االفصل الثالث والعشرون: تفسير سفر التكوين لأوسابيوس الحمصي

 

االفصل الثالث والعشرون: تفسير سفر التكوين لأوسابيوس الحمصي

ترك هذا الأسقف الذي كان تلميذ أوسابيوس القيصريّ(1) ومعلِّم نيميسيوس الحمصيّ(2) آراء متضاربة، ولاسيّما على مستوى فكره اللاهوتيّ، فاعتُبر نصف أريوسيّ أو من جماعة سابيليوس القائل بأقنوم واحد في الثالوث الأقدس(3). ولكنّنا نتوقَّف نحن على عمله التفسيريّ، ونقرأ بشكل خاصّ ما بقي من تفسير سفر التكوين في السلاسل التأويليّة(4). وقبل ذلك نتعرَف إلى حياة أوسابيوس الحمصيّ وأعماله.

أوَّلاً: حياته وآثاره

1- حياته

سُمِّي أوسابيوس الحمصيّ لأنَّه كان أسقف حمص، لكنَّه وُلد في الرها في أسروينا حوالى العام 300 م.، فكان بالتالي صاحب ثقافة سريانيّة قبل أن يتعلَّم اليونانيّة. نشأ في عائلة مسيحيّة من الأشراف الميسورين، وتلقّى في موطنه ثقافة يونانيّة كلاسيكيّة تركت فيه حبٌّا عميقًا للأدب اليونانيّ القديم. وفي الوقت عينه تربّى تربية مسيحيّة عميقة في المدرسة الأسقفيّة، فأقبل وهو فتى بعدُ على قراءة الأسفار المقدَّسة(5).

سنة 325م. تقريبًا، ذهب إلى فلسطين، فاستقبله أسقف بيت شان(6) بتروفيل الأريوسيّ، وتعمَّق معه في التأويل الاستعاريّ. لكنَّه تتلمذ بشكل خاصّ لأوسابيوس القيصريّ، فتعلَّم منه اللغات البيبليّة والنقد النصوصيّ وطوبوغرافيّة فلسطين، كما تزوَّد معرفة تاريخيّة متينة وواسعة. وبعد ثماني سنين، ذهب إلى الإسكندريّة يدرس الفلسفة المسيحيّة والرياضيّات وعلم الفلك. في سنة 335م، عاد إلى أنطاكية، فعمل في رعيّة من رعاياها مدبِّرًا ناجحًا وواعظًا بليغًا.

في ذلك الوقت، عُزل أوستاتيوس(7) عن كرسيّ أنطاكية، وحلَّ محلَّه أوفرونيوس. خاف أوسابيوس أن تُفرَض عليه الرسامةُ الكهنوتيّة، لهذا ذهب إلى الإسكندريّة كما قلنا ثمَّ عاد إلى أنطاكية وكان قرب فلاكيتُس، خلَف أوفرونيوس. وإبّان الأحداث التي وصلت بالكنيسة إلى مجمع كاتائيس في ربيع سنة 341م، دُعي ليكون أسقف الإسكندريّة موضع أتناسيوس(8) الذي عُزل. لكنَّه رفض الدعوة بعد أن لمس تعلُّق الشعب بأسقفه المعزول. عند ذلك عُيِّن أوسابيوس أسقفًا على حمص المدينة السوريّة التي كانت حينذاك عاصمة فينيقية الثانية.

منذ تنصيب أوسابيوس أسقفًا، ضايقه المؤمنون بسبب ميله إلى عمل التنجيم، فالتجأ إلى صديقه جورج، أسقف لاودكيّة، ومن هناك مضى إلى أنطاكية. فأعاده إلى حمص فلاكيتُس أسقف أنطاكية ونرسيس أسقف نيرونياس(9)، فاتُّهم عندذاك بالسابليّة، بحيث ترك كرسيَّه عزلاً أو تهرُّبًا(10). وكان له بفضل عمل التنجيم وصداقة أساقفة معارضين لنيقية، أن يرافق الإمبراطور كونستان في حملته على شابور ملك فارس، سنة 347م. أمّا دوره فكان »تسلية« الإمبراطور، وتشجيع الحاشية. لكنَّ السبب الرئيسيّ لمرافقة الإمبراطور، كان معرفته السريانيّة وبلاد فارس(11). وتقول عنه كرونيكة إيرونيمُس إنَّه أجرى معجزات(12).

بعد ذلك، ضاع أثر أوسابيوس. متى توفِّي؟ في أيّام كونستان كما يقول إيرونيمُس الذي يحدِّد موضع الدفن في أنطاكية. مهما يكن من أمر، لقد توفِّي أوسابيوس قبل سنة 360م، لأنَّ جورج، أسقف لاودكيّة، كتب (قبل موته) في صديقه تأبينًا كان الينبوع المباشر لما دوَّنه المؤرِّخان سقراط وسوزومين. ثمَّ إنّنا نجد أسقفًا جديدًا لحمص هو بولس، وقد وقَّع عريضة بولس الأنقيريّ في مجمع سلوقية(13).

وقبل أن نتحدَّث عن آثار أوسابيوس، نورد ما قاله عنه ناشر أجزائه التأويليّة وعظاته: »تأثَّر أوسابيوس الشابّ بتأثيرات من كلِّ نوع: فاهتماماته الأدبيّة والفلسفيّة واللاهوتيّة لم تكن هي هي في الرها وبيت شان وقيصريّة وأنطاكية والإسكندريّة. ترعرع هذا الشابّ في محيط هلِّنستي، لكن مسيحيّ، فتلقّاه أنصافُ الآريوسيّين بعد أن دفعته الظروف إليهم دفعًا. نقصه لاهوتٌ قويّ، لكنَّه اهتمَّ بالتاريخ والكتاب المقدَّس والتقليد. كان صاحبَ مواهب، فدفعه محيطُه الذي رأى فيه بلا شكّ القائد العتيد. لكنَّه ما أحبَّ القتال، بل كان من أهل الخوف والخجل، فتجنَّب التحزُّبات وتكرَّس لأبرشيَّته وكرازته. وساعة أكرمه كونستان الإمبراطور النصف آريوسيّ، لم يتَّخذ يومًا موقف القائد. أمّا كتاباته فتعكس شخصًا هلِّينيٌّا (تثقَّف بالثقافة اليونانيّة) وبيبليٌّا خجولاً، وخطيبًا عالمًا وحكيمًا. وفي النهاية خانه الحظّ فاختفى ساعة الحزب المتوسِّط اقترب من النيقاويّين«(14).

 

2- آثاره

لم يكن أوسابيوس ذلك الأسقف الناجح، لكنَّه اشتهر ببلاغته وفصاحته. وهي شهرة لا تستند إلى واقع، لأنَّ ما تركه من آثار أدبيّة عبثت بها صروف الدهر.

هذا الأسقف الخجول الذي خاف الصعوبات وتجنَّب القتال، كان بحسب معاصريه رجلاً مثقَّفًا وبليغًا، يلذُّ للمرء الاستماعُ له. وقد جعله سوزومين بين الكتّاب المشهورين في عصره: مع تيطس البصريّ، وسرابيون التمويسيّ (تيماي الأمديد في مقاطعة طيبة، في مصر السفلى أو الدلتا)، وباسيل الأنقيريّ، وأودوكس الجرمانيّ، وأكاسيوس القيصريّ وكيرلُّس الأورشليميّ(15) وجعل إيرونيمُس كلاٌّ من يوحنّا فم الذهب وديودور الطرسوسيّ في خطِّه، من دون أن يقول إنَّ ديودور كان تلميذه(16). ذكر إبيفانوس عمله ضدَّ المانويّين(17). وأشار تيودوريه القورشيّ في مجموعة أخبار الهراطقة إلى أنَّه كان كاتبًا خصبًا وظريفًا، كما ظنَّ أنَّه كان من الهراطقة(18).

ماذا بقي لنا من آثار أوسابيوس؟ قال أوسابيوس القيصريّ عنه إنَّه ألَّف كتبًا عديدة منها مقال ضدَّ اليهود والوثنيّين وجماعة نوفاسيان. ثمَّ تفسير رسالة بولس إلى غلاطية، عظات حول الأناجيل، أسئلة حول العهد القديم، كتب ضدَّ المانويّين والمرقيونيّين. ماذا بقي من كلِّ الإرث الأدبيّ هذا؟ في التقليد المباشر (أي اليونانيّ)، بعض الأجزاء في السلاسل التأويليّة، أو في تيودوريه. يزاد على ذلك أجزاء في السريانيّة والأرمينّة. هذا في الشرق. وفي الغرب، وصلت بعض عظاته إلينا في اللاتينيّة(19).

أمّا نحن فنتوقَّف بشكل خاصّ على تفسيره الكتاب المقدّس. قال إيرونيمُس(20): إنَّ أوسابيوس ألَّف تفسيرًا للرسالة إلى أهل غلاطية في عشرة كتب. لكن لم يبقَ لنا من هذا العمل الضخم سوى 19 جزءًا في السلاسل التأويليّة. غير أ ن  إيرونيمُس لا يتحدَّث عن تفسيره أسفار العهد القديم التي كانت واسعة جدٌّا. فأجزاء التفسير الثلاثة والعشرون التي وصلت إلينا عن البنتاتوكس أو الأسفار الخمسة، هي من الوسع بحيث تتيح لنا أن ندرس ميزة أوسابيوس في النهج الذي اتَّبعه.

لكن قبل التحدُّث عن عمل أوسابيوس التفسيريّ، نقدِّم نصّ تفسير سفر التكوين كما نشره الباحث بويتيرت باللاتينيّة سنة1949(21).

 

ثانيًا: أجزاء من تفسير أوسابيوس سفرَ التكوين

1- تك 1: 17: يجب أن نتساءل إذا كان النيِّران في السماء يتحرَّكان في جرْيِهما تحت السماء، وقد فصلتهما مسافة عن السماء، أو كانا ثابتَين(22). أو هما في السماء كالمسافرين (يتنقَّلون) على الأرض. هناك مَن يظنُّ أنَّهما ثابتان في السماء، وأنَّ الشمس لا تجري، ولا القمر أيضًا. فإن كان الشخص وثنيٌّا، ينتبه إلى الشعراء، ليسمع هوميرُس(23) الذي يقول إنَّ الشمس تخرج من موج الأوقيانُس، تمرُّ في قلب السماء، ثمَّ تميل إلى الغرب. أمّا إن كان فيلسوفًا(24) يقوّي براهين العقل ويسرع في الاقتناع بما يرى، فلينظر إلى القمر الذي يأتي مرَّة كلَّ ثلاثين يومًا ، وإلى الثريّا التي تظهر مرَّة في السنة.

لكن إنَّ ظلَّ »النيِّران« جامدين، فحرَّكتهما طبيعةُ السماء، لن يكون الواحد أسرع من الآخر(25). وخارجًا عنهما، نرى كوكبًا آخر لا يغيب أبدًا، ساعة يظهر بعضها، في أثناء سنوات عديدة. فإذا كانت السماء تتحرَّك وتضمُّ (كواكب) جامدة، فما قلناه لا يحصل. فيبدو لبعضهم أنَّها تحت الجلد وأنّها تتحرَّك في الهواء. أمّا الكتاب فيريد أن تكون السماء جامدة لا متحرِّكة، وأن تتحرَّك الشمس والقمر. فيشوع قال: لتتوقَّف الشمس، لا السماء التي تحرِّكها(26)، والقمر(27)، وهكذا كان. وفي أيّام الملك حزقيّا، عادت الشمس أدراجها، لا السماء...(28) إذًا لم يثبَّت (النيِّران) في السماء، كما لا يَبتعدان عنها...

فماذا إذن؟ هما يتجاوزان (السماء) بشكل من الأشكال، لأنَّهما قريبان من السماء، ويلامسان سطح السماء لكي يُرسلا كلَّ أنوارهما على الأرض، لأنَّ لا مكان لهما نحو العلاء لكي يفعلا ذلك.

2- تك 2: 6: إدَّعى أحد اليهود أنَّ (النصّ) ما قال: »يخرج ينبوع من الأرض«. بل إنَّ »نوعًا من البخار أو الأثير(29) قد تجمَّع سميكًا«. وقد قيل: »إنَّ تصاعد البخار خرج من الأرض وغطّى وجهها«. قال(30): جاء البخار من الرطوبة أو بتدبير من الله. هذا ما لا أستطيع أن أقوله. أمّا فيلون اليهوديّ(31) فيقول: ربَّما كما أنَّ الحصان يعني كلَّ قوَّة خيل الملك، كذلك يعني الينبوع كلَّ عرق في الأرض يعطي كلَّ أنواع المياه العذبة بشكل مطر أو ينبوع. ويقول أيضًا: أحسن حين قال: لا الأرض غطّاها البخار، بل وجه الأرض الذي هو جزؤها الأفضل والرئيسيّ، والذي يستطيع أن يُعطي الثمر من دون الحاجة إلى معونة الينابيع.

3- تك 2: 8-9: هناك مَن يقول إنَّ الموضع الذي غُرس فيه الفردوس يُسمّى »عدن«. وآخرون يماهون بين عدن والفردوس، ويقولون إنَ الناقل أعطى النقل واللفظة المنقولة. ونتساءل إذا كان الفردوس قد غُرس بعد خلق الإنسان. ما قيل في الكتاب قد يعنيه، أو بالأحرى في اليوم الثالث مع سائر النبات. ثمَّة في السريانيّة النصّ التالي: »غرس الربُّ الفردوس في عدن منذ البداية«. وهناك مَن يقول إنَّ هذا لم يوجد في النصّ العبريّ(32).

إذن، قال عدد كبير إنَّه زُرع بعد ذلك. وأعلنوا أنَّ موسى حين قال إنَّ »الله غرس الفردوس وجعل فيه الإنسان الذي خلقه«، أوضح أنَّ الفردوس غُرس في ما بعد. وأضاف: وأولد الله(33) أيضًا من الأرض«. فهذا »أيضًا« يدلُّ على أنَّه صُنع بمعزل عمَّا صُحِّح »منذ البدء«.

4- تك 2: 9: ونتساءل إن كان من طبع الأشجار أن تعطي الحياة في حالة، وفي حالة أخرى تزرع معرفة الخير والشرّ. أو، هل يجب أن ننظر إلى شيء آخر؟ أن يكون من طبع شجر(34) »الحياة« أن يمنح الخلود لمَن يأكل منه، فهذا واضح لأنَّ آدم طُرد بعد أن تجاوز الوصيّة لئلاّ يحيا إلى الأبد إن أكلَ منه. لسنا هنا فقط أمام الحياة، لأنَّهم عاشوا ساعة لم يأكلوا منها، بل أمام الخلود. ولم يكن من طبع الشجرة الثانية معرفة المتناقضات. فحين أمروا بأن لا يأكلوا منها، هل عرفوا أم لم يعرفوا(35) أنَّ الأكل كان شرٌّا، والموت عقابًا للمتعدِّين (على الوصيّة)؟

فإن جهلوا ذلك، كانت الوصيّة نافلة، والموت في غير موضعه للذين تجاوزوا (الوصيّة) وهم يجهلون. أمّا إذا وعوا ذلك، »فالشجرة« كانت نافلة في نظر الذين عرفوا قبل أن يلمسوها، وكذلك كان نافلاً المنعُ من معرفة ما كانوا حقٌّا يعلمون. فإذا كانت »الشجرة« تتضمَّن المعرفة، من جهة كان الذي منعهم حاسدًا، ومن جهة ثانية كان المنع نافلاً. فوجب(36) أوَّلاً اقتناء المعرفة عبر الطعام، وهذا ما يُفسح مكانًا لحرِّيَّة الاختيار. وفي هذا الوقت يبقى تشريعُ منْعَ      الشرّ للذين يعرفون. كيف نفهم ذلك؟ سُمِّيت الشجرة كذلك انطلاقًا من واقع يجعلها مناسبة لممارسة الطاعة أو العصيان.

5- تك 3: 1-2: لنقل بوجود بعض العقل عند الحيوان(37)، ولكن لا بعقل يعقل أو يستطيع أن يستعمل الكلمة الملفوظة. إذن، يجب إقامة الرباط بذلك الذي يتكلَّم فيه، ومن أين (يتكلَّم) في الواقع، تكلَّم الشيطان من خلاله كما قال(38) في الإنجيل: »كان ذلك قاتل الناس منذ البداية«(39). لا بسبب هابيل وحسب. فالكتاب لا يقول إنَّه أزال هذا الأخير، كما لا يقول إنَّه كان باستطاعته أن يفعل ذلك، لو لم يسبق له فيجعل الإنسان مائتًا. فعبارة »قاتل الناس« تدلُّ على مؤامرة عامَّة على الجنس البشريّ. من هنا يأتي أنَّه تكلَّم على »وحش«(40) مع أنَّ الحيّة هي حيوان زاحف.

هناك مَن يقول إنَّه بسبب عقلها(41) الطبيعيّ، جعل منها أداة ملائمة، وأضاف لها الكلام الذي نقصها. هل كان باستطاعة الشيطان أن يفتح لها فمها من أجل كلمة، وأن يحوِّل لها طبعها؟ لكن هذا يختصُّ بالله! ولكن حين رآها(42) الله الذي يهيئ في حرِّيَّته المصارعَين للأكاليل الإراديّة، ورأى الشيطان يتفحَّص إن كان يستطيع أن يفعل، ثمَّ يتقدَّم لكي يخدعهما(43)، حين رأى الله وافق على ذلك مهيِّئًا خليقته لكي تتكلَّم.

ففي وضع أيّوب أيضًا، وافق على أن يُسلب (أيّوب) أمورًا كثيرة، ساعة كان الشيطان ينظر إن كان باستطاعته، في حال سُمح له، بأن يتَّهم أيُّوب بفضيلة كاذبة اقتناها بفضل غناه. ذاك هو بُعد الحوار في هذا المقطع حيث يحاول الكتاب أن يوضح الأمور فيضع المدلولات في شكل خطاب. ويجب أن نفكِّر كذلك في ما يتعلَّق بتجارب الربّ: فالربُّ عرف فكر ذاك (أي الشيطان)، فجاء إلى البرِّيَّة، وصار بإرادته جائعًا، ساعة ظنَّ الآخر أنَّه يستطيع أن يخدعه بالطعام كما خدع آدم. بما أنَّه يحسُّ بالجوع، وبالنظر أيضًا إلى فكر الشيطان، صعد إلى جناح الهيكل. وحتّى إن حمله إلى الجبل، كما يُقال، وأراه جميع ممالك الأرض، فقد ذهب إلى هناك طوعًا(44).

وهكذا الآن أيضًا. رأى الله أفكاره، ففتح فم الحيّة كما فتح فم أتان بلعام(45). غير أنَّ الله الذي رأى مسبقًا أنَّ آدم يرغب في أن يصير إلهًا، هدَّده مسبقًا بالموت، وبعد تجاوز الوصيّة عاقبه. هناك مَن يقول إنَّ الحيّة أرضت المرأة بسبب لطفها المفرط في كلِّ شيء، وبالطبع من أجل الاقتداء أيضًا.

6- تك 3: 24: وهذا أيضًا خاصٌّ بذاك الذي يناسب العقاب. فهذا يتمُّ حين يغضب الملك. وحين يفرض عقابًا على الساقطين(46). فهذا العقاب يكمن في أنَّ على الذي يستحقُّ العقاب أن يقضي بعض الوقت بعيدًا في مكانٍ ما، في الأماكن البرِّيَّة المقفرة. وحين يأمره بأن يكون في جوار المساكن الملكيّة، خارج مدينة الملك فقط(47). فهذا علامة حنان تجعله يأمل بالعودة(48).

في ما يخصُّ آدم، فقد أُعطي القربُ عقابًا. وهكذا حين يرى الفردوس، يتذكَّر أنَّه أُبعد عنه، ويجعل الأبناء يأملون. إذن، كانت رؤية سيف النار والكروبيم مفيدة إلى حين صار آدم خارجًا.

7- تك 4: 23: بدا لامكُ انطلاقًا ممّا قاله، وكأنَّه قتل رجلَين. نفهم بالرجل مَن كان متوسِّط العمر أو الشيخ. أمّا الفتى فهو أصغر سنٌّا.

8- تك 4: 26: لا نقرأ في النصِّ العبريِّ كذلك، بل: »ذاك ترجّى أن يستطيع الدعاء باسم الربّ الإله« أي أن يُسمّى إبن الله وإلهًا. فنسلُ شيت كانوا أبرارًا. لهذا حين أعطى الكتاب خبرًا متتابعًا، قال بعد ذلك: »وأبناء الله (أي الأبرار) رأوا بنات الناس«. فما كان من مزج بين أبناء شيت وأبناء قايين.

9- تك 5: 3: نأخذ بالنصّ التالي: »وعاش آدم 130 سنة، وولدَ شيتًا«. فالعبريُّ والسريانيُّ وسيماك يجعلون الأنساب دومًا في جوار المئة سنة. مثلاً، كُتب أنَّ آدم ولَد شيتًا وهو بعمر 230 سنة(49). وقال العبريّ: 130 سنة. وأضاف السنوات الأخرى إلى باقي حياة آدم. ثمَّ نتساءل عن متوشالح...

10- تك 6: 5-7: لا بدَّ أنَّه قبل الطوفان وبعده، أن يكون تعلَّق بالإنسان شرّ طبيعيّ، سواء أشهوةً كان أم أمرًا آخر: أعطانا الله (تلك الرغبة) لفائدتنا، ولكنّنا حوَّلناها إلى شرّ. قال العبريّ بدل »باهتمام«(50)، إنَّه كان من »الطبيعيّ« للإنسان أن »يظلَّ في الشرِّ منذ صباه«(51). هكذا فُهمت الجملة التالية: »إنَّ نموَّ قلب الإنسان يميل إلى الشرِّ منذ صباه«. إذًا، لا يقول »طبيعيّ«، بل »نموّ القلب«، أي إنَّ منطق الحرّيَّة يتمرَّغ في الشرّ، ويجد فيه فرحه منذ صباه. وفي أيِّ حال، كوِّن ليرغب في الممارسة الجنسيّة، لا من أجل الزنى، بل لينجب الأولاد، كما أنّ المغضب أعطي للحراسة لا للقساوة. وعبارتا »ندم« و»الربُّ غضب غضبًا« هما عبارتان بشريِّتان (كُتبتا) لأجلنا (فكيف يستطيع الذي يرى مسبقًا أن يندم)، فتفهماننا أنَّ الذين يتألَّمون إنَّما يتألَّمون بحقّ(52).

11- تك 6: 19-20: أمر الله نوحًا بأن يُدخل »من كلِّ الحيوانات اثنين، اثنين، ذكرًا وأنثى«. وفي وسط (النصّ قال): »من الحيوانات الطاهرة«، لا »اثنين«، بل »سبعة (من الحيوانات الطاهرة) واثنين اثنين (من الحيوانات) النجسة« . وفي نهاية الخبر، قال أيضًا: »أدخل نوح اثنين« من كلِّ (الحيوانات) ولم يعد يذكر السبعة. ليس هذا من قبيل المصادفة: فقد أخذ »اثنين من كلِّ جنس، ذكرًا وأنثى« حفاظًا على الجنس(53). وما زاد على ذلك (فقد أخذه)، ليستطيع أن يذبح لله حين يخرج (من السفينة). لهذا وُجدت »سبعة« (حيوانات) طاهرة. وبالتالي قدَّم (إلى الله) من كلِّ نوع، واستعمل هو بعضها في السفينة. فإن لم يكونوا قد أكلوا اللحم(54) قبل الطوفان، فكيف يكون »هابيل راعي خراف«؟ أتُراه ذبح ما هو رجس لديه؟

كيف سُمِّيت (الحيوانات) طاهرة ونجسة؟ لأنَّ الله أمر (نوحًا) في البدء بأن يُدخل »اثنين من كلِّ« (الحيوانات)، وبعد ذلك »سبعة من الطاهرة«. بعد ذلك، وحين أدخلها نوح كلَّها »إلى السفينة«، ما عاد يذكر الكتاب »سبعة«، بل »اثنين« بحسب كلام الربِّ الأوَّل. لقد تجرَّأ برديصان(55) فقال إنَّ هناك مَن قال »اثنين«، وآخر »سبعة«. بما أنَّ الكتاب العبريّ يسمِّي الله باسمَين، فقد جعل من ذلك إلهَين.

12- تك 8: 1: يجب أن نلاحظ تكرار الطوفان(56). فالمتتالية تبدو كما يلي: كان المطر »أربعين يومًا«. ثمَّ »تذكَّر الله نوحًا«. إنكشفت الينابيع المتفجِّرة. ثمَّ إنَّ المياه العلويّة نقصت حتّى »اليوم المئة وخمسين«. بما أنَّ المطر علّق، والغمر كشف، فهذا حصل بعد »أربعين يومًا«. حصل النقص بعد »مئة وخمسين يومًا، فأرسل الربُّ إلإله على الأرض ريحًا فاختفت المياه«.

13- تك 9: 13: وطُرح سؤال: هل كان ذلك طبيعيٌّا أن تُرى قوس قُزح؟ أم هل حصلت (هذه الظاهرة) ساعة قطع الله عهدًا بأن لا يرسل بعد(57) مطرًا على الأرض؟ لقد صُنعت قوسُ قزح حين قال الله ذلك. لكن إن وُجدت قوس قزح قبل الطوفان، كما يُقال، فكيف يمكن أن تسمّى »علامة«؟ فالكتاب يعني بلفظة »علامة« شيئًا غريبًا. نحن نعرف أنَّ قوس قزح تتكوَّن في فسحات الأمطار العاصفة، وذلك حين ترسل الشمس إشعاعاتها عبر الغيوم التي تحمل المطر. عند ذاك قال الله إنَّ هذا »علامة«، بأنَّه لن يكون طوفان في كلِّ مكان أي »على كلِّ الأرض«. فلن يأتي مطر عاصف هكذا في كلِّ مكان، بحيث لن يعود مكان لأشعَّة (الشمس).

14- تك 9: 23: ونتساءل: هل وُجدت الكرمة قبل الطوفان، أم نوح هو الذي استنبطها؟ هناك مَن يقول إنَّ هذه النصبة وُجدت، وإنَّه (أي نوح) استنبط الخمرة، لهذا شرب منها وهو يجهل خصائصها فسكر.

15- تك 11: 3: قالت السريانيّة والعبريّة: »إستعملوا الطين كالكلس«. وهذا معقول، لأنَّ لا فائدة للزفت من أجل البناء(58).

16- تك 11: 31-12: 5: نتساءل في هذا الموضع حيث قال الله، بحسب سفر التكوين، »إلى إبراهيم أن يخرج من حرّان«. كيف أكَّد إسطفانس أنَّ الله قال لإبراهيم، قبل أن يأتي إلى حرَّان، أن يخرج من أرض الكلدائيّين؟ ثانيًا، وإن كان قال ذلك من قبل، وأن يكون هو قد خرج، لماذا يقول إنَّ »تارح خرج ليعبر في أرض كنعان«، ساعة لم ينطلق من هناك، بل »مات في حرّان«؟ إذا كان قد توخّى أن يشارك إبراهيم وحده، لا ناحور، في وعد الأرض، فلماذا خرج لوط »معه«، ولماذا خرج تارح في النهاية من أرض الكلدائيّين؟

قال سفر التكوين: »جاء بهم من أرض الكلدائيّين لكي يوحِّههم إلى أرض كنعان«. فكأنَّ الله هيَّأ الأسس، لا لإبراهيم بعد موت أبيه، بل طرح التصاميم وقام بالبناء. إذن، بدأ إسطفانس مع مخطَّط الله. وبدأ سفر التكوين ساعة دُعي إبراهيم. بدأ الله فطرح التصاميم انطلاقًا من هجرة من أرض الكلدائيّين، لكي يبدِّلوا خيارهم ويصبحوا شبيهين بإبراهيم. لكن، حين لم يبدِّل الآخرون خيارهم، وُضع مخطَّط يقيمون بموجبه في حرّان ساعة يأمر إبراهيم بالانطلاق وحده.

نجد في الكتاب أنَّ لا ناحور ولا بتوئيل ولا لابان انتقلوا، حتّى حين سمعوا عن ازدهار إبراهيم في كنعان، وكيف كان الله يسافر معه. وحتّى حين استقبلوا يعقوب، لم يتبدَّلوا أيضًا عندما رأوا لوطًا الذي اقتدى بإبراهيم. لهذا، فكَّر لوط وسار معه(59)، وظلَّ الآخرون (حيث هم). وكما أنَّ الله أرسل زرع التقوى في مواضع تحيط بكنعان، لكي يضرم (قلب) الذين تعرَّفوا إلى الله ويعود بالذين تركوه، كذلك حصل ليوسف أيضًا في مصر، ولدانيال والفتية الثلاثة في بابل. إذن، نقلَ الله إبراهيم من أرض الكلدائيّين(60)، وبيَّن له أنَّه لا يمنع أولئك الذين رجعوا عن الكفر، أن يذهبوا معه، وأنَّه اختاره هو بسبب تقواه. فإذا كان إبراهيم قد أُرسِلَ بسبب التقوى وما فيها من فائدة، فكيف يذهب ناحور وهو عابد أوثان؟ يشوع يلوم تارح وناحور لأنَّهما عبدا الأوثان(61).

17- تك 12: 2: نحن مباركون حين نشارك في جسد المسيح. فجسده يأتي من إبراهيم.

18- تك 12: 17: ينتج من كلِّ هذا أنَّ الله ضرب(62) فرعون قبل أن يلمسها. من الواضح أنَّه كان عادلاً حين حفظها نقيّة من كلِّ نجاسة. ووافق على خوف إبراهيم ليُري عونه ويجعل البارَّ أكثر أيمانًا. ونتساءل: هل ضاجع فرعون سارة فوهب إبراهيمَ العطايا بسبب ذلك؟ وإن كان ما ضاجعها، فلِمَ لا يشير الكتاب إلى ذلك؟ حين نقرأ خبر أبيمالك(63)، نستطيع أن نرى أنَّ الله لم يسمح له. فذاك الذي لم يسمح للآخِر لم يسمح للأوَّل... في مواضع عديدة يترك الكتاب جانبًا عدَّة أمور، ويستعيدها في مواضع أخرى.

19- تك 14: 18: أمّا ساليم التي كان ملكيصادقُ ملكَها، فالكتاب لا يستبعد أن تكون أورشليم أو شكيم، لأنَّه قال إنَّ موقعها في وادي شوى، في »سهل الملك«.

20- تك 15: 8: ما كان إيمان إبراهيم ناقصًا. لكنَّه بحث عن الطريقة التي بها يرث (الأرض). هل تُرذل الأمم (الوثنيّة) شيئًا فشيئًا، أم يُرذَلون كلُّهم دفعة واحدة؟ وبدأ فصوَّر (الله) له بإيجاز فرائضَ الشريعة. مثلاً، »تنّور« النار الذي يحافظ على شكل المذبح. وهو بالنار يتقبَّل التقدمات، بواسطة نار يرسلها من فوق إلى تحت. وهو لا يحتاج إلى ذلك، والنار لم تدمِّر، بل هو يريد تعليمه.

ولِمَ مع الدخان؟ لأنَّ لا دخان لنا بدون حطب. بما أنَّه لم يكن هناك حتّى »الشمس«، فهذا ما يدلُّ على التقدمة في شكل من الأشكال. ولِمَ »عند المساء«؟ لأنَّ الواقع سيحصل بعد بعض الوقت. هذا ما يدلُّ أيضًا على المعاملة السيِّئة في مصر. فبعد النجاة عرفوا ذاك الذي نجّاهم، وعُرف (الله) في كلِّ الأرض بالعلامات التي يصنعها.

21- تك 15: 13-14: عديدون هم الذين يريدون أن يسيئوا. نجد نمطهم في (الكواسر) التي هجمت على التقادم الموضوعة هنا. فالمصريّون الذين عذَّبوا (بني إسرائيل) سيدفعون الثمن، لكن قليلاً.

22- تك 16: 1-4: ومن العدل أيضًا أن نعتبر هذا النقص في الغيرة لدى مَن هي في الوقت عينه السيِّدة والزوجة والقريبة: صحَّحت عقمها بواسطة أمَتَها التي قدَّمتها إلى زوجِها سَريَّةً. لكن مع ذلك، فما يُكتشف هو حبُّ الزوج حبٌّا عظيمًا. بما أنَّها اعتبرت نفسها عقيمة، ظنَّت أنَّه ليس من العدل أن تترك زوجها من دون أولاد، ففضَّلت(64) الفائدة لهذا البيت على طمأنينتها الخاصّة.

23- تك 16: 6: إنَّ الكلمة تثبت زواج الأتقياء بسبب أهل الشبق. فهؤلاء يهملون السيِّدات المحترمات من أجل سريّات جنُّوا بهنَّ جنونًا. لهذا قدَّم (الكتاب) البارّ على أنَّه الزوج الثابت لزوجته، لاسيّما حين تدعوه الظروف لكي يتمتَّع مع السريّة، ويقدِّم المرأة الشرعيّة كالمرأة الثابتة حين تدخل أخرى إلى جانبها. مع السريّة كانت علاقة حميمة على مستوى الجسد من أجل إنجاب الأولاد. مع الزوجة هو اتِّحاد النفوس الذي يختمه حبٌّ سماويّ.

24- تك 17: 14: هذا ما قال السريانيّ: »مَن لا يُختن يُقتل«. والعبريّ: من لا يختن (ابنه). فهذا حقّ. لأنَّه يجب أن لا يُعاقب الرضيع، بل الوالدان.

25- تك 18: 25: كلُّ واحد يدين الآخرين بحسب أعماله الخاصّة. هذا ما نقوله عن إبراهيم. كان بارٌّا فاعتبرهم أبرارًا. وأنت الذي يطلب إلى كلِّ إنسان أن يمارس البرّ، قد يلحقك العقاب. وقال آخرون: البرُّ يتمِّم(65).

26- تك 18:27: أنت ترى أنَّ الذي يتَّضع يُرفع، بحيث فهمَ أنَّه »تراب ورماد«. ما احتاج إلى أن يذكر أعماله البارّة ليجعل نفسه في أمان أمام الربّ. فقد كُرِّم إلى حدِّ قال له الله نفسه: »لا أخفي...«. فلولا القليل لدُعي إلى مجلس (الله).

27- تك 19: 4: أيُّ سرٍّ كبير! حتّى الشيخ بينهم لم يحفظ نفسه. وهذا ما جعل يوسيفُس يقول: »كان للملائكة منظر عجيب«.

28- تك 19: 21-22: وعد الله عبر الملاك أنَّ صوغر(66) لن تُدمَّر من أجل لوط. يسمِّيها الكتاب في موضع آخر بالع(67). أمّا السريانيّ فيسمّيها صُعُر وبالع أي الملتهمة. لهذا ابتُلع الناس الذين فيها، لأنَّه وجب أن تنجو المدينة من أجل لوط، وهم يُدمَّرون. لهذا سُمِّيت الملتهمة. ولأجل هذا أيضًا، نال لوط أيضًا منها طعامه على الجبل. وإليك ما يقول النصُّ العبريّ: »حتّى الملتهمة حول صوغر«، وكأنَّه تحدَّث عن مدن عديدة أقام فيها لوط(68).

29- تك 19: 30: »لأنَّه خاف أن يقيم في صوغر«، حتّى حين سمع ذلك، أي لا تُدمَّر من أجله. لذلك، هناك مَن يقول إنَّ سكّان صوغر لم يُفنوا بل ابتُلِعوا. لهذا سمِّيت »بالع« الذي ترجمته »الملتهمة«. وهذا ما يسند العمل الوقح الذي قامت به ابنتا لوط، لأنَّه ما بقي رجل في صوغر، وإلاَّ لما كان لوط هرب من هذا الموضع.

30- تك 19: 33: استسلم إلى الخمر، ولم يعلم بمؤامرة ابنتيه اللتين هدَّأتا رَوعه بالشراب المُسكِر.

31- تك 20: 16: لماذا (قال): »للذين معك«؟ لكي يدفعهما، هما أيضًا لتشهدا أمام الجميع على جهله، ولا تقولا العكس لئلاّ يُعتبر غير بارّ.

32- تك 21: 12: لماذا اتَّفق الله أيضًا مع سارة؟ كانت هاجر في الماضي شرّيرة، بحسب ما قيل. لهذا فإبراهيم(69) سمع لسارة، فطرد الولد مع أمِّه الشرّيرة. هل نقصت الإنسانيّةُ إبراهيمَ هذا البارّ حين لم يعطِ هاجر حمارًا، مع أنَّه كان له بهائم عديدة؟ هناك مَن يقول إنَّه عطف عليها كيلا تضطرَّ إلى أن تنشغل بالحمار. وقال آخرون: لأنَّ الربَّ يعتني بالولد. إذن، لِمَ طردها؟ لأنَّه أراد السلام مع امرأته. ثمَّ إنَّه ما كان ليطردها لو لم يقل الله له ذلك(70).

33- تك 21: 17: نستعمل طوعًا هذا القول المأثور: إنَّ الأولاد يصلُّون وكأنَّهم قد استُجيبوا.

34- تك 22: 9: يجب أن نشير إلى أنَّ إسحق قُدِّم حيث بُني الهيكل، بل بحقيقة أكبر، حيث صُلب إبن الله. بما أنَّ إبراهيم ما وفَّر ابنه الوحيد، كافأه الله خيرًا، وبه الجنس البشريّ. وبسببه »لم يوفِّر« ابنه الوحيد(71).

35- تك 22: 12: »الآن علمتُ« بدل »الآن بيَّنتَ«. كيف هو لا يعلم حين يقول: »لأنّي علمت أنَّ إبراهيم سيأمر عبيده بأن يحفظوا وصايا الربّ«؟(72)، ولكن كما أنَّ »علمتُ« يدلُّ عليه وكأنَّه يريد أن يتعلَّم، وفي الواقع يريدنا أن نتعلَّم(73) استقامة الله، هكذا يبيِّن الآن أنَّ الله يعرف انطلاقًا من ذلك. وحين يقول »الآن علمت« فهو يريد في الواقع أن نتعلَّم معرفة المحبّة تجاه الله، أي مثل »الآن« بيَّنها كما قال النصُّ العبريّ. فهو لا يُدخل جهل الله بل استقامة الحكم كما في هذا أيضًا: »نزل ليرى هل كلُّ شيء تمَّ بحسب صراخها«(74).

36- تك 22: 13: قالت السريانيَّة والعبرانيّة »معلّق« بدلاً من »معتقل«. أمّا »س ب ك« فيعني كبشًا بقرون مستقيمة يصعد على أوراق الشجرة ليدلَّ بشكل أكيد على الصليب. فحتّى كلمة »كبش« تدلُّ على ذلك بدقَّة. فهو لا يقول »حملاً صغيرًا«، بل كبشًا مثل الربِّ الكامل. وكما سمّى الصليب المقدَّس نبتة »سبك«، أي نبتة الغفران، هكذا سمّى حزقيال في النهاية »ماء الغفران«(75) الذي يرمز إلى العماد المقدٌّس. إذن، هناك ينبوعان لغفران الخطايا: الألم من أجل المسيح والمعموديّة(76).

37- تك 23: 3: وهكذا يبرز اندفاع، لا شهوة، عند إبراهيم. لم يقل إنَّه كان في حداد، بل استعدَّ لأنَّ يحدّ. أن يكون ذاك هو الوضع، فهذه الجملة تبيِّنه أيضًا: »وقام إبراهيم من أمام ميته«. وما زيدت عبارة: »وكان في حداد«.

38- تك 24: 2: قدَّم النصُّ اليونانيّ تفسيرًا أكثر احترامًا، لأنَّ العبريّة والسريانيّة تتحدَّثان عن العضو التناسليّ لدى الذكر. أمره بأن يضع هناك يده لكي يُقسم بالنظر إلى ختان عهد الله. في ما يخصُّ رجلاً بارٌّا وعفيفًا ليس من عضو نستحي منه. أمّا في ما يتعلَّق باللابارّ فحتّى النفس هي منجَّسة. لهذا قال: »أستحلفك«. أنت الذي أعطيتني مثل هذا الختم. فإبراهيم قد رأى أنَّ الاتِّحاد بالوثنيّين يغيظ الله كثيرًا.

39- تك 24: 3: علم إبراهيم أنَّ الله لعن الكنعانيّين وهيَّأهم للفناء. وعلم بعد ذلك لأنَّه نبيّ، أنَّ (الله) سوف يعطي شريعة، لا تأمر بأن لا »يأخذوا زوجة من بنات الكنعانيّين«، وبأن لا يعطوهم، لئلاّ تصير (المرأة) حجر عثار فيحتقروا الشريعة متذرِّعين بأنَّ ''إبراهيم اتَّخذ امرأة لدى الكنعانيّين« لإسحق.

40- تك 25: 22: أين تذهب لتسأل الله قولاً ينيرها إلاّ عند ملكيصادق(77).

41- تك 25: 26: ما أنبأها الله به حين ذهبت إلى ملكيصادق، قد صار الآن نبوءة ونموذجًا عمليٌّا. فيعقوب أمسك عقب أخيه، وهكذا دلَّ على أنَّه يتسلَّط عليه، فيكون له عبدًا وخادمًا. فالعقب هو الشيء الرئيسيّ في العمل وعلامة العبوديّة. هناك مَن يقول: بما أنَّه كان على يعقوب أن يمسكه بعقبه (ويقلبه)، وضع موسى(78) جزءًا من الحيلة لعيسو.

42- تك 26: 35: لم يقل النصُّ السريانيّ: »اللتان تخاصمتا«، بل »اللتان لم تتراضيا« بدلاً من »اللتان كانتا تصنعان كلَّ شيء في غضب وعداوة«. ففي العبريّة والسريانيّة نجد »اللتان كانتا تغضبان«.

43- تك 27: 23: نحن هنا بلا شكّ أمام ترتيب عناية الله، لأنَّ (إسحق) كان باستطاعته أن »يعرف« يعقوب بالصوت والملمس واختلاف المأكل، (ويميِّز) حيوان البرّ من الداجن.

44- تك 27: 27: أن تكون رائحته »راحة حقل غنيّ باركه الربّ«. إنَّ البركة تأتي من الربّ.

45- تك 27: 33: ذاك الذي قال: »يكون مباركًا« لم يرذل يعقوب، بل قبل مجهوده واندهش من ترتيب الله. وحين »بارك« يعقوب، ترك أيضًا بركات لنسله. أمّا عيسو فباركه وحده(79).

46- تك 27: 37: وكما أنَّه لم يكن حينذاك لإسحق أولاد آخرون، فمن الواضح أنَّه يدعو »إخوة« أولئك الذين من نسل عيسو.

47- تك 27: 40: كما تميَّز العرب أيضًا بالغزوات والحروب. هناك مَن يقول إنَّ يعقوب دعا »إخوةً« العمّونيّين والموآبيّين لأنَّهم خدموه.

48- تك 27: 42: قال: إن عدت سالمًا فهذا الحجر يكون لي بيت الله. هو ما بنى على الموضع بيت الله. بل وعد طوعًا أنَّه يعطي عشور أمواله، فعمل بالطبع قبل الشريعة المكتوبة ما تفرضه الشريعة(80).

49- تك 30: 39: إنَّ مسألة العصيّ ليست طبيعيّة لأنَّ لابان استخدمها. هذا ليس بطبيعيّ، لأنَّ الملاك ظهر ليعقوب وبيَّن له أنَّ هذا تمَّ »بتدخُّل« من الله.

50- تك 31: 7: قالت السريانيّة: »نعم. بدَّل أجري عشر مرّات« بدل »مرّات عديدة«. وتابع: قال لي: »إذا وُلدت مرقَّطة وسوداء تكون لك«. ثمَّ حين رأى أنَّها تتكاثر، قال أيضًا(81): »إن وُلدت بيضاء تكون لك«. فعشر مرّات بدَّل أجري«. وأشار أكيلا إلى الأعداد.

51- تك 32: 1: ظهرت جيوش الملائكة ليعقوب لكي يتشجَّع ولا يخاف من عيسو حين يرى أنَّ الله عونه.

52- تك 32: 24-29: الملاك تقاتل مع يعقوب، لا الله، كما ظنَّ يعقوب. لأنَّه قال عند موته: »الملاك الذي رعاني منذ صباي«(82). وهو نفسه عرف أنَّ ذاك كان الملاك وأنَّ الله فعل بواسطة الملاك. وقال: »أطلقْني«. وقال: »بالحقيقة لا أطلقك«(83). وباقي الكلمات. أما كان باستطاعته أن يمضي؟ لكنَّه أعطاه مناسبة لكي يتكلَّم. فقد أراد بلا شكّ أن يقول هذا، لكنَّه تردَّد. وحين تشجَّع قال: »لا أطلقك«.

53- تك 34: 3: بدلا من »أحبّها وتكلَّم بحسب قلب العذراء«. وبدل كلمات تعزية، كلَّمها إلى قلبها.

54- تك 39: 13-15: إقتدى أيضًا بجسد المسيح(84). أمسكت المرأة بيوسف، وأمسك الموت بالمخلِّص لفترة من الزمن. لكنَّ يوسف تجرَّد من ثيابه ورماها إلى تلك التي أرادت أن تتمتَّع بها. وفي قيامته، تجرَّد المخلِّص من ثيابه ورماها في القبر. أُلقي يوسف في السجن. والمسيح أيضًا جُعل في القبر. صار يوسف رئيس السجناء، والمسيح ملكًا على الأحياء والأموات.

وتأمَّل نصيحة نفسه الشريعة! كان الحُرّ في السجن، في العبوديّة. كان في السجن ذاك الذي اعتُبر بحسب الأحلام أهلاً للمُلك. ما أحسَّ بالشهوة كما يحسُّ بها إنسان، وما فكَّر مثل شخص لا يؤمن. ما قال: أين هي الأحلام؟ أين هي الصور الكاذبة؟ أين هي إنباءات الله؟ أعطاني مُلكًا وأنا أتحمَّل العبوديّة. وعدني بمُلك وأنا لا أتمتَّع حتّى بحريَّة لائقة: من الملك إلى العبوديّة. من الحرِّيَّة إلى السجن. لم يفكِّر في شيء من ذلك، بل انتظر ما سوف يأتي بصبر وما تخدَّر إيمانُه.

55- تك 47: 31: »ركع« أمام رمز الملكيّة. هنا آخرون يقولون إنَّ يعقوب احتفظ بالعصا لأنَّه شيخ. وحين أقسم يوسف، حنى رأسه وكأنَّه يركع. حين ينحني الرأس يجب أن يميل إلى »رأس العصا«. فهذا في النهاية هو ما كُتب.

56- تك 48: 13-14: أخذ يوسف بيُمناه إفرائيم، إفرائيم الأصغر، لكي يكون تحت يُسرى أبيه حين يقرِّبه. ومنسّى البكر بشماله لكي يكون تحت يمنى جدِّه الذي سيباركه. لكنَّ الجدَّ بدَّل يديه بشكل صليب، فوضع اليمنى على الأصغر وباركه. هناك مَن يقول إنَّ هذا كان بسبب سرِّ الصليب(85). ولكنَّه أجبر على ذلك، وصنع ما صنع، لأنَّ أفرائيم كان عن شماله، وكأنَّ يعقوب لا يستطيع أن يبدِّل طريقة وقوفه(86) ويغيِّر يده.

وهكذا جُعل إفرائيم قبل منسّى، لأنَّ السلطة الملكيّة على عشر قبائل قد نُصبت له، فنال شكيم التي وعد بها يعقوبُ يوسفَ، كما وجد نفسه محتلاٌّ يدين يُمنَيين، يد أبيه ويد جدِّه.

57- تك 48: 22: إذا كان يعقوب لم يُسرَّ بعمل لاوي وشمعون، فوبَّخهما حين حصل الحادث وحين باركهما، فكيف يقول: »أعطيكم شكيم كما الفاخرة التي أخذتها من يد الأموريّين بسيفي وقوسي«. هناك مَن يقول إنَّ ما حدث لم يرُق له. ولكن حين حدث ما حدث، فذاك يعود إليهم لأنَّ أبناءه تسلَّموا شكيم كما في سجن. وما يخصُّ الأبناء يخصُّ الأب. لكنَّه نسب إلى نفسه إفناء أهل شكيم.

وهناك مَن يقول »بالسيف والقوس« بشكل انتظر فيه، بعد إفناء أهل شكيم، أن يفنيه جيرانُه، كما يقول هو نفسه. لكنَّ الله حرَّك فيهم الخوف والرعدة لئلاّ يستبسلوا في ملاحقته. من جهة عمل لاوي وشمعون، كان يعقوب وأولاده معدِّين للإفناء. ومن جهة العون الإلهيّ، كانت له النجاة أيضًا. فالسبب الذي خلَّصه صار أيضًا السبب الذي جعله يسيطر على شكيم. فلو مات(87)، لما كان سيطر عليها(88). إذن، يليق به أن ينسب إفناء بني شكيم إلى عون الله، كما يسمّي هذا الاحتلال قوسه وسيفه.

58- تك 49: 4: يمكننا أن نلاحظ أيضًا من جهة أخرى أنَّ رأوبين نجا. فموسى قال: »ليَحيَ رأوبين ولا يمت«(89). قال هذا لأنَّ رأوبين لم يقبل باختطاف أخيه يوسف، كما أنَّه لم يشارك في قرار الإخوة بأن يبيعوه إلى مصر.

أي، لا تصعد بمياه تغلي، ولا تنتصب، ولا تترفَّع. فموسى حين رفع اللعنة، عارض يعقوب، لأنَّه يجب عدم البدء بلعنة أولى. لهذا قال كما في صلاة: »ليحيَ رأوبين«. وذكر من جهة ثانية أنَّ رأوبين سعى أيضًا لكي يحرِّر يوسف من يد إخوته.

59- تك 49: 8-19: سمّاه »الشبل« لأنَّه يخرج من قبيلة ملكيّة. والمسيح »بحسب الجسد« كان »من نسل داود«(90). فقد عرف أنَّ هذه القبيلة كُرِّمت وفُضِّلت على القبائل الأخرى، لأنَّها اعتُبرت أهلاً للامتيازات، إنْ ساعةَ أعطت الإشارة ببداية الحرب، أو ساعة خرجَتْ وحدها، من دون سائر الشعب، للقتال ضدَّ الأعداء. وزيد على حقٍّ بخصوصها: »يداك على رقبة« أعدائك. وقيل إنَّها »شبل« بسبب كرامة الرئيس والملك. وجدُّه الذي كان نبيٌّا، إذ أراد أن يكرمه، زاد على كرامة القبيلة فقال: »يا ابني، تخرج من برعم«. والجملة التي تقول: »حين تجثم تنام كأسد وكشبل«، تدلُّ على أنَّه في الوقت عينه كريم وشجاع، وأنَّه لا يخاف مهاجميه من الخارج، فيصبح غيابه خوفًا أو احتقارًا لأعدائه. وبما أنَّه كذلك في نظرهم، أو بالأحرى بما أنَّ القبيلة هي كذلك، قال: »مَن« سوف ينتصب؟

سيكون شخصًا عظيمًا وعجيبًا، شخصًا نادرًا، بحث يصعب تفحُّصه، ذاك الذي سيصعد على العرش ويزيح القبيلة المعيَّنة (للحكم) من كرامة الرئاسة. وهكذا لمَّح إلى قبيلة ستكون أمامه. فمَن يكون ذلك؟ سيجعلنا نعرفه في ما بعد. وحين أعلنَ أنَّ هذا سيكون انتظارَ الشعوب، عمَّن تنبَّأ بأنَّه لن يظهر وسط البشر قبل أن يغيب الأمير ويتبدَّل الرئيس وتُبعَد قبيلةُ يهوذا عن السلطة؟ مَن هو هذا؟ إنَّه مخلِّصنا وربُّنا يسوع المسيح الذي في ولادته (كما أُنبئ) غاب الرؤساء والقوّاد من بين الهيود الذين جُعلوا على رأس الشعب.

ثمَّ إنَّ قبيلة تخدم الآن أيضًا الرومان، بعد أن انحطَّت منذ قرن من كرامة القيادة والملك. فالرومان احتلُّوا مع آخرين، منذ ذلك الوقت وحتّى الآن، شعب اليهود. بهم أي بأوغسطس وبقرار مجلس الشيوخ الرومانيّ، فُرض هيرودس ملكًا، وهو أوَّل (ملك) يعود إلى أمَّة غريبة.

60- تك 49: 11: يبدو من هذه العبارات أنَّ النصّ يلمِّح بابن الأتان إلى مجموعة الرسل، وبالكرامة التي بها(91) يربط ابن الأتان بالقدرة الإلهيّة والخفيّة. ودائرة الكرامة المعطاة قد تكون تعليم كلمة الله الذي به ربط جحش الحمار. هذا الشعب الجديد الآتي من وسط الأمم صار فرعًا (أنتجه) الرسل.

أنظر إلى نفسك. قد نكون أمام تلميح سرّيّ إلى الآلام الصوفيّة التي فيها غسل ثوبه ورداءه، فهيَّأ لنا اغتسالاً فيه تتنظَّف الوساخة القديمة لدى الذين آمنوا به. فبالخمرة التي كانت رمز دمه، غسلَ الثوبَ العتيق ورداءَ الذين تعمَّدوا في موته وآمنوا بدمه الذي حرَّرهم من الشرور القديمة.

61- تك 49: 23-24: ما استطاعوا أن يقولوا »بالأيدي« أو بالأكتاف. لكن حين تكون مواضع واسعة في وسط القوس، تسمّى أذرع. (وهكذا) يقول بحقّ: أذرع.

62- تك 49: 27: أنبأ بالجرأة التي بها تجاسروا فأعلنوا الحرب على إخوتهم واختطفوا العذارى. »أُكِلت أكلةُ الصباح« بدل »يقاتل«. كما قال أيضًا لبلعام: »لا يربض إلى أن يأكل فريسته ويشرب دم الجراح، ويقسِّم الطعام«(92)، أي بعد أن يسلبوا يقسمون الأسلاب.

 

ثالثًا: نهج أوسابيوس في تفسير الكتاب

بعد أن قدَّمنا ترجمة »أجزاء سفر التكوين« مستلهمة من ترجمة فرنسيّة(93)، ها نحن نتوقَّف قدر الإمكان على نهج أوسابيوس في تفسير الكتاب المقدَّس. نلاحظ أوَّلاً أنَّه يهتمُّ مرارًا بتثبيت النصِّ الكتابيّ فيعود إلى الأصل العبريّ وينتقل إلى الترجمة السريانيّة والترجمة اليونانيّة. ولا يخاف أن يدلَّ على السياق الذي فيه ورد النصّ. والأمثلة عديدة في النصِّ الذي قدَّمناه. وقد نستطيع أن نقدِّم فرضيّة تجعل أوسابيوس في خطِّ مدرسة أنطاكية، لا في خطِّ مدرسة الإسكندريّة التي عُرف فيها التفسير الاستعاريّ.

ما نلاحظه عند أوسابيوس هو بحثه عن المعنى الدينيّ الحقيقيّ في ألفاظ النصِّ البيبليّ، فنراه مرارًا يشجب كلَّ تفسير رديء في الكتب المقدَّسة. قال: »لا أزدري بالألفاظ، بل أبحث عن معناها الصحيح«. وهذا البحث يجب أن يتَّسم بالجدِّيَّة، لئلاّ يتمَّ التفسير قبل الالتحام الحقيقيّ بالنصّ. »إحتفظْ بكلِّ ما قاله الله عن نفسه قبل أن تبدأ بتفسير السؤال«. وهنا نعود إلى إطار مدرسة أنطاكية، فنفهم أنَّه لا يحقُّ للمفسِّر أن يزيد أيَّ تفسير على ما يقوله الكتاب المقدَّس. قال: »أنا أقرأ ما كُتب«. »إقرأ ما كُتب وقدِّمه لي. فإذا جدَّدتَ حمَّلتني جريمتك«.

هذا لا يعني أنَّ المفسِّر يتوقَّف على المعنى الحرفيّ ولا يخرج عنه. قال: »ما قيل لا يحمل قوَّة في ذاته، بل نحن نجعل له قوَّة، نحن الذين لا نريد أن نشعر بما كُتب كما قيل«. أمّا الطريق الذي اتَّخذها أوسابيوس فتبدأ بتوضيح النصِّ حرفيٌّا، فلا يتبلبل إن وجد تشابهًا في الألفاظ. غير أنَّه لا يخاف من الاستعارة إلاّ إذا أشار الكاتب نفسه إلى أسلوبه. »إذا كان ما رآه دانيال منظورًا... فهو ما رأى مملكةً بل شعبًا. فلا نبدِّل ما قيل، بل لننظر الكتاب. فإن كان دانيال فسَّر أو سمع رؤية يفسِّرها الملاك، نفهم أنَّ ما رآه هو الشعب. وما فسِّر هو الملك«.

فالرسل أنفسهم استعملوا الاستعارة، فقالوا الأمثال بشكل استعاريّ(94). وهناك عبارات في العهد القديم لا تُفهم إلاّ عن طريق الاستعارة. »خرج قضيب من جذر يسّى«. فإن لم يفسَّر القضيب، فلا معنى لما قيل. لكن يجب أن نمارس التمييز: فلا نستطيع أن نأخذ بكلِّ استعارة، بل تلك التي نجد شهادة لها(95).

وبعد النصِّ الذي يفهمه أوسابيوس بشكل حرفيّ، يعود إلى السياق القريب والبعيد. نقرأ النصّ كلَّه. نقرأ ونتحرَّر من الأسئلة المسبقة. فإن انتقلتَ من البداية إلى النهاية وأضعتَ الوسط، لن تصل إلى القمَّة. إبدأ بالبداية فتصل إلى النهاية. بعد درس السياق، ندرس المقاطع الموازية، فقد تساعدنا على اكتشاف المعنى. ولا ننسى تقليد الآباء الذين سبقونا في التفسير. فنحن لسنا الأوَّلين، هذا ما قاله أوسابيوس. إلاّ أنّنا نتساءل: مَن سبق أوسابيوس من مفسِّرين في أنطاكية؟ هو لا يذكر إلاّ فيلون الإسكندرانيّ وفلافيوس يوسيفُس وبرديصان الرهاويّ. وفي الجزء الثاني من تفسير سفر التكوين، أشار أوسابيوس إلى أحد اليهود، لكنَّه لم يذكر اسمه. قد نكون هنا أمام مفسِّر، كما نكون أمام نسخة عبريّة ما زالت مجهولة في نظرنا. ووردت كلمة »سريانيّ«(96) أو »سوريّ«. فقد تعني الكلمةُ  أحد المفسِّرين في سورية. وهكذا نتثبَّت من أصل أوسابيوس الذي وُلد في الرها. وكان أسقفًا على حمص. إلاّ أنَّنا فضَّلنا أن نترجم: النصّ السريانيّ في مقابلته مع النصِّ العبريّ أو اليونانيّ. وفي النهاية، نشير إلى أنَّ الكاتب ذكر هوميرُس في الأوذيّة فدلَّ على معرفته بالأدب اليونانيّ(97).

خاتمة

هذه محاولة أولى للتعرُّف إلى ما تركه لنا أوسابيوس، أو بالأحرى ما تركته لنا الأجيال من تفسير في الأسفار الخمسة، وبشكل خاصّ في سفر التكوين. وقد حاولنا نقله إلى العربية. وقد تُتاح لنا فرصة ثانية، فننقل ما تبقّى من تفسير تقدَّمه هذا الذي يبدو الأوَّل في سلسلة ستحمل إلينا ديودور الطرسوسيّ وتلاميذه يوحنّا فم الذهب وتيودور المصّيصيّ وتيودوريه القورشيّ. وهكذا، قد نستطيع أن نكتشف بعض التفسير الأنطاكيّ لنكتشف جذورنا، ولا يكفي بأن نتغرَّب يومًا بعد يوم فنسير مع كلِّ ريح دون أن نتعرَّف إلى هويَّتنا. وقد تأتي أيّام نُطلق فيها النصوص التفسيريّة التي عرفتها مدرسة أنطاكية في السريانيّة واليونانيّة، فنكون قد وجدنا حلقة في هذه السلسلة التي تربط حضارتنا العربيّة، وما سبقها من عالم يونانيّ وسريانيّ، بالكتاب المقدَّس الذي عاش في أرضنا قبل أن ينتشر في العالم قاطبة.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM