الفصل السادس عشر: الإسكندرية والحركة الأفلاطونية المحدثة.

الفصل السادس عشر

الإسكندرية والحركة الأفلاطونية المحدثة

مات أفلاطون، الفيلسوف اليونانيّ، سنة 397 ق.م. ولكن فكره لم يمت، وآثاره التي أربت على الثلاثين كتابًا، قد وصلت إلينا ونُقلت إلى مختلف لغات العالم. أسَّس مدرسة »الأكاديميا« في أثينة، عاصمة اليونان، التي ستُغلق مع سائر مدارس آثينة التي تعلِّم الفلسفة والحقوق، في أيّام الإمبراطور يوستنيانُس سنة 529. وتجاه أثينة، كانت مدرسة الإسكندريّة التي انطلقت منذ تأسيسها، مستوحية أفلاطون، مع أشخاص مثل فيلون الفيلسوف اليهوديّ، وأفلوطين وبورفيريوس وعدد كبير من المفكِّرين سنذكر بعضهم. استندت فلسفة أفلاطون إلى نظريّة المُثُل التي هي واقع ينفصل عن العالم الحسّيّ، وعلى عقلانيّة معرفيّة تعتبر أنَّ العقل البشريّ يستطيع أن يعرف هذا الواقع المنفصل واللامتبدِّل، بفضل الأسلوب الجدليّ. هذه المُثُل هي أساس خلود النفس والبحث عن السعادة. هذا الإرث الذي أخذ به أنطيوخس العسقلانيّ (130-69ق.م.) وبوسيدونيوس الأفاميّ (135-50 ق.م.)، وحاولا التنسيق بين أفلاطون وأرسطو والرواقيّين، هو الذي اعتبرته الأفلاطونيّة المحدثة (Le néoplatonisme) خاصٌّا بها.

عن هذه المدرسة التي وصل تأثيرها إلى العالم العربيّ(1)، كما إلى الفكر المسيحيّ(2)، مع غريغوريوس النيصيّ في الشرق، ومع أوغسطينُس في الغرب، نتحدَّث في مقالنا هذا، مشدِّدين بشكل خاصّ على أفلوطين مع نظرته إلى الواحد والعقل والنفس.

1- الحركة الأفلاطونيّة المحدثة

أ- خبرة روحيّة

ساعة أعطى خلفاء أفلاطون في »الأكاديميا« القديمة الفلسفة، اتِّجاهًا عقلانيٌّا قادها إلى الأخذ بعالم الرياضيّات(3)، راحت الأفلاطونيّة المحدثة تكتشف عالم المثُل من أجل البحث عن السعادة. مثلُ هذا التعليم لا يعبَّر عنه بألفاظ عقلانيّة، بل بصور تخلق في النفس موقفًا عاطفيٌّا. وهذا التعليم ينقل إلى مستوى جديد كلَّ النظريّات القديمة في الفكر اليونانيّ. تحدَّث سقراط عن »إعرف نفسك بنفسك«، وتبعه تلاميذه في كلام عن العقل. ووعى الرواقيّون(4) (Stoïciens) ديناميّة الحياة، ولكن في حياة يرتِّبها العقل. كما اكتشف الشكّاكون أو الإرتيابيّون(5) (Sceptiques) عالم الهند مع تحرُّر الإنسان وإفناء الروح في المُبهم. غير أنَّ الموقف النفسيّ هذا لا يحمل أيَّ مدلول دينيّ. أمّا أفلوطين، ممثِّل هذه الأفلاطونيّة المحدثة، فقطع كلَّ علاقة مع تقليد الفكر اليونانيّ، بل إنقطع عن الغرب ليكوِّن فكرًا شرقيٌّا(6).

الجسد قبرٌ، والعالم الحسيّ مغارة أو كومة من الوحل، والوجود البشريّ وسقوط النفس، والنظرة إلى الحبّ، كلُّ هذا اتَّخذ عند أفلوطين معنى آخر. لم يعد الموضوع تحرير العقل، بل إعطاء »الأنا« كلَّ غنى حياتها الباطنيّة. ثمَّ إنَّ موضوع الفلسفة ليس، في نظره، المحدود والعقليّ والتجريبيّ (empirique)، بل الاندفاع نحو اللامحدود. كان هذا اللامحدود عند أفلاطون وأرسطو والرواقيّين علامة اللاواقع ومقاومة نظام العقل، فصار عند أفلوطين قدرة »الأنا« في ملئها وفي كمالها. والجدليّة التي سار فيها هذا الفيلسوف لا تبحث عن تحديد الجواهر ولا عن تقييدها بقيد، بل تُعِدّ الإنسانَ لكي يتجاوز الحدود ليحقِّق فيه الوحدة المطلقة(7). في هذا المجال يقول عبد الرحمن بدويّ: »والناحية الذاتيّة من مذهب أفلوطين تقوم على أنَّ الغاية من الفلسفة هي الإرشاد إلى الطريق الذي به يصل الإنسان إلى إفناء الذات في الوحدة الإلهيّة، وإلى إيجاد التجربة الروحيّة التي يستطيع الإنسان بواسطتها أن يتَّحدَ بالواحد«(8).

قال أفلوطين عن نفسه: »أكثر من مرّة عدتُ إلى نفسي من رقاد الجسد، بعد أن أضحيتُ خارج الباقي وداخل ذاتي، فشاهدتُ جمالاً عجيبًا«(9). ويتابع بما معناه لا بحرفيَّته: إنَّ هذه الرؤية التي تجلّى فيها ملء حياتي الباطنيّة، تفترض سلسلة من المراحل. وساعة يُترجم تنوُّع نشاطات الجسد في حياتي الحسّيّة، أرى أنَّها كلَّها ترتبط بوحدة توجِّهها وتربطها: هي نفسي. ففي تحليل قوى نفسي، تنكشف تعدُّديّةٌ جديدة. فإن كانت النفس، من جهة، تُحدِّد وتنظِّم التنوُّع في الطبيعة الحسّيّة، فهي من جهة أخرى، توجِّه عينَ المشاهَدة نحو المعقول. والمعقول حين نحلِّله، يبدو نتيجة إمكانيّة بسيطة وعمل فعليّ عاقل هو نفسه أرفع ما في النفس من قوّة.

ويواصل القول: ولكن ومن جهة فوقانيّة، أرى أنَّ هناك تضامنًا بين جميع النتائج المماثلة، وأنَّ هناك فكرًا شاملاً هو جوهر الكائن المعقول: »التعدُّديّة«. هكذا يوجد هذا الإله (الفكر) في نفس فرديّة معيَّنة، التي هي تماسكُ هذه التعدُّديّة، شرط أن لا تبتعد عنه. فحين تقترب منه بحيث تصير وحدة، تسأل عندئذٍ: »من هو والد هذا الإله، ذاك الذي هو بسيط وسابق لتعدُّديَّته، ذاك الذي هو سبب كيانه وتعدُّديّة هذا الكيان، ذاك الذي يصنع العدد؟ فالعدد ليس في المقام الأوَّل. فقبل الاثنين هناك الواحد. والعدد اثنين يأتي في الدرجة الثانية«(10). إذن، يستحيل على الفكر أن يكون، شأنه شأن العدد الذي هو وحدة التعدُّديّة، المحطّةَ الأخيرة التي إليها تتوق النفس، حيث تجد الراحة بعد أن ينتهي صعودها. فيجب على هذا المبدأ أن يكون وحدة معفيّة إطلاقًا من كلِّ تعدُّديّة (5/9: 14). بمثل هذه الانحطاطات أو الانقاصات (réductions) المتتالية(11)، تكتشف الأنا، تحت الطمى الذي يغطّيها، حقيقةَ كيانها ونقاوتَها.

تلك هي الطريق للوصول إلى الحقيقيّ، أو لإرضاء توق النفس إلى الألوهة. ذاك ما يذكِّرنا، للوهلة الأولى، »بالغراميّ« (érotique) في »وليمة« أفلاطون، والذي يتوخّى أن يعرف المعقولات، في توقه إلى الجمال. أمّا أفلوطين، فيريد تجاوز المعقول. والتجرُّد(12) (apostasis) الذي يكرز به أفلوطين، لا يحمل جميع ثماره إن لم يقُد إلى انخطاف، أي إلى حالة من النشوة تبسِّط النفس وتوحِّدها، فتحرِّرها من كلِّ ما يُسمّى حدودًا (4/8: 1؛ 6/9: 10). هي حالة لا يقدر أن يعرفها سوى بعض النفوس المميَّزة، وفي خبرة نادرة كتب عنها بورفيريوس في حياة أفلوطين (23): »من هذا الإله الذي لا شكل له ولا صورة، الذي ينتصب فوق الفكر والمفكِّر، ما اقتربتُ أنا (إعلموا جيِّدًا) سوى مرّة واحدة بحيث صرتُ واحدًا معه، وذلك في السنة الثامنة والستّين من عمري. أمّا أفلوطين، فحصل له أربع مرّات، في الوقت الذي كنتُ بجانبه، أن يقترب من هذا الهدف بفعل لا يوصف، لا فقط بالقوّة«. لم يعد الموضوع اتِّباع الله أو التشبُّه به، بل الاتِّحاد به اتِّحاد الحبّ، والشعور بحضوره كما نرغب، والامتزاج مع الوحدة المطلقة. قابل أفلاطون الفلسفة مع إيحاءات الأسرار. أمّا أفلوطين، فما اكتفى بذلك؛ فالسرّ، في نظره، هو الكلمة الأخيرة في الفلسفة. الواحد عند أفلاطون هو قمّة تراتبيّة، وهو المقياس والحدّ. أمّا الواحد عند أفلوطين فهو اللامحدود.

ولكن لا يكفي أن ندلَّ النفس على طريق الخلاص، بل يجب أن نشرح انحطاطها، فنقول لماذا يُوجد الحسّيّ والشرّ والضلال. نحن هنا في مرحلة النزول بعد الصعود. دعاها بروكلُس الفيلسوف »تطوافًا«، فشدَّد على التقدُّم وعلى مسيرة الموكب. ولكن أفلوطين تكلَّم عن مشاهدين لموكب ملكيّ؛ اكتفوا حين شاهدوا جمهور الحاشية، ولم ينتظروا ظهور الملك (5/5: 3). إنَّ ما صوَّره هو تدرُّج النفس نحو الواحد. غير أنَّ الواحد (أو الأوَّل) لا يتدرَّج. إنَّه المطلق والكامل، لا ينقصه شيء، ويرتاح دومًا في ذاته ولا يفترق أبدًا عن ذاته. والباقي لا يبتعد عنه، لأنَّه لا ينقسم، بل هو موجود في كلِّ مكان وحاضر دائمًا بقربنا. أمّا الأشياء الأخرى فتتلقّى ملئَه بطريقة كاملة أو ناقصة. هذا ما يجتذب الإنسان إلى فكر أفلوطين في وقت عرف الناس تلاقي الديانات والحضارات، كما عرفوا الصعوبات الاجتماعيّة التي جعلتهم يقلقون للغدّ(13).

ب- بعض الأسماء

أوَّلاً: قبل أفلوطين وبعده

إن كان أفلوطين قمّة في هذه الحركة الفلسفيّة التي انطلقت من الإسكندريّة، إلاَّ أنَّه لم يكن وحده. لهذا نذكر بعض الأسماء من الذين كانوا قبله فهيأوا له الطريق عائدين إلى فكر أفلاطون، ومن الذين جاؤوا بعده فاستفادوا من مسيرته، ولكنَّهم جفّفوا فكر المعلِّم من كلِّ ديناميّة، وقدَّموه في عقلانيّة لا حياة فيها.

لن نتوقَّف عند فيلون اليهوديّ الذي ارتبط ارتباطًا خاصًا بالتوراة، بل نستعرض عددًا من الفلاسفة الوثنيّين قبل أن نتوقَّف بشكل خاصّ عند بورفيريوس وأفلوطين.

* الإسكندر الأسيوطيّ: عاش في أسيوط (ليكوبوليس)، في القرن الثالث المسيحيّ. قال فوتيوس (عاش في القرن التاسع) خطأ إنَّه كان أسقفًا مسيحيٌّا. أمّا في الواقع فهو فيلسوف وثنيّ جاء تعليمه قريبًا من تعليم هياروكليس الإسكندرانيّ. قال بأنَّ المادّة تكوَّنت من العقل كمبدأ أوَّل. وهكذا ردَّ على المانويّة (manichéisme) التي اعتبرها جزءًا من »الفلسفة المسيحيّة« في فصلها بين الشرّ والخير(14).

* إميليوس: أصله من إترورية في إيطالية، واسمه الأصليّ جانتيليانس، وإميليوس هو اللقب ويعني »من لا همّ له«. وقد دعاه أفلوطين أميريوس، أي »ذاك الذي لا يُرى«، شأنه شأن العقل أو الواحد(15). تدرَّج أوَّلاً لدى الرواقيّين، غير أنَّه أعجب بنومينيوس الأفاميّ وكرونيوس تلميذه، فجاء إلى الأفلاطونيّة حيث تعرَّف على أفلوطين، سنة بعد مجيئه إلى رومة، أي سنة 246. وعندما مات أفلوطين سنة 270، كان إميليوس في أفامية سورية (قلعة المضيق). أمّا تاريخ موته فبين السنوات 290 و300.

علَّم إميليوس في إطار »المدرسة«، وأشركه أفلوطين في جدالات عديدة ولاسيّما مع لونجينُس(16)، الذي درس الفلسفات الرواقيّة والمشائيّة والأفلاطونيّة. وعندما كان إميليوس في طريقه إلى أفامية، وصلت إلى لونجينُس الذي كان حينذاك في صور الفينيقيّة، مخطوطات من تعاليم أفلوطين. ترك إميليوس العديد من الكتب، فبقيت منها أجزاء ولاسيّما تفسير مطلع إنجيل يوحنّا الذي يورده أوسابيوس في كتابه »التهيئة الإنجيليّة« (11/18: 26-29: 1). في هذا المجال، يتماهى عنده اللوغس (= الكلمة)، المسيح، مع نفس الكون، في منظور مسيحيّ(17).

* نومينيوس الأفاميّ: عاش في النصف الثاني من القرن الثاني، فعاصر تاوروس وألبينُس الأفلاطونيَّين، وسبق إتيكوس. علَّم في أفامية، على العاصي، واعتبره بعضهم في خطّ فيثاغور(18). كان له أهميّة كبرى في تاريخ الأفلاطونيّة، الوسيطة والمحدثة، ولاسيّما مع إتيكوس(19) وتلميذه هربوكراتيون. أثَّر على أمونيوس ساكاس، وعلى أفلوطين نفسه، وعلى بورفيريوس. كتابه الأساسيّ »حول الخير« هو بشكل حوارات، كما في أفلاطون، مع كلام عن المبدأ الأوَّل: الكائن أو الخير، هو لاجسمي ولكنَّه معقول. وهناك كتابٌ آخر له حول »خيانة الأكاديميا لأفلاطون«(20).

* أمونيوس ساكاس: روى بورفيريوس، في »حياة أفلوطين« (3: 6-21)، أنَّه حين أراد أفلوطين أن يتعاطى دراسة الفلسفة في الثامنة والعشرين من عمره، أي سنة 232، تردَّد على المشهورين في عصره في الإسكندريّة، ولكنَّه لم يجد ضالَّته. فقاده صديق له إلى أمونيوس. ولمّا رآه أفلوطين، هتف: »هذا هو الإنسان الذي أبحث عنه«. ولبث إحدى عشرة سنة مع هذا المعلِّم، وتتلمذ على يد أمونيوس أيضًا أرانيوس(21) والفيلسوف أوريجانيس الأفلاطونيّ ولونجينس وتيودوسيوس وأنطونينُس(22).

* بروكلُس: هو ابن القرن الخامس. وُلد في لوقية (تركيّا الحالية)، وتعلَّم البلاغة واللاتينيّة والحقوق في الإسكندريّة، ثمَّ توجَّه إلى أثينة فتتلمذ على يد بلوتركُس(23) الآثينيّ وسريانُس. ترك عشر مقالات حول العناية الإلهيّة، والقدر، ودوام الشرّ. فالعناية نشاط يسبق الفكر ويصدر عن الواحد. أمّا النفس فبين الاثنين. والشرّ يأخذ من الخير ما يجعله يعارضه، فالكائن يترك الظواهر تجتذبه(24). ودوَّن بروكلس أيضًا »تفسير الفلسفة الكلدائيّة«. لم يبقَ سوى أجزاء من هذا المجلَّد الضخم الذي أمضى بروكلُس خمس سنوات في كتابته. ميَّز فيه بين زهرة العقل (قمّة حياتنا العقليّة) و»زهرة كلِّ نفسنا« (أو ضدّ جوهرنا كلِّه) التي تقودنا إلى الواحد، لأنّها هي نفسها »رمز لا يُوصف« للألوهيّة(25).

* يمبليكس (246-325): وُلد في عنجر (خلقيس) في سورية الجوفاء (البقاع اللبنانيّ، كويلي سورية)، فتتلمذ على يد أناتوليوس الذي كان تلميذ بورفيريوس، ثمَّ صار رئيس المدرسة الأفلاطونيّة بعده. وفي نهاية حياته علَّم في أفامية. مع يمبليكس وتلاميذه، صارت الأفلاطونيّة مزيجًا من الفلسفة والإخفائيّة (occultisme)(26). كما أنَّها أثَّرت على الفكر الدينيّ اللاحق ولاسيّما على فكر يوليانس الجاحد.

ترك يمبليكس عددًا من المؤلَّفات، منها مجموعة التعاليم الفيثاغوريّة، وهي في الأصل عشرة كتب وقد حُفظ منها أربعة: حياة فيثاغور الذي هو الحكيم المثالي، والتحريض على دراسة الفلسفة، ومقال حول النفس في خطّ أفلاطون، وأسرار مصر وفيها ما فيها من محاولة التحرُّر من قيود القدر من خلال معرفة حقيقيّة للآلهة. وهكذا قدَّم لنا يمبليكس ملخَّصًا عن التعليم الوثنيّ في وجه التعليم المسيحيّ(27).

ثانيًا: بورفيريوس

يسمّيه الفلاسفة والمؤرِّخون العرب فرفوريوس. فيلسوف نيو أفلاطونيّ، لعب دورًا هامٌّا في تطوُّر الفكر الفلسفيّ في نهاية الحقبة القديمة وخلال العصور الوسيطة. ترك المؤلَّفات العديدة التي ضاع القسم الكبير منها. ولكنَّها قُرئت فتركت بصماتها لدّى الكتّاب اليونان واللاتين، كما لدى العرب مع أبي سليمان المنطقيّ وإخوان الصفا والسجستانيّ وغيرهم. وفسَّر فلسفة معلِّمه أفلوطين بطريقة ولَّدت روحانيّة نشرها أوغسطينُس في الغرب اللاتينيّ، كما ولَّدت تعليمًا عن نشاط الكائن الذي مرَّ عبر بوئيثيوس (480-525) والنيوأفلاطونيّة العربيّة، فطبع بشكل نهائيّ الفكر الفلسفيّ في الغرب عبر ألبرتُس الكبير وتوما الأكوينيّ وغيرهما(28).

ولد بورفيريوس في صور، من أعمال فينيقية، سنة 234. وفي سنة 254، مضى الشابّ الفينيقيّ ليدرس في أثينة، ولبث طوال حياته في علاقة مع معلِّمه لونجينُس الذي لقَّنه »الأفلاطونيّة« منهجًا انتقائيٌّا (éclectique)(29) يفسِّر تفسيرًا دقيقًا حوارات أفلاطون. وقد يكون لونجينُس أرسله إلى رومة ليسمع هناك أفلوطين، الذي قدَّره المعلِّم تقديرًا كبيرًا. وصل بورفيريوس إلى عاصمة الإمبراطوريّة، سنة 263، وهو في الثلاثين من عمره. وإذ أراد أفلوطين أن يستفيد من جدارته في فقه اللغة، طلب منه أن يعيد النظر في كتاباته، فيصحِّحها وينشرها. ولكنَّ تعليم أفلوطين الذي هو نداء متواصل إلى الحياة الروحيّة، أحدث لدى بورفيريوس توتُّرًا نفسيٌّا، فكَرِه أن يكون له جسد وأن يكون إنسانًا؛ وإذ أُنهكت أعصابه عزم على الانتحار. وعرف أفلوطين بهذه الأزمة الداخليّة، فنصحه بالسفر، فمضى سنة 268 إلى صقلّيّة لدى معلِّم اسمه بروبوس.

في صقلّيّة، كتب بورفيريوس مقالاً كبيرًا »ضدَّ المسيحيّين«. ثمّ عاد إلى رومة حيث خلف معلِّمه أفلوطين. وكان من تلاميذه، على ما يبدو يمبليكس. في ذلك الوقت، تزوَّج من مرسالّة، وهي أرملة فيلسوف وأمّ لسبعة أولاد. وجَّه إليها رسالة تعتبر »الوثيقة الروحيّة للوثنيّة«(30). حوالي سنة 301، كتب »حياة أفلوطين«(31) ونشر كتابات معلِّمه، ومات في العقد الأوّل من القرن الرابع.

ترك بورفيرويس المؤلَّفات العديدة؛ فمنهم من قال سبعة وستّين كتابًا وغيرهم سبعة وسبعين، وهي تغطّي كلَّ مجالات الثقافة في ذلك العصر: الغراماطيق، ولاسيّما تفسير هوميرُس، البلاغة، الرياضيّات، والماورائيّات. وشرَح عددًا كبيرًا من حوارات أفلاطون ومؤلَّفات أرسطو. وحين شرح »المنطق« كتب مقدِّمة (إيزاغوغي) في عشرين صفحة عرفت نجاحًا كبيرًا فنُقلت إلى اللاتينيّة والسريانيّة والعربيّة والأرمنيّة والعبريّة، وشُرحت مرّات عديدة بين القرن الرابع عشر والقرن السابع عشر. هذا الكتيِّب يُنهج تعليم أرسطو حول المقولات (prédicables)، أي مختلف الأشكال التي يحسبها ترتبط الصفةُ بالفاعل.

لن نتوقَّف عند مؤلَّفاته مثل »مغارة الحوريّات« التي تُحدِّثنا عن صراع النفس ضدَّ سحر المحسوس لكي تعود إلى موطنها، أو »نقطة الانطلاق إلى المعقولات« في أقوال تتحدَّث عن حضور اللاجسديّين في موضع ما، وعن النفس في الجسد، وعن تراتبيّة الكائنات أو »شرح برمينيديس لأفلاطون«، أو »مقدِّمة إلى مقولات أرسطو«. بل نتوقَّف عند بعض فكره.

اهتمَّ بورفيريوس طوال حياته بالمسألة الدينيّة، وفي شكل خاصّ بدور الممارسات الدينيّة من أجل خلاص النفس. هنا يبدو تأثير أفلوطين واضحًا: الديانات تتوجَّه إلى الآلهة الأدنين أو إلى الجنّ، والفلسفة تتجاوز الديانات، لأنَّها عبادة الله الساميّ حيث الفيلسوف هو الكاهن، وهذه العبادة تقوم في تقدمة فكر منقّى من كلِّ ما هو حسّيّ ومنظور. وهكذا تقود إلى الاتِّحاد بالله المتعالي، منذ الآن في أوقات الانخطاف، وبعد الموت بشكل نهائيّ. إذن، الفيلسوف هو وحده من يرجو أن يخلص من دورة الولادات خلاصًا نهائيٌّا. أمّا الممارسة الدينيّة فلا تمنح سوى خلاص موقَّت، أي بعض تنقية للجزء الأدنى للنفس يتيح لها أن ترتفع إلى الكواكب دون أن تنجو نهائيًا من سجن الكون. من أجل هذا، كرَّس بورفيريوس قسمًا كبيرًا من نشاطه الأدبيّ لينتقد التقاليد الدينيّة ويحكم عليها.

في هذا الإطار، يرد انتقاد المسيحيّة التي هي ديانة شاملة لا ديانة خاصّة يمكن أن تدخل في نهج بورفيريوس الدينيّ. فيقول عنها إنّها تعتبر نفسها ديانة شاملة ومطلقة مع أنَّ لا أساس تاريخيٌّا لها. وهي تتضمَّن نظرة عبثيّة ولاعقليّة إلى الألوهة. انطلقت من اليهوديّة وما احترمت تقاليدها الوطنيّة. والرسل شوَّهوا تعاليم يسوع فجاءت الأناجيل مليئة بالتناقضات. أمّا الإله الذي يعبده المسيحيّون، فهو مستبدّ يعمل بشكل اعتباطيّ منذ الخلق حتّى دمار العالم. نلاحظ هنا تيّارًا يعارض المسيحيّة فيصل مع يوليانس الجاحد إلى العودة إلى الوثنيّة.

وماذا عن النظرة الروحيّة عند بورفيريوس؟ لقد انطلق من التاسوعات، ولكنَّه حوَّل فكر معلِّمه(32). جُعلت كتابات المعلِّم في شكل كرونولوجيّ، فحوَّلها إلى ترتيب منهجيّ مؤسَّس على تقسيم خاصّ لأجزاء الفلسفة يقابل مراحل التقدُّم الروحيّ: الخليقة، الطبيعة، اللاهوت (أو ما وراء الطبيعة). وإذا كانت الروحانيّة فلسفة تتركَّز على الواقع الجوهريّ وعلى الميزات الخاصّة بالروح، فنستطيع القول إنّ بورفيريوس هو الذي أعطى الأفلوطينيّة الشكل الروحيّ. ففي »نقطة الانطلاق إلى المعقولات«(33)، يشدِّد المفكِّر على تعارض جذريّ بين الجوهر المعقول (أو الروحيّ) التي تتداخل أجزاؤه بعضها ببعض، وبين الجوهر المادّيّ الذي تتباعد أجزاؤه بعضها عن بعض. هذه النظرة الروحيّة نجدها عند أوغسطينُس ولاسيّما في »حواراته الفلسفيّة« التي تعود إلى الأيّام الأولى من اهتدائه.

2- أفلوطين وتاسوعاته

ونصل إلى قمّة الأفلاطونيّة المحدثة، إلى تلك الحركة التي انطلقت من أفلاطون، وتوسَّعت في اتِّجاهات مختلفة تحت راية هذا الفيلسوف العظيم. بعضهم نسخوه، توسَّعوا فيه، شرحوه، والآخرون قدَّموا فكرًا أصيلاً بالنسبة إلى فكر هذا المعلِّم الذي ما زال يُلهم الفكر حتّى يومنا هذا. أمّا القاسم المشترك فهو ارتباط هذه الحركة بالإسكندريّة، من قريب أو بعيد. في هذا المناخ كان أفلوطين الذي »بزَّ هؤلاء جميعًا، كما قال عبد الرحمن بدويّ، حتّى أنّنا نجد الفارق الكبير جدًا بين ما وصل إليه في أبحاثه، وبين ما انتهى إليه هؤلاء المتقدِّمون«(34). إنّنا نقرأ الآن حياة أفلوطين وتاسوعاته (Les Ennéades) لنصل إلى فكره الفلسفيّ.

أ- حياة أفلوطين (205-270)

وُلد أفلوطين، وهو الرومانيّ، في ليكوبوليس (أسيوط الحاليّة) من أعمال مصر. وما كتبه عنه بورفيريوس يُلقي الضوء على مسيرته: حين كان ابن ثمانية وعشرين عامًا، تعلَّق بالفلسفة. لم يتعلَّق بحكمة شرقيّة، سرّيّة، بل بالأفلاطونيّة الانتقائيّة التي علَّمها أمونيوس ساكاس في الإسكندريّة. قضى لدى هذا المعلِّم أحد عشر عامًا، ورافق الإمبراطور مرقس أنطونيوس غورديانس الثالث(35) في حملة انتهت بالفشل في بلاد فارس. لم يعرف أفلوطين هناك »ماني« الذي أسَّس ديانة ثنائيّة، كما لم يعرف أوريجانس المسيحيّ. وهكذا تكون الأفلاطونيّة المحدثة صراعًا بين الفكر اليونانيّ الكلاسيكيّ وبين التيّارات الغنوصيّة المتقاربة من المسيحيّة المهرطقة والمانويّة. أقام أفلوطين في رومة سنة 247 في حماية الإمبراطور بوبليوس غاليانس الذي قلق من انحطاط الأخلاق والدروس، فرأى أن يجعل منه الفيلسوف الرسميّ. درَّس أفلوطين في اليونانيّة كما اعتادت رومة أن تفعل، وكان في الوقت عينه موجّه الضمائر ومعيل الأيتام. لم يشأ أن يعطي دروسه من على المنبر، بل اقتدى بسقراط فلم يكن يتكلَّم إلاّ حين يُسأل. لهذا انطلق عدد من مقالاته من سؤال يُطرح عليه أو من بحث عن معنى نصّ قرأه السائل عند أفلاطون. ولكن عبر هذه الشروح التقنيّة، كان »هدفه وغايته أن يتَّحد بالله الذي هو أسمى من كلِّ شيء، وأن يقترب منه«(36). هذا ما قاله بورفيريوس عن معلِّمه، وذكر له انخطافات عديدة شاهدها. غير أنَّ تعليم أفلوطين سعى إلى شكل مستيكيّ، باطنيّ، يحاول أن يتجاوز الصور. كان أفلوطين نباتيٌّا، فلم يأكل اللحوم، وعاش نسكًا قاسيًا بحيث أنهك صحَّته. لم يستطع أن يحقِّق حلمه بمدينة أفلاطونيّة. عرف في النهاية عزلة جعلته يعيش وحيدًا. أصابته قرحة خطرة فمات في كمبانيا (إيطاليا) سنة270(37). وبورفيريوس نفسه كان قد تركه قبل سنتين بناء على نصيحة معلِّمه.

استعاد هذا الفيلسوف فكر أفلاطون مع عناصر أرسطوطاليّة ورواقيّة، وتأثَّر بتيّارات لاحقة، فقدَّم بحثًا عن الخلاص وعن الحقّ، وهكذا جاء ما كتبه تفتُّقًا للأفلاطونيّة وخلقًا جديدًا له أصالته. ففي تفسيره لما في كتاب »برمينيديس« لأفلاطون، تحدَّث عن الواحد، وعن نظرته إلى حركة انبثاق واحدة ومضاعفة هي فيض الوحدة والصعود المنقّي نحو المبدأ.

ب- التاسوعات

ترك أفلوطين عددًا من المقالات وصلت إلى العالم العربيّ في أشكال مختلفة، فكوَّنت لاهوتًا نُسب إلى أرسطو. ولكنَّه سلّم إلى بورفيريوس 54 قطعة وزَّعها هذا التلميذ المهتمّ بالرموز في ستِّ مجموعات تاسوعيّة، لهذا سُميّت التاسوعات. تحدَّثت الثلاث الأخيرة عن »الأقانيم« (hypostases): النفس، العقل، الواحد. تلك كانت قسمة منهجيّة. وهناك قسمة كرونولوجيّة أي حسب زمن كتابتها: 21 مقالاً قبل وصوله إلى رومة، 24 خلال إقامته في رومة، 9 بعد ذهابه إلى صقلّيّة(38). ونتوقَّف عند كلِّ واحدة من هذه التاسوعات.

* الأولى: تضمُّ في قسمها الأكبر النصوص التي تحدِّد الحياة الفلسفيّة والممارسة الروحيّة والسعادة. في المقال »حول الجمال« (1: 6) الذي هو أقدم المقالات، تبع أفلوطين تعليم أفلاطون في »الوليمة« و»فيدروس« (أو الجمال)، قال: يجب على النفس أن تتحرَّر من الجسد وتصبح إلهيّة لكي ترى أوَّلاً، بجمالها الخاصّ، الجميلَ في ذاته، والعقل، ثمّ الخير. والمقالات 1: 2-3، 19-20 في الترتيب الكرونولوجيّ، تحدَّد ما قيل من قبل: الفضائل هي تطهير الجسد واهتداء النفس نحو المعقول، والتماثل بالله. وهكذا يمتلك الحكيم كلَّ الفضائل المدنيّة، ولكنَّه يتجاوزها كلَّ التجاوز بالمشاهدة. إنَّ نهج الارتفاع هو الجدليّة الأفلاطونيّة التي لا تنحصر في المنطق، بل تتطلَّع إلى الكائن، بل تصل إلى الخير مبدأه. وما يحرِّك الصعود هو الحبّ أو الرغبة بالخير لدى النفس. بواسطته تتوق في طبعها إلى العقل، وبواسطة العقل إلى الله.

ولكن إذا كان صعود النفس تحريرًا للجسد، والموت خيرًا (1: 7)، فيجب على الإنسان أن لا ينتحر إلاّ في الضرورة القصوى (1: 9). من جهة، ليس الجسد هديّة لا نفع منها. ومن جهة ثانية، الإنسان كلّه يكون سعيدًا كما في المقال حول السعادة (1: 4). غير أنَّ هذا لا يصدر إلاّ عن حياة يعيشها الحكيم، حياة فوق المحسوس والوجدان، ترتبط بالعقل. لهذا ردَّ أفلوطين على أرسطو والإبيقوريّين والرواقيّين، فحدَّد السعادة في أزليّة الحياة العقليّة (1: 5).

* الثانية: تتطرَّق إلى الكون والأجساد والمادّة. حسب أفلوطين، تتحرَّك السماء بشكل دائرة حول العقل الذي تقتدي به، بحركة تزاوج الجسد والنفس. إنَّ المقال »حول الكون« (2: 2) يضيف بأنَّ أزليّة الكون تنبع من أنَّ الله أنتجه. والكواكب التي هي أزليّة أيضًا، لها جسم نورانيّ دقيق لا فاسد. وفي المقال حول »أصل الشرور«، بيَّن أفلوطين أنَّها ليست في ما هو إلهيّ، بل تمتزج بما يلامس المادّة: الأجساد والنفس الفرديّة.

* الثالثة: تتحدَّث عن القدر (المصير)، والعناية، والزمان، والأبد. بدأ أفلوطين (3: 1) فطرح مسألة سببيّة أعمال النفس التي لا يمكن عقليٌّا أن ننسبها إلى الصدفة. هناك نوعان من السببيّة للنفس: سببيَّتُها الخاصّة، وسببيّةُ الأشياء الخارجة عنها. ولكن حين لا ترتبط النفس بجسد، يقودها العقل فتكون حرّة وتتصرَّف بحسب إرادتها. وطُرح سؤال آخر: هل يجعلنا الشرّ نشكّ في عناية الله؟ وهل هناك عناية خاصّة؟ بما أنَّ الكون يوافق العقل، فالعناية موجودة وهي شاملة.

* الرابعة: خُصِّصت للنفس، هناك النفس السامية، الإلهيّة، التي تقابل الانعكاس (النفس الإحساسيّة) الذي يحدِّد الجسد، الحيوان. أمّا النفس فعاقلة ولا تعرف الألم، وهي غير مقسومة حين لا تجتمع بالجسد، ولكنَّها تنقسم حين تكون على هذه الأرض.

* الخامسة: تبدأ مع المقال الشهير حول »الأقانيم الثلاثة المبدئيّة« (5: 1). تتضمَّن النفس جزءًا إلهيٌّا في المعقول، وهو يأتي من العقل. غير أنَّ العقل متعدِّد لأنَّه يملك ما يكتنه، أي جميع الكائنات التي لها عقل. في 5: 3، يعيد أفلوطين النظر في المبادئ الثلاثة من جهة المعرفة: النفس تعرف ذاتها على أنَّها استدلاليّة، وإحساسيّة، لأنَّها لا تستعمل دومًا الجزء العقليّ فيها. والعقل يعرف ذاته أيضًا، لأنَّه العاقل الذي يفكِّر. لا شكّ في أنَّه يفكِّر حين يشاهد الواحد، ولكنَّه لا يكتنه الواحد، إذ يراه يتكوَّن كعاقل يفكِّر في ذاته. والواحد يسمو على كلِّ معرفة، على كلِّ فعل، على كلِّ حقيقة. ولا وصف له لا اسم له. نتحدَّث عنه ولا نُفصِح. نقول ما ليس هو، منطلقين من الأشياء الدنيا. ويبقى أنّنا نقدر أن نراه حين نطلب حضوره. نهيِّئ النفس بالكلام عنه، وننقطع عن كلِّ شيء لكي نشاهد ذاته فينا.

* السادسة: تتضمَّن قسمًا أونطولوجيٌّا (مختصّ بعمل الكائن)، وقسمًا مخصَّصًا للواحد (الخير). في المقالات 6: 1، 2، 3، انتقد أفلوطين مقولات أرسطو العشر، ومقولات الرواقيّين الأربع. فإذا أردنا أن ندرك الحقيقة، علينا أن نتبع أفلاطون؛ فالكائن هو المعقولات في العقل. هي تعدُّديّة تنظِّمها أنواع تأتي من ينبوع، من مبدأ واحد: الواحد. بما أنَّ النفس حياة، كيان، فكر، فالعقل هو كيان وحركة وراحة. تلك هي الأنواع الخمسة الأولى، وجهات الكائن. يتبع هذا أنَّ الكائن ليس نوع الآخرين، وأنّ الواحد ليس النوع الساميّ. أمّا النفوس وهي بالقوّة في المعقول، فهي أنواع عقليّة، والمحسوسات نتاجها.

والقسم الثاني من هذه التاسوعة السادسة المكرَّس للواحد، فقد جاء الكلام عنه في 5: 4 حيث أكَّد أفلوطين البساطة المطلقة للمبدأ الأوّل، وسمّوه التامّ على الكائن، على الحياة، على الفكر الذي يلد. إن سُمِّي معقولاً، فلأنَّه موضوع رغبة العقل، لأنَّ الآخرين لا يعرفونه، ولا هو يعرف نفسه (5: 6). والمقال حول الخير (6: 7)، يعود بنا إلى تكوين العقل الذي هو حياة قبل أن يتوجَّه إلى الخير وينظر إليه. وإذ لا يقدر أن يحصر قوَّته، فيطهِّره بحيث يصبح خيرًا متعدِّدًا. لهذا ترغب فيه الكائنات. وفي النهاية تتوق إلى الواحد (الخير) الذي هو السبب الحقيقيّ لكلِّ تحرُّك حبّ. وهكذا تبحث النفس عن الجمال عبر الأشياء الجميلة، ولكنَّه لا يُشبعها لأنَّه فقط أثر واقع أجمل. فإذا أرادت النفس أن تدركه، عليها أن تستقرّ في المعقول بفضل التنقية. ثمَّ أن تتجرَّد من كلِّ الأشكال، وتتبسَّط إلى ما لا نهاية، وتتشبَّه بالخير. حينئذٍ تشعر فجأة بحضوره.

وإن أرادت النفس الاتِّحاد بالله، وجب عليها أن تدخل إلى ذاتها، وهذا ما يصعب عليها، لأنَّها معتادة على أن تلتفت إلى الخارج لكي تعرف. وقد تحاول النفس أن تنزل إن هي أحسَّت بالدوار. من هنا أهمّيّة اللاهوت السلبيّ الذي هو ممارسة ضروريّة لكي تتَّحد النفس بالواحد. ففي الجهل الكامل وفي الجمود التامّ يتمّ الاتِّحاد، بدون رغبة، بدون فكر، بدون ذات، لقد صار حضور الله نحن. تلك هي نهاية سَفر النفس. هو سفر لا يدوم طويلاً على الأرض، ولا نستطيع أن نصِفه. هو سَفر يُتمِّمه الإنسان وحده، يعيشه وحده في اتِّجاه إلى الذي هو وحده الواحد.

ج- الفكر الفلسفيّ عند أفلوطين

نعالج هنا ثلاث محطّات من هذا الفكر: التنقية والتصفية، النفس والعقل، فلسفة الواحد.

أوَّلاً: التنقية والتصفية

نستطيع أن نقرأ فلسفة أفلوطين في اتِّجاهين: ننطلق من مبدأ أصليّ لا يوصف، فننتقل إلى ثنائيّة المفكِّر والمفكَّر به، ثمّ إلى التناثر النفسيّ في الزمان وفي المكان. ولكن حين نتبع هكذا النظام المنطقيّ في »تطواف« (هو في الظاهر تاريخ وتكوين)، يُفلت منّا النهجُ الأفلوطينيّ كتنقية وصعود. وفي الواقع، هذه الحركة الأخيرة والتي سبقتها تترابطان. فمنذ البداية، وضع أفلوطين، في الوقت عينه، تراتبيّةَ الأقانيم والوجود الأزليّ لكون خادع، وتوقَ النفوس إلى وحدة فقدتها وإن لبثت حاضرة في أعماق ذاتها.

وإنّ السقوط الأفلاطونيّ و»فقدان الجناحين« (فايدروس 248ج) ليس هنا نتيجة خطيئة أصليّة بقدر ما هو استعارة خبرة معاشة. وانطلاق النفس (psyché) الجديد واللقاءات السماويّة ليست ثمرة نعمة ارتبطت بالإيمان، ولا هي تطلب ذبيحة فداء. إذا كانت الصورة الغنوصيّة عن الذهب المخفيّ تحت الوحل قد استُعيدت لتدلّ على ما تبقّى من إلهيّ في الجزء الأعلى من النفوس المشتَّتة، فنجاة الذين تدعوهم الثنائيّة »البنفماتيّين الروحيّين« (pneumatique)، لا تتضمَّن أي رذل نهائيّ لنسل ملعون، لنسل »المادّيّين« أو »الهيوليّين«، بل مخرجًا حلوًا لفرز بسيط بين أبناء النور وأبناء الظلمة.

لم يسقط أفلوطين في شباك »الأسرار« الشرقيَّة، فحفظ من التقليد الهلّينيّ الكبير فكرةَ كونٍ واحدِ، معقول حقٌّا، ومتناسق في العمق. وحتّى الجسد »آخر أثر للأشياء العلويّة في أصغر الأشياء التي على الأرض« (تاسوعات 3/4: 1)، يجب أن نسود عليه لا أن نحتقره، ففيه كوِّنت النفس، نوعًا ما، مادّة على صورتها. وإذ كان انتقال الأنفس من جسد إلى جسد ليس مجرَّد رمزٍ، فهو يدلّ بشكل خاصّ على أنَّ النفس التي تعيش على مستوى البهيمة أو النبات، لا تستحقّ سوى »أداة« حيوانيّة أو نباتيّة. أمّا الحكيم فيستعمل جسده بشكل يليق به، وبفطنة، مثل كنّارة ضروريّة للنشيد الأرضي (1/4: 16)، ولكنَّه يتركها من أجل مهمّات أسمى.

في هذه التنقية (أو التصفية) المتدرِّجة، التي تشبه عمل نحّات ينزع شقفات الرخام النافلة التي تحتها يظهر الشكلُ الحقيقيّ، يتفوَّق دورُ الجدليّة العقليّة على الاندفاع العاطفيّ البسيط. تحدَّث أفلاطون عن نفوس »أثقلها« لاتنبهٌ للخير ولا تناسق في الرغبات، فاحتفظت، بدرجات متفاوتة، ببعض التذكُّر بالرؤية الأولى. وشدَّد أفلوطين على أنَّ الأقلَ ثقلاً يتجسّد في »زرع فيلسوف«. لا شكّ في أنَّ النفس التي تتبع ربّة الفنّ وتغلب الحبّ في الجمال، تسير أيضًا في شكل غير ثقيل.

إنَّ المقال »في الجمال«، الذي هو أقدم ما في المجموعة، يتضمَّن نقاشًا للطرح الفيثاغوريّ حول التناسق. كلُّ علاقة تعيدنا إلى ألفاظ متعدِّدة. ولكن إن كان التوازي »يُنتج جمالاً يحسّ به النظر«، فالجمال الحقيقيّ هو جمال »البسيط« (جمال الشمس، جمال الذهب). وما وراء »التعاطف« الرواقيّ، المرتبط بنسمة داخليّة تعبر في كلِّ شيء وتحييه، وجد أفلوطين في خبرة الجمال، انعكاسَ مثالٍ متسامٍ، وللنفس »الموسيقيّة« تذكارًا لذاتها ولِما يخصُّها (1/6: 2). يجب أن يكون الإنسان شفّافًا للنور، لكي يعرف الجمال الروحيّ الذي يشعّ من سقراط ولو تحت سماتٍ مشوَّهة في الظاهر. إنَّ فيدياس نَحتَ تمثال زوش دون مثال حسّيّ، ولكنَّه تطلَّع إليه وكأنَّه ظهر له أمام ناظريه (5/8: 1).

غير أنَّ الجمال لا يتجلّى لنا إلاّ عبر خبرات يمتزج فيها التعب بالفرح. هو من الدرجة الثانية، ولا يقود إلى »الملك« الحقيقيّ إلاّ الذين لا ينجذبون به، الذين يعرفونه أنَّه مشاركة في الخير الذي بدونه ليس بشيء، والذي يتجاوزه لأنَّه »لا يحتاج إليه« (5/5: 12). يبقى على الإنسان أن ينجذب بسحر يجعله يتأخَّر في الصعود. هذا لا يعني أنَّه يستطيع أن يطير قرب الله على أجنحة الأحلام (2/9: 9)، لأنَّ عليه أن يمارس أوَّلاً الفضائل الأربع: الفطنة، القوّة، العدالة، الحكمة (6/ 3: 7) التي بدونها لا يكون إلهه سوى مجرَّد اسم (6/9: 11). هذا المجهود لا يتضمَّن أبدًا أن تتأثَّر النفس بالأهواء: »لا تأتي الرذيلة والفضيلة مثل الأسود والأبيض، أو الحرّ والبرد في الجسد. فهي تذهب إلى هذا وذاك من المتناقضات« (3/5: 1).

في أيِّ حال، النفس لا تتنجَّس. فتحرُّكات الجسد اللانظاميّة قد تكدِّرها كما يفعل الوحل في مرآة، ولكنَّ الضباب الذي يقف حاجزًا في وجه النور، يبقى دائمًا خارجًا عن الشعاع الذي يؤخِّره. فلكي تجد النفس ذاتها نقيّة، يكفيها أن تنظر إلى العلاء، أن »تستيقظ من أحلامها العبثيّة« (3/6: 5) لسنا أمام انشداد للإرادة، كما في العالم الرواقيّ، بل أمام مجرَّد انفتاح »على الذهن والعقل«، وفي النهاية أمام اتِّحاد النفس بما هو من نسلها (1/2: 3-4). »حينئذٍ لا يكتفي الحكيم بأن لا يكون آثمًا، بل يجب أن يكون إلهًا« (1/2: 6). على هذا المستوى ووراء المصير والحظّ وفي ارتباط كامل مع الكلّ، لا يريد هذا الحكيمُ سوى الخير الذي يشاهده.

ثانيًا: النفس والعقل

غير أنّنا لا ندرك هذه التخوم إلاّ في أوقات نادرة، وفي نهاية صعود صبور. ولكن لا بدّ من طرحها منذ البداية، لأنَّه يجب على النفس أن تعي طبيعتها المشاهِدة في كلٍّ من المراحل: حياة مولودة، إحساس، رأي عاقل. فالعلاقة مع الجسد تطلب عمل إحساس »مفيد«، ولكنَّه يحقِّق التذكُّر لمعرفة حقّة. في المرحلة التالية والمحاذية للبرهان الاستدلاليّ، تستعمل النفس الكلمات والمفاهيم التي تدلّ على قلقها وحيرتها (4/3: 18)، ولكنَّها لا تعرف معناها إن لم تمتلك من قبل، في شكل ضمنيّ، »صورة وأثر« جميع الأشياء في العقل، أي في الأقنوم الثاني (5/5: 2).

قلَّل أفلوطين من قيمة النظريّة الكلاسيكيّة حول »الأماكن«، وميَّز في »قوّة الحركة«، عنصرًا ديناميكيٌّا يكون في »شكل متيقِّظ« (6/3: 22). ويكون أيضًا »تعبيرًا« و»رفضًا للامنظور الأبديّ (3: 7: 11). انتقالٌ، نموٌ ونقصٌ، تحوُّلٌ، ولادة وفساد، كلُّ هذا يعيدنا بالضرورة إلى »الغيريّة«. والمدى يبقى انعكاسًا منحطٌّا لحياة لازمنيّة. هكذا يكتشف الحكيم تماثلاً أصليٌّا وتقابلاً رمزيٌّا بين جميع أقسام »حيّ« كبير، كونٍ ناقص حيث تستطيع هبة الخير أن تكون شيئًا آخر في الذين يتقبَّلونها (6/7: 18). هنا يمتزج موضوع »القطع« (coupure) (كما عند أفلاطون) مع حدس بتعاطف شامل (كما عند الرواقيّين). صار الأفراد درجات نموّ في التعبير عن المعقول في الزمان والمكان. هذا يعني أنَّ العقل يتضمَّن أيضًا شكلاً ساميًا من الغيريّة.

يقيم العقل لدى الواحد (الأقنوم الأوّل)، ولا يني يخرج منه ويعود إليه (3/7: 6). والزمن الذي هو حركة، لن يكون بعد »حركة محرِّكة« للأبديّ، بحيث يجب أن ننسب إنتاج العالم الحسّيّ إلى صانع (démiurge) شرّير. اختلفت مادّة العلاء عن مادّة الأرضيّ التي تأخذ شكل ''جثّة منظَّمة'' (2/4: 5). أمّا مادّة العلاء فهي إلهيّة. وحين تتقبَّل ما يحدِّدها، تمتلك حياة محدودة. وهكذا يحدِّد أفلوطين الأقنوم الثاني على أنَّه »حركة المثال« الذي فيه تتعدَّد الأنواعُ التي تتداخل تداخلاً تامٌّا (6/2: 8). إن كان اللامحدود يتَّخذ عنده قيمة إيجابيّة، وإن كانت القوّة صارت هنا غير مفصولة عن »العقل«، (وقد يكون اللاهوت اليهوديّ المسيحيّ قد ترك أثره هنا)، فأولويّة الأزليّ تبقى سمة تميِّز الهلّينيّة والأفلوطينيّة، بحيث إنّ جدليّة العقل هذه تستبعد كلَّ تاريخ حقيقيّ، وتبقى أسيرة تناقض قد لا نستطيع أن نتجاوزه.

ثالثًا: فلسفة الواحد

ويبقى مخرج »لواحد أوَّل«، بسيط كلَّ البساطة، يتحدَّد موقعه وراء الجوهر والكائن. غير أنّ المبدأ لا يمكن أن يكون منعزلاً وبدون ثمر. إنَّه »قوّة كلِّ شيء«، فكيف يكون »الأكمل« إن لبث »في ذاته« (5/4: 1)؟ هو أساس الكائنات، شرط أن لا يُحسب معها. وهو أيضًا المركز الحاضر في كلِّ شيء، وحوله تدور الأنفس الناجية (sauvées) كما في رقصة مقدّسة (6/9: 11). أوَّلاً، هو منطلَق كلِّ إشعاع. ونحن لا ندركه إلاّ من بعيد، بالقياس، بالسلب، بمعرفة موسَّسة على ما يتفرَّع منه، بل ندركه عبر سلسلة من التنقيات (6/7: 36). هنا سببيّة الواحد ليست مجرَّد جذبٍ، كما هو الأمر بالنسبة إلى المحرِّك الأوّل لدى أرسطو. فإذا أردنا أن نصفَها، يجب أن ننتقد أوَّلاً أولئك الذين في خطبة وقحة يُنكرون »الحرّيّة« الإلهيّة أو يعتبرونها مثل »شواش« الشعراء »الذي يخرج من الهوّة« (6/8: 11). وهناك من يعتبرها مجرَّد ضرورة، وكأنَّ فعلها وما فيه من »حياة« هو صفة لجوهره.

فضّل أفلوطين صورَ النور على موضوع الغمام أو الظلمة، فصحَّح »القياسات« (analogies) بعبارات »سلبيّة« (apophatiques)(39). الواحد يُشبه ينبوعًا يفيض (5/2: 1) أو نارًا تنشر حرارتها (5/4: 2)، يشبه »العدد المعقول«، وهو كلّه في ذاته ولذاته، ويلد سلسلة حسابيّة لا عدَّ لها (6/8: 17)؛ يشبه مركز دائرة لامنظورًا ولامقسومًا، فتنقل إشعاعاتُه القوّةَ الأبويّة إلى أبعد الأطراف (6/8: 18). كلُّ هذه الرموز تمزج الملازمة والتجاوز(40). كلُّ هذه الإشارات إلى »عناية صالحة«، تصطدم بمفارقة أساسيّة في كائنٍ هو لا شيء، في معطى لا يتبدَّد أبدًا (6/5: 9). لا حاجة إلى صفات التفضيل، بل إلى إضافة النفي على النفي في إطار السلبيّة. فالذي ندعوه »الواحد« لأنَّه »يجب أن ندلَّ عليه في ما بيننا ليقود نفوسنا إلى حدس لامقسوم، ولأنّنا نريد أن نتَّحد به« (6/9: 5)، هو ما وراء كلِّ تسمية وكلِّ إسناد (5/5: 13). هو كلُّه في كلِّ مكان، وليس هو في مكان محدَّد. ليس هو قياسًا ولا هو لاقياس، لا هو راحة ولا هو حركة، هو لا يمتزج بشيء ولا يغيب عن شيء (6/5: 10؛ 6/7: 32-34).

فإذا أردنا أن »نرى الواحد في نقاوته بدون مزج«، وليس فقط في »بصماته« (5/5: 10)، فلا يبقى سوى الخبرة المستيكيّة (الصوفيّة). »فالمعبد الحقيقيّ« بالنسبة إلى أفلوطين، هو »غير منظور«. الديانة الحقيقيّة الوحيدة هي ما يحدِّدها كلامٌ قاله على فراش الموت: »أحاول أن أُصعِد كلَّ ما هو إلهيّ فينا إلى الإلهيّ الذي هو في الكلّ«(41). والخبرة التي تُدعى الانخطاف أو الشطحات لا تعني، إلاّ في الظاهر، انقطاعًا عن العالم. لأنّنا »حين نحتقر الكائن والحياة، نشهد على ذاتنا وعلى جميع عواطفه« (6/7: 29). والمشاهِد »الذي يرتفع فوق كلِّ خطبة، بقدر ما تسمح له قواه«، ليصل إلى العقل »الثمين والجميل«، بل إلى ذاك الذي يولِّده، يدلّ على نداء طوعيّ تطلقه جميعُ الكائنات الطبيعيّة. و»إنويا« (المعرفة في الفهم) التي يدركها في أوقات مميَّزة، تبقى في تواصل مع الجدليّة التي تهيّئها.

ولقد تحدَّث أفلوطين عن وجع الولادة في معرض كلامه عن نفس »تركض حول كلِّ الحقائق« ثمّ تهرب منها لأنَّها تحسُّها غير كافية(42). وفي النهاية، عبر »الفراغ« (الحرمان) تحسّ النفس بفرح لا يُوصف »للمس« نورانيّ. فإن هي »خرجت« نوعًا ما، من ذاتها، فهي أيضًا قد »دخلت« في ذاتها. في قمّة الصعود، تبقى النفس متَّحدة بالواحد كالجوقة مع رئيس الجوقة (6/9: 8). اثنان في واحد، واحد في اثنين. هو كلام جريء (6/9: 10)، ولكنَّه لا يُلغي الإنسان الذي كلّم ذاته بذاته (5/5: 7؛ 6/9: 11). هو تقارب وتماثل، لا تماهٍ تامّ. لا تضيع النفس في ما لا يُوصَف، بل »تجد مصيرها الأصليّ والسعيد«. على هذا المستوى، لا تعود تخاف شيئًا. ولا تعود ترغب في شيء (6/7: 34).

وتحدَّث أفلوطين بعض المرّات عن مصير النفوس بعد الموت. في تقليد فيثتاغوريّ، قريب من عالم الهند، أعلن أنّها تعرف تجسُّدات جديدة في أجساد نباتيّة إن هي عاشت حياة نباتيّة، أو في أجساد وحوش إن عاشت حياة الوحوش في تعاملها مع الآخرين. غير أنَّ هذا الفيلسوف اختلف عن الغنوصيّة وعن ديانات الخلاص، فلم ينظر، إلاّ في الظاهر، إلى عالم آخر. فالسعيد، بالنسبة إليه، ليس ذاك الذي يترك مكانًا لكي يمضي إلى مكان آخر، بل ذاك الذي، بدون دعاء ولا نعمة، يصير »الإله الذي هو« (3/2: 8)(43). ويقول برغسون، في مقارنة بين صوفيّة أفلوطين والمتصوِّفين المسيحيّين: »إنَّ أفلوطين أعطيَ له أن يرى أرض الموعد دون أن يدوس ترابها«، وبمعنى آخر أنَّه قرع الباب دون أن يدخل الدار.

خاتمة

تلك كانت مسيرتنا في التعرُّف إلى الأفلاطونيّة المحدثة، النيوأفلاطونيّة. انطلقت من أثينة فوصلت إلى الإسكندريّة، وشعَّت في الشرق ولاسيّما فينيقية وسورية، مع أشخاص مثل بورفيريوس أو يمبليكس أو سريانُس. نبعت من أفلاطون ومدرسة »الأكاديميا«، فاغتنت بتيّارات عديدة مثل الفيثاغوريّة والرواقيّة، قبل أن تصبّ عند أفلوطين وعند الذين تبعوه أو جاؤوا قبله. هي فلسفة في المعنى الحقيقيّ للكلمة، وهي أيضًا روحانيّة تُشرف على حياة الإنسان وتوجِّه تصرُّفاته. يكفي أن نعرف ما أحسَّ به بورفيريوس حين قرأ نصوص معلِّمِه وما فعله يوليانُس الجاحد الذي تأثَّر بفلسفة يمبليكس الوثنيّة.

فلاسفة معظمهم من الشرق وانتسبوا إلى مدرسة الإسكندريّة. بدأوا فشرحوا كتب أفلاطون، واستقوا من مراجع أخرى، فأعادوا صياغة ما قرأوه بشكل أصيل وفي خطّ صوفيّة جذريّة. وهكذا صار التنظيم الماورائيّ تعليمًا عن الخلاص. وحين بيَّن أفلوطين أنَّ من الواحد يصدر العقل والنفس والكون الحسّيّ، دلَّ في الوقت عينه على طريق الاهتداء التي بها يعود الإنسان إلى الله. وفي نهاية هذه المسيرة الروحيّة، لم نعد فقط أمام المشاهدة، كما عند أفلاطون، بل إنَّ النفس تتبسَّط فتفنى في الواحد الذي صدرت عنه.

ما توقَّف هذا الفكر عند أفلوطين، بل تعدَّاه إلى آباء الكنيسة، وألهَم الفكر اللاتينيّ، والفكر البيزنطيّ، والفكر الإسلاميّ، والفكر اليهوديّ. وما زال حتّى الآن، يكوِّن أحدَ منابع الفكر الدينيّ في الشرق كما في الغرب.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM