطلوب فيصل إلى الساعة تقريبًا.

في الكتاب حول المبادئ، ميَّز أوريجانس بين المبتدئين، المتقدِّمين، الكاملين. وربط هذه الأوضاع الثلاثة بالتفاسير الحرفيّة، والخلقيّة، والألّيغوريّة. في العظة، يتوجَّه إلى الفئة الأولى، دون أن يمنع عنها التفسير الألّيغوريّ. وليس من قبيل الصدف إن كان ذكر في العظات حول سفر اللاويّين (5: 5)، ثلاثة تفاسير: التاريخيّ، الخلقيّ، التصوُّفيّ (أو المستيكيّ). ولكنَّه لم يربط ذلك بثلاث فئات من السامعين. فاهتمامه في العظات يقوم بأن يدعو الشعب البسطاء للبلوغ إلى هذا المدلول السامي الذي لا يصل إليه الكثيرون، والذي أراد الله أن يخفيه تحت الرموز، كي يخسر قيمته إن كان الوصولُ إليه سهلاً (المبادئ 4/2: 7).

وعى أوريجانس الصعوبات التي يلاقي لدى البسطاء حين  يقرأون الأسفار البيبليّة قراءة حرفيّة، مثل سفر اللاويّين مع فرائضه الشريعيّة والطقوسيّة. فأراد أن يقودهم إلى المعنى الروحيّ ليؤمِّن لهم البلوغ إلى الغنى الحقيقيّ لكلام الله. ولكنَّ عليه أن »يقاتل« ضدّ انتقادات هازئة يوجِّهها إليه البسطاء، بل أيضًا المعلِّمون (عظات حول اللاويّين، 7: 4). فوجب على أوريجانس أن يردّ على هذه الانتقادات، أن يعارض التأويل الحرفيّ اليهوديّ، أن يردّ على تآويل مرقيونيّة وغنوصيّة لقيت نجاحًا لدى المؤمنين (نتذكَّر أمبروسيوس صديق أوريجانس). تارة يحجُّهم أوريجانس ويتَّهمهم بقراءة حرفيّة، لفظيّة. وطورًا ينسب إلى الغنوصيّين تفسيرًا أليغوريٌّا لا يأخذ بعين الاعتبار قاعدة الحقيقة الرسوليّة (عظة حول مز 37/4: 1). غير أنّه يسعى بعناية راعويّة، بأن يُبرز الحرف ليستخرج منه إشارات من أجل تصرُّف خلقيّ يفيد سامعيه، في مجال الابتعاد عن الفسق والفجور، أو التحذير من اللجوء إلى السحر والعرافة.

رابعًا: في الحياة الروحيّة

نقدِّم هنا بعض النصوص حول الحياة الروحيّة. وأوَّلها في الكمال:

* لا شكّ في أنّ جميع الذين يؤمنون بالمسيح، هم إخوة المسيح. ذاك هو معنى. ولكن في حصر الكلمة، إخوته وحدهم هم الكاملون والذين يقتدون به. مثل ذاك الذي قال: »كونوا مقتدين بي كما أنا أقتدي بالمسيح« (1كور 11: 1) في مت 73.

في مقطع ثانٍ، قابل أوريجانس المسيحيّين المدعوّين دعوة خاصّة مع تلاميذ المسيح، والباقين مع الجمع السامع لكلامه.

*   أراد الإنجيليّون أن يبيّنوا، بواسطة السرد الإنجيليّ، أن يميّزوا بين الذين يأتون إلى يسوع. بعضهم يكوّنون الجمع ولا يُدعَون تلاميذ. أمّا الآخرون فهم التلاميذ، ويتفوَّقون على الجمع... كُتب أنّ الجمع وقف »تحت«. أمّا التلاميذ فاقتربوا من يسوع الذي صعد الجبل، حيث لا يستطيع الجمع أن يصل: »إذًا، حين رأى الجمع، صعد الجبل. وحين جلس، جاء إليه تلاميذه: ففتح فاه وعلَّمهم هكذا: طوبى للمساكين بالروح...« (مت 5: 1-3). ونقرأ في موضع آخر، ساعة طلب الجمعُ الأشفية: »تبعه جمع كبير فشفاهم« (مت 12: 15). ولكن لا كلام عن الأشفية مع التلاميذ. فالذي هو منذ الآن تلميذ يسوع، ينعم بالصحّة ويكون متعافيًا. لا يتوسَّل إلى يسوع على أنَّه الطبيب، بل من أجل سائر النِعَم... وبين الذين يأتون باسم يسوع، بعضهم يعرفون أسرار ملكوت السماوات: هم التلاميذ. أمّا الآخرون الذين لم يُمنَح لهم هذا العلم، فيمثِّلون الجمع الذين يُعتبَرون أدنى من التلاميذ. ولاحِظوا جيِّدًا أنّ يسوع يتوجَّه إلى التلاميذ فيقول لهم: »لكم أعطيَ أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات«. وإلى الجمع: »ما أعطيَ لهم« (متّى، شرح 11: 4).

وماذا عن الصعود الروحيّ للنفس؟

* إذا كان ابن الله، وهو الله نفسه، قد صار إنسانًا لأجلكم وجُرِّب، لا يحقّ لكم وأنتم بشر بالطبيعة، أن تشتكوا حين تأتي عليكم التجربة. وإن اقتديتم في التجربة، بمن جُرِّب لأجلكم. وإن انتصرتم على كلِّ تجربة، يكون لكم رجاء معه، هو الذي كان إنسانًا وما عاد كذلك الآن... فهو الذي كان في الماضي إنسانًا، بعد أن جرِّب، بعد أن تركه الشيطان إلى زمن موته، قام من بين الأموات. هو لا يموت بعد. غير أنّ كلَّ إنسان هو خاضع للموت. أمّا هو فلا يموت بعد. لم يعد إنسانًا، بل الله. وبما أنّ ذاك الذي صار إنسانًا في الماضي هو الله. وبما أنَّكم أنتم بالضرورة ستصيرون مثله، حين نشبهه نراه كما هو. أجل، أنتم أيضًا تصيرون آلهة في المسيح يسوع، الذي له المجد والسلطة إلى دهر الدهور (العظة 29 في لوقا).

* جميع الذين يرون، أما يضيئهم المسيح أيضًا؟ ولكن كلّ واحد يُضاء بقدر ما يستطيع أن يتقبَّل النور. فعينا جسدنا لا تضيئهما الشمس بالتساوي: بقدر ما نصعد إلى أماكن مرتفعة، بقدر ذلك نشاهد من العلاء شروق الشمس، فندرك أيضًا البهاء والحرارة. وكذلك عقلنا. بقدر ما يصعد ويرتفع إلى قرب المسيح، وينال بهاء نوره، بقدر ذلك يشرق عليه نورُه بشكل عجيب، بهيّ... أخيرًا، إذا استطعنا أن نمضي معه إلى الجبل، مثل بطرس ويعقوب ويوحنّا، لا نستنير فقط بنور المسيح، بل بصوت الآب نفسه (عظة 1: 7 من سفر التكوين).

الخاتمة

مسيرة طويلة مع أوريجانس. ولكنّنا نحتاج إلى الكتب لنستنفد بعض هذا العبقريّ الذي ترك الآثار العميقة في دراسة الكتاب المقدَّس وشرحه وإيصاله إلى المؤمنين. وما اكتشفناه في شكل كبير، هو أنّ أوريجانس لم يكن فقط ذاك العالم الكبير والباحث الذي فتح الطريق أمام الباحثين في الأسفار المقدَّسة، بل كان ذاك الذي أخذ الإنجيل على محمل الجدّ، فعاشه، ومارسه بشكل كاد يكون حرفيٌّا. بالنسبة إليه، الله يكلِّم النفس من الداخل، وكأنّها معه، في مكانه وسط أسراره. يبقى عليها أن تعرف ذاتها، أن تبحث عن هويَّتها وما يجب أن تعمله. فالخطر الكبير بالنسبة إلى النفس هو أن تهمل التعرُّف إلى ذاتها وفهم هويّتها. ولكنها تستطيع أن تنضمّ إلى شركة الكلمة الإلهيّ، وتدخل في سرّ حكمته وعمله، كما في خدر عرس سماويّ. إلى هذا المستوى الروحيّ نرافق أوريجانس إذا أردنا أن نرافقه في تعليمه ونفهم مسيرته التي أرادها من خلال عمله لقاءً بالربّ، كما قالت عروس نشيد الأناشيد.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM