الفصل السابع:أصوات التأويل الكتابي.

الفصل السابع:

أصوات التأويل الكتابي

انعقد مؤتمرٌ كتابي، في مدينة تولوز، من أعمال فرنسا، في 3 - 7 أيلول 2001، بعنوان »أصوات التأويل الكتابي«. نظّمته الرابطة الكاثوليكيّة الفرنسيّة لدراسة الكتاب المقدّس(1). وحضره قرابة مئتي شخص من فرنسا وبلجيكا وكندا... ومن لبنان، الأم كليمنص الحلو والخوري بولس الفغالي.

توزّعت أعمالُ هذا المؤتمر على خمسة أيام. الموضوع الأول كان قراءة البيبليا أمس واليوم. ترد لفظة »س ف ر« مائتي مرّة في الكتاب المقدّس. أي الكتاب. وهذا الكتاب يصبح نصاً حياً حين تقرأه الجماعة، فتكتشف فيه ينبوعَ الحقيقة والايمان. وهو ما زال حتّى اليوم يحرّك القلب البشريّ. وحين نقرأه، نقرأ نفوسنا ونقرأ العالم. وهكذا يلتقي القارئ مع الكاتب والكنيسة بنصّ دُوّن منذ ألفي سنة ونيّف. أما الخطر فهو تفتيت النصّ بحيث يصبح أشلاء، لا كلمة حيّة تتوجّه إلينا اليوم، كما توجّهت في الماضي إلى الذين سمعوها وإلى الذين قرأوها.

والمحاضرة الثانية: البيبليا والجامعة. هناك ظاهرة في أوروبا عامة، وفي فرنسا خاصة: دراسة النصوص البيبليّة في الجامعة، شأنها شأن سائر النصوص القديمة. ففي عصر النهضة الفرنسية وما بعد، استقى الشعراء بشكل خاص مواضيع من الكتاب المقدّس. ثم كان انقطاع في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ولكن تبقى الأفكار المسبقة حيال نصّ يرتبط بالدين حيث المجتمع علماني والتيّارات الفكرية ملحدة. فالبيبليا أدب، شأنها شأن آداب الانسانية. ونحن نجد فيها لوحة من تاريخ البشريّة.

في اليوم الثاني، كانت محاضرة حول نصّ نشيد الأناشيد وقراءاته. وبعد أن ألقى أحدُ الممثّلين نصّ نشيد الأناشيد في الترجمة الجديدة، توقّف شاعر من الشعراء عند شاعريّة هذا السفر الذي أنشد حبّ العريس والعروس بانتظار أن يُنشد الحبَّ بين الله وشعبه. بعد الظهر، كانت وقفة مع نشيد الأناشيد ومساحات قراءته في سياق يهوديّ. لا نجد في هذا السفر أية إشارة إلى تاريخ اسرائيل. وهناك بحث عن الجمال كجمال. ولكن هذين القولين لا يستندان إلى الواقع(2). فما نجده في نش هو طريق نسير فيها. فنحن على مستوى العلاقة حيث نتقبّل الطعام، ونتقبّل الآخر حتى في العلاقات الحميمة. وما يقوله الواحد يتجاوزه، إذ هناك مسافة بين حياة زوجيّة وملء الاتحاد. في الواقع، نشيد الأناشيد هو شرح لفعل »د ب ق«: التصق، اتّحد... فلا شيء في الانسان يبقى خارج الانسان. فاللقاء يكون تاماً. على مستوى الجسد والنفس والروح. وأنا أخاطر بمصيري حين التقي بامرأة والعكس بالعكس. نحن أمام »زوجين«، أي اثنين، لا أمام شخص واحد تجاه آخر واحد. فالتسامي لا يلغي الملازمة. وإلاّ كنتُ خارج نفسي. عندئذ اكتشف التسامي في الطريقة التي بها أتعامل مع الآخر. يُقرأ نش كله يوم الجمعة بحيث يكون العروسان حاضرين في يوم السبت. أما الاشكناز فيتحدّثون عن زمن الحداد.

هكذا قرئ نش في السياق اليهوديّ. ثم في السياق المسيحيّ. وذلك في القرون الوسطى الأوروبيّة. توقّفوا عند الخبرة الماديّة وأنواع التفسير. أُنشِد منذ القرن الثامن، وقُرئ قراءة متنبّهة. وبحثوا عن الرموز، فقالوا إن سليمان يمثّل المسيح. كما رأوا الكنيسة والمسيح في العروس والعريس، فوصلوا في النهاية إلى الأسقف الذي هو عريس الكنيسة (الخاتم). وتجاه الايديولوجيّا الكنسيّة، هناك الايديولوجيّا السياسيّة والكلام عن المُلكيّة. تركوا المعنى الأساسي لهذا السفر، ووجدوا فيه أكثر من مناسبة ليقرأوه حسب الإطار الذي عاشوا فيه. لهذا قال غريغوريوس: الكتاب المقدّس ينمو مع قرّائه.

وتوزّع الحاضرون في أكثر من حلقة. كيف نترجم النشيد اليوم؟ وكيف نجعله في الموسيقى؟ وكيف ترجمت اليونانيّةُ السبعينيّة نصّ الأناشيد. وكانت مقاربات مع أناشيد الحبّ الزمنيّ والصور الآتية من الهند أو العالم الاسلامي. ودرس فريقٌ كيف قرأ الشاعر الفرنسي كلوديل نشيد الأناشيد. وكيف قرأه الصوفيّون الانكليز، والصوفيّون الاسبان في القرن السادس عشر، مثل يوحنا الصليب وتريز الأفيليّة. كيف فسّر امبروسيوس، أسقف ميلانو (ايطاليا) في القرن الرابع، نشيدَ الأناشيد، وكيف قرأه القديس برنردس في القرن الثاني عشر. وكيف رسمه شاغال في القرن العشرين. وكانت حلقتان أخيرتان: مفهوم الجسد، كلمات نشيد الأناشيد.

II

عرف يوم الأربعاء (5 أيلول) ثلاث محاضرات. الأولى، قراءة نشيد الأناشيد عند الآباء. الثانية، حرفٌ ضاعَ فوُجد. والثالثة، العمل الشعري.

ونبدأ كلامنا مع تيودوريتس القورشي ومطلع التفسير الذي يقول فيه:

»بين الذين يفترون على نشيد الأناشيد، هناك الذين لا يصدّقون أن هذا الكتاب يبقى مطبوعاً بطابع روحيّ، بل يصوغون ترّهات لا تليق بثرثرات امرأة عجوز. بعضهم يتجرّأ ويقول إن الحكيم سليمانَ دوّن نش عن نفسه وعن ابنة فرعون. وتخيَّل آخرون ينتمون إلى الزمرة عينها، أن العروس هي أبيشاج الشونميّة، لا ابنة فرعون. وآخرون أيضاً كانوا أكثر جديّة فوصفوه بخطاب ملكيّ(3)، وماهوا بين العروس والشعب، وبين العريس والملك. لذلك اعتبرنا أنه من الضروريّ، في بداية التفسير، أن نردّ على هذه النظرة الضالّة والمضرّة، ثم نقدّم المرمى(4) الواضح لهذا المقال(5).

»بالنسبة إلى الأقدمين، شرح الكثيرون أيضاً نش. والذين لم يفعلوا بشكل متتابع، استقوا منه إيرادات ليزيّنوا كتاباتهم الخاصة. أوسابيوس، ابن فلسطين، واوريجانس، ابن مصر، وقبريانس القرطاجيّ الذي اعتمرَ إكليل الشهادة. وكتّاب آخرون أقدم من هؤلاء وأقرب إلى الرسل، الذين عرفوا الطابع الروحيّ لهذا الكتاب. والذين جاءوا بعدهم، فكانوا مميّزين في الكنائس: باسيليوس الكبير في تفسير بداية سفر الأمثال، وغريغوريوس (النازينزي) وغريغوريوس (النيصي). هذا كان أخا (باسيليوس)، وذاك صديقَه. وديودورس المدافع الشجاع عن الدين(6) ويوحنا (الذهبيّ الفم) الذي ما زال حتّى اليوم يسقي الكون بأمواج تعليمه. وأختصرُ كلامي لئلاّ أطيل حديثي: جميع الذين جاءوا بعدهم(7)«.

*              *              *

شدّد تيودورس على الطابع الروحيّ لنشيد الأناشيد الذي تقبّله الجميعُ بصوت واحد. الحبيبُ هو الله الذي يطلب خليقته، يطلب كنيسته، يطلب كل نفس من نفوسنا.

أما إيشوعداد المروزي، الكاتب النسطوري، فقد عرض مختلف التفاسير. قال: »ألّف سليمان ، شعراً، »شِرت شِرين« الذي يعني »نشيد الأناشيد«، أو »تسبيح التسابيح«، بعد أن تعلّم من أبيه هذه الطريقة في التعبير. ولكننا لا نجد اسم »الرب«، ولا اسم »الله«. لهذا، هناك آراء مختلفة في شأنه. فالمفسّر الطوباويّ(8) مع الذين ساروا على خطاه، فهموه عن ابنة فرعون. فكما أن سليمان، بحكمته، اتّحد بواسطة الزواج، مع جميع الملوك المحيطين، لا بروح الفجور، بل ليجعل نفسه وشعبه بمنأى عن الحروب. ثم لتكون له مناسبة ليبني بيت الربّ والقصر الملكيّ، اتّخذ أيضاً ابنة فرعون زوجة له. وبما أنها كانت سوداء، مثل جميع المصريات والحبشيّات، وبما أن العبرانيين ونساء العبرانيين كانوا جميلي المنظر، على مثال سائر بنات الملوك، فقد حزنت من بشاعتها وقصر قامتها وسواد سحنتها. فبنى لها سليمان بيتاً محايداً، وزيّنه بالحجارة الكريمة والذهب والفضّة، لكي يستبق غيظاً في روحه، ولئلاّ تُزرَع العداوةُ بينه وبين الفرعون أبيها. وألّف من أجلها، شعراً، هذا النشيد الذي أنشدوه دوماً أمامه، خلال الولائم، كرامة لها، فأعلن أنها سوداء، وجميلة، أنها حبيبته.

»أما غريغوريوس النيصي والذهبي الفم وآخرون، فلا يقبلون بهذا، بل يقولون لهؤلاء: إذا كان هذا نشيداً على ابنة فرعون، لماذا ضُمّ إلى الكتب المقدّسة التي هي أعضاء الجسم الوحيد، جسم التربية الالهيّة؟ ثم يقولون: هل ألّف سليمان هذا النشيد إكراماً لها ومديحاً، أو لخزيها وعارها؟ فإن قالوا: ''مديحاً لها''، فها نحن نجد فيه أموراً مهينة: وجدنا الحرّاس الذين يطوفون في المدينة. ضربوني وجرّوني، وانتزعوا لي ردائي... و: فقلت: ''أصعد إلى النخلة، وأمسك أغصانها...''. إذن، كانت بغياً تطوف، ليلاً، في الشوارع والسهول، أو مجنونة تتسلّق النخلات والأشجار! وإن كان سليمان دعاها وسمّاها سوداء (أنا سوداء وجميلة، يا بنات أورشليم)، وإن اتفقنا أن النشيد دُوّن على ابنة فرعون بسحنتها السوداء، ومع ذلك، فهو يدعوها بعد ذلك الشولميّة التي كانت بيضاء وحمراء. قال: ''ارجعي،ارجعي، يا شولميّة...''.

»لهذا، فالذين وردت أسماؤهم، يعرضون (نشيد) المسيح والكنيسة، ابنة الأمم. ويقولون: سليمان نفسه ألّفه وكيّفه منطلقاً من المزمور: »فاض قلبي بكلام صالح«، بحيث إن موضوع الاثنين واحد. قالوا: العريس والملك هما المسيح. والعروس هي الكنيسة. سليمان هو السلام. وبنات أورشليم والصبايا هنّ النفوس. وايضاً الكلمات: »لنا أخت صغيرة، لا ثدي لها«. الأخت هي النفس القريبة من الروحيين. والثدي الذي لها هو المشاهَدة والممارسة التي حُرمت منهما بسبب خطاياها وبسبب علاقتها بالجسد(9)«.

وعرض آخرون أيضاً (نشيد) الله ومجمع أورشليم، حسب الرأي اليهوديّ. أما الآباء الذين قدموا تفاسير في اللغة اليونانية فهم: هيبوليتس (قبل سنة 235). حُفظ قسم منه في اللغة الجيورجيّة. العروس هي المجمع. صارت سوداء بسبب الخطايا. وشبّه الليل بالمجمع. في هذا الخط راح أوريجانس في ثلاثة تفاسير (سنة 231، و240، 245) ونُسبت إليه عظاتٌ وصلت في اللغة الأرمنيّة. وهناك عظات اثناسيوس المزعوم وما نقله أوغريس البنطي. وترك غريغوريوس النيصي خمس عشرة عظة، وفعل مثله نيلوس الانقيري الذي استلهم اوريجانس وغريغوريوس النيصي. ونذكر تيودورس أسقف المصيصة في رسالة وتفسير يعودان إلى ما قبل سنة 428. كما نذكر تيودوريتس الذي قدّم تفسيراً نقرأه في السلسلات التفسيريّة، وسيماك (القرن الخامس) الذي ترك لنا تفسيراً حُفظ في السريانيّة، ويوحنا بر افتونيا الذي تحتفظ السريانيّة ببعض أجزاء من تفسيره. وهناك تفاسير لاتينيّة تبدأ في بداية القرن الرابع وتتواصل حتى نهاية القرن التاسع.

ونذكر في السلسلات التفسيريّة، سلسلة بروكوبيوس حول نش 2:1: »انا زهرة الحقل وسوسنة الوديان«. تورد السلسلة أسماء الذين شرحوا هذه الأية.

كيرلس: تُقابَل العروسُ بزهرة السهل التي تقبّلت المطر الآتي من العلاء، فولدت الفضيلة. وهي تدلّ على الخير الذي يشكّله مجيء المسيح، حين جعل الوديانَ التي كانت معادية لأي زرع، تمتلئ بالأزهار الجميلة. »الوادي« يدلّ على تلك التي أقام فيها الشياطين فانحطّت انحطاطاً.

فيلون: العروس هي التي تتكلّم. سمعت اشعيا يقول: »لتبتهج البرية وتُزهر كالزنبق« (أش 35:1). والربّ: »انظروا زنابق الحقل« (مت 6:28). يريد الربّ أن يقول: يجب أن تتصرّف على الأرض بحيث يزهر الأبرار أيضاً في الجحيم. إذن، زنبقة الحقول تدلّ على الموتى.

غريغوريوس: هذه الكلمات هي شرح تعطيه العروس متكلّمة عن نفسها: »دخل العريس أولاً في سريرنا فتغطّى بظلّ الجسم، بنى لنفسه بيتاً، أنا، وصنع لي سقفاً بأرزات الفضائل. قلت: حينئذ صرتُ زهرة معطّرة، نقيّة ومضيئة، خرجتْ من سهلة الطبيعة البشريّة في كل اتّساعها، فتفوّقتْ بلونها الجميل ورائحتها الطيّبة على سائر الزهور كلها. وبمختصر الكلام، ما يُسمّى بنفسج، يلمع بلمعان الحكمة«(10). أما هذه السهلة التي قوبلت بقبّة السماء، فسمّيت »الوادي«. أما تلك التي فُلحت، فهي تنمو منذ هذه الفجوة لترتفع، حسب طبيعة الزنبقة التي تظلّ نقيّة في الذروة، بدون أن تتنجّس في اتصالها بالأرض، دون أن تخنقها أشواكُ الحياة التي هي قوى الشرّ (لو 8:14) التي أشير إليها بألفاظ ضفرت بأنّهنّ بنات إبليس.

نيلوس: سمّت (العروس) نفسها زنبقة، إما لأنها تزيّنت بشكل ساطع، بالأعمال والأفكار. فشعّت بها، فتميّزت عن الذين جعلهم انحطاطُهم يسمّونهم »الوديان«. وإما لأنها، في المستقبل، ستدين النفوس حين تقابلها مع الأعمال الصالحة التي هي أعمالها ودون أن يكون لها شيء أفضل منها، في طبيعتها، كما حكم النينويّون وملك التيمن على »هذا الجيل الكافر« (مت 12:41 - 42). وسمّت نفسها أيضاً زهرة السهل: إن كانت الوديان التي هي وطيئة وبور، والتي يتكلّمون عنها في صيغة الجمع، تدلّ على الأمم التي انتقلت من عمق الكفر إلى المرأة، فالسهلة تدلّ على اسرائيل التي سهّلها تعليم الأنبياء والشريعة، فصارت مفلوحة. فهي على حقّ حين تقول إنها زهرتهم، لا ثمرتهم. لأن الارض لم تفتحها سكّة الصليب الذي ربط به الربّ الرسل كما البقر، فارسلهم أزواجاً للفلاحة. ودم الربّ لم يكن بعد سقى الأرض التي ظلّت عقيمة وبدون ثمار.

أوريجانس: تكلّم (العريس) عن زهرة تستعد لتصير ثمرة. في هذا الموضع (الأرض) الذي سُمّي »السهل«، العريس - الكلمة هو زهرة موجّهة نحو المستقبل. »فحين يأتي ما هو كامل« (1 كور 13:10)، تتبدّل الزهرة لتصير ثمرة. وبما أن الذين هم على الأرض لا يفهمون لفظ »كزهرة«، صار العريس كزهرة الحقل. »لأنه واضع نفسه وأخذ صورة العبد« (فل 2:7)، لكي نستطيع، بعد ذلك، أن نشاهد مجده. إلاّ إذا سُمّي زهرة في الأماكن المرتفعة والسويّة المسمّاة »السهول«، فيكون زهرة، حين يكون زنبقة في الأماكن الوطيئة والضيّقة. بعد أن قال العريس ذلك، قايل رفيقته مع سائر الصبايا، مع النفوس الباقية، التي قوبلت معها فبدت شوكاً. تلك هي النفوس التي لا تصير رفيقات العريس. أما الرفيقة فهي زنبقة تشعُّ في وسطهن.

*              *              *

وفي نهاية كلامنا عن الآباء، نذكر اوريجانس في تفسيره لنشيد الأناشيد، ولا سيّما في 2:3: ظِلّ المسيح، ظِلّ الشريعة(11).

9- حينئذ رغبت العروس بأن تقيم في ظلّ هذه التفاحة: أو كما قلنا الكنيسة في حمى ابن الله. أو النفس التي تهرب من سائر التعاليم وتتعلّق بكلمة الله الواحد الوحيد فتحفظ أيضاً »الثمار الحلوة في حلقها« أي »تتأمّل على الدوام في شريعة الله« (مز 1:2) وتجترّها دوماً مثل حيوان طاهر.

10 - ولكن من أجل تسمية هذا الظلّ الذي تقول الكنيسة إنها ترغب أن تجلس تحته، لا أظنّ أنه من العبث أن نبسط بوضوح ما نستطيع أن نجد في الكتب المقدّسة لكي يُعرف بشكل لائق ونهائي ما هو ظلّ هذه التفاحة.

11 - قال ارميا في المراثي: »نسمة وجهنا، الربّ المسيح، أُخذ في فسادنا، فقلنا عنه: في ظلّه نحيا بين الأمم« (مرا 4:20). إذن ترى أن النبيّ قال بدفع من الروح القدس إن الحياة مقدّمة للأمم انطلاقاً من ظلّ المسيح. وكيف لا يقدّم لنا »ظلّه« الحياة، وفي الحبل به جسداً، قيل لمريم: »الروح القدس يأتي عليك، وقوّة العليّ تغطّيك بظلّها« (لو 1:35). إذن، كان هناك ظلّ العلي من أجل الحبل بجسده. وفي الحقيقة، ظلّه يعطي الحياة للأمم.

12 - وفي الحقيقة، عروسه، الكنيسة، »ترغب أن تجلس في ظلّ التفاحة«. لا شكّ، لكي تشارك في حياة موجودة في ظلّه. أما ظلّ سائر أشجار الغابة فهو يشبه ذاك الذي جلس تحته وبدا وكأنه »جلس في أرض ظلّ الموت« (مت 4:16).

13 - بل ونحن نريد أن نوضح إيضاحاً أكبر هذا المقطع، نبحث في أي معنى أعلن الرسول أيضاً أن »للشريعة ظلّ الخيرات الآتية« (عب 10:1)، فذكر أن كل ما كُتب عن »أيام عيد وسبوت وأوائل القمر« هو »ظلّ الخيرات الآتية« (رج كو 2: 16 - 17) أي في ما تمّ حسب الحرف. وفي أي معنى أعلن أن كل ديانة القدماء هي »نسخة وظلّ الأمور السماويّة« (عب 8:5). في الحقيقة، إن كان الأمر هكذا ، ندلّ على أن جميع الذين كانوا تحت الشريعة وكان لهم بالأحرى ظلّ الشريعة الحقيقيّة، هم الذين جلسوا في ظلّ الشريعة.

14 - أما نحن، فغرباء عن ظلّهم(12) »لأننا لسنا تحت الشريعة، بل تحت النعمة« (روم 6:15). ومع أننا لسنا تحت هذا الظلّ الذي يصنعه حرف الشريعة، إلاّ أننا تحت ظلّ أفضل. »فنحن نعيش في ظلّ المسيح وسط الأمم«.

15 - وهناك تقدّم آتٍ من ظلّ الشريعة إلى ظلّ المسيح. بما أن المسيح هو »الحياة والحقّ والطريق« (يو 14:16)، وبما أننا وُجدنا أولاً في ظلّ الطريق، في ظلّ الحياة، في ظلّ الحقّ، »ففهمنا جزئياً، وعبر مرآة، وفي لغز«، ثم تقدّمنا في هذا الطريق الذي هو المسيح، نستطيع أن نبلغ إلى حيث ندرك »وجهاً لوجه« (1 كور 13:12)، ما رأيناه من قبْل في الظلّ وفي اللغز. فلا يستطيع أحد أن يصل إلى هذه الخيرات التي هي حقيقيّة وكاملة إن لم يكن سبق له ورغب وتمنّى تمنياً حاراً أن يقيم في هذا الظلّ.

16 - بالاضافة إلى ذلك، قال أيوب: »حياة البشر على الأرض ظلّ« (أي 8:19). لماذا؟ لأن كل نفس (كما أظنّ) في هذه الحياة مغطّاة بظلّ بواسطة حجاب هذا الجسد السميك. إذن، جميع الذين هم في هذه الحياة، يجب أن يكونوا بالضرورة تحت ظلّ.

17 - وهناك آخرون »جلسوا في منطقة ظلّ الموت«. هم بلا شك من لا يؤمنون بالمسيح. أما الكنيسة فتقول بتأكيد: »في ظلّ العريس رغبتُ أن أكون، وجلست«، مع أنه كان وقتٌ أقامْت فيه في ظلّ الشريعة أو بالامكان أن تجد الحماية من جور الحرّ القاسي والصيف. ولكن هذا الزمن عبرَ. والآن يجب أن نأتي إلى ظلّ التفاحة. ومع أننا نستفيد من ظلّ آخر، فمع ذلك يبدو أن كل نفس، ما زالت في هذه الحياة الحاضرة، تحتاج إلى ظلّ، بسبب (كما أظنّ) حرارة الشمس هذه التي، حين تُشرق، تجفّف وتُهلك الزرع الذي لم يُغرس مع أصل عميق.

18 - ظلّ الشريعة يخفّف بعض الشيء هذه الحرارة. أما »ظلّ المسيح« الذي نحن الآن تحته »نعيش بين الأمم«، أي الايمان بتجسّده، فهو يبدّدها تبديداً تاماً ويُطفئها. فالذي كان يُحرق السالكين في ظلّ الشريعة، في زمن الآلام، »رئيَ ساقطاً من السماء كالبرق« (لو 10:18). ثم إن زمن ظلّهم ينتهي في نهاية الدهر، لأن بعد انقضاء الدهر (كما قلنا) نرى الحقيقة لا »عبر مرآة وفي لغز«، بل »وجهاً لوجه«.

19 - هذا يذكّرنا (كما أظنّ) بما كُتب: »في ظلّ جناحيك أتهلّل« (مز 62:8). وفي ما يلي من هذا الكتاب الصغير، تتكلّم العروس هكذا: »حبيبي لي وأنا له، هو الذي يرعى في السوسن إلى أن يهبّ النهار وتهرب الظلمات« (نش 2:16 - 17). فهو يعلّمنا بهذا أنه سيأتي زمن فيه تتبدّد جميع الظلمات وتبقى الحقيقة وحدها.

III

أطلنا الكلام في موضوع نشيد الأناشيد والآباء بسبب أهميّته في تقليد الكنيسة. وها نحن نعود إلى المحاضرة التالية، وعنوانها: حرف ضاع فوُجد. في الواقع، تُرك حرفُ النصّ في نش، وراح الشارحون تواً إلى معناه الرمزيّ والروحيّ. لهذا، كانت محاولات للعودة إلى الحرف: السياق التاريخيّ، المحيط الذي فيه وُلد هذا السفر. هو محيط الشرق القديم والأدب البيبلي. والمحاضرة الأخيرة: العمل الشعريّ. نلاحظ هنا توالي العبارات بشكل ترادف أو تعارض، كما نكتشف التشابيه والاستعارات. تحدّث بعضهم عن رقصة في جوقتين (نش 7:1): جميلة أنتِ، يا رفيقتي. جميل أنت، يا حبيبي (1:15-16). كالسوسن بين الأشواك، كالتفاحة بين اشجار الغابة (2:2-3).

في اليوم الرابع، ترك المؤتمر نشيد الأناشيد كسفر خاص في الأسفار المقدّسة، وفتح الآفاق الواسعة في قراءة الكتاب المقدّس ككلّ. فكانت محاضرة أولى شدّدت على قراءات جديدة للبيبليا. ومحاضرة ثانية حول فعل القراءة، وثالثة حول النصّ كما هو في اللائحة القانونيّة. ونبدأ بالأولى.

قراءات جديدة للبيبليا

في الكتاب المقدس نجد الخبر والشريعة. فهناك علاقة بين النصّ والقارئ. وإلاّ لم تعد القراءة فناً بل عملاً آلياً. ونحن حين نقرأ، لا نتوقّف فقط عند الشعر، بل نصل إلى الخبر. على المستوى التاريخيّ، هناك معنى واحد. وحين نعرفه نكتفي. هذا المعنى هو مهمّ، لأنه شاهدٌ على عصر من العصور. نتوقّف عند حرفيّة النصّ، ديناميّته، قانونيّته. ولكننا نصل إلى قراءة تستخرج فهماً جديداً لنفوسنا. فالنهج الجديد فرصة تُعطى لنا. فالنصّ ليس شاهداً للماضي فحسب، بل مجموعة معبّرة يشارك فيها القارئ الكاتب. النهج البلاغي، النهج الاخباري، العلاقة بين النصوص(13) سواء في السفر الواحد أو في الكتاب المقدّس ككلّ.

ونقرأ اولاً خبر اليشاع والأرملة (2 مل 4:1-7). هي »زهيرات«اليشاع. تُبرز قوّةَ النبيّ الذي يتفوّق على الخيول والمركبات. قدّم الكاتب أخباراً جانبيّة، فأخرجنا من عالم الحرب والعنف. نكتشف هنا الشكل والمضمون وطريقة الإخبار. كما نكتشف الحوار بين الأشجار على المسرح. لا تُحلّل عواطفُ الأشخاص. والخبر في آ 5 - 6 يكشف للقارئ ما يتمّ في الخفاء. بدأ النص بشكل مفاجئ، فكان دراماتيكياً. عرضت المرأة ضيقها... وانطلق الخبر.

ونقرأ ثانياً مقطعاً من خبر يوسف (تك 37:12-17) يمكن أن يكون عنوانه: تفكّك الاخوة. هل سوف يجتمعون؟ اسرائيل هو أبو الجميع. ولكن الأزمة هي هنا. فيجب على القارئ أن يجد حلاً. حوار بين أنا وأنت. هي علاقة تقارب. في الواقع، هو تباعد. »إذهب«. هناك نوع من تعارض. ترك يوسف أباه ومضى. ولكنه في الواقع يلتصق بأبيه. ترك يوسف المكان المميّز قرب ابيه، خسر هذا المكان، ومضى إلى اخوته. سبق ليعقوب وتاه قبل أن يعود إلى شكيم. وسيكون ليوسف أن يتيه قبل أن يصل إلى إخوته.

في آ 12 - 14، نحن أمام الاخوّة. في آ 15 - 16، نجد رجلاً يأخذ المبادرة. ويوسف لا يفعل شيئاً من عنده. بل لا يتساءل. هو يطيع. في آ 15: رجل. ثم صار: الرجل. من هو هذا الرجل؟ كيف عرف من هو يوسف، وكيف عرف أن أخوته هم الذين يبحث عنهم وليس غيرهم؟ هو الذي يشير إلى يوسف ماذا يعمل، وهو الذي يساعد يوسف ليجد اخوته. في آ 15، نقرأ: »وجده (= يوسف) رجل«. في آ 17، »وجدهم (= اخوته) يوسفُ في أوتان«. في قلب هذه الرواية الطويلة، نجد مشهداً قصيراً يوقف مسيرة الرواية. نحن أمام سرّ. وتدخّلُ الرجل يدخل في إطار العناية الالهيّة. وهكذا تُترك للقارئ مساحةٌ يستطيع فيها أن يفسّر النصّ ولا يحصر نفسه في خبر مشوّق. هذا الرجل هو ملاك. نتذكّر هنا ما حصل لهاجر (تك 16:5). ونقرّب النصّ من لقاء ابراهيم مع ضيوفه الثلاثة. وهكذا نجد صورة عمّا قيل عن يوسف: كان الله معه. بدأ الصراع بين يوسف واخوته منذ البداية، وها هو يتأزّم. أجل، هذا اللقاء لم يكن في محلّه. التقى يوسف بإخوته لينفصل عنهم فصلاً تاماً.

ذاك كان على مستوى الإخبار. ونقرأ ثالثاً على مستوى العلاقات بين النصوص، تث 26:1-15. نحن هنا في نهاية البنتاكوس أو الأسفار الخمسة. هي الشريعة الاشتراعيّة، الشريعة الأخيرة التي تتجاوب مع سفر التكوين. والنصّ يحاول أن يُجمل ما سبق. في الشريعة الأولى (تك 2 - 3) هناك جنّة عدن، كلام عن الحياة والطعام. مُنع الانسان. كان حدٌ لرغبته. هناك وعد. وإلاّ هو الموت. أما الانسان فاختار الموت (رج تث 30:15 ي). في تث 26، نجد الشرائع، وطقوس البواكير. فالثمار تذكّرنا بما في عدن. فعلى المؤمن أن يعرف حدوده. هناك البواكير. الشرائع حول العشور (26:27 - 14). نحن ما زلنا في النظام. يقبل الانسان بأن ينقصه شيء لكي يستطيع آخر أن يحيا. هذه الشريعة كشفت الممنوع. ما يعطيه الله هو خير. في تث 27 - 32، نحفظ كلام الله.

ونقرأ الوصايا في نصّين. في تث 5 وفي خر 20. نلاحظ تكرار الالفاظ. لا شُغلَ في يوم السبت. يخسر الانسان ما يستطيع أن يربحه. السبت يحرّرنا من عبادة الأوثان: يتحرّر الانسان من عمله. يقتدي بالله فيتحرّر. استغلال الانسان هو نوع من الاستعباد.

فعل القراءة

هناك العلوم الانسانيّة والتقليد الفساري (13 مكرّر) (التفسيري). وهناك علم النفس وذاتيّة الانسان في القراءة. وهناك القراءة وإعادة القراءة. ونعود إلى المفسّر، مع ثلاث ملاحظات:

الأولى، ما قبل الكلمة. الكلمة تمنح هويّة للانسان. ليس فقط على المستوى البيولوجيّ، بل أيضاً على مستوى كلمة تُوجّه إليه. فاللغة لا شكل لها ولا تُحرّك الانسان. أما الكلمة فتحيي. ولا تكتفي أن تعرف شيئاً عن شخص ما، بل تتعرّف إليه.

الثانية، ما بعد الكلمة. هناك المدلول الذي لا ينفد في نهج فساري. فالكلمة تستطيع أن تكون مناسبة بلاغ. والنصّ موقع قراءة.

الثالثة، الكلمة تعمل في الشخص، ونحن نرى نتائجها. لا في اللحظة، ونحن لا نستطيع أن نعزل اللحظة. في زمن ثانٍ، يستطيع القارئ أن يقرأ حياته. هناك معطيات على مستوى التعارض والأسئلة. على مستوي الحوار. نقرأ ونعيد القراءة، وهكذا تلتقي الكتابة مع القراءة. في خبر تلميذي عماوس (لو 24:13-35)، نجد معرفة شيء ومعرفة شخص. وأطرح السؤال: ماذا يقال لي؟ من يكلّمني؟ (1) قد تكون هويّة المتكلّم مخفيّة. المجهولُ يشرح. في التفسير يخرج مدلول كرستولوجيّ. عاد إلى العهد القديم الذي تمّ في شخص يسوع، فحمَّل النصّ معنى جديداً لم يُسمع به من قبل (موت المسيح وقيامته). والقارئ يفسّر نفسه بواسطة النصّ. (2) عرفاه ساعة لم يعودا ينظرانه. شهدا على حضور شخص (فعلة، موقف)، حضور شخص لشخص، لا مؤسّسة ونظام. (3) الحدث لا يُقرأ. هو يغيب في الفعلة التي تجعله حاضراً. لسنا أمام كتابة، بل نتيجة لكلام وأثر لمرور. وفي خبر ظهور المسيح على النسوة في مر 16:1 - 8، كل شيء ظلّ مختوماً في أفواه النساء. أعود إلى نفسي وأكتشف كتابة لم تُرسم في نصّ. فعلى القارئ أن يملأ المكان.

الرابعة، يتحرّر النصّ من كاتبه، ومن الذي وُجّه إليه للمرّة الأولى. النصُّ يُوجَد في ذاته وبذاته. نحن على مستوى البنية. فحين يتكلّم انسانُ يفلت النصّ منه. هذا على مستوى القراءة. وعلى مستوى المعنى، يتّخذ القارئ القلب منه. على القارئ أن يراعي اختلاف النص الأساسي. هناك حركة من الواحد إلى الآخر، فيضيء الواحد على الآخر. يُخرجنا النصّ من ذواتنا. ولكن لا نشدّ النصّ إلينا لنجعله يقول ما نريد نحن أن نقول. فالامتلاك يتمّ حين نَخرج من نفوسنا. فالمفسّر يفسّره النصّ. والقارئ يتحوّل في فعل القراءة. هو لا يعرف ماذا سوف يقرأ. ولا يعرف التأثير الذي سيتركه فيه هذا النصّ أو ذاك.

النص في الكتاب المقدّس

هذا السفر أو ذاك هو في مجموعة. لهذا نقدّم في هذا المجال، ثلاث ملاحظات.

الأولى، اعتدنا أن نقرأ الكتاب المقدّس في مقاطع مقتطعة من النصّ ومختارة. إذن، هذه المقاطع تنتمي إلى مجموعة: العهد القديم والعهد الجديد. في الأصل، الكتاب المقدّس نقرأه قراءة خاصّة أو ليتورجيّة.

الثانية، على مستوى العمل والنهج. (1) القوننة(14)، أو ارتباط سفر من الأسفار بالقانون، أو اللائحة القانونيّة. فهذه القوننة جزء من عمل تدوين الكتاب. وإلاّ لم يكن الكتاب وصل إلينا. هناك استمراريّة، وهناك تثبيت. طال عمل القوننة ولم تتمّ فصوله إلاّ في القرنين الرابع والخامس، فكانت لنا اللائحة القانونيّة. نذكر أثناسيوس، كيرلس، اوسابيوس، قانون موراتوري، القوانين السريانيّة. تركت لنا الكنيسة نصاً، وتركت لنا مكاناً من أجل التفسير. (2) الاغلاق على القانون. في القرن السادس عشر، جُعل الأنبياء في نهاية العهد القديم، فانتقلنا من ملاخي إلى يسوع، وكانت قسمة في ثلاثة أقسام لدى البروتستانت. فاضاف الكاثوليك الأسفار القانونيّة الثانية (حك، سي، يه، طو، با، 1مك، 2 مك). (3) والمبدأ هو ارتباط العهدين. التتمّة لا التوالي الكرونولوجيّ.

الثالثة، عرض الأسلوب. البيبليا فيها الوحدة والتعدّدية. قوامها في ذاتها. مثلاً، عبارة اليوم الثالث نقرأها في هوشع والخروج ويوحنا. وسلّمُ يعقوب (يو 1:51) يعود بنا إلى سفر التكوين. غسل الأرجل: سرّ وخدمة. سرّ آلام المسيح وخدمته مع غسل أرجل التلاميذ.

في اليوم الاخير من المؤتمر، كانت طاولة مستديرة، قدّم فيها بعض المحاضرين رفقتهم للكتاب المقدّس. فشدّد بعضهم على القراءة المتجدّدة للكتاب المقدّس، تصل بالباحث إلى شعب الله. كما أشار باحث آخر إلى مسيرة البحث الكتابي في النصف الثاني من القرن العشرين، من ترجمات عديدة إلى النصوص النقديّة في العبريّة والسريانيّة واليونانيّة. أما ترجمة السبعينيّة إلى الفرنسيّة فهي تقدّم الغنى الكبير ولا سيّما على مستوى الشروح. وتحدّث آخر عن الهوّة بين عالم شرح الكتاب والناس الذين يحتاجون إلى قراءة كلام الله. ولكن يبقى البحثُ هو الأساس من أجل إيصال الكلمة إلى شعب الله.

ونودّ هنا أن نقدّم مداخلة الأب جيفره(15)، لما فيها من نظرة شخصيّة تفتح أمامنا الآفاق في مجال التفسير البيبليّ.

بما أنني لست مؤوِّلاً للكتاب، سأتحدّث بالاحرى عن وضع التأويل(16)، لا عن وضع المؤوّل. وأشير هنا إلى الصعوبات التي أواجهها باستمرار في عملي. اللاهوتيّ يقرأ النصوص ويحاول نقدها وتفسيرها. وهي صعوبات واجهتُها حين أدرتُ مدرسة أورشليم البيبليّة. أريد أن أتكلّم عن العلاقة بين التأويل العلمي والتأويل الايماني، بين الحقيقة والتاريخ، ولا سيّما في قراءة العهد الجديد، وقراءة الكتابات البيبليّة في سياق التعدّدية الحضاريّة. ولكن بما أن الوقت لا يسمح لي، أكتفي بالكلام عن الصعوبة الأولى، فتكون لي مناسبة لكي أتحقّق من أهميّة المقاربة الفساريّة(17) في قراءة الكتب المقدّسة.

من النافل القول إن هناك صراعاً إن لم تكن مسافة بين التأويل العلمي، التاريخيّ النقديّ، والفيلولوجيّ(18) والسيميائي(19)، من جهة، وبين قراءة كنسيّة (في قلب الكنيسة) ومعترفة (تصل إلى اعتراف الايمان) للكتاب المقدّس. لن نتكلّم هنا عن الفسار كنهج ثالث يقابل النهج التاريخي النقديّ(20) أو النهج البنيويّ(21) بل نتكلّم بالأحرى في خط ريكور(22) عن مقاربة فساريّة، وذلك في وضع متعدّد المناهج في التأويل المعاصر. وهكذا يأتي التفكير الفساري فيشدّد على أهميّة وساطة النصوص وكل ما يلزم القارئ حين يقوم بعمل القراءة. ولا نبقى في شبه تعارض بين طريقة وضعيّة(23) في تأويل علميّ يدرس النصوص في إطار النقد التاريخيّ والنقد العلميّ، وبين بحث عن معنى ومفهوم خاصين بالموقف الفساري، بل نشدّد على العلاقة بين جميع التقنيّات في خدمة نصّ نشرحه أفضل شرح ونبحث عن معناه.

في فسار ريكور النصوصيّ الأخير، هناك رباط وثيق بين شرح دقيق للنصّ وفهم أفضل له. وقالت آن ماري باليتيه(24): »حين نشرح أكثر نفهم أحسن«. مثلُ هذا الفسار يبقى بعيداً عن الوهم الوضعيّ لنصّ يبدو أمامنا كغرض ملموس، كما عن الوهم الرومانسيّ الذي يتحدّث عن تجانس تام بين قارئ في اليوم الحاضر وكاتب نصّ من الماضي. فيُدعى النهج التاريخيّ النقديّ إلى أن يتخلّى عن ثلاثة أوهام: الينبوع، الكاتب، الشخص الذي وُجّه إليه النصّ أولاً. فاهتمّ ريكور بأن يُبرز مقاومة النصّ للقارئ، وهذا أمر تكلّمنا عنه خلال هذا المؤتمر. »نفهم ذواتنا، يعني نفهم ذواتنا أمام نصّ ونتلقّى منه ظروفَ ذاتٍ تختلف عن الأنا الذي يقرأ النصّ«.

إذن، أودّ أن أشدّد على أن التفكير الفساري يساعدنا على تأمين التواصل أو بالأحرى التكامل، بين تأويل علميّ وتأويل إيماني. وإذ أقول ما أقول، أشرح هذا القول انطلاقاً من نصّ اللجنة البيبليّة »تفسير البيبليا في الكنيسة« (سنة 1993)، الذي يقول: »يُدعى كل تأويل للنصوص أن يُكمّله فسارٌ، في المعنى الحديث للكلمة«. أكتفي هنا بثلاث ملاحظات تتوخّى الوصول إلى تأويل لاهوتيّ لكل نصّ بيبليّ.

الأولى. التفسير، حسب ريكور، ليس فقط واقع القارئ، بل واقع النصّ نفسه. أي تاريخَ تقبَّله. هذا يعني أن النصّ لا ينفصل عن جماعة حيّة. فالبيبليا كلُّها صارت علاقات نصوصيّة(25). فالجماعة هي التي تَنسب إلى نصوص تعتبرها ملهمة، وضْعَها كنصوص مؤسِّسة، وتتقبّل من هذه النصوص عينها هويّتها التاريخيّة الخاصة. وقد كتب بول ريكور واندره لاكوك(26) في مقدّمة مشتركة إلى كتاب عنوانه »خواطر في البيبليا«: خطر التأويل العلميّ أن نحصر النصّ البيبليّ في نصّ محدّد، ثابت، نحصره إلى الأبد في حرف دُوّن فيه. »هو يتطلّع، بشكل مصطنع، إلى توسّع في نصّ مكتوب بشكل نهائيّ مع تثبيت التدوين الأخير«(27). حاولا أن يُبرزا الديناميّة النصوصيّة للكتابة البيبليّة التي لا تكتمل مع التدوين النهائي ولا مع تسجيله في قانون (لائحة) الأسفار المقدّسة. فالنصّ هو بعيد كلَّ البُعد عن وديعة ميتة. إنه يرسم مسيرة نسير في خطّها. وهذه الديناميّة، ديناميّة التتمّة المستمرّة والمتواصلة للكتب المقدّسة، داخل البيبليا العبريّة، تُتيح لنا أن نفهم فهماً أفضل كيف أن العهد الثاني يُعيد تفسير العهد الأول فيُتمّه دون أن يُلغيه.

الثانية، يجب أن نترك مكاناً لشاعريّة القراءة، أبعد من موضوعيّة نصوصيّة لنصّ ندرسه، وذلك بالنظر إلى انتظار الجماعة التي تقرأ وتفسّر. وقد كتب ريكور في »خواطر في البيبليّا«: »ليس التقبّل(28) قراءةً وحسب. وليس قراءةً علميّة، بل هو كلمة جديدة تُعرَض بمناسبة النصّ وانطلاقاً من النصّ«(29). يجب أن نشدّد هنا على مزيد من المعنى، على إضافة صوَر تُخفيها اللغةُ البيبليّة كلغة رمزيّة. فهناك رباط وثيق بين مضامين إيمان اسرائيل وتعدّدية الاشكال أو الفنون الأدبيّة. فالبيبليا هي في ذاتها، وفي بنائها النصوصيّ، وفي تعدديّة أشكالها الأدبيّة، تكشف عالماً هو »العالم البيبليّ«. بمعنى أنها تعيد تصوير الواقع، وتبسط »كائناً جديداً« بالنسبة إلى خبرتي العاديّة للعالم. وبما أن الترجمة الجديدة(30) هي في خدمة هذا الوحي لكائن جديد انقطع عن الواقع اليوميّ، فهي تقدر أن تصل إلى قارئين يتجاوزون حدود الجماعة المؤمنة. ولكن في وضع قراءة كنسيّة، هذا »الكائن الجديد« سواء سمّيناه »العهد الجديد« أو »ملكوت الله«، سيولّد في الانسان كائناً جديداً، أي هذه الانسانيّة الجديدة. سيولِّد إمكانيّة حياة في الايمان، ومع الايمان إرادةَ إيجاد عالم جديد. هناك أيضاً أحسّ أنني في توافق مع ما يوحي به نصّ اللجنة البيبليّة سنة 1993، حين يقول: »المعرفة البيبليّة لا تتوقّف عند اللغة. بل تحاول أن تبلغ الواقع الذي يتحدّث عنه النصّ. فاللغة الدينيّة في البيبليا  هي لغة رمزيّة تدفعنا إلى التفكير، لغة ما زلنا نكتشف نحن معناها، لغة تتطلّع إلى واقع متسامٍ، وتُوقظ الانسان، في الوقت عينه، إلى بُعد كيانه العميق«.

الثالثة. ومسيرة التفسير لا تكتمل إلاّ حين يصبح عالمُ النصّ خاصاً بالقارئ. هو مجال حاسم، مجال التطبيق أو جعْل معنى الكتاب المقدس خاصاً وجودياً. نحن هنا، حيث في كنيسة اليوم تُوجد مسافةٌ بارزة بين تأويل علميّ وتأويل معترف، أو ما يسمّيه بعضهم تفسير قانونيّ(31). فالقضيّة هي أن نعرف إن كانت جميع الوسائل التي تتوخّى شرح هذا النصّ أو ذاك شرحاً افضل، هي في خدمة تأوين أفضل للكتاب المقدس ككلمة الله. فمهمّةُ التفكير الفساري تقوم بأن تُقنعنا أننا لا نستطيع أن نمتلك بلاغ الوحي الذي تشهد له الكتب المقدّسة بدون ترجمة أو تفسير.

فالعهد الجديد كفعل تفسير قامت به الجماعةُ المسيحيّة الأولى، يبقى قاعدةً لشهادة الكنيسة اليوم، ولكن يجب أن نترجمه بالنظر إلى سياق تاريخيّ جديد، بحيث يُتيح خبرةَ خلاص نفهمها في الوقت ذاته، كتحرير للانسان ولقاء مع الله. فعلى مدّ القرون العشرين الماضية، كانت، لا شك، إعادةُ تفسير للبلاغ الأصليّ بالنظر إلى حضارات جديدة ونظام آخر يقبل به  الفكر البشريّ، بالنظر إلى حاجات الكنيسة وانتقاداتها. وكل هذا كان أساس نصّ جديد في شكل اعترافات إيمان، ومقولات عقائديّة ولاهوتيّة، وفقاهات وكتب تعليم ديني. أشير هنا إلى ظاهرة التقليد، وأنا متيقّن أن لا تقليد حياً إلاّ في إطار جدليّة مستمرّة من التواصل والتجديد. إذن، لا تقليد إيمان حيّ بدون إعادة تفسير. وحتّى أمام اللغة الكتابيّة، يجب أن نتعلّم التمييز الضروريّ بين مضمون البلاغ، أي مدلوله الدينيّ المستمرّ، والحَمْل الحضاريّ لهذا البلاغ، أي مختلف الدلائل اللغويّة التي تطبع بطابع النسبيّة كل ما هو تاريخيّ. ما نلاحظه اليوم، هوّة متنامية بين لغة الوحي واللغات التي يستعملها البشر، سواء لغة الحداثة في الغرب أو لغات ترتبط بحاجات حضاريّة خارج الغرب.

كيف نترجم اللغة البيبليّة لكي تحمل وحياً يتوافق مع امكانيّة وجود جديدة؟ الترجمة الحرفيّة ليست النقل الحرفيّ للمضمون عينه في لغة مفهومة. يجب أن نكون، في بعض المرات، لاأمناء لماديّة النصّ، لكي نكون أكثر أمانة لما يرميه النصّ من معنى. فهَمُّ المترجم الحقيقيّ هو بحث متواصل عن تقابلات بين عبقريّة خاصة للغة الانطلاق وعبقريّة لغة الوصول. نستطيع أن ننتقد بعض مواقف في الترجمة الجديدة(32). ولكن فضلها الذي لا جدال فيه، هو أنها حاولت أن تبحث عن تقابلات جديدة. فإن أردنا النجاح في هذا الفن الصعب، يجب أن نبرهن عن تخيّل قياسيّ. فمعيار الترجمة الصالحة والتفسير الصالح، هو أن يصبح النصّ مفسَّراً للقارئ أو السامع. عندئذ نستطيع أن نتحدّث عن تأوين كلمة الله في جميع لغات البشر. من هذا القبيل، نستطيع أن نتعلّم الكثير من المقابلة مع التفسير الموسيقيّ. فما هو التفسير الأفضل لعمل كبير، بين التفاسير العديدة؟ ليس هو بالضرورة الاقتداء الحرفيّ بتنفيذ أول قاده المؤلّف نفسه. بل التفسير الأكثر أمانة، الذي يقدر أن يكشف جمالاً مسجّلاً في المؤلَّف. وهذا ما نقوله، عن طريق القياس، بالنسبة إلى لغة الايمان في الكنيسة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM