الفصل الثامن:الكتاب المقدس أمام التاريخ وعلم الأثار .

الفصل الثامن:

الكتاب المقدس أمام التاريخ وعلم الأثار

حين نقرأ الكتاب المقدّس في عهده القديم، نعتبر أن ما نقرأه هو خبر تاريخيّ، على مثال ما في كُتُب التاريخ التي بين أيدينا. فنرى في ابراهيم ذاك العائشَ في القرن الثامن عشر ق م، الآتي من أور إلى حاران، ومن حاران إلى أرض كنعان، في ممرا ثم بئر سبع. ونرى في موسى ذاك الذي كان له أكثر من لقاء مع فرعون، فحاوره حوار الندّ للندّ، مع أن الفرعون كان يُعتبر صورة الاله على الأرض فلا يتجاسر أحد أن يقترب منه. ونتصوّر أريحا تسقط أمام بقايا من بقي من رعاع تاهوا في بريّة سيناء، بمجرّد النفخ في الأبواق والهتاف العظيم. ونتخيّل داود صاحب المملكة الواسعة، مع أن سلفه شاول ترك لابنه بيتاً لا يتجاوز البيوت القرويّة بكثير. كما نتخيّل سليمان، صاحب الحكمة العظيمة، مع أنه لم يتجاوز الامراء الذين أقاموا في أرض موآب وعمون وأدوم، ولم يصل في أي حال إلى مستوى ملك صور الذي حسبه الجيران قريباً من الآلهة، بسبب غناه.

في هذا الإطار، ظهر كتاب في اللغة الانكليزيّة(1) ونُقل مؤخراً إلى الفرنسيّة(2) فأراد أن يقدّم هذان الكاتبان الاكتشافاتِ الجديدة في الاركيولوجيا أو علم الآثار. أما نقطة الانطلاق، فهي أن تدوين البيبليا تمّ في أيام الملك يوشيا، في القرن السابع ق م. هذا يعني أننا أمام بناء روحيّ تنقصه الوثائقُ لكي نسمّيه تاريخاً في المعنى العصري للفظة.

1- تاريخيّة الكتاب المقدّس

حين نتوقّف عند هذا الكتاب المثير والذي يطرح أكثر من سؤال، نكتشف فيه ثلاثة أقسام. فالقسم الأول الذي عنوانه: »تاريخيّة الكتاب المقدّس« يشكّ في القيمة التاريخيّة لما يُروى منذ مجيء ابراهيم إلى كنعان حتّى مُلك سليمان ضمناً. والقسم الثاني يعالج بروز اسرائيل القديم وسقوطه واختفاءه، أي منذ موت سليمان الذي يقال أنه حصل سنة 933 إلى احتلال السامرة، عاصمة مملكة اسرائيل، بيد الأشوريين، سنة 722. وعنوان القسم الثالث هو: يهوذا (أو مملكة يهوذا) وخلق التاريخ البيبليّ. فبعد زوال مملكة اسرائيل، لم يبق سوى مملكة يهوذا التي انطبع تاريخُها بإصلاح قام به الملك يوشيا (640 - 609 ق م). فهذا الملك الذي تأثّر بسفر التثنية، هو المسؤول الرئيسيّ عن عرض ماضي اسرائيل، حسب قول الكاتبَين.

أما الاسلوب فيبدو كما يلي: يُقدَّم النصُّ البيبليّ، فيبدو غيرَ متماسك بالنظر إلى المعطيات الاركيولوجيّة والتاريخيّة. حينئذ يقترح الكتابُ تاريخاً للنصّ يتوافق مع المعطيات التي نعرفها اليوم. هنا نتذكّر أن العلماء، حين بدأوا الحفريات في القرن التاسع عشر، انطلقوا من نصّ الكتاب المقدّس، واعتبروه الحقيقة التاريخيّة التي لا تناقَش، فبحثوا عن المواقع في فلسطين والاردن، وفي سائر البلدان المجاورة. أما الآن، فانقلب الوضع. لم يعد الكتاب المقدس هو نقطة الانطلاق، بل الحفريات الأثريّة. لا بدّ من التعامل مع التراب، ونبْش الأرض، لنصل إلى الحقيقة التي يمكن أن نستند إليها لكي نكتب التاريخ. هنا نشير إلى أن الكاتبين لا يُنكران الوحي البيبليّ، كما لا يُنكران وجود الأشخاص الذين يتكلّم عنهم النصّ الملهم. ولكن التاريخ الذي يُعطى يجب أن يُناقَش، وكذلك الامكنة. ونقول نحن في هذا المجال، إن مثل هذه الدراسة لا تعارض التأمّل في النصوص الكتابيّة من أجل تأويلها وتأوينها في حياتنا اليوميّة. غير أنها تساعدنا على نزع ما علق في مخيّلتنا من أمور تعلّمناه في قراءة أصوليّة لا تأخذ بعين الاعتبار أن نصّ التوراة لم يُكتب دفعة احدة، ولم يكتبه شخص واحد. فالنصّ له تاريخه في قلب الجماعة، وسوف ينتقل مدّة طويلة، بطريقة شفهيّة، قبل أن يُدوّن في شكله النهائيّ. هذا يعني أننا لا نتوقّف عند التفاصيل على أنها الحقيقة التي لا جدال فيها، بل نعتبرها الإطار الأدبيّ من أجل تعليم دينيّ.

ونأخذ مثالاً على ذلك »البحث عن الآباء« ابراهيم واسحق ويعقوب. ماذا يقول الكتاب المقدس؟ في البدء وُجدت عائلة نعمت بعلاقة مميّزة مع الله. وعلى مرّ الزمن، صارت هذه العائلةُ خصبة، وتكاثرت فولدتْ شعب اسرائيل. هكذا يبدأ الخبر »الشعريّ« الذي يتأسّس على أحلام مهاجرين يأملون في تحقّق الوعد الالهيّ.

وأول الآباء هو ابراهيم. وعدَه الله بأرض ونسل عديد. وانتقل الوعد الالهي من جيل إلى جيل، من ابراهيم إلى اسحق وإلى يعقوب... وهكذا نعيش خبر سلالة عائليّة تروي أفراحها وأحزانها، حبّها وبغضها. وهذا الخبر هو في الوقت عينه خبرٌ مسكونيّ ذات بُعد فلسفيّ، عن العلاقة بين الله والبشريّة، عن عبادة الله وطاعته، عن الخير والشرّ. هو تاريخ الله الذي اختار لنفسه أمَّة، هو تاريخ الوعد الالهيّ بأرض وازدهارٍ، ونموّ لا مثيل له.

ويواصل الكاتبان الخبر الذي نقرأه في سفر التكوين، ثم يبدأان في انتقاد ما قيل عن الزمن الذي عاش فيه الآباء. مثلاً، حين بيع يوسف كعبدٍ إلى مصر (تك 37:25)، كان كلام عن جمال تحمل البضائع. ولكن الاركيولوجيا تعرّفنا أن الجمل دُجِّن حوالي سنة 1000، وبدأت الإفادةُ منه في حمل الاثقال بشكل عاديّ بعد ذلك الوقت. ويقدّم خبر يوسف تفصيلاً آخر موحياً. فهذه القافلة من الجمال كانت محمّلة صمغ قتاد وبلساناً ولاذناً. هذا ما يجعلنا مع التجّار العرب الذين يرافقهم الأشوريون في القرن الثامن أو السابع ق م.

ويُطرح سؤال آخر حول الفلسطييّن(3). هم هنا، وسوف يلتقي اسحقُ بملكهم ابيمالك في مدينة جرار (تك 26:1). هؤلاء الآتون من بحر إيجه تقوّوا في القرن الحادي أو القرن العاشر، وسيطروا على المنطقة حتّى الحقبة الأشوريّة. وإذا كانت جرار هي تل حرور الواقع شماليّ غربي بئر سبع، وإذا كانت قد دخلت في خبر ابراهيم، فهذا يعني أنها كانت مهمّة. غير أن الحفريات بيّنت أنها كانت مركزاً أدارياً محصّناً في الزمن الأشوريّ. وقبل ذلك، كانت ضيعة صغيرة. وحين نقرأ الفصل العاشر من سفر التكوين نعرف أننا في القرن السادس. ونقول الشيء عينه عن العلاقات بين الآباء والاراميين الذين لم يلعبوا دوراً هاماً قبل بداية القرن التاسع. والخلاف بين يعقوب وعيسو هو صورة حاضرة عن الخلاف بين دمشق والسامرة.

كل هذه الملاحظات لا شكّ فيها. ولكنها تجعل القارئ ينسى الجوهريّ، ولا تعلّمه قراءة النصّ بحسب قواعد التأويل. فالتفسير يقول لنا لماذا كُتب هذا النصّ وكيف كُتب ومتى كُتب. نعود إلى ارتباط ابراهيم بأور. لا شكّ في أن هذا النصّ دُوِّن خلال المنفى اليهوذاوي، بين سنة 587 وسنة 538 ق م. كان صراع، في ذلك الوقت، بين الذين ذهبوا إلى السبي والذين لبثوا في أرض فلسطين. فتساءلوا: من هو نسل إبراهيم الحقيقيّ؟ حينئذ دوّن المنفيّون هذا الخبر، واعتبروا أنه كما مضى ابراهيم من بلاد الرافدين، سيعودون هم أيضاً إلى أرضهم.

منذ زمن بعيد، عرف الشرّاح أن الأخبار التي تضع أمامنا الآباء، جاءت في حقبات مختلفة، وفي أكثر من طبقة، بحيث أعيدت قراءةُ ما كتب. وأن التسلسل بين ابراهيم واسحق ويعقوب/اسرائيل، يعود إلى فترة كان فيها الشعب قد تكوّن شعباً منظّماً، ربّما حول معبد يخدمونه على التوالي،اثني عشر شهراً في السنة. في الواقع، لا نستطيع أن نعرف متى بدأت حقبة الآباء ومتى انتهت. ولكن المهمّ، ليس أن نحدّد موقعهم في المكان والزمان، بل أن نكتشف أنهم حاملو وعدٍ يحافظ على قيمته في تاريخ الشعب الأول، بل يصل إلى المسيح.

2- بين الخروج وكنعان

أ- الخروج من مصر بقيادة موسى

يبدأ هذا الفصل بسؤال يطرحه الكاتبان: هل حدث الخروج من مصر؟ إن بطولة موسى في وجه استبداد فرعون، والضربات العشر على مصر، وخروج مجمل بني اسرائيل، كل هذا يشكّل أحداثاً طبعت بطابعها التاريخَ البيبليّ. سار بنو اسرائيل بقيادة رئيس (لم نعد أمام أب من الآباء) يمثّل الله أمام الشعب ويمثّل الشعب أمام الله، فانتقلوا من ذلّ العبوديّة إلى حدود أرض الموعد. ويتّخذ خبرُ التحرير هذا أهميّة كبرى، ولا سيّما بالمعجزات التي حدثت فيه، من العلّيقة المشتعلة، إلى انقسام البحر، إلى المنّ في البريّة، إلى وحي الشريعة على جبل سيناء، إلى قدرة الله على الطبيعة. كان الله في علاقة خاصّة مع الآباء، فاذا هو كإله الكون يقيم علاقة مع شعبه.

ولكن هل كلُّ هذا تاريخيّ؟ وهل تستطيع الاركيولوجيا أن تقول لنا متى جنّد موسى شعبه وخرج بهم؟ وهل نستطيع أن نرسم طريق الخروج وتيهان القبائل في البريّة؟

نبدأ فنقول إن تاريخ مصر الغنيّ، لا يُقدّم معطية واحدة أكيدة تساعدنا على تحديد زمن الخروج. أما البيبليا فتجعلنا كما أمام حلم حين تقول إن الذين تركوا مصر كانوا ستمئة ألف شخص (خر 38:26). ارتبط الخروج بموسى وبعدد قليل من الناس. ولكن متى دُوّن هذا النصّ؟ في القرن السابع؟ أو ربّما في القرن السادس، وعلى ضوء الحياة في المنفى، بحيث تصبح العودة من أرض بابل خروجاً آخر على مثال الخروج من أرض مصر.

لا شكّ في أنه وُجد تقليدٌ حول موسى والخروج، عرفه النبيّ هوشع (في القرن الثامن) حين قابل بين يعقوب وموسى، فقال: »هرب يعقوب إلى حقل أرام، وخدم اسرائيل لأجل امرأة، ولأجل امرأة، رعى القطيع، وعن يد نبيّ أصعد الربّ اسرائيل من مصر، وعن يد نبيّ حفظه« (هو 12:13 - 14). لهذا، يكون من الصعب أن نؤكّد بأن خروج شعب اسرائيل من مصر، ليس حقيقة تاريخيّة، بل خدعة أدبيّة.

إذا قرأنا الفصل الرابع عشر من سفر الخروج، نفهم أن هذا النصّ دُوّن بعد الأحداث بزمن طويل، وأنه يضمّ خبرين مستقلّين يجمعهما في خبر واحد: في أحدهما، الله هو الفاعل الرئيسيّ. وفي الآخر، الله وموسى يفعلان. ويبدو الخبر أمامنا أولاً، لا كخبر تاريخيّ حسب معاييرنا الحديثة، بل كخبر توخّى أن يحرّك لدى المؤمن جواب الإيمان. »وشاهدَ اسرائيلُ المعجزةَ العظيمة (= عبور البحر) التي صنعها الربّ، فخاف الشعبُ الربّ وآمنوا به وبموسى عبده« (خر 14:31). يحاول بعض الباحثين أن يجدوا هنا، كما في مواضع أخرى، حقيقة تاريخيّة ليست هي الهدف الرئيسيّ للنصّ. عندئذ نفرض عليه معاييرنا وننسى المعايير التي بها نقبل أن نقرأ النصّ بحدوده.

ب - الدخول إلى كنعان بقيادة يشوع

ما كان لمصير الشعب أن يتمّ إلاّ في أرض كنعان، لا تيهاناً في بريّة سيناء إلى ما شاء الله. ويصوّر لنا سفرُ يشوع حملة عسكريّة خاطفة، تغلّبت فيها قبائل بني اسرائيل على ملوك كنعان الأقوياء، وورثوا أرضهم. كما يُعلن انتصارَ شعب الله على كبرياء الوثنيّين، ويُنشد ملحمة الاحتلال وسقوط المدن: سقوط أريحا، إيقاف الشمس في جبعون، حريق حاصور. ثم قُسمت أرض الموعد بين القبائل.

ولكن يُطرح سؤال: كيف استطاع هؤلاء »الرعاع« كما يسمّيهم الكتاب، أن يحتلّوا الحصون الكنعانيّة القويّة، ويواجهوا الجيوش ومركباتهم الحربيّة؟ ويُطرح السؤال: هل حصل حقاً احتلالُ كنعان؟ وإن حصل، فكيف حصل؟ هنا نلاحظ أن اللوحة التي يقدّمها سفر يشوع (ف 3 - 12) تختلف عمّا نقرأ في سفر القضاة، الفصل الأول. نحن في الواقع أمام رسمة سريعة، يجب علينا أن نكون متنبّهين حين نقرأها. فمن السهل أن نتخيّل يشوعَ قائداً حربياً محنَّكاً على مستوى الخطط الحربيّة والهجمات المفاجئة. ولكن لا ننسى أن الاركيولوجيا تخبرنا أن أحداً لم يحتلّ أريحا ولا العاي. وبعد أن نعرف هذا، يبقى علينا أن نفهم النصّ البيبليّ كما يجب أن نفهمه بعد دراسة دقيقة. عندئذ نطرح السؤال: هل نستطيع أن نجعل من يش 6 خبر احتلال عسكريّ؟ ونبدأ فنجيب: كلا.

هناك معطيات عديدة في النصّ تمنعنا من مثل هذه القراءة »الحربيّة«، وكأن الحفريّات الاركيولوجيّة في تل السلطان (موقع أريحا القديم) لم تحصل ولم تُبرز إقامة بشر في الموقع بين سنة 1300 وسنة 1100 ق م. وبشكل عام، هل نستطيع أن نفهم ما دفع المدوِّن الرئيسيّ لسفر يشوع أن يقدّم رسمة سريعة عن احتلال الأرض حين أقامت القبائل في كنعان؟ ما دُمنا لم نصل إلى جواب على هذا السؤال، يستحيل علينا أن نعطي رأياً في تاريخيّة هذا »الاحتلال«. وحين نقول إن الملك يوشيا يختفي وراء وجه يشوع، فهذا لا يكفي ليشرح سفر يشوع، لأن مملكة اسرائيل كانت قد زالت سنة 722، أي قبل عهد يوشيا بمئة سنة تقريباً. في الواقع، منذ القرن الثامن، كان امتلاك الأرض مهدّداً بسبب الاحتلالات الأشوريّة.

وإن حاولنا أن نقرأ احتلال أريحا، لا نجد أيَّ أثر للسلاح ولا للحرب. فهناك تطواف حول المدينة التي سقطت في اليوم السابع. بهذه الطريقة أظهر الكاتب أن المدينة التي ستُبنى بعد مجيء قبيلة افرائيم إلى كنعان، هي هديّة من الله لشعبه. في الواقع، كانت مدينة مدمّرة قبل وصول يشوع بمئة سنة ونيّف. فماذا بقي منها لبني اسرائيل لكي يدمّروه؟ ومعركة جبعون انتهت قبل طلوع الفجر. فأية حاجة لأن يطول النهار. وحين نقرأ النصّ بتمعّن، نلاحظ أنه يتحدّث تارة عن الله، وطوراً عن يشوع. أمّا سلاح الله فقوى الطبيعة، ولا سيّما البرَد الذي أصاب الأعداء وابتعد عن العبرانيين. كل ما في الأمر، هو أنّنا أمام عمليّة من السلب والنهب اعتاد عليها سكّان الصحراء والأرض المحيطة بها حتّى بدايات المسيحيّة.

3 - شعب اسرائيل

وطُرح سؤال هام في فصل خاص: من كان بنو اسرائيل؟ إذا كنّا لا نترك نفوسنا تُؤخذ بنظرة مبسّطة حتى السذاجة بالنسبة إلى إقامة القبائل التدريجيّة في أرض كنعان، وهي أضعف من أن تقوم بحرب، يبقى السؤال عن أصل بني اسرائيل. منذ سنة 1920، تكاثرت الفرضيّات حول انزراع مجموعات بشريّة في منطقة الهضاب، في حقبة الحديد الأول، أي نهاية الألف الثاني وبداية الألف الأول.

تحدّثت فرضيّةٌ عن تغلغل سلميّ قام به أنصافُ البدو مع قطعان غنمهم، فحلّوا في المنطقة الجبليّة من كنعان، وقد نكون أمام ثورة اجتماعيّة دفعت الفلاّحين الكنعانيين على اللجوء إلى هذه المناطق تخلّصاً من سلطة المدن التي صارت »دولاً« مع ملكها وجنودها وضرائبها الباهظة من أجل رفاهيّة قلّة قليلة.

ولكن ماذا نقرأ في الكتاب المقدّس؟ هو يُبقينا في بعض الالتباس حول أصول شعب اسرائيل. تحدّروا في خطّ مباشر من الآباء ابراهيم واسحق ويعقوب. وقبائل اسرائيل الاثنتا عشرة هم أولاد أبناء يعقوب الاثني عشر، وقد وُلدوا ولادة بيولوجيّة بعد أجيال عديدة. بعد 430 سنة من العبوديّة في مصر، يصوَّر لنا بنو اسرائيل على أنهم لم ينسوا أبداً جذورهم التي غُرست في أرض كنعان، ولا إرثَهم المشترك. وتُكرّر البيبليا وتكرّر أن مفتاح المستقبل بالنسبة إلى شعب اسرائيل، يقوم في ممارسة طريقة حياة مميّزة وفي علاقة خاصّة مع الله. في سفر التثنية، يعد موسى بني اسرائيل بأنهم سينعمون إلى الأبد، وفي كل طمأنينة، بامتلاك أرض الموعد، شرط ممارسة شرائع العهد ممارسة دقيقة، ورفض الزواج مع جيرانهم، وعدم السقوط في ممارسات كنعان الوثنيّة. وانتهى الاحتلال، فأخبرنا سفرُ يشوع كيف قُسمت الأرض، بعد أن تخلّصت من سكّانها الكنعانيين.

غير أن التناقضات عديدة بين سفر يشوع وسفر القضاة، في رسم إرث القبائل لأرض كنعان. فهناك مقطع من يشوع يعلن أن بني اسرائيل امتلكوا كل الأرض التي وعدهم الله بها، وتخلّصوا من جميع أعدائهم (يش 21:43 - 44). غير أن عدداً من النصوص في سفر يشوع كما في سفر القضاة، تؤكّد بوضوح أن الكنعانيين والفلسطيّين ما زالوا يعيشون بقرب بني اسرائيل. وفي خبر شمشون، نرى أن هذا البطل الذي »اختاره« الله، يتزوّج من بنات الفلسطيّين، وأن القبائل تحالفت على قبيلة بنيامين وكادت تُفنيها. أما نشيد دبورة في سفر القضاة (ف 5) فيعدّد القبائل التي لبّت النداء للمدافعة عن الأرض، وتلك التي تهرّبت.

ولكن سفر يشوع نفسه، بعد أن يتحدّث عن نهاية الحرب (11:23)، يعود فيقول إن هناك أراضيَ عديدة لم تُؤخذ بعد. فالصراع لم يتوقّف. ويقدّم سفر القضاة عدداً من الأخبار تدلّ كيف أن كل قبيلة حاولت أن تتدبّر أمرها بنفسها.

ويتذكّر بنو اسرائيل حقبة ذهبيّة مع ملكين عظيمين لا تقول الوثائق الآتية من خارج البيبليا، شيئاً عنهم: داود وسليمان. ولهذا طُرح السؤال: هل وُجدا حقاً. وإن وُجدا، هل كانا من العظمة بحيث سيطرا على المناطق المجاورة، وتفوَّقا على الملوك العظام في الشرق؟ كل هذا هو اليوم موضوع تساؤل، انطلاقاً من الاكتشافات الاركيولوجيّة والوثائق الشرقيّة، ولا سيّما المصريّة منها والأشوريّة.

ماذا تقول الاركيولوجيا؟ إن تكاثر القرى حوالي سنة 1200 ق م في المنطقة الجبليّة، كوّن ما يُسمّى قلب كنعان. إذن، هي نظرة جديدة تصل إلى النتيجة التالية: أول أفراد شعب اسرائيل عاشوا في الجبال فكانوا مزارعين ورعاة، يكتفون بأن يؤمّنوا حاجاتهم اليوميّة، من طعام وشراب ولباس. هذا يعني أن مجمل بني اسرائيل لم يأتوا من خارج أرض كنعان، بل كانوا من البلاد. في هذا المجال، نعرف أن قبائل مثل زبولون ونفتالي وغيرهما، لم تذهب يوماً إلى مصر، بل أقامت قرب الفينيقيّين تعمل لديهم. من جاء من مصر؟ ثلاث قبائل على الأكثر. يهوذا دخل من الجنوب. افرائيم، بإمرة يشوع، من الشرق. واللاويوّن الذين سيتسلّمون الكهنوت، تغلغلوا شيئاً فشيئاً عبر البريّة، بل ظلّ بعضهم رافضاً حياة المدن. وهناك مجموعات جاءت من الشمال كالحويّين الذين أقاموا في جبعون واعتُبروا غرباء عن بني اسرائيل (يش 9:7؛ 11:19). ونقول الشيء عينه عن القرى الخمس المحيطة بترصة (عد 26:33؛ يش 7:11). قد يكون المقيمون فيها من السكّان الأوائل في البلاد قبل أن ينضمّوا إلى قبيلة منسّى بن يوسف.

ولكن التمييز الأساسيّ هو التمييز الديني. فالذين دعوا نفوسهم بني اسرائيل، يعبدون الإله الواحد، فيتميّزون مثلاً عن الموآبيين والعمونيين، ويجتمعون حول معبد شكيم أو بيت إيل. ولنا على ذلك مثال في ما نقرأ في نهاية سفر يشوع. سأل يشوع القبائل: »اختاروا لكم اليوم من تعبدون: الآلهة أم الربّ الإله«. فقالوا: »بل الربّ نعبد«. فقال يشوع: »أنتم شهود على أنفسكم أنكم قد اخترتم لأنفسكم الربّ لتعبدوه«. فقالوا: »نحن شهود« (يش 24:14 - 22).

أما بالنسبة إلى سليمان وداود، فيجب أن نميّز بين الوجود التاريخيّ لهذين الملكين، والصورة الجميلة التي يقدّمها الكتاب المقدّس. لا شك في أن مملكة داود لم تكن بهذا الاتّساع. ولا هو استطاع أن يسيطر على البلاد، بدليل الثورات التي كانت في أيامه، ومنها ثورة أبشالوم ابنه. ثم هل نستطيع القول إن ملكاً صغيراً في منطقة يهوذا الفقيرة، مثل سليمان، استطاع أن يقوم بكل هذه الأبنية التي يذكرها سفر الملوك الأول (9:15)؟ فما وُجد في مجدّو وحاصور وجازر، يعود إلى القرن التاسع وما بعد مع ملوك مملكة الشمال. ولكنّ الكتاب ضمَّ في رسمة واحدة، وجمعَ في شخص واحد، أموراً عديدة من حروب واحتلالات وتشييد أبنية.

خاتمة

الموضوع واسع وواسع جداً. فإن نحن أردنا أن نقرأ النصّ الكتابي قراءة حرفيّة، قريبة من المناخ الأصوليّ، نقع في فخاخ عديدة ونجعل الكتاب المقدّس يقول ما نريد نحن أن نقوله، لا ما يقوله هو. لا شكّ في أن النصوص البيبليّة تنطلق من أشخاص وُجدوا في هذا الشرق بشكل عام، وفي فلسطين بشكل خاص. كما تنطلق من أمور جاءت من الواقع. ولكنها تضخّمت لتدلّ على قدرة الله وعظمته وضعف الانسان. وتوسّعت لئلاّ تنحصر في شعب واحد، بل لتصل إلى كل شعوب الأرض. فالطوفان مثلاً الذي صُوِّر أنه عمّ الأرض كلها، حصل في منطقة محدّدة قرب نهر دجلة المشهور بجموحه بحيث سمّاه اليونان: النمر(4). ولقاء موسى على الجبل، في موضع محدّد قالوا إنه جبل موسى حيث يمضي الحجّاج اليوم، لفّ جبل سيناء كله، فبحث المنقّبون عن أكثر من موضع للقاء الربّ بموسى. في الواقع، هذا ما لم يشدّد عليه الكتاب المقدّس. فالموقع غير مهمّ، والله موجود في كل مكان. وعبادته في النهاية لن تكون على هذا الجبل ولا على ذاك، بل في الروح والحقّ. الجبل هو أقرب موضع إلى السماء. وحين ينزل الله على الأرض، تطأ قدماه الجبل أول ما تطأان كما يقول الأقدمون. ويسوع نفسه أما صعد إلى الجبل وألقى هناك أولى عظاته، كما في انجيل متّى (5:1 - 2)؟

أما عبور البحر الأحمر، فالمهمّ فيه أنه عبور في الماء، مهما كانت كميّة هذا الماء. فالمياه عنصر شرّ يجتازها المؤمن وحده، المستند إلى ربّه، لا القدرة البشريّة ولو تعاظمت فصارت على مستوى فرعون. صارت المستنقعات التي عبرها بنو اسرائيل، أو بالأحرى ثلاث قبائل، بحراً كبيراً جداً. هنا تبدو عظمة الله، بحيث يمرّ الانسان في قلب الشرّ فلا يمسّه سوء. والشعوب التي ارتبطت بابراهيم. نحن هنا أمام رباط روحيّ. فابراهيم أبو المؤمنين يجمع البشريّة، والطريقة: بالزواج والولادة. في هذا المجال نفهم زواجه من قطورة بحيث ارتبطت القبائل العربيّة بهذا الذي به بدأت مسيرة الايمان بعد خطيئة البشريّة: أترك أرضك... فآمن ابراهيم بالله وحُسب له إيمانه براً. في هذا المجال نفهم أيضاً مجيء ملكة سبأ إلى أورشليم. لا بدّ لها أن تزور الملك. ولكن الأهم، هو أن في أورشليم الهيكل، أي مركز حضور الله في العالم. في هذا المجال، نفهم ردّة فعل ملك اسرائيل حين أرسل إليه ملك أرام رسالة يطلب منه فيها شفاء نعمان، قائد جيشه: »ألعليّ أنا الله الذي يُميت ويُحيي« (2 مل 5:7)؟ المهم، اليشاع، رجل الله، لا ملك السامرة.

وهكذا نستطيع أن نفهم أننا أمام تأمّل روحيّ حين نقرأ الكتب المقدّسة. غير أن هذا التأمّل لا ينزل من السماء، مثل نيزك. ولا ينبت من المخيّلة، على مثال عدد من السطر، بل هو يرتبط بالواقع الذي يستنير بخبرة الوحي الذي يضيء على الأحداث.

وهنا ننهي كلامنا. هناك علم الآثار الذي هو مادة لها قواعدها ومناهجها، وهي تتمّ في بلد من البلدان، على ضوء التاريخ والجغرافيا. وقد يكون ما نكتشفه في فلسطين ولبنان وسورية في علاقة مع الكتاب المقدّس أم لا. فالاكتشاف يبقى اكتشافاً في حدّ ذاته، ونحن نستطيع أن نفيد منه دون أن نُستعبَد له، ولا سيّما حين نقرأ الكتاب المقدّس. ونقول الشيء عينه عن المراجع القديمة التي يمكن أن لا تكون صحيحة مئة في المئة بحيث »تكذّب« الكتاب المقدّس، لا سمح الله. فكلنا يعرف أن ما كتبه رعمسيس الثاني عن انتصاره على الحثيّين عند قادش، على نهر العاصي (سنة 1275) لم يكن صحيحاً، بدليل أن مملكة أمورو عادت تخضع للحثيّين الذين سيتعاهدون مع المصريّين سنة 1259.

وإذا كان لعلم الآثار قواعده، فالبيبليا ككتاب، بل مجمل كتب، تخضع قراءةُ نصوصها لقواعد تفسير تشبه القواعد التي بها نقرأ سائر النصوص القديمة. إذن، الاركيولجيا والبيبليا عالمان مختلفان. هذا لا يعني أن عالم الآثار لا يمكن أن يُفيدنا من أجل قراءة الكتاب المقدّس، بل يُفيدنا ويستفيد من قراءة النصوص الكتابيّة. ولكن ما تقدّمه التنقيبات هي أغراض نستعملها في الحياة اليوميّة، وقد كانت مُلك الناس في حقبة من الحقبات. ولكن لا نستطيع أن نؤكّد على هويّة السكّان الذين أقاموا في هذا الموقع أو ذاك. هنا، كم يتمنّى عالم الآثار أن يجد مدوَّنة أو كتابة.

ونحن نفرح حين يكون مثلُ هؤلاء العلماء ملمّين بالبيبليا. ولقد لاحظنا من قراءة كتاب »فنكالستين« أنه يبسّط الأمور حتى السذاجة، وينسى طبقات الكتابة على مرّ العصور. وإن وُضع في النصّ تفصيل من التفاصيل يعود إلى حقبة متأخّرة في الزمن، فهذا لا يعني أن النصّ كله جاء متأخّراً. هنا نتذكّر ما كُتب في تثنية الاشتراع الذي يعود في نسخته الأخيرة إلى ما بعد العودة من الجلاء، والذي أفاد منه يوشيا الملك في إصلاحه الشهير قبل أن تسحقه جيوشُ مصر، سنة 609، في مجدُّو، في فلسطين. ولكن لا ننسى أنه سبق هذا الكتاب »شرعةُ العهد« التي هي قديمة ونستطيع أن نقرأها في سفر الخروج (ف 20 - 22).

وأخيراً، الهدف الذي يتوخّاه عالم الآثار، غير الذي يتوخّاه قارئ الكتاب المقدّس. فهذا ينطلق، بلا شكّ، من إطار يوميّ عاشته شعوبُ الشرق، ليكتشف المناخ الذي نمت فيه كلمةُ الله في أول مسيرتها، لكي تصل إليه فتصبح كلمةً حيّة يعيش منها. أما ما تقدّمه العلوم التاريخيّة والأثاريّة، فلا يمكن أن تلغي كلمة الله، ولكنها تُفهمنا أن ما اعتبرناه مسلّمات لا جدال فيها من أخبار شيّقة، يمكن أن تناقش، كما فعل عددٌ من العلماء حين قالوا أن الأرض مدوّرة، لا مسطّحة، وأنها تدور حول الشمس، وليس العكس.

ونعود إلى ما قلناه في البداية. القراءة الحرفيّة التي لا تريد أن تترك الحرف، تجعل من الكتاب صنماً يُعبد. أما القراءة التي تصل بنا إلى ملء المعنى الذي أراده الكاتب، فهي التي تغذّي إيماننا وحياتنا. أما هكذا فعل آباؤنا في الإيمان، ولا سيّما في القرون المسيحيّة الأولى!

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM