الفصل الرابع والعشرون: تيودوريه القورشي وتفسير أشعيا النبيّ.

تيودوريه القورشيّ

وتفسير أشعيا النبيّ

سيرة تيودوريه (393-466) تتماهى في قسم كبير منها مع تاريخ الكنيسة في القرن الخامس. أقلَّه بالنسبة إلى الحقبة التي تنطلق تقريبًا من مجمع أفسس (431) إلى مجمع خلقيدونية (451). فأسقف القورشيّة كان في قلب الصراع العقائديّ الذي جعل أنطاكية وجهًا إلى وجه مع الإسكندريّة، بمناسبة الهرطقة النسطوريّة. فمنذ سنة 430، وبناء على طلب يوحنّا بطريرك أنطاكية، صار تيودوريهبطل الشرقيّين في الردِّ على حرومات أطلقها كيرلُّس أسقف الإسكندريّة على نسطور. ولكن ردَّه أصاب مجمل الأنطاكيّين. منذ ذلك الوقت ارتبطت سيرة تيودوريه ارتباطًا وثيقًا بسير الصراع الكرستولوجيّ. كان تيودوريه الناشط الأوَّل في فعل الوحدة بين أنطاكية والإسكندريّة، سنة 433. ولكنَّه حُطَّ عن كرسيه سنة 449 في سينودس أفسس، ثمَّ نُفي قبل أن يعود إلى كرسيِّه فيُقرّ مجمع خلقيدونية استقامة إيمانه. وبهذا وُضع حدٌّ لهذا الصراع الطويل. واحتاجت الكنيسة إلى القتال والتمزُّق قبل أن يعي كلُّ حزب أنَّ الصراع يرتبط باختلاف في الكلمات والألفاظ، لا في النظرات اللاهوتيّة. وما كان تيودوريه غريبًا عن كلِّ هذا الوعي، بل عمل على إيضاح التعليم الكرستولوجيّ في وجهته القويمة[1].

بعد أن نتعرَّف إلى تيودوريه وإلى ما ترك من آثار، نتوقَّف عند طريقته في شرح الكتاب المقدَّس وتأويله. وننهي كلامنا عن تفسير أشعيا النبيّ الذي عُرف فقط في النصف الأوَّل من القرن العشرين.

 

1- تيودوريه، سيرته وآثاره

- أوَّلاً: من البداية وصولاً إلى الأسقفيّة

وُلد تيودوريه في أنطاكية[2] حوالي سنة 393[3]. وُلد في عائلة مسيحيّة غنيّة، تحلَّت بنبل الأصل والعواطف. تأخَّر والداه قبل أن ينجباه بالرغم من صلواتهما وتوسُّلاتهما. وفي النهاية، جاء ناسك اسمه ماقيدونيوس فوعد الوالدة بصبيّ، كما كان الأمر بالنسبة إلى حنّة أمِّ صموئيل. فاستعدَّت لكي تكرِّسه للربّ.

تربّى تيودوريه وسط الرهبان ومارس أجمل الفضائل. كما تعلَّم الأدب والفلسفة وقراءة الكتب المقدَّسة[4]. وتعلَّم في الوقت عينه حياة النسك، فمارسها بقساوتها بقدر ما يسمح له عمره.

قيل عنه إنَّه كان تلميذًا مع نسطور، وطالبًا لدى الذهبيّ الفمّ وتيودور ولكنَّ لابرهان قاطعًا على ذلك. يبقى أنَّه حين كان الذهبيّ الفم يعظ في أنطاكية، كان تيودوريه ابن 14 سنة. فتأثَّر ولا شكَّ تأثُّرًا كبيرًا. وإن لم نعرف معلِّمي تيودوريه، إلاَّ أنَّ مناخ أنطاكية العلميّ جعله يستفيد ممّا تحمله هذه المدينة على المستوى الدينيّ والدنيويّ. وهذا ما نكتشفه في مؤلَّفات تيودوريه، ولاسيّما في رسائله.

باكرًا رُسم تيودوريه قارئًا[5] في الكنيسة: يقرأ الأسفار المقدَّسة بصوت عالٍ في الجماعة. هذا ما غذّى ورعه وتقواه وطبع شخصيَّته الدينيّة بهذه القراءة البيبليّة.

أعدَّه والداه منذ طفولته للحالة الكهنوتيّة، فاعتزل بعد موتهما سنة 416. باع أملاكه ومضى يعيش في واحد من ديرين أسَّسهما أغابيت وسمعان[6]، قرب نيقرتيس[7] التي تبعد بضعة كلم عن آفامية (قلعة المضيق). عاش هناك سبع سنوات.

سنة 423، دُعيَ الناسك ليتولّى أبرشيّة قورش. فتأسَّف لأنَّه ترك حياة موافقة لطبيعته التقويّة ولميله إلى الدراسة. أُلقيَ في العمل بأشكاله المتعدِّدة والثقيلة، ولكنَّه لم يتهرَّب يومًا من رسالته.

جاءت أبرشيّة قورش في سورية الفراتيّة[8]، وارتبطت بمطرانيّة هيرابوليس أبرشيّة واسعة. فيها 800 رعيّة جبليّة. صعوبة الطبيعة التي يجب تحدِّيها لزيارة المؤمنين. وصعوبة بسبب كثرة الهراطقة والوثنيّين. فبدا تيودوريه بالعمل حالاً، فبدأ الحرب بالقلم والكلمة، على مختلف فئات اللامؤمنين. فمنذ بداية أسقفيَّته كتب من أجمل المرافعات[9] عن المسيحيّة في القرون الأولى للكنيسة. وكتب أيضًا بين سنة 423 وسنة 431 عددًا من المقالات، ضاعت اليوم، في ردٍّ على ضلالات الأريوسيّين[10] والأنوميّين[11] والمرقيونيّين[12] والماقيدونيّين[13]. كما كتب ضدَّ اليهود والمجوسيّين[14]. وعرف مجهوده هذا نجاحًا كبيرًا في أبرشيَّته[15] هيَّأه ليلعب دورًا كبيرًا في مجمع أفسس، سنة 431، بحيث إنَّ حياته تتماهى مع حياة كنيسة الشرق، فكان حاضرًا في كلِّ الجدالات اللاهوتيّة التي ولَّدتها القضيّة النسطوريّة فهزَّت الكنيسة وهكذا فرض نفسه بوسع ثقافته ودقّة أحكامه.

في هذا المجال، عمل تيودوريه في العالم اليونانيّ، ما عمله ربُّولا في العالم السريانيّ، فأتلف 200 نسخة ونيِّف من دياتسّارون تاتيان[16]، وأحلَّ محلَّه الأناجيل الأربعة.

- ثانيًا: في مجمع أفسس وفي وجه كيرلُّس

تيودوريه هو ابن مدرسة أنطاكية، ومن الطبيعيّ أن يكون له موقف في المجادلات النسطوريّة. شدَّد على بشريّة المسيح، ورأى الخطر لدى أبّوليناريوس[17] الذي مالت طروحاته إلى تدمير عقيدة التجسُّد. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، ارتبط بنسطور ارتباطًا شخصيًّا ممّا استعدَّ للتخلّي عنه وحين أخذ علمًا بحرومات[18] وجَّهها كيرلُّس، أسقف الإسكندريّة، على نسطور، سارع فكتب الربَّ: فأسقف الإسكندريّة، في نظره، يستعيد ضلال أبّوليناريوس فينكر الطبيعة البشريّة للمخلِّص، واكتفى بأن يدعو مريم والدة الإله دون أن يحسَّ نفسه مجبرًا على تفسير "التيوتوكس". كلُّ هذا يهدِّد الإيمان الكاثوليكيّ[19]. وهكذا بدا تيودوريه، قبل مجمع أفسس، خصًما كبيرًا للاهوت كيرلُّس.

وصل تيودوريه إلى أفسس قبل يوحنّا الأنطاكيّ ورفاقه، فبدأ محاولاته بأن ينتظروهم ولا يفتتحوا جلسات المجمع بغيابهم. لم يسمعوا له، فرفض التوقيع على حطِّ نسطور وعلى شجب تعليمه، ولبث يدافع حتّى النهاية عن الشرقيّين. أُرسل لدى الإمبراطور مع بعض أصدقائه، وتكلَّم باسم الوفد الشرقيّ، ولكنَّه ما استطاع أن يُقنع الإمبراطور (الرسالة 159) ولكنَّه واصل الجهاد ضدَّ كيرلُّس. دخل يوحنّا الأنطاكيّ في محادثات مع كيرلُّس، من أجل إعادة السلام والوحدة بين الكنائس. أمّا تيودوريه فحرَّر كتابًا كبيرًا[20] يردُّ فيه على كيرلُّس ومجمع أفسس. وحين توافق كيرلُّس يوحنّا للتوقيع، لبث تيودوريه رافضًا، مع أنَّه هو الذي كتب نصَّ الوفاق. لأنَّه ما وثق بكيرلُّس الذي رفض رفضًا قاطعًا أن يعود عن الحرومات. كما رفض أن يوقِّع الحكم على نسطور، قائلاً: أفضِّل أن أرى يديَّ مقطوعتين ولا أوقِّع على قرار الحكم هذا (الرسالة 171). وفي النهاية، ما عاد يطالبه يوحنّا بنوع من خيانة تجاه صديق مظلوم لكي يوقِّع فعل الوحدة ويكون السلام مع كيرلُّس.

سلام حلَّ بصعوبة، ولكن عاد فضاع سنة 438، لأنَّ كيرلُّس كتب، في ظروف ما زالت غامضة، مقالاً ضدَّ ديودور الطرسوسيّ وتيودور المصيصيّ[21]، وهما حجَّتان في كنيسة أنطاكية. طُلب من تيودوريه أن يردَّ، فاستعاد براهين كيرلُّس واحدًا واحدًا وبيَّن استقامة الإيمان عند هذين المعلِّمين[22].

نعود هنا إلى الوراء إلى سنة 431، إلى حدث هامّ في القرن الخامس من التاريخ الدينيّ حيث برزت شخصيّة تيودوريه. في هذا التاريخ المتشعِّب الذي امتزجت فيه أنبل الاهتمامات وأعنف الأهواء، ما عرف الخصوم الاعتدال الضروريّ. وإذا كانت العشرون سنة الواقعة بين أفسس (431) وخلقيدونية (451) مثَّلت حقبة فيها توضَّحت العقيدة كما لم تتوضَّح من قبل، فلا بدَّ من تمييز العناصر المختلفة وإبراز السمات الكبرى لهذه الفترة من تاريخ الكنيسة.

نتذكَّر الحلَّ الذي قدَّمه مجمع نيقية (325) للمسألة الكرستولوجيّة. أكَّد ضدَّ الأريوسيّة أنَّ في المسيح عنصرين حقيقيّين: اللاهوت والناسوت وهما متَّحدان اتِّحادًا وثيقًا، حميمًا. ولكن بقيت الصعوبة: كيف نوفِّق بين الوحدة والثنائيّة، أي طبيعتين في أقنوم واحد، كما ستقول الكنيسة في مجمع خلقيدونية.

وكان الجدال الكرستولوجيّ الذي ملأ القرن الخامس. وقُدِّم أكثر من حلّ. من جهة، اللاهوتيّون الذين انتموا إلى مدرسة أنطاكية، واستلهموا ديودور وتيودور، أعلنوا أنّنا أمام وحدة خارجيّة. فاستصعبوا الكلام عن العذراء والدة الإله. "ليس الله، بل الهيكل الذي فيه أقام الله، الذي هو مريم". ومن جهة ثانية، شدَّدت الإسكندريّة على الوحدة بين الطبيعتين تجاه الثنائيّة الأنطاكيّة. حلاَّن ناقصان بالنسبة إلى سرِّ الفداء. ولكنَّهما لبثا متعايشين.

وأتى رجل إلى كرسيّ أنطاكية، سنة 428، اسمه نسطور. هو من مدرسة أنطاكية. شدَّد بقوَّة على النظرة الثنائيّة: في أقنوم المسيح طبيعتان متميِّزتان. رفض القول بأنَّ مريم هي "والدة الإله"، بل اكتفى بالتسمية "أمّ المسيح"، التي بدت له أقرب إلى الحقيقة. وبدأت الحرب التي دخل فيها تيودوريه فدلَّ على مركزه الرفيع في كنيسة الشرق.

وافتتح كيرلُّس المجمع في 22 حزيران سنة 431، وما انتظر حتّى الوفد الشرقيّ (ومعه تيودوريه) الذي وصل في 24 حزيران، رفض الأنطاكيّون الحكم على نسطور، وحطّوا كيرلُّس بسبب الهرطقة التي تُقرَأ في الحرومات. عندئذٍ حرم كيرلُّس يوحنّا الأنطاكيّ. عندئذٍ دعا الإمبراطور تيودوز الوفدين الأنطاكيّ والإسكندرانيّ إلى خلقيدونية. تحدَّث تيودوريه باسم الشرقيّين. ولكنّ بقي كلُّ من الوفدين عند موقفه، وبقي نسطور منفيًّا قرب أنطاكية. وأعطي له خلف في شخص مكسيميان، في 25 تشرين الأوَّل 431. وفي 12 نيسان خلف بروكلُّس مكسيميان،. وفي تمّوز 446، كان فلافيان أسقف القسطنطينيّة وهو الذي عُرف بحبِّه للسلام. ولكن جاءت الأيّام الصعبة لتيودوريه. اتَّهموه بالهرطقة واستعملوا كلَّ الوسائل، الصادقة والكاذبة. وفي ذلك الوقت برز أوطيخا الذي تجاوز أفكار كيرلُّس فأنكر أن تكون بشريّة المسيح شبيهة ببشريَّتنا. عندئذٍ كتب تيودوريه مؤلَّفًا[23] جاء في ثلاثة أقسام. فهاجمه الأوطيخيّون وصدر قراران بحقِّه. الأوَّل: لا يحقُّ له أن يخرج من أبرشيَّته. والثاني، لن يكون في المجمع الذي بدأ الكلام عنه.

كان ذلك سنة 448. ولكن تحوَّل الأمر حين أُعلن أوطيخا هرطوقيًّا، في 22 تشرين الثاني من السنة نفسها. غير أنَّ الإمبراطور ساند أوطيخا، فدعا إلى مجمع عقد سنة 449، ومُنع تيودوريه من الحضور، لعب ديوسقور أسقف الإسكندريّة، الدور الكبير فيه. دُعيّ "لصوصيّة أفسس" بسبب العنف الذي حصل فيه، وتجاوز القوانين. ولكنَّ السريان يرفضون تلك التسمية وبحقّ. في أيِّ حال، حكم على فلافيان وأوسابيوس أسقف دوريلاي[24] وأُجبر الحاضرون على التوقيع بعد أن حكموا على هيبا، أسقف الرها، وإيريناوس، أسقف صور. وحُطَّ تيودوريه عن كرسِّه وما سُمح له أن يدافع عن نفسه، فكتب إلى البابا ليون، وما استطاع العودة إلى كرسيِّه إلاّ بعد موت تيودوز، في 28 تمّوز 450. مع الإمبراطور مارسيان تحوَّل الوضع. وعُقد مجمع خلقيدونية سنة 451[25].

نقض البابا لاون سينودس سنة 449. وأعاد الإمبراطور مرسيان تيودوريه إلى كرسيِّه، وسمح له بالحضور إلى المجمع. ولكنَّ جماعة ديوسقور احتجّوا بعنف فبدا تيودوريه كأنَّه متَّهم وما اتَّخذ مكانه بين الأساقفة، إلاّ بعد أن أعلن "الحرم على نسطور وعلى جميع الذين يرفضون لقب والدة الله، والذين يجعلون الإبن الوحيد[26]، المونوجين، ابنين". عند ذلك، أعلنه الأساقفة معلِّمًا مستقيم الرأي، فجلس في مصافهم.

بعد مجمع خلقيدونيّة، نعم تيودوريه بالسلام. فكرَّس سنواته الأخيرة لتدبير أبرشيَّته وللكتابة، من ردٍّ على الهراطقة، وتفسير الكتاب المقدَّس. ولكنَّ التاريخ لا يذكر سنواته الأخيرة، بحيث لا تُعرَف بالتأكيد سنة موته. قال جناديوس في الرجال المشهورين إنَّه مات في عهد الإمبراطور لاون الأوَّل (457-474)، وحدَّد الكونت مرسلان[27] سنة 466. ولكن يعتبر الباحثون أنَّه توفِّي سنة 460.

ب- آثار تيودوريه

كان تيودوريه من أخصب الكتّاب في الكنيسة اليونانيّة، في القرن الخامس. مؤلَّفات عديدة في العقيدة والمرافعات. في التفسير والتاريخ. ولكنّنا لا نملك جميع ما كتب، والسبب الأوَّل مجمع القسطنطينيّة سنة 553. هناك مؤلَّفات أشار إليها تيودوريه في رسائله. ولكنَّها ضاعت. وآثار نُسبت إلى آخرين ثمَّ عادت إلى صاحبها. وأخيرًا، هناك آثار لم يشكَّ أحد في صحّة نسبتها وقد وصلتنا كاملة، مثل تفسير أشعيا النبيّ مثلاً.

أوَّلاً: آثار ضائعة

يعود أكثرها إلى السنوات الأولى لأسقفيّة تيودوريه[28].

* مقالات ضدَّ الأريوسيّين والأونوميّين. ضدَّ الماقيدونيّين وحول الروح القدس. وضدَّ مرقيون. ضدَّ أبّوليناريوس. هي كلُّها سابقة للسنة 431.

نقرأ الرسالة 82 (المراسلات، 2: 199-205). كتب إلى أوسابيوس، أسقف أنقيرة (أنقرة): "أملتُ أن أتسلَّم في الظرف الحاضر رسائل عديدة من قداستك. فنحن ضحيّة افتراء فنحتاج إلى تعزية أخويّة. فالذين يجدِّدون في أيّامنا هرطقة مرقيون وولنطينس وماني وسائر الظاهريّين[29]، لا يحتملون أن يروننا نفضح علنًا هرطقتهم. حاولوا أن يضلُّوا ضلالاً كاملاً أذن الإمبراطور، فدعونا هراطقة، واتَّهمونا كذبًا بأنّنا نقسم ابنين، ربَّنا الوحيد يسوع المسيح، الكلمة المتجسِّد..."

ويواصل تيودوريه كلامه في الرسالة عينها: "ولئلاّ يتخيَّل أحد أنَّ الخوف جعلنا الآن أتكلَّم هكذا، فمن رغب يستطيع أن يقرأ مؤلَّفاتي السابقة، تلك التي كتبت في أفسس، أو التي كتبت بعد أفسس، منذ 12 سنة. فالحمد لله، قد نشرنا كلَّ الأنبياء والمزامير والرسول (بولس). ضدَّ تبّاع أريوس، ضدَّ الذين يحملون هرطقة ماقيدونيوس، ضدَّ براهين أبّوليناريوس الواهية، ضدَّ هيجان مرقيون، ألَّفنا في الماضي مقالات. وبنعمةٍ أعطاني الله، شعَّ فكر الكنيسة في كلِّ من هذه المقالات. وحرَّرنا أيضًا كتاب تصوُّف (مستيكيّ) وثانيًا حول العناية الإلهيّة، وآخر أيضًا ضدَّ أسئلة يطرحها المجوسيّون. وحياة القدّيسين، ومجموعة مؤلَّفات لا أريد أن أذكرها بالتفصيل[30]. وإن كنتُ عدَّدتُ مؤلَّفاتي، فليس حبُّا بالمجد، بل دعوة لمتَّهميَّ والراغبين في الحكم عليَّ أن يتفحَّصوا أيَّ مؤلَّف يريدون. فالشكر لإلهي! لن يجدوا معتقدًا آخر سوى ذاك الذي تسلَّمناه من الكتب المقدَّسة[31].

* ردٌّ على أسئلة المجوسيّين. ذُكر هذا المؤلَّف في الرسالة 82 و113.  وفي التاريخ الكنسيّ (5: 38: الآباء اليونان 82 : 1272 ج). أسئلة في سفر اللاويّين 1 (الآباء اليونان 80: 297ج). ردُّ تيودوريه على اعتراضات حكماء فارس ضدَّ الإيمان المسيحيّ. وُجد جزء حُفظ في السلسلات التفسيريّة فتوجَّه إلى المانويّين[32].

* الردُّ على اليهود. ذُكر في الرسائل 113، 116، 147. قال تيودوريه في هذه الأخيرة (الجزء الثالث، ص 201): "حين عرفتُ أنَّه يصوِّبون البدع ضدَّ الإيمان الإنجيليّ، فهمت أنَّ الصمتَ لا يخلو من الخطر"[33].

سبق وذكرنا الكلام دفاعًا عن ديودور وتيودور، والخماسيّة في خمسة كتب (أو مقالات) يردُّ فيها على كيرلُّس[34].

ثانيًا: آثار معادة إلى تيودوريه

* عرض الإيمان المستقيم. نُسب إلى يوستينس (الآباء اليونان 6: 1208- 1240). تحدَّث عنه سويريوس الأنطاكيّ واعتبره من مؤلَّفات تيودوريه[35]. هي محاولة أولى من نظرة لاهوتيّة شاملة، حول الثالوث الأقدس والتجسُّد. هل دُوِّن قبل مجمع أفسس[36]؟ بدأ هذا المؤلَّف: "الآن وقد تنبَّهنا بما فيه الكفاية إلى الردِّ على اليهود واليونانيّين". هكذا عاد تيودوريه إلى مقاله ضدَّ اليهود، وإلى مؤلَّفه "المعالجة". توجَّه هذا العرض للذين تنشَّأوا على أسرار الإيمان، والذين يدعوهم الكاتب "أبناء الكنيسة".

* الثالوث القدّوس والمحيي وتجسُّد الربّ. نشره ماي[37] سنة 1883 انطلاقًا من مخطوط فاتيكان يونانيّ 801 باسم كيرلُّس الإسكندرانيّ (الآباء اليونان 75: 1148-1189؛ 1420-1477). ووُجدت مقاطع أخرى في اليونانيّة وفي اللاتينيّة[38]. كما اكتشف لابون (حاشية 35) بعض المقاطع عند سويريوس الأنطاكيّ حيث نجد العنوان الصحيح لهذا المقال: لاهوت الثالوث الأقدس والتدبير الإلهيّ. هي "مقالات عشرة" في مؤلَّف واحد، قبل سنة 430. أنكر الكاتب بشكل صريح كلَّ نيَّة هجوميّة، وأكَّد أنَّ لا هدف له سوى الدفاع عن الإيمان القويم ضدَّ الأبّوليناريّين. والأبّوليناريّون هم في الواقع كيرلُّس وآباء أفسس. وفي النهاية، دافع تيودوريه عن "أنتروبوتوكس" أي والدة الإنسان واعتبرها صحيحة مثل تيوتوكس، والدة الإله.

ما نلاحظ هو أنَّ "التجسُّد" يلتقي مع الردِّ على الحرومات الاثني عشر. ثمَّ إنَّ تيودوريه شهد أنَّه صاحب "اللاهوت والتجسُّد الإلهيّ" في الرسالة 133.

* أسئلة وأجوبة من أجل الأرثوذكسيّين[39]. نُسب هذا المؤلَّف إلى ديودور الطرسوسيّ[40]. ولكن أعيد إلى تيودوريه[41]. جاء النصُّ في نسختين مختلفتين[42] مع 61 سؤالاً لامرتَّبة، تعالج مختلف المواضيع مع نيَّة دفاعيّة[43]. كيف تمَّت معرفة النصّ؟ استند الباحث إلى سلسلة حول لوقا، وفيها يورد نيقيتاس الهرقليّ مقطعًا من السؤال 58 على أنَّه يخصُّ تيودوريه. بالإضافة إلى ذلك، مخطوط القبر المقدَّس في القسطنطينيّة (حاشية 42) يجعل هذا المؤلَّف لتيودوريه[44].

ثالثًا: مؤلَّفات لا جدال فيها

وصلت إلينا كاملة، في أكثر المرّات. فيها التفسير الكتابيّ والمرافعة والجدال العقائديّ والتاريخ والمراسلة.

← ونبدأ بالتفاسير الكتابيّة. دُوِّن أكثرها بعد فعل الوحدة سنة 433، فجاءت بشكل تفسير متواصل أو بشكل سؤال وجواب حول بعض الأماكن الصعبة في الكتب المقدَّسة، بحسب نهج شاع في الحقبة الآبائيّة[45]. وبفضل إشارات قدَّمها تيودوريه في المقدِّمات (مثلاً، المزامير، الآباء اليونان 80: 860 أ ب) أو في الرسائل، نستطيع أن نحدِّد بشكل شبه أكيد الترتيب الذي فيه دُوِّنت هذه الكتب، دون أن نحدِّد التاريخ الدقيق.

* تفسير نشيد الأناشيد (الآباء اليونان 81: 28-213). هو أوَّل التفاسير التيودوريتيّة، وقد يكون سبق مجمع أفسس، أو كُتب حالاً بعد هذا المجمع. لبّى فيه طلب يوحنّا، أسقف جرمانية الذي أرسل إليه الرسالة 125[46] (حوالى سنة 449-450) والرسالة 134[47] (450-451). شكَّ غارنييه (الآباء اليونان 84: 217) بنسبة هذا التفسير إلى تيودوريه. ولكنَّ شهادة البابا بلاجيوس الثاني كافية (رسالته 5: 20؛ الآباء اللاتين 72: 732). راح تيودوريه في خطِّ أوريجان، فشدَّد على الطابع الروحيِّ لنشيد الأناشيد، ورأى في العروس، الكنيسة، وفي العريس يسوع المسيح[48]. رفض تيودوريه موقف تيودور المصيصيّ الذي رأى في نشيد الأناشيد، جواب سليمان على خصوم زواجه بامرأة مصريّة "كخبر يكاد يليق بالنساء الجاهلات". كما رفض القول بأنَّ الموضوع هو الحبُّ المتبادل بين الرجل وامرأته.

* تفسير دانيال[49]. هو شرح متواصل، وأوَّل ما ألَّف تيودوريه عن الأنبياء. دوَّنه حالاً بعد تفسير نشيد الأناشيد، كما يقول في مقدِّمة المزامير (الآباء اليونان 80: 860أ). جاء كلام تيودوريه قاسيًا، لأنَّهم أخرجوا دانيال من جوقة الأنبياء[50]. ترك خبرا سوسنّة، وبال والتنّين، لأنَّهما يردان في اليونانيّة. مع أنَّه يشير إلى سوسنة في رسالة إلى دومنوس أسقف أنطاكية، الرسالة 110 (الينابيع المسيحيّة 111، ص 39) ويورد دا 13: 22[51].

وبعد دانيال (الآباء اليونان 80: 960ب)، دوَّن تيودوريه تفسير حزقيال (81: 808-1256). ثمَّ الأنبياء الاثني عشر (81: 1549-1988). دوِّن هذا المؤلَّف قبل تفسير المزامير. وصرخ تيودوريه، كما اعتاد أن يفعل، في القسم الأوَّل من المطلع الذي يشكِّل مقدِّمة المجموعة، فقال: قام بهذا العمل تلبية لطلبات أصدقاء يُعنَون بفهم أفضل للأنبياء. في القسم الثاني، اهتمَّ بالتاريخ وأراد أن يحدِّد تاريخ كلاًّ من هؤلاء الأنبياء.

* تفسير المزامير (الآباء اليونان 80: 857-1998). ذُكر هذا التفسير مرَّتين. في الرسالة 82 (كانون الأوَّل 448) التي بعث بها إلى أوسابيوس الأنقيريّ (الينابيع المسيحيّة، 111، ص 203). وفي أسئلة حول 2مل (= 2 صم) 43 (الآباء اليونان 80: 656ج). وهكذا يحدِّد زمن تأليف المزامير بين 441 و448[52].

جاء التفسير متواصلاً. وأعلن تيودوريه في المقدَّمة أنَّه قرأ عددًا من التفاسير، بعضها ألِّيغوريّ، استعاريّ. والبعض الآخر يؤوِّل النبوءات المسيحانيّة في عودة إلى أحداث الماضي. غير أنَّ مثل هذا التفسير يليق باليهود، لا بأبناء الإيمان. قال: "وجب عليَّ أن أتجنَّب هذين التطرُّفين. فكلُّ ما يتعلَّق بالتاريخ، أشرحه تاريخيًّا. أمَّا النبوءات حول المسيح الربّ، وكنيسة الأمم، والإنجيل وكرازة الرسل، فلا يمكن أن تفسَّر بالنسبة إلى شيء آخر، كما اعتاد اليهود أن يفعلوا. نُقل هذا النصُّ إلى اللغة السلافونيّة[53]، كما نُقل إلى الأرمنيّة[54].

* تفسير إرميا (الآباء اليونان 81: 459-806). هو آخر التفاسير عن الأنبياء، كما قال تيودوريه في المقدِّمة إلى أشعيا (الينابيع المسيحيّة 276، ص 140): "أحاول الآن أن أشرح نبوءة أشعيا. فبالنسبة إلى سائر الأنبياء، ما عدا إرميا المدهش، فقد كشفنا فكره، والحمد لله، بقدر استطاعتنا. أمّا الهمّان الأساسيّان فهما الإيجاز والوضوح".

* أسئلة حول الأوكتاتوكس، أو الأسفار الثمانية[55]. مع أجوبة في أسفار الشريعة الخمسة (أو البنتاتوكس) وفي أسفار يشوع، القضاة، راعوت. دُوِّن بعد سنة 453، بناء على طلب أعزِّ أبنائه، هيفاطيوس الذي ذُكر في الرسائل 113، 116، 117 (أيلول- تشرين الأوَّل 449). قُدِّم له التفسير لكي يردَّ هجمات خصوم الكتاب المقدَّس، وليتجاوب مع رغبة المسيحيّين الذين يودّون الحصول على إيضاحات حول الأمور الصعبة في العهد القديم. هناك 377 سؤالاً موزَّعة كما يلي: 110 تك، 72 خر، 38 لا، 51 عد، 46 تث، 20 يش، 28 قض، 2 را.

* أسئلة حول أسفار الملوك والأخبار[56]. لبث تيودوريه أمينًا لطريقة الأسئلة والأجوبة بالنسبة إلى أفكار الملوك الأربعة، كما في السبعينيّة. ولكنَّه تركها في سفرَي الأخبار وقدَّم تفسيرًا متواصلاً. وهكذا يكون تيودوريه وحيدًا بين آباء الكنيسة حين شرح أخبار الأيّام. من هذين المؤلَّفين استفاد أناستاز السينائيّ، في القرن السابع، وفوتيوس في القرن التاسع.

* تفسير رسائل بولس الأربع عشرة (الآباء اليونان 82: 35-878) أي الرسائل البولسيّة مع الرسالة إلى العبرانيّين. وحده وصل إلينا من شرح العهد الجديد. جاء بعد تفاسير العهد القديم، حوالي سنة 447 كما يبان من رسالتين أرسلتا إلى صديق لا يذكر اسمه، ويطلب رأيه في هذا التفسير.

"كلمة النبيّ قرَّبت السامع الفطن من المشير الكبير (أش 3: 3). وأنا إذ أقدِّم لقداستك الكتاب الذي حرَّرتُ حول الرسول الإلهيّ، أملتُ أن أجد عندك لا سامعًا فطنًا، بل قاضيًا عالمًا وصريحًا. وكما أنَّ الصاغة يقرِّبون الذهب من الحجر إذا أرادوا أن يعرفوا أنَّ المعدن نقيٌّ مصفّى، فأنا أيضًا أرسلتُ إلى ورعك مؤلَّفي، وأنا راغب في أن أعرف إن كان مرضيًّا، أو هو يحتاج إلى بعض التصحيحات. ولكن بعد أن قرأته، أعدته إليَّ أيُّها العزيز وما كشفت لنا ما تقول فيه. فصمتُك يجعلني أفترض أنَّ القاضي ارتأى رأيًا لاملائمًا، فما أراد أن يظهره لي لئلاَّ يحزنني. فخلِّ عنك هذا الظنَّ وتنازل فعرِّفني حكمك في هذا الكتاب"[57].

هاتان الرسالتان سبقتا سنة 448، لأنَّ الرسالة 82 التي أرسلت إلى أوسابيوس أسقف أنقيرة[58] سبقت سنة 449، وأنَّ الرسالة 113[59] التي أرسلت إلى البابا لاون، عادت إلى أيلول – تشرين الأوَّل 449. فالرسالة 82 والرسالة 113 تشيران إلى هذا التفسر، كما يشير إليه أسئلة في سفر اللاويّين (الآباء اليونان 80: 300أ)[60].

← كتابات المرافعة

* ها لجّة الأهواء اليونانيّة (حاشية 9)[61]، وصلت إلينا في عدد من المخطوطات[62]. توجَّه هذا الكتاب في جوهره إلى الوثنيّين الذين ما زالوا يشكِّلون، في القرن الخامس، قوَّة لا يُستهان بها. هي آخر المرافعات (أبّولوجيّا) المسيحيّة مع العنوان الأوَّل، كان عنوان ثانٍ: معرفة الحقيقة الإنجيليّة انطلاقًا من الفلسفة اليونانيّة: الوجهة السلبيّة: بيَّن لاتماسك الفلسفة اليونانيّة. الوجهة الإيجابيّة: جعل تعليم الكتب المقدَّسة تجاه فكر الفلاسفة. وأظهر أنَّ ما عندهم من حسنات نجده في تعليم الرسل. مثل هذا القرابة لا تُفهم إلاّ بحضور الله الشامل في عقل كلِّ إنسان. تضمَّن المؤلَّف 12 كتابًا (أو: مقالاً). في 2-6، النظرة العقائديّة. في 7-11، النظرة الخلقيّة. أمّا البداية (المقال الأوَّل) فيتطرَّق إلى الإيمان. والمقال الثاني عشر هو الخاتمة، فيشدِّد على العمليّ تجاه النظريّ أو التأمُّليّ.

"إن وُجد علاجٌ طبِّيٌّ للجسد، فهناك أيضًا علاجٌ للنفس. فالاثنان عرضة لعدد من الشقاوات، اللاإراديّة للجسد والإراديّة دائمًا للنفس. والله الذي عرف هذا جيِّدًا لأنَّه كلّيّ الحكمة وخالق النفوس والأجساد والكون، أعطى هاتين الطبيعتين الأدوية الملائمة. كما أسَّس الأطبّاء المتخصِّصين، بعضهم للأجساد وبعضهم للنفسِ، وأمرهم بأن يحاربوا الأمراض ويتغلَّبوا عليها" (حاشية 9، ص 104).

تلك كانت بداية الكتاب (أو المقال الأوَّل). أمّا الخاتمة، فجاءت في الكتاب الثاني عشر. "لا يكفي أن نعرف ما يجب أن نفكِّر عن الإله، بل يجب أيضًا أن ننظِّم حياتنا بحسب شرائعه. فالذين يدرسون الرسم... لا يطلبون أن يتعلَّموا فقط كي يعرفوا، بل ليحقِّقوا بعض الشيء بأيديهم، فيدلُّوا بأعمالهم أنَّهم اقتدوا بمعلِّميهم. وهكذا، فالذين يحبّون الديانة لا يتوقَّفون عند دراسة علم الله وعلم الطبيعة. بل يجب أيضًا أن يدرسوا ويتعمَّقوا في شرائع الفضيلة العمليّة..." (حاشية 9، ص 419-420).

أمّا التصميم فجاء كما يلي: المبدأ الأوَّل: العالم المخلوق. العالم الروحيّ بالملائكة والشياطين. العالم المادّيّ. الإنسان مصنوع على صورة الله، نفسًا وجسدًا. العناية الإلهيّة التي تشرح العلاقات بين الله والخليقة (كتاب 2-6).

والكتب 7-11: الذبائح. إكرام الشهداء. الشرائع. نبوءات صادقة ونبوءات كاذبة، النهاية والدينونة. محلّ الذبائح الخارجيّة، هي الذبيحة الباطنيّة لقلب نقيّ. وقاعدة الحياة لا نجدها في أقوال الوثنيّة الخادعة، بل في الكتب المقدَّسة التي هي كلام الله.

* عشر وعظات حول العناية الإلهيّة (الآباء اليونان 83: 556-773)[63]. هي تقريبًا كلُّ ما بقي لنا من نشاط تيودوريه الخطابيّ، الذي كان كبيرًا على ما تقول الرسائل 83، 90، 125، 146. العظات الخمس الأولى تبرهن عن العناية في النظام الطبيعيّ. والخمس الأخرى تنطلق من النظام الخلقيّ والاجتماعيّ. وتكرَّست العاشرة للكلام عن التجسُّد، الذي هو البرهان الساميّ لحبِّ الله للبشر. هذا ما يجلعنا في إطار الكرستولوجيا أو الكلام عن يسوع المسيح.

* ونذكر أيضًا ما سبق وذكرناه في مجال العقيدة والجدال مع العالم المونوفيسيّ: المتسوِّل أو الشحّاذ[64]. هو أهمُّ كتاب لتيودوريه من أجل معرفة تعليمه الكرستولوجيّ.

* وأخيرًا الرسائل[65]. في القرن الرابع عشر قال نيقوفور كالستس[66] أنَّه قرأ 500 رسالة من أسقف قورش. ولكن حُفظت لنا فقط 232 رسالة وهي تتوزَّع كما يلي. (1) مجموعة أولى[67] جاءت في ثلاثة مخطوطات. ثمَّ إنَّ الرسالة 83 المرسلة إلى ديوسقور، بطريرك الإسكندريّة، وُجدت في مخطوطات أخرى. (2) 47 رسالة نُشرت أوَّل ما نُشرت سنة 1885 انطلاقًا من مخطوط واحد[68]، وُجد سنة 1881 في دير مار يوحنّا الإنجيليّ في بطمس. (3) 36 رسالة وُجدت في نصوص المجامع، تعود كلُّها إلى سنة 431-437. أربع منها تعود إلى الأعمال اليونانيّة (في المجامع)[69]، 33 في ترجمة لاتينيّة[70]. (4) رسالتان. الأولى، إلى أبونديوس أسقف كوما[71]. ورسالة إلى يوحنّا أسقف إيجيه[72]. وجَّه تيودوريه رسائله إلى 115 شخصًا، فعرَّفتنا إلى أمور تاريخيّة، وإلى شخصيّة تيودوريه وإلى تعليمه حول يسوع المسيح[73].

 

2- طريقة التفسير عند تيودوريه

أ- نظرة عامّة

شكَّلت التفاسير في مؤلَّفات تيودوريه عملاً كبيرًا جدًا. فاشتهر كاتبها بأنَّه أكبر مفسِّر في مدرسة أنطاكية، بل في الحقبة الآبائيّة كلِّها[74]. ووردت آثار تيودوريه في السلسلات فحلَّت في المكان الأوَّل، وهذا ما يدلُّ على المركز الذي ينعم به. مثل هذه الشعبيّة تجد أساسها في مجموعة من الصفات أقرَّ بها له الكثيرون: صرامة في النهج التفسيريّ، جدّيّة في تقديم المعلومات، قيمة كبيرة للشروح، الاهتمام بالاعتداد والإيجاز، كلُّ هذا جعل الآتين بعده يحتفظون بآثاره.

ونطرح نقطتين اثنتين. ما هي غاية التفسير؟ وما هو نهج التفسير؟ نجيب هنا على السؤال الأوَّل، ونتوسَّع مطوَّلاً في النقطة الثانية.

ثلاثة أسباب رئيسيّة تفهمنا اهتمام تيودوريه بتفسير الكتب المقدَّسة. الأوَّل: طلب الأصدقاءُ وألحُّوا. فلبّى طلبهم. والهدف، اقتناء فهم أفضل للنصوص المقدَّسة. هذا ما نجده في مقدِّمات التفاسير. الثاني، وعى تيودوريه في العمق واجبه كراعٍ، فرضت عليه شريعةُ الله بأن يتيح للمسيحيّين بأن يعمِّقوا إيمانهم فيتعرَّفوا إلى الكتب المقدَّسة[75]. ونقرأ هنا مقدِّمة تفسير أشعيا:

لو توقَّفتُ عند عُريي، لمضيتُ إلى الآخرين أطلب طعامي،. ولكن بالرغم من عرْيهم، أعرف أنَّ أناسًا عديدين يأخذون ممّا لهم ليقاسموه، فيوافق الديّان العادل مقصدهم ويقيس عليه الأجر. وأنا بدوري أحاول أن أعبر الحدود التي يفرضها عليَّ العريُ. فأقاسم الفتات الذي تسلَّمتُه مع إخوتي في الإيمان[76].

والسبب الثالث والأهمّ، هو الاعتقاد لدى تيودوريه بأنَّ التفسير الصحيح للكتاب المقدَّس، يحمل البراهين المفيدة من أجل الحرب على الهرطقات والدفاع عن الإيمان القويم. مرَّة واحدة تحدَّث عن ساباليوس[77] حيث نظرته إلى الله قريبة من نظرة اليهود، وعن الماقيدونيّين الذين يرفضون لاهوت الروح القدس. ولكن هجوم تيودوريه يعود كلُّه إلى الردِّ على الأريوسيّة. قال تيودوريه موردًا أش 48: 16:

والآن، أرسلني الربُّ، كما روحُه. هو النبيّ يتكلَّم هكذا. قال: لا أتكلَّم من عندي، بل لأنَّ ربَّ الكون والروح قد أرسلاني فبيَّن لنا بوضوح هنا شخصًا آخر بجانب شخص الله، هو شخص الروح القدس. وهكذا يردُّ على اليهود وعلى مرض ساباليوس... يعلِّم بالضرورة صفات الأقانيم: تارة صفة الإبن وصفة الآب، وطورًا صفة الآب وصفة الروح القدس. فيقول عن الإبن والآب: "لأنَّ الله هو فيك، وأن لا إله آخر سواك". وعن الآب والروح القدس يقول: "الربُّ أرسلني وروحُه".[78]

وفي شرح أش 26: 16-19، قال تيودوريه:

ولدْنا روحَ خلاص، الروح الذي صنعتَ على الأرض، أي الذي وهبت للأرض". هو ما خلق الروح على الأرض، ولكن بواسطة الروح حقَّق الخلاص على الأرض وإن عارض خصوم الروح القدس هذا التفسير، فليقولوا إنَّه بواسطة الرسل نال نعمة أن يعمل على الأرض عمل الخلق: ذاك هو تعليم النصِّ النبويّ. في أيِّ حال، من الواضح أنَّه لا يقول إنَّ الروحَ وُلد على الأرض، بل إنّ الخلاص الذي تمَّ بواسطة الروح مُنح للبشر على الأرض[79].

اعتاد تيودوريه أن يذكر أريوس وأونوميوس معًا. "أحببنا سلطانك المطلق. يا ليتنا لا نخسر عنايتك. بما أنّنا لا نقرُّ بإله آخر سواك. هذه كلمات تردُّ ردًّا كاملاً على جنون أريوس وأونوميوس: كيف يستطيعون أن يقولوا: لا نعرف آخر فيعطون للإبن اسم "الإله المخلوق". أمّا نحن الذين نعلن وحدة الجوهر في الثالوث، فنؤكِّد الحقيقة حين نقول: "خارجًا عنك لا نعرف آخر"[80].

ويقرأ تيودوريه أش 43: 10-11 ليتحدَّث عن الإله الواحد وعن المخلِّص (الحاشية السابقة، ص 458-459) فيقول:

"ما كان قبلي إله، وبعدي لا يكون". أنا الذي أعطيتُ العهد القديم. وأنا أيضًا الذي أعطيتُ العهد الجديد. أنا الذي أجريتُ المعجزات في مصر. وأنا الذي أخلِّصكم من عبوديّة البابلونيّين. "أنا هو. أنا هو إلهك، وخارجًا عنّي لن يكون مخلِّص". هذا أيضًا ما يُعلن اللاهوت الواحد. بما أنَّ المسيح معلِّمنا دُعيَ المخلِّص في الكتاب الإلهي، أظنُّ أنَّ المتشيِّعين لأريوس وأونوميوس يوافقون: فإن لم يكن من يخلِّص خارجًا عنه، وإن دُعيَ المسيح أيضًا مخلِّصًا، فمن الواضح أنَّه يشارك في هذه الطبيعة. ولكنَّه إن كان يشارك حسب قول المجدِّفين، فليس هو المخلِّص، حسب قول النبوءة. ولكن إن كان مخلِّصًا فهو يشارك في الجوهر الواحد الذي له وحده أن يخلِّص.

تلك طريقة تيودوريه في الدفاع والهجوم مع الأريوسيّين، ونحن نقرأ في الخطِّ عينه (الحاشية السابقة، ص 468-470) شرحًا حول وحدة الله، في أش 44: 6:

هذا ما يقول الربُّ ملك إسرائيل ومخلِّصه، الإله الصباؤوت. أنا الأوَّل والآخر، وخارجًا عنّي لا إله. إن كان خارجًا عنه لا إله، وإن لم يكن الإبن مساويًا في الجوهر[81]، حسب تجديف أريوس وأونوميوس، فكيف يدعونه الله؟ ولكن إن كان الله، وإن كان صحيحًا النصُّ النبويّ  الذي يقول بوضوح إنَّ لا إله آخر، فواحد هو لاهوت الثالوث الأقدس، وإن لم يشاؤوا ذلك.

في القرن الرابع كان جدال حول موقع الإبن في قلب الثالوث. أمّا في القرن الخامس، فصارت مسألة كرستولوجيّة: كيف نوفِّق بين وحدة أقنوم المسيح مع الطبيعتين؟ أعلن الأنطاكيّون وشدَّدوا على التمييز بين طبيعتين تامَّتين في المسيح، الطبيعة الإلهيّة والطبيعة البشريّة. وتعقَّدت المسألة يوم صار نسطور بطريرك القسطنطينيَّة فدافع عن الديوفيسيَّة (في طبيعتين) الأنطاكيّة بشكل لا يدلُّ على الفطنة، فرفض لمريم العذراء لقب تيوتوكس، والدة الله. فتلقَّف كيرلُّس، بطريرك الإسكندريّة، المناسبة ليعلن عبارته الشهيرة: طبيعة واحدة للإله الكلمة المتجسِّدة[82]. وهكذا حدَّد الوحدة بين الطبيعتين.

وجاء فعل الوحدة سنة 433، فما أزال التحفُّظات بين مناصري كرستولوجيّة أنطاكية وكرستولوجيّة الإسكندريّة. لهذا نفهم أن يكون تيودوريه قد شعر، وهو يدوِّن شروحه في الحقبة التابعة لسنة 433، أنَّه يقدر أن يعمل من أجل الديوفيسيّة الأنطاكيّة، فيجعل تفسيره في خدمة الكرستولوجيّا. هنا نكتشف الهدف الأهمّ في محاولته. ففي الساعات القاسية من أسقفيّة تيودوريه، نراه يحيل الذين يتَّهمونه، إلى تفاسيره وإلى مؤلَّفاته العقائديّة، لكي يبرهن عن نقاوة معتقده: كيف يقولون عنه إنَّه يكرز بابنين[83]!

ب- الأسلوب التفسيريّ

نعالج هنا أمرين: النقد النصوصيّ والتأويل الكتابيّ

أوَّلاً: النقد النصوصيّ

إذا انطلقنا من تفسير أشعيا، نستطيع أن نكتشف أسلوب تيودوريه. فتأويل نبوءة يعني قبل كلِّ شيء شرح النصّ: النقد الأدبيّ، والمعارف المتنوِّعة في خدمة تفسيره. وإذ يُخضع تيودوريه تأويله لتفحُّص النصّ، فهو يختار طريقة الصرامة والعقل ليكتشف معنى النبوءة وبُعدها. ينطلق تيودوريه دائمًا من النصِّ اليونانيّ السبعينيّ، في نسخته الأنطاكيّة، لا اللوقيانيّة[84]، كما قيل مرارًا. هو الأساس لتفاسيره. ولكنَّه يذكر أيضًا ترجمات أكيلا[85] وتيودوسيون[86] وسيماك[87]، ويقابلها مع السبعينيّة التي يعتبرها ملهمة شأنها شأن النصِّ العبريّ (تفسير نش، الآباء اليونان 81: 120 أب). وقرأ تيودوريه أيضًا مخطوطات دُعيت "أنتيغرافا"، التي قدَّمت له بعض الاختلافات التي لا تخلو من الفائدة. وأخيرًا، بما أنَّه عرف السريانيَّة معرفة تامَّة، وهي لغة البيت، عاد إلى البسيطة واستخلص منها بعض "الدروس". إلاَّ أنَّ هذه الترجمات لا سلطة لها توازي سلطة السبعينيّة، وإن أقرَّ بالوضوح في هذه الترجمة أو تلك، فجعلها بجانب السبعينيّة. سلطة تلك الترجمات تبقى نسبيَّة ولا يمكن أن تكون المرجع الأساسيّ. أتراه قام بشغل عمليّ؟ بل نقول هو اختيار معقول لدى رجل همُّه الأوَّل رعائيّ[88].

دراسة الأساليب بدت واضحة. كيف عبَّر النبيّ عن فكره؟ بالسخرية (7: 140؛ 14: 206، 542)[89]، بالضحك (2: 125؛ 5: 443؛ 6: 574)، باللوم (12: 197)، بالرثاء. وقد يكون هناك التمنّي (7: 590) والنبوءة (10: 392) والأمر (15: 158).

وهناك صور بلاغيّة واضحة مثل الاستعارة والكناية والتشبيه والمثل. لا نتوقَّف عندها. ويتحدَّث عن التشخيص[90] مثلاً في 2: 584: صوَّر (أشعيا) لنا الموت بشكل وحش بحريّ، فمه كبير ومفتوح دائمًا، فيبتلع الموتى الذين يُرسَلون إليه ولا يتوقَّف. أو في 2: 251: "الموت الذي ليس بجوهر، بل عرض، يبدو مثل كائن موجود، مثل حيِّ، عاقل، يغضب على ملك بابل". أو في 7: 696: "أرانا المدينة نفسها وجعلها تقول: أنا كرمة حلوة، كرَّامُها الله. أنا مزهرة وجميلة بحيث يطمح الجميع بأن يمتلكوني". وحين يكون النصُّ اليونانيّ كنزًا للسريانيّة أو العبريّة، يدعو تيودوريه "إيد يوما" أو اصطلاح تعبيريّ. نقرأ مثلاً 2: 239-246: "العبارة، أجعل عليهم" تستعمَل في لغة خاصّة بالكتاب المقدَّس. فقد اعتاد الكتاب الإلهيّ أن يدعو قبول الله باسم يجعلنا نعتقد بعمله المباشر. فمن الواضح أنَّه ما اختارهم شخصيًّا لهذه المهمَّة، بل وافق مع أنَّه كان باستطاعته أن يمنع، أن لا يوافق. ثمَّ إنَّ سيماك وأكيلا ترجما "جبّار" بـ "شجاع". وتيودوسيون بـ "قويّ". وأمّا لفظ ساحر، فالثلاثة اتَّفقوا وترجموه "العرّاف".

وفي 4: 212-222: "أمّا العبارة "فتح فمه وزقزق مثل الدوري"، فقد استعملها الكتاب بالنظر إلى طريقة تعبير عاديّة، مسيطرة لدى البشر. فقد اعتدنا أن نقول عن الذين يشعرون بخوف قويّ: "ما تجرَّأ وصرخ". قال سائر المفسِّرون: "ما تجرّأ وتمتم". في أيِّ حال، العبارة "فتح فمه وزقزق مثل الدوري" تعني في النهاية: ما تجرَّأ أحد أن يقاومني، بل ما من أحد يتجرّأ فيصرخ صراخًا مثل الدوري".

الصرف والنحو. يشرح تيودوريه لماذا صيغة الجمع حيث انتظرنا صيغة المفرد. "بما أنَّ الروح عينَه تكلَّم وبفم الرسول، فأضاف بحقّ: "بيوت يعقوب هي في شبكة، وفي هوَّة القائمون في أورشليم". قال: "البيوت"، لا "البيت"، بسبب قسمة المملكة، فدلَّ في الوقت عينه على بيت أفرائيم وبيت يهوذا: فهؤلاء وأولئك كان جدُّهم يعقوب. فالنبوءة تعلِّم أنَّ الذين آمنوا بالربّ، وجدوا فيه دليلاً واحدًا يقدر أن يسوّي صعوبات الطريق. أمّا اللامؤمنون في بيت يعقوب، فلبثُوا في أورشليم كما في شبكة أو في هوَّة. أو بحسب أكيلا "ليكونوا عائقًا" أو حسب مفسِّرين آخرين "عثرة". ففي أورشليم، الحرب التي تقودها رومة، سوف تدمِّرهم دمارًا وتأخذهم كما في شبكة"[91].

وهناك أمور أخرى، نكتفي بذكر واحد منها: لماذا صيغة المعلوم ساعة يجب أن يكون المجهول؟ "حتّى النهاية يثبتون في شرِّهم، وحتّى العقاب لا ينتج عندهم أيَّ تحوُّل: اجتياح مدنهم، دمار بيوتهم، خراب أرضهم كلِّها. كلُّ هذا لا ينتج عندهم أيَّة عاطفة ولا أيّ وعي لفسادهم. لمَّح هنا إلى الشرور التي ساهم بها الرومان. ثمَّ إنَّ الرسول الإلهيّ بدوره، قال كما قال النبيّ: "المجموعة المختارة نالت، أمّا الباقي فتصلَّب كما كُتب: أعطاهم الله روح خمول، وعيونًا لكي لا يروا، وآذانًا ليلا يسمعوا إلى الآن. ومع ذلك، يجب ألاّ نفهم الفعل في صيغة المعلوم: إذا كان الله هو من أعطاهم أن لا يروا وفرض عليهم ذلك، فكيف يقدر أن يطلب حسابًا؟ كيف يقدر أن يعاقب العاصين؟ إذًا كتب "أعطى" بدل "سمح". ترك الذين طبعهم بحيل إلى الجدال والخصام، تركهم أحرارًا في اتِّباع براهينهم، لأنَّه صنع الطبيعة البشريّة حرَّة"[92].

أسماء العلم والاشتقاقات. إنَّ تفسير أسماء العالم وإن جاء بشكل "نكتة" قد يساعد على فهم النصّ. تلك هي ملاحظات قصيرة لدى تيودوريه حول أسماء الأماكن والشعوب. مثلاً، "سومورون" (3: 308-310): "دعا مدينة السامرة "سومورون" باسم الجبل. ودُعيَ الحبل "سومورون" باسم مالكه الأوَّل، والجبل أعطى المدينة اسمها. أمّا السامرة فهي المدينة التي تُدعى اليوم سابَستي. إذًا قال إنَّ السامرة تملك على القبائل العشر، وإنَّ أبناء روميليوس على السامرة: لن أسمح لهم أن يتجاوزوا هذه الحدود."

ونقول الشيء عينه عن "أدوم" (6: 55-559؛ 10: 329-330)، وعن "سعير" (6: 565-568)، وعن الفلسطيّين (5: 379-384): "وضع هنا حدًّا للنبوءة ضدَّ بابل. وأقواله تصيب بعد ذلك "محبِّي الآخرين[93]" (ألوفيل) تدعو البيبليا العبريّة الفلسطيّين "ألوفيل"، لأنَّهم كانوا جيران اليهود، ولكن من نسل مختلف ودون رباط قرابة مع اليهود."

ويتكلَّم تيودوريه عن "عمانوئيل" (3: 386-392): "بعد أن تنبَّأ عن الحبل البتوليّ والولادة العجيبة، فأضاف أيضًا الاسم: دعا المولود الجديد عمانوئيل. هذا الاسم يعني: الله معنا. الله الذي تجسَّد، الذي أخذ الطبيعة البشريّة، الله الذي اتَّحد بها، شكل الله وشكل العبد الذي عرَّف عن نفسه في ابن وحيد".

الجغرافيا والتاريخ. واستعاد تيودوريه بالعلوم لكي يشرح النصوص: في الطبِّ والزراعة والفنون... وكان للجغرفيا حصَّة كبيرة. أين يقع هذا البلد؟ الموآبيّون والعمّونيّون يقيمون في عرابية. والحاضرة التي تُدعى اليوم فيلدلفيه، وهي حاضرة جميلة في عرابية، تُدعى اليوم في لغة البلاد: عمّان (4: 547-550). ونقرأ في 13: 112-114: "سمّى الملوك بحسب الموقع الجغرافيّ فبابل هي في شمال أورشليم، ومصر في جهة الجنوب". وفي 15: 384-389: "أرانا بوضوح أقطار الأرض الأربعة: "بالفرس" الشرق. بالبحر الغرب. بالشمال في شكل واضح، وبالجنوب في شكل مُلغَز. فالمناطق الجنوبيّة مجهولة بالنسبة إلينا، لأنّنا بالأحرى قريبون من المناطق الشماليّة."

وأين يقع هذا الجبل؟ تحدَّثنا عن جبل السامرة (3: 308-310). "قال هناك جبل في شمال أرض الأشوريّين والمادايّين، يفصل الأمم الأسكوتيّة، وهو أعلى من جميع الجبال التي في العالم" (5: 291-293. قد يكون جبل القوقاز). ونقرأ في 8: 390-392: "يدعو الأمم "لبنان" بسبب شرِّهم السابق، لأنَّ الجبل المشار إليه لا يخصُّ اليهود، بل الأمم. ومن جهة أخرى يدعو الكرمل "شرمل". هو جبل خصب جدًّا ومثمر، واقع في أرض إسرائيل. إذًا يعلِّم نمطيًّا التبدُّل الذي قلب وضع الأمم بالنسبة إلى وضع اليهود. قال: يُعطى لبنان أي للأمم، وفرة الكرمل أي اليهود. أمّا الكرمل، أي اليهود، فيصبح غابة عقيمة. ونحن نرى حقيقة النبوءة: هم يشبهون الغابة بالعدد كما بالعقم".

ومع الجغرافيا، التاريخ الذي يحتلُّ مكانًا مميَّزًا في هذا التفسير. فنصُّ أشعيا يروي الأمور التاريخيّة، ولاسيّما في قسمه الأوَّل. ثمَّ إنَّ تيودوريه أراد أن يؤسِّس النبوءة على التاريخ. فهو في تفسيره يعود مرارًا إلى التاريخ، ولكن في إشارات مبعثرة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالنصِّ النبويّ.

نذكر هنا توسُّعات بالنسبة إلى خطيئة عزيّا (3: 8-13) أو ملك آحاز (3: 222-253)، وهي في الواقع تورد بإيجاز 2أخ 26: 1ي؛ 28: 1-18. كما نذكر تاريخ أورشليم، منذ حصارها على يد وسباسيان حتّى تأسيس أياليا كابيتولينا[94] في أيّام هدريان (3: 198-211). وترد مراحل الاحتلال الأشوريّ (3: 302-306؛ 4: 269-272)، وحملات نبوخذ نصَّر على أورشليم (8: 458-487؛ 16: 385-389)، والحكم الفارسيّ مع كورش وخلفائه (5: 43-59)، وإعادة بناء أورشليم والهيكل (20: 164-172)، وسيطرة الإمبراطوريّة الرومانيّة (2: 69-87).

عاد تيودوريه إلى التاريخ القديم، المعاصر لأشعيا: الأشوريّون مع تفلت فلاسَّر الثالث، وشلمنصَّر الخامس وسنحاريب. وتماهى خبر البابليّين مع نبوخذ نصَّر. والكلام عن الإمبراطوريّة الرومانيّة، يتحلَّق بشكل خاصّ حول شخص وسباسيان وسقوط أورشليم بيد تيطس.

والتاريخ الذي يعاصر تيودوريه. غابت مدن وبرزت مدن. وتبدَّلت أسماء مثل فيلدلفيه التي لبث السكّان يسمّونها عمّان (4: 548-550). وبدأ العرب يأتون إلى سورية باسم "سراكين"[95]. نقرأ في 5: 160-164: "والعرب لا يعبرون" (أش 13: 20). دعا عربًا أولئك الذين ندعوهم "سراكين": يأتون بتواتر إلى هذا الموضع من أجل التجارة: يأتون ببضاعة ضروريّة ويأخذون. بل الفلسطيّون أنفسهم يدعون السراكين عربًا". واليهود صاروا في زمن تيودوريه دخلاء، غرباء في أرض ليست أرضهم (1: 266). في الواقع، صاروا على هامش المجتمع (20: 396-397): "اسم "يهوديّ" وحده يحرِّك الكره والقرف".

وتاريخ الكنيسة في أيّام تيودوريه. بدت المسيحيّة وقد انتصرت على الوثنيّة ودُمِّر آخر معابدهم (8: 194-196) واستعملت الحجارة لبناء الكنائس (7: 171-175؛ المعالجة 8: 68-69). حلَّ إكرام الشهداء محلَّ إكرام الأصنام (10: 85-87؛ المعالجة ف 8). امتداد الكنيسة على مدِّ المسكونة (6: 175-176؛ 12: 623-626).

ثانيًا: التأويل الكتابيّ

لا نجد في أيِّ مكان من مؤلَّفات تيودوريه عرضًا عن نظريّته التأويليّة. غير أنّنا نكتشف إشارات عديدة تتيح لنا أن نكوِّن فكرة واضحة عن نظرته في هذا المجال. من جهة، أقرَّ تيودوريه بغموض في الكتب المقدَّسة، التي لا تكون في متناول الجميع، في شكل مباشر. ووظيفة المؤوِّل تقوم بأن يطرح شرحًا موافقًا لمعنى النصّ، وقريبًا من المؤمنين. هذا يفترض نفسًا تقيّة، وفمًا يستطيع أن يلج إلى معبد الروح (في نش، 81: 28أ) ولا يبلغ المفسِّر إلى هذا المستوى، إلاّ إذا منحه الله النعمة الضروريّة ليكتشف "السرّ" الذي لا يقدر العقل البشريّ أن يصل إليه.

ومن جهة ثانية، الكتاب المقدَّس هو كلام الله. هو عمل الروح. وبالتالي، لا نجد فيه أيَّ تناقض. وما نظنُّه تناقضات تبقى في الظاهر، وهي تُمحى حين ندخل إلى النصوص. وإلاّ تنكَّر الله لنفسه. وبما أنَّ الأسفار المقدَّسة كتاب واحد، فالعهد القديم لا ينفصل عن العهد الجديد. فالثاني هو تتمَّة الأوّل (في حزقيال 81: 1232ب). وسعى تيودوريه قبل كلِّ شيء، في أن يبحث في العهد القديم أنماطًا تعلن المسيح والملك المسيحانيّ.

مثل هذه النظرة تستبعد الأخذ بنهج واحد في الشرح، فتجعلنا نلجأ إلى ثلاثة أنماط من التفسير ممكنة: التفسير الحرفيّ أو التاريخيّ. التفسير الصوَريّ (المجازيّ) أو الخلقيّ، وهو يأتي مرارًا في شكل استعارة. التفسير التيبولوجيّ أو الأنماطيّ، الذي يسعى إلى كشف بُعد النص قبل فهمه المباشر. ففي أغلب الأحيان، يجب أن نثبت الهدف المسيحانيّ كما في العهد الجديد. في هذه الحالة الثالثة، لا ننكر أبدًا المعنى التاريخيّ، ولكن نعبر من الصورة إلى الحقيقة فننطلق من تفسير تاريخيّ فقط لنصل إلى تفسير بنفماتيّ، على ضوء الروح القدس. وهكذا يعارض تيودوريه تيودور المصيصيّ الذي لا يقبل بالطابع الروحيّ لنشيد الأناشيد (نش، المقدَّمة، 81، 29)، كما لا يقبل بالطابع المسيحانيّ بالكثير من المزامير (في المزامير، 80 860). وعبر تيودور، هاجم تيودوريه التفسير "المتهوِّد"، فدلَّ على استقلاليّة عقليّة في عالم التأويل.[96]

كلُّ هذا نجده موجزًا عند تيودوريه. قال: "حين ننظر إلى مجمل كتابات النبيّ، بعضها صافية[97] ومعناها واضح[98]. والبعض الآخر ترد في شكل صُوَريّ، متصوَّر، مجازيّ[99]، ويتطلَّب تفسيرًا". ونتوقَّف عند هذه الأنماط الثلاثة.

  • المعنى الحرفيّ أو التاريخيّ. احتلَّ هذا النمط من التفسير المكان الأكبر في التفسير. هنا نتذكَّر أنَّ الأنطاكيّين يهتمّون خاصّة بتثبيت المعنى الحرفيّ الذي يتيح التشديد على واقع النصِّ البيبليّ. وتيودوريه لجأ إلى الإسهاب في حالات عديدة، شأنه شأن سائر الآباء، فأراد أن يجعل النصَّ مفهومًا لقرّاء السبعينيّة في عصره: عبارات سامية، شرح الألفاظ في لغة مفهومة[100]. ويلجأ المفسِّر مرارًا إلى التاريخ بشكل خاصّ. لهذا يكون التفسير "حسب التاريخ"[101]. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، لا ندهش إن جعل تيودوريه لهذا المعنى الأولويّة. فهو ابن أنطاكية. والرغبة في شرح النصّ لا تفترق أبدًا عن السعي إلى تثبيت الواقع الحرفيّ والتاريخيّ. وبعد ذلك، يكون التفسير الآخر. قرأ تيودوريه أش 2: 2-3 ففسَّر: "يحمل هذا المقطع تفسرين، ونرى تكملة[102] كلِّ تفسير. فإن فهمنا أنَّ أورشليم هي جبل الله، نرى أنَّ إلى هناك يجري المؤمنون، ويجرون من كلِّ أقطار المسكونة[103]. ويصل أولئك الذين تقبَّلوا التعليم واستولوا على البركة التي أفرخت هنا. ثمَّ، إذا أكَّدنا أنَّ الكنائس المنتشرة في كلِّ مكان، على الأرض وعلى البحر، هي بيت الله، استنادًا إلى كلمات الرسول الإلهيّ: "بيته هو نحن". في هذه الحالة أيضًا، نستطيع أن نلاحظ حقيقة النبوءة: فكنيسة الله تحتلُّ موضعًا ساطعًا، فتترك الأمم كفرها الذي مَعكَ فيها سائدًا، لتقترب منها وتتقبَّل منها النور" (2: 32ي).
  • المعنى الصُوَريّ أو المجازيّ. ولكنَّ الحالات عديدة حيث يكون التفسير الحرفيّ مستحيلاً. مثلاً في 5: 9-13: "ارفعوا راية على جبل عالٍ". اعتقد كثيرون أنَّ المدينة موجودة على جبل يبدو مسطَّحًا. غير أنَّ الشهود العيان للأمكنة، لا يوافقون هذا التأكيد. إذًا، أظنُّ أنَّ "جبل" يُري بها، بابل السابق و"عالٍ" الانحدار الذي ستناله فيما بعد". وفي 5: 417-419: "ليست الأبواب، عاقلة وليست كائنات حيّة؛ إذًا "بالأبواب" يشير إلى الذين يقفون على الأبواب، ويتحسَّرون على وصول الشقاوات. و"بدخان آتٍ من الشمال". أراد أن يتكلَّم عن الأشوريّ: حين يصل لن يقاومه أحد، لأنَّ الخوف يقطع خطوط القتال".

قد يكون هناك تضارب مع الذوق السليم، مع التاريخ أو سائر العلوم. أو لا يكفي لكي يستنفد معنى النبوءة. هذا يرد حين يكون المعنى الحرفيّ فقيرًا (1: 326-327) أو باهتًا (6: 284-285). أو لا يليق بالله. "أنظروا جمال الأشياء المنظورة، موقعها، نظامها، تنوُّعها، أنا خلقت كلَّ هذا. نفهم "باليد"، كما يليق بالألوهة، لا عضوًا من أعضاء الجسد، بل قدرة الله الفاعلة" (14: 215-216).

  • المعنى الأنماطيّ. هذا المعنى يرتبط بوجهين من التفسير: تفسير بحسب المعنى الصُوَريّ، الذي يفرض تجاوز المعنى الذي أمامنا. وتفسير بحسب المعنى الحرفيّ أو التاريخيّ، الذي يفرض إقامة الواقع أو الشخص، كما في النصِّ النبويّ، قبل أن نعتبرهما "نمطًا"[104] لواقع آخر أو شخص آخر، يكتشفه المؤوِّل في العهد. غير أن شبهًا غامضًا لا يكفي لتحديد الصفة الأنماطيّة. يجب أن تكون علاقة وثيقة بين النمط وما يقابله[105]. ذاك كان موقف تيودور وديودور ويوحنّا الذهبيّ الفم (الآباء اليونان 51: 247؛ 53: 528-529)[106].

لا يقرّ تيودوريه بالشبه إلاّ إذا ثبَّت أنَّ النبوءة تحقَّقت مرَّتين[107]. فيجاوز التحقُّق الثاني، في شكل من الأشكال، التحقُّق الأوَّل، ويقدِّم وحده النبوءة في تمامها. لهذا يكون دور التاريخ كبيرًا في التفسير الأنماطيّ، لأنَّ كلَّ شيء يعود في النهاية إلى تعذُّر درجة تتمَّة النبوءة داخل العهد القديم: إذا تحقَّقت ملء التحقُّق، لن نتكلَّم بعد عن "صورة". وإن تحقَّقت جزئيًّا، يكون ضروريًّا اكتشاف نمط مقابل يُتمُّ النبوءة إتمامًا تامًّا، لأنَّ النبوءة لا يمكن أن تكون كاذبة[108] في الحالين، يكون القرار خاصًّا بالتاريخ.

دمَّر حزقيّا الأصنام. فقال تيودوريه: "هذا ما فعله العجيب حزقيّا... وما أتمَّه إلاَّ في أورشليم. أمّا المسيح معلِّمنا، فحرَّر العالم من ضلال الأصنام" (7: 763-767).

ونورد نصًّا أخيرًا يدلُّ على عقوق الشعب تجاه العناية الإلهيّة. قرأ تيودوريه 63: 11-12: أين هو ذاك الذي أخرج من الأرض راعي خرافه؟ أين هو ذاك الذي وضع عليهم روحه القدّوس؟ ذاك الذي أخرج بيمينه موسى؟ أعطى أكيلا الترجمة التالية: "أين هو ذاك الذي أخرجهم من البحر مع رعاة قطيعه؟" أمّا سيماك وتيودوسيون فكتبوا أيضًا "من البحر" لا "من الأرض". وهذا أيضًا ما وجدتُ في السبعينيّة في نشرة الهكسبلة. إذًا، أشار النصُّ إلى الحدث الذي كان عبور البحر: عرف النبيّ مسبقًا أنَّهم سيُحرمون من العناية الإلهيّة، وأنَّ حسب النبوءة التي جُعلت لنا، سيتمزَّق سياجُ الكرم، وأنَّ البحر سينقلب، وأنَّ الكرم ستدوسه أرجل الجميع. فتذكَّر هذه الأحداث القديمة: حينئذٍ انقسم البحر قسمين، وصار قعرُ البحر له سهلاً تدوسه الجياد، ورأوا جميع أعدائهم غرقى في الماء. وابتهجوا أيضًا بنعمة النبوءة. وبواسطة هذه الأحداث، أرى الروحُ القدس مسبقًا، الأحداث الآتية. ومع ذلك، الرسول الإلهيّ لم يطبِّق هذا المقطع على المسيح معلِّمنا، على أنَّه حقيقة، بل أعاده بشكل صورة إلى الحقيقة: ساعة كان الفرعون والمصريّون يلاحقون الشعب، عبر الشعبُ البحر بقيادة موسى. وكما أنَّ إبليس والشياطين كانوا يقودون الحرب حطَّم المسيح معلِّمنا أبواب الموت وكان أوَّل من عبرها واجتذب أيضًا خلفه الطبيعة البشريّة كلَّها. لهذا طبَّق الرسول الإلهيّ هذه الكلمات على معلِّمنا المسيح فقال: "ذاك الذي أخرج من الأرض راعي الخراف العظيم" (عب 13: 20). موسى هو خادم ذاك الراعي وصورته: فهو الراعي الحقيقيّ "الذي بذل حياته من أجل خرافه" (يو 10: 11)[109].

 

3- تيودوريه وتفسير نبوءة أشعيا

أ- الاكتشاف

سنة 1899، نشر بابادوبولس كيراميوس في "مكتبة أورشليم" لائحة بالمخطوطات المحفوظة في القسطنطينيّة، في دير القبر المقدَّس[110]. وفي تلك "الجردة" مخطوط رقمه 17. نقرأ في الوريقة 96أ: تفسير تيودوريه أسقف قورش حول النبيّ أشعيا. والبداية: ومن الكاتالوغ نفسه[111]. وفي الوريقة 186أ منه أيضًا، تفسير حول النبيّ إرميا. احتلَّ تفسير أشعيا الوريقات 96-185 من المخطوط 17. وجاء بعده في الكودكس عينه بحسب إشارات بابادوبولس، تفسير تيودوريه لإرميا في الوريقة 186أ[112]. وفي الوريقة 315أ: منه أيضًا، تفسير حول النبيّ حزقيال[113]. جاءت بداية تفسير حزقيال موافقة لما نجد في الآباء اليونان (81: 808أ). ولكن اختلف الأمر بالنسبة إلى إرميا (81: 495أ)[114]. فيبقى مقابلة النصَّين لكي نرى إن كنّا أمام التفسير الواحد، أم أمام تفسيرين[115].

كلُّ ما سبق وعُرف من تفسير أشعيا، وُجد في السلسلات التأويليّة التي نُشرت سنة 1642، وأعيد نشرها سنة 1770 قبل أن تأخذ محلَّها في الآباء اليونان (81: 216-493)[116]. ولكن بقي تفسير أشعيا غائبًا في مؤلَّفات تيودوريه، ممّا جعل أحدهم يقول: "يجب أن نحزن كثيرًا لأنَّ تفسير أشعيا لم يصل إلينا كاملاً. فلا نمتلك سوى أجزاء ومقاطع[117].

ومع أنَّ مكتبة أورشليم تحدَّثت عن هذا التفسير، لم يهتمَّ أحدٌ لهذا الكلام، لأنَّ الجميع اعتبروا بشكل نهائيّ، أنَّ تفسير أشعيا ضاع. وسنة 1914، حين أراد رالف[118] أن يجمع مخطوطات العهد القديم في اليونانيّة، أورد ما قاله بابادوبولس وتساءل عن قيمة هذا الاكتشاف ولبث الباحثون يقولون: ضاع تفسير أشعيا[119]، ولا يصدِّقون أنَّ بابادوبولس عثر عليه مع تفسيري إرميا وحزقيال.

فكان لا بُدَّ من اكتشافٍ ثان. هذا ما قام به أوغوست مولي[120]. كُلِّف بأن يعدَّ نصَّ أشعيا ليُنشر في السبعينيّة، في غوتنغن. فسعى إلى معرفة النشرة اللوقيانيّة (حاشية  ) لدى الشرّاح الذين استعملوها. ولمّا كانت السلسلات لا تعطي سوى القليل من الفنِّ البيبليّ، ارتأى موسى سنة 1929 أن يصوِّر مخطوطات السبعينيّة في جبل أثوس، في أثينة، في بطمس، في القسطنطينيّة (دير القبر المقدَّس). وأمل أن يجد هناك التفسير الذي تحدَّث عنه بابادوبولس ورالف. وفي الواقع، وجد ضالَّته. ولكن بسبب التلف الذي أصاب الصوَر التي أخذها، استعاد بالسلسلات التفسيريّة، قبل أن ينال سنة 1931 الإذن ليدرس المخطوط بضعة أسابيع. وفي سنة 1932 نُشر تفسير تيودوريه[121].

ب- موقع التفسير

ويُطرح سؤال أوَّل: أين موقع تفسير أشعيا في عمل تيودوريه القورشيّ؟ جاء في آخر المؤلَّفات، وما جاء بعده سوى تفسير إرميا. فهو يقول في مقدِّمة المزامير إنَّه أراد أن يكون تفسير المزامير أوَّل أعماله التفسيريّة[122]. ولكنَّه ترك هذا المخطَّط موقَّتًا، لكي يقدِّم على التوالي تفاسير نشيد الأناشيد، دانيال (رجل الرغبات) حزقيال، الاثني عشر. قال في الآباء اليونان (80: 860أب):

أمّا الذين طلبوا منّا تفسير سائر الكتب الإلهيّة، لم يتيحوا لهذه الرغبة أن تتمَّ. بعضهم طلب منّا شرح نشيد الأناشيد. وآخرون رغبوا أن يعرفوا نبوءة رجل الرغبات. وآخرون أيضًا طلبوا أن تصبح شفّافة وواضحة إنباءات مغلَّفة بالغموض، إنباءات حزقيال الملهم، وآخرون تفسير الأنبياء الاثني عشر.

أمّا تفسير أشعيا فقدَّمه تيودوريه على أنَّه التفسير قبل الأخير حول الأنبياء.

وهكذا يختتم تفسير إرميا سلسلة هذه التفاسير، كما يقول تيودريه في خاتمة إر (الآباء اليونان 81: 805أب)، فيعود إلى تفسير حزقيال (في 665ب) وإلى تفسير أشعيا (620ج).

ويُطرَح سؤال ثانٍ: متى دُوِّن تفسير أشعيا؟ هنا نعود إلى الرسائل فنعرف التاريخ الأخير الذي فيه تمَّ التدوين. أربع مرّات قدَّم تيودوريه لمراسليه لائحة بمؤلَّفاته عن الكتاب المقدَّس[123]. تذكر الرسالتان 82، 113 التفاسير حول الأنبياء. وهدف تيودوريه، تفحّص هذه الكتابات ليرى مهاجموه إيمانه القويم. فكلُّ رسالة تقدِّم فترة من الصراع بينه وبين أوطيخا. اتِّهام الهراطقة (82)، عزلٌ بعد سينودس أفسس (113، 116)، عودة إلى مجمع خلقيدونية (146) في كانون الأوَّل سنة 448، ساعة دوَّن الرسالة 82، كان تيودوريه قد أنهى تفاسيره حول الأنبياء، ونشرها بين العامّة. مثلاً، نقرأ في الرسالة 82: "من يرغب يقدر أن يقرأ مؤلَّفاتي السابقة". إذًا، سنة 448، كانت هذه التفاسير كاملة.

وهل نستطيع أن نحدِّد بعد؟ في الرسالة 82 (توجَّهت إلى أوسابيوس، أسقف أنقيرة)، ميَّز تيودوريه ما كتب قبل أفسس (431) وما كتب منذ "اثنتي عشرة سنة". في الرسالة 113 (توجَّهت إلى البابا ليون، في أيلول – تشرين الأوَّل 449) جاء تحديدٌ آخر. ولكنَّ الغموض ما زال مسيطرًا.

والعودة إلى النصّ في حدِّ ذاته؟ هي تتيح لنا بعض المقاربة. فخلال الجدال التعليميّ بين أنطاكية والإسكندريّة، تطوَّرت اللغة الكرستولوجيّة لدى تيودوريه، بحيث نستطيع أن نحدِّد موقع مؤلَّفاته بالنسبة إلى أفسس، سنة 431[124]. منذ ذلك التاريخ، تخلّى تيودوريه عن عبارات محسوسة[125] للكلام عن الطبيعتين في المسيح، بسبب غموضها، هذا دون أن يتخلّى عن الكلام على الديوفيسيّة. فجميع المؤلَّفات التي غابت منها مثل هذه العبارات، تعود إلى ما بعد سنة 431. ذاك هو وضع التفاسير. وإذا اعتبرنا أنَّ العظات حول العناية الإلهيّة قيلت سنة 435، كما يتحدَّث عنها تفسير المزامير، فهذا التفسير وتفسير أشعيا جاءا بعد هذا التاريخ[126]. بهذا نستطيع القول إنَّ تفسير أشعيا جاء أقرب إلى سنة 447 منه إلى سنة 435[127].

ج- السابقون لتيودوريه

حين دوَّن تيودوريه تفسيره الأشعيائيّ، سبقه مفسِّرو من أنطاكية ومن الإسكندريّة.

أوَّلاً: أنطاكية

تيودور المصيصيّ: كرَّس لكلٍّ من الأنبياء الكبار مؤلَّفًا[128]. لم يبقَ من أشعيا سوى مقطعين (أش 10: 22-23)[129]. نحن نعرف الاتِّجاهات الكبيرة في تفسيره (نمتلك تفسير الاثني عشر، الآباء اليونان 66: 124-632) لكي نكوِّن فكرة عن تفسير أشعيا: المكان الأوَّل هو للتفسير الحرفيّ والتاريخيّ (داخل العهد القديم)، وفي التفسير الأنماطيّ، التيبّولوجيّ، تعرَّف إلى مسيحانيّة عدد قليل من النبوءات.

يوحنّا الذهبيّ الفم. بقيت لنا ستُّ عظات حول أشعيا (الآباء اليونان 56: 97-148)، وتفسير ناقص في التقليد اليونانيّ[130]. ولكن يبدو أنَّ التفسير الأرمنيّ احتفظ به كلِّه تقريبًا. فُسِّر بيد الآباء الميخاتير بين سنة 1880، فشرح 2: 2-21: 2؛ 28: 16؛ 30: 6-64: 10. نقلوه إلى اللاتينيّة سنة 1887. اهتمَّ الذهبيّ الفم بالمعنى الحرفيّ والتاريخيّ، كما لجأ إلى المعنى الصُوَريّ، متهرِّبًا من الأليغوريّا، شأنه شأن الأنطاكيّين.

ثانيًا: الإسكندريّة

أوريجان. ضاع تفسيره. ولكن قال فيه إيرونيمس (الآباء اللاتين 24: 21أ) إنَّه فسَّر النبوءة حتّى رؤية الحيوانات (أش 30: 6) في تفسير يقع في 30 جزءًا، مع ضياع الجزء 26.

ديديمس الأعمى. ضاع تفسيره. قال فيه إيرونيمس: قدَّم تفسير أش 40: 2 حتّى نهاية النبوءة، في 18 جزءًا. مع أنَّ إيرونيمس استعاد من هذين المفسِّرين في مؤلَّفه (الآباء اللاتين 24: 17-678) إلاّ أنَّه لامهما على الأليغوريّا.

أوسابيوس القيصريّ. عُرف تفسيره أوَّلاً في السلسلات. تحدَّث عنه إيرونيمس مرَّتين. في "الرجال المشهورين" (الآباء اللاتين 23: 726ب- 727ب). قال إنَّ التفسير جاء في عشرة كتب (= مقالات). وفي مقدِّمة تفسيره لأشعيا (24: 21أ) في 15 كتابًا. عُرفت عناصر جُمعت في الآباء اليونان (24: 85-526)[131] وأضيفت عناصر أخرى[132] إلى أن وجد مولي[133] النصَّ الكامل ونشره زيفلر سنة 1975[134]. كان حكم إيرونيمس قاسيًا على أوسابيوس: نسي مرّات وعده الأوَّل بأن يقدِّم تفسيرًا حرفيًّا وتاريخيًّا، فقط في أليغوريّة أوريجان (تفسير أشعيا، الكتاب 5، حول أش 18: 2؛ الآباء اللاتين 24: 179ب). ولكنَّ قراءة نصِّ أوسابيوس كاملاً تدعونا إلى أن نخفِّفَ من الحكم القاسي[135]. لا شكَّ في أنَّ أوسابيوس تأثَّر بأوريجان والمدرسة الإسكندريّة، ولكنَّه بقي في طريق الاعتدال، شأنُّه شأن الكبادوكيّين[136].

كيرلُّس الإسكندرانيّ. تفسير أشعيا (الآباء اليونان 70 كلّه. هو أطول من تفسير تيودوريه وجعل في خمسة كتب. بالنسبة إلى كيرلُّس، المعنى الروحيّ، هو الهدف. دون أن يفرض ذلك عليه اللجوء المنهجيّ إلى الأليغويّا. أما في مقدِّمة التفسير فدلَّ على إرادته بأن يعطي الأولويّة للمعنى الحرفيِّ والتاريخيّ[137].

ثالثًا: مراجع تيودوريه

هل نستطيع الآن أن نعرف دين تيودوريه لسابقيه؟ ما لمَّح تفسير أشعيا بشكل مباشر أو غير مباشر إلى التفاسير التي ذكرنا. ولكنَّ هذا لا يعني أنَّه لم يعرفها. فقد قال هو نفسه إنَّه رجع إلى مؤلَّفات سابقيه وأخذ منهم حاجته. هذا ما قاله في تفسير نش (81: 48ج) والأنبياء الاثني عشر (81: 1545ب) ومز (80: 860ج د).

لا شكَّ في أنَّ تيودوريه لم يقرأ مباشرة إيرونيمس، لأنَّه لم يكن يعرف اللاتينيّة. ولكنَّه يعطينا في تفسير نش لائحة بالأسماء التي عرفها مثل أوسابيوس القيصريّ، قبريانس القرطاجيّ، باسيليوس الكبير، غريغوريوس النيصيّ، غرغوريوس النازينزيّ، ديودور الطرسوسيّ، يوحنّا الذهبيّ الفم. هي مدارس أنطاكيّة والإسكندريّة وكبادوكيّة. وفي مقدِّمة مز، ابتعد عن أليغوريّا مفرطة كما عن حرفيّة تاريخيّة ضيِّقة[138]. هو يشير إلى مفسِّرين في أنطاكية والإسكندريّة. هذا يعني أنَّه قرأ مؤلَّفاتهم.

ندهش أن لا يكون تيودوريه أخذ شيئًا من الذهبيّ الفم، مع أنَّه كان معجَبًا به. كما أنّه ابتعد عن طريقة تيودور في التفسير. فتيودور لا يهتمُّ كثيرًا بالنبوءات المسيحانيّة المباشرة، ولا بالشرح التيبولوجيّ، الأنماطيّ، حيث كلُّ شيء يدلُّ على المسيح والكنيسة، كما هو الأمر مثلاً بالنسبة إلى أفرام السريانيّ. فتيودور يبحث داخل التاريخ اليهوديّ للعهد القديم، عن تتمَّة النبوءات. أمّا تيودوريه فيرفض مرارًا هذه الطريقة المتهوِّدة، ليترك المكان الواسع للنبوءات المسيحانيّة المباشرة أو اللامباشرة. ولكنَّه لا يدلُّ بشكل صريح عن معارضته له. يقول: بعضهم. نقرأ في 2: 46-48: "يُدهشني أولئك الذين يعاندون في فهم هذا المقطع بشكل آخر، ويظنّون أنَّ هذه الكلمات تُنبئ بالعودة من بابل". هو يعني تيودور.

ونقرأ في 6: 332-47: "وعابدا الربّ" الإمبراطوريّة الرومانيّة، حيث الخوف وضع حدًّا لكبرياء المصريّين وكشف أنَّهم شبيهون بالنساء... بعضهم قال: تدلُّ هذه الكلمات على أحداث حصلت في زمن سنحاريب... ولكن لا أظنُّ أنَّ الأمر هو هكذا... أظنُّ إذًا أنَّ النبيَّ يُنبئ بالمصريّين: بعد أن ابتعدوا عن الضلال، وتقبَّلوا تعليم الرسل، يخافون أمام أرض يهوذا، لأنَّ فيها وُلد مخلِّصُ العالم، وتألَّم الآلام الخلاصيّة، ولأن قدَّسها الصليب والقبر وموضع الصعود. ولهذا اليوم أيضًا، ينطلق إلى هذه المنطقة، المصريّون وسائر البشريّة".

بعضهم يعني تيودور. أمّا تيودوريه فيصل إلى المسيح وإلى الرسل وحين يقرأ تيودوريه أش 32: 1، يقول في 9: 350: "انطلاقًا من هنا، يبدِّل الموضوع لكي يقدِّم نبوءة أخرى مرتبطة بالأحداث، ويُنبئ بتجلِّي مخلِّصنا بحسب الجسد... يجب أن نفهم بلفظ "ملك" معلِّمنا المسيح، و"بالرؤساء" الرسل القدّيسين والذين ساروا في خطاهم وتسلَّموا مهمّة قيادة الكنائس. فعنهم قال المطوَّب أيضًا: "مكان آبائك وُلد لك أبناء: تقيمهم رؤساء على الأرض كلِّها (مز 44: 17).

وبعد أن يقرأ تيودوريه أش 32: 2 يواصل (في 9: 370-382): "الخبر في الأناجيل المقدَّسة يُثبت ذلك: تكلَّم إلى الجموع بالأمثال. ولكنَّه على حدة، فسَّر الأمثال لرسله. "يتجلّى في صهيون مثل نهر مجيد يجري في أرض عطشى" وأجد تثبيتًا لهذا في الأناجيل الإلهيّة، لأنَّ المخلِّص ذاته قال: "من آمن بي، بحسب قول الكتاب، تجري من جوفه أنهار، وأنهار ماء حيٍّ يقفز للحياة الأبديّة" (يو 7: 38). هذا الماء يُطفئ عطش العالم كلِّه، وبشكل خاصّ عطش صهيون "التي هي كنيسة الله الحيّ، عمود الكنيسة وسندها" (1تم 3: 15).

أوردتُ هذه النصوص[139] لأبيِّن الفرق الشاسع بين تيودوريه من جهة، وبين تيودور، بل الذهبيّ الفم (الذي يتكلَّم عن تحقُّق أوَّل ثمّ عن تحقِّق ثانٍ) من جهة أخرى، هنا تبرز أصالة تيودوريه الذي اتَّخذ خطًا وسطًا بين أنطاكية والإسكندريّة، فانطلق من المعنى التاريخيّ ليصل إلى النمط التيبولوجيّ[140].

 

الخاتمة

تلك كانت مسيرتنا مع تيودوريه القورشيّ[141]. بعد أن تعرَّفنا إلى السيرة وإلى المؤلَّفات، كانت دراسة سريعة حول طريقته في تفسير الكتب المقدَّسة. ما كان في أيدينا سوى تفسير أشعيا مع المغامرة التي فيها وصل إلينا. أخذنا النصوص العديدة. وكم نرجو في يوم من الأيّام أن يُنقَل هذا الكتاب لما فيه من أصالة في التأويل الكتابيّ. حاولوا أن يجعلوه وراء هذه المفسِّر أو ذاك، فوجدوا أنَّه يختلف عن الاثنين. قيل فيه إنَّه جمّاع. أخذ من مؤلَّف وآخر، ولكنَّهم ظلموه كما اعتادوا أن يظلموا كلَّ كبير. لهذا السبب، ما زالت آثاره محفوظة في مراجع قديمة، أقلَّه قي اللغة الفرنسيّة. فهي طويلة بحيث يخاف الباحث أن يغرف فيها. وبما أنّها تدافع عن موقف أنطاكية. تهرَّب منها محبّو الإسكندريّة. ففي النهاية بقي تيودوريه ذاك المحارب في حياته كما في مؤلَّفاته: دافع عن الطبيعتين في المسيح بحيث ظنَّ خصومه أنَّه يتحدَّث عن أقنومين. وإن هو شرح الكتب المقدَّسة في قلب هذا الصراع الكرستولوجيّ، فيبقى الكلام عن المسيح هو الهدف الأوَّل من تفاسيره. فمع النظرة البلاغيّة، والمرمى الرعائيّ، كانت قراءته للكتاب مدخلاً إلى اللاهوت في خطِّ أفسس وخلقيدونيّة، حيث كان له الدور الكبير، فما عاد السلام إلاّ حين وقَّع على مقرَّرات مجمع أفسس.

 


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM