النبي ميخا

النبي ميخا
يتألف سفر النبي ميخا من أربعة أجزاء يتناوب فيها التهديد والوعود؛ 1/2- 3/12= الحكم على اسرائيل؛ 4/1- 5/14= وعود؛ 6/1- 7/7= حكم جديد؛ 7/8- 20= وعود الخلاص. وهذا التأليف المتوازن هو بالاجدر عمل ناشر السفر لا النبي. ويوافق المفسرون ان الفصول 1- 3 و6/1- 7/6 تُنسب إلى ميخا المورشتي الذي عاش في الجيل الثامن ق. م.، ويعتبرون باقي الفصول والايات من حقبة الرجوع من السبي (538- 333).
كان ميخا من مورَشْة جت (1/1) التي تدعى حالياً "تل جديدة" وهي ضيعة في مملكة يهوذا في جنوب اورشليم. وهذا الايضاح مهّم لِنفهم معنى الاحداث التاريخية التي يتكلم عنها سفر ميخا.
ووُصف الني ميخا بالمورَشتي (1/1) تمييزاً له عن ميخا بن يملة الوارد ذكره في سفر الملوك الأول (22/8).
واسم ميخا هو اختصار سؤال: "من هو مثل الله= ميخائيل؟ (راجع 7/18)، وهو يُذكّر أيضاً بمناداة طقسية. ميخا يهوه، نجدها في المزامير (113/5؛ 35/10؛ 89/7- 9).
لا نعلم شيئاً عن حياة ميخا الشخصية وكيف دعاه الله. الاكيد هو أنه كان يتمتّع بحرية كبيرة وبقوة ارادة لا تسمح له بالصمت أمام معصية الشعب وخطيئته، "اني قد امتلأت قوة بروح الرب وحُكماً وبأساً لأُخْبر يعقوب بمعصيته واسرائيل بخطيئته" (3/8). ونلاحظ عدة مرات في تنبوءاته ان الحُكم على هذه المعاصي يتحول إلى شكوى ذات لحن مأسوي يدل على ان للنبي احساساً رقيقاً لا يستطيع دائماً ضبطه، مثلاً بمناسبة الغزو الذي قام به سنحاريب وهو صاعد من فلسطين الجنوبية إلى اورشليم: "ألطِم وأولْول وأمشي حافياً وعرياناً، وأُقيم انتحاباً لأن ضرْبتها (اورشليم) قد اعضلَت وسرَت إلى يهوذا وبلغت إلى باب شعبي إلى اورشليم" (1/8- 9) راجع أيضاً 6/2- 5؛ 7/1- 7= ويل لي فاني قد صرت كجنى الصيف كخُصاصة القِطاف لا عُنقودَ للأكل، وقد اشْتَهتْ نفسي باكورة التين).
قام ميخا برسالته، بحسب عنوان الكتاب، في أيام يوتام وآحاز وحزْقيا، ملوك يهوذا، أي بين سنة 750 و697 ق. م. فكان اذاً معاصِرَ النبي اشعيا. وتميزت هذه الحقبة بحادثين مهمَّين وهما، فاجعة سقوط السامرة في سنة 722 التي عاشها ميخا وتنبأ عنها في 1/6- 7، وغزو جنوب يهوذا على يد سنحارب الاشوري سنة 701. وعاشت طبعاً ضيعة مورَشة هذا الحادث المؤلم، وتنبأ ميخا عن سقوط اورشليم (1/8- 16، 3/12). وهكذا كان النبي مجروفا في الزوبعة التي اصابت وطنه، لكنه لم ينزِل بتاتاً إلى ميدان السياسة.
ولا نسمعه مرة يحكم على العمل الدبلوماسي الذي يقوم به مسؤولو اورشليم، انما بالمقابل هو يرى ان كل ما يحدث من بلايا، هو نتيجة خطيئة اسرائيل، ويُعلن بجرأة أن لا مفر من المصيبة.
وخطيئة اسرائيل الظاهرة هي خاصةً اللاعدالة الاجتماعية. فالرؤساء يظلمون الشعب فيغتصبون حقل الفلاح ويحوزون بيوت الضعفاء (2/2)، وكأنهم "ينزعون الجلد عنهم واللحم عن عظامهم" (3/1- 3)، و"العظيم يتكلم بهوى نفسه، وكثيرون، بشكل عام، هم الذين "يصطادون بعضُهم بعضاً بمصيدة، والمستقيم منهم كشوك السياج" (7/4)؛ والكل يشكّ بأخيه، والرجل بامرأته، واعداء الانسان هم اهل بيته (آ 5- 6).
وكان قد تكلم بنفس اللهجة القاسية والواقعية، في العصر الثامن، عصر النبي ميخا، النبي عاموس والنبي هوشع (حوال 750)، ثم النبي اشعيا (740).
ولا نفكر أن هؤلاء الانبياء كانوا، في اتهاماتهم لمعاصريهم، ينطقون بلسان طبقة اجتماعية ثورية، انهم بالحقيقة كلهم انبياء وانبياء فقط، يحملون كلام الله المشرف وحده، بحسب نظرهم، على تاريخ الشعب الذي اصطفاه واقام معه عهداً منذ ايام ابراهيم الخليل ومنذ عبور صحراء سيناء. وكلهم يذكرون في نبوءاتهم سلسلة الاعمال التاريخية المهمة التي قام الله بها ليجعل من مختاريه شعبه المكرس. راجع مثلا سفر ميخا 6/3- 5 حيث يعاتبهم الله بهذه اللهجة الودية: "يا شعبي ماذا صنعت بك وبما اسأمثك. أجبني. فاني أخرجتك من أرض مصر وافتديتك من دار العبودية وأرسلت أمامك موسى وهارون ومريم ...".
فخطيئة اسرائيل الحقيقية والعميقة هي الخيانة بمعنى الابتعادِ عن الله والوصول إلى اللاعدالة الاجتماعية.
والاكيد ان عاموص وهوشع واشعيا وميخا يستندون في كل اتهاماتهم إلى القوانين الالهية التي أوصى الله بها شعبه، وكل هذه القوانين موجودة في التقاليد القديمة الخاصة بالقانون الشرعي الالهي- راجع "قانون الميثاق" في سفر الخروج 20/22- 23/19 وهو القانون الايلوهي.
فحُكم الانبياء هو حكم الله. ولقد رفع الله على شعبه دعوى حسب الاصول القانونية. ولنا منها نموذجان في ميخا 1/2- 7 و6/1- 12، فنرى الرب يقوم بخصومة مع شعبه (6/2)، فيشهد عليهم من هيكل قدسه (1/2) ويتهمهم بمعصيتهم (1/5)، ويذكرهم بحقه عليهم وكيف تقيّد من جهته تعالى بالوعود التي وعدهم بها (6/3- 5، لفظة "عدل الله" في الآية 5 تعني أمانته"). واخيراً يُعلن الله حُكمه عليهم (1/6- 7)، وهذا الحكم هو قاس ولو كان عادلاً اذ إنه أدّى إلى خراب السامرة وخراب اورشليم وحتى الهيكل (1/6- 7؛ 3/9- 12). ولا نفكر ان اللَه يرفع دعوى ويحكم ويدافع عن الشريعة لأجل الشريعة. فلا هو، ولا النبي ميخا بصفته لسان حال الرب، يطلب من الشعب عبادة الشريعة. والشيء المُتَّهم به هذا الشعب ليس هو عدم الخضوع للشريعة كشريعة، بل واقع بُغْضِهم المستمرّ للخير "وحبِّهم للشر" وازدرائِهم للحماية التي يعرضها الله لهم بعدما اختارهم وجعل منهم شعبه المصطفى: راجع ميخا 3/2= "أيها المبغضون الخير ومحبو الشر". 6/3= يا شعبي ماذا صنعت بك، وقارن هوشع 8/3. اشعيا 5/20.
"والخير" الذي يبتعدون عنه هو قبل كل شيء، بحسب عاموص، "أن يطلبوا الله فيحيوا" (عاموص 5/4)، وبحسب اشعيا، ان يكون الله معهم أي "العمانوئيل" (اش 7/14)، وبحسب هوشع ان يكون الرب لهم الزوج الامين فيَعْرفهم ويعرفونه (هو 2/19- 20 و20/21).
ولنا في ميخا 6/8 الطريقة التي يعتبرها النبي الطريق الوحيدة التي تؤدّي إلى الرب، وهي تُوَفِّق توفيقاً رائعاً بين رسالة الانبياء الثلاثة الذين عاشوا في ذلك العصر- ووصفها لنا على وجه رائع في الصيغة التالية: "قد بيّن لك الرب أيها الانسان ما هو صالح. وما يطلب منك الرب انما هو ان تُجري الحُكم وتُحبّ الرحمة وتَسير بتواضع مع الهك"، فهذا هو إذاً، في نظر الانبياء، جوهر الوصايا، وهذا هو عملياً الشيء الذي رفضه الشعب هو ورؤساؤه.
والمهم، وهذا هو قلب رسالة ميخا وسائر الانبياء، ان الله لا يقصد الانسحاب من تاريخ شعبه بعد حكمه عليه وبعد تطبيق هذا الحُكم في خِراب السامرة واورشليم والهيكل. فالله سيعمل من جديد لصالح الذين خانوه بعدما اختارهم وبرهن لهم عمليا عن محبته لهم، وبعدما تركهم بسبب خيانتهم. وبحسب ميخا 5/1- 5، انه سيبعث ملكاً جديد "يكون له" "ليرعى البقية الباقية من اسرائيل" (آية 2).
وأصل المسيح الملك الجديد هو من بيت لحم أفراتة في يهوذا (آية 1) أي من سلالة داود التي خرجت من هذا المقام (1 صم 16؛ 2 صم 5/2؛ 7/8؛.
والتوضيح أن المسيح "سيخرج للرب" أي ليكون له (آية 2) وليرعى الشعب، يدل على أن مصالح الله تتطابق مع مصالح الشعب، بمعنى أن سوف تتجلى بالمسيح عزته تعالى وعظمتُه ومجده لصالح الشعب الذي، بفضل الله ومسيحه، سوف يستقر ويحيا في السلام (آية 3).
وسوف يحدث ذلك عندما "تلد الوالدة (آية 3). ولنا في هذا الكلام اشارة واضحة الى آية "العذراء" التي سوف تحمل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل، وكان قد تنبأ بها النبي اشعيا حوالي ثلاثين سنة قبل ميخا (اش 7/14).
والواضح أيضاً ان كل ما يقوله ميخا عن المسيح في 5/1- 5 يطابق جوهرياً ما قاله اشعيا، خاصة في إش 11/1- 8. والنقطة الاساسية التي تستاهل هنا الدراسة تخص أصل المسيح. فميخا يوجه نظرنا نحو المكان التاريخي من حيث سيخرج المسيح، "بيت لحم أفراتة"، واشعيا نحو "جذر يسى"، أي سلالة يسىّ القديمة من أصل بيت لحمي والمتحدّر منها داود، ويشدد ميخا على أقدمية هذا الاصل (= "ومخارجه منذ القديم، منذ أيام الازل"- آية 2). والمعنى الوحيد لذلك هو انه سيخرج من هذا المكان ومن هذه السلالة العالم الجديد الذي ينتظره ويبشر به اشعيا وميخا، والاثنان يستندان- وهذا أكيد- إلى الوعود التي وعد الله بها داود بلسان النبي ناتان في العصر العاشر (2 صم 7/1- 17). لكن هذه التقاليد كانت تكتفي بتأكيد عرش داود الذي وعد به الرب، في حين ان الانبياء رفضوا ذلك بسبب حكم الله على اسرائيل وعلى المسؤولين عنه الذي بدأ تحقيقه وهم أحياء (كزو الاعداء وسقوط العرش...)؛ وكلهم، ومنهم ميخا، حذّروا كل من أراد ان يصغي اليهم: لا تكتفوا بطمائينة خادعة بل وجّهوا نظركم نحو المستقبَل وتوبوا وثقوا بالخلاص الذي سوف يقوم به الله عن قريب (ميخا 3/11؛ 5/1).
وكرّر انبياء العصر الثامن بلا انقطاع وبالحاح ان الخلاص يأتي من الله بعد حكمه الالهي؛ وهو يشتمل على خلق شعب جديد مؤلف من البقية الباقية يرعاها ملك جديد من سلالة داود، لا بل داود جديد كامل الصفات لتعيش في الامانة والسلام وخدمة الله: وهكذا، وفي آن واحد، استند الانبياء بدقة الى التقاليد القديمة الخاصة باختيار الله لشعبه وباختيار سلالة داود وبيت لحم، واوّلوها من جديد لينطلقوا منها في بشارتهم بالخلاص الآتي الذي سوف يقوم به الرب.
كان الناس كلهم واثقين بأمانة الله الراسخة. وأما هم فكانوا ينطلقون من واقع فساد سلوك اسرائيل ومن رفض الله لهذا السلوك، من حكمه على شعبه ليبشروا بخلاص جديد واكيد وصفوه لنا استناداً إلى التقاليد القديمة التي جدّدوا معناها.
ويُختتم سفر ميخا باعتراف النبي برجائه الوطيد بمجيء الرب القريب: "أما أنا فأترقب الرب وانتظر إله خلاصي. فيَسمعُني الهي" (7/7).
ويترجح ان النشائد في الرجاء التي نقرأها بعد 7/7 كانت قد اضيفت إلى السفر في زمن السبي، وهي تظهر لنا بمظهر حوار بين اسرائيل والله. فالشعب يبدأ باعلان ايمانه ورجائه (7/8- 10) فيجاوبه الرب بوعد الخلاص (11- 13)، ثم بعد تضرع الشعب في الآية 14، يبشر الرب بالعجزات التي سيقوم بها لحساب ذويه (15- 17). ويختتم النص بنشيد للرب الأمين والرؤوف.
سفر ميخا والعهد الجديد.
حفظ العهد الجديد من سفر ميخا نبوءة 5/1- 5 الخاصة ببيت لحم افراتة من حيث خرج المسيح (متى 2/6؛ يو 7/42).
اولاً الاستشهاد الشهير في متى 2/6 مركب بفن فريد من سفر ميخا 5/1 و2 صم 5/12: "وأنت يا بيت لحم (= مي.) أرض يهوذا (= متى، عوضا عن "افراتة" في مي.). "لستِ (= خاص بمتى) الصغيرة في ولايات يهوذا (= مي.)
"فمنك سيخرج الوالي (= مي.) الذي يرعى شعبىِ اسرائيل (2 صم).
وأراد متى في هذا الاستشهاد أن يشدد على أهمية بيت لحم، أو بالأحرى وضمناً، على سلالة داود التي خرجت من بيت لحم. وهدفه الاخير كان ان يبرهن كتابياً أن يسوع الذي جاء المجوس ليسجدوا له (متى 2/2) هو المسيح الملك الداودي الاصلي؛ فوضع نبوءة ميخا على لسان مستشاري هيرودس (أي الاحبار والكتبة المشرفين الرسميين على الدين الاسرائيلي: متى 2/4). فجعلهم يعترفون علنيا بملوكية يسوع-/ راجع أيضاً، في انجيل الطفولة متى 1/1- 17= نسب يسوع ابن داود، ابن ابراهيم، 1/21- 22= يوسف بن داود يمنح للولد اسمه الرسمي يسوع.
وبرهن متى عن حريته في استشهاده بميخا 5/1- 5 ليشدد اكثر من النبي المورشتي على اهمية بيت لحم، فنعتها بـ "أرض يهوذا" أي مملكة داود (عوضاً عمّا نقرأه في ميخا، أي بيت لحم افراتة"). وعظّم شأن المدينة بقوله: "لستِ الصغيرة في ولايات يهوذا" (عوضاً عمّا نجده في ميخا= "أنك صغيرة في ولايات يهوذا").
ونعلم ان هدف متى الكامل هو ان يبين في انجيله، وخاصة في 1- 2 أن يسوع هو ملكٌ والهٌ ومسيح الامم، فهو يُدعى العمانوئييل اي الله معنا (متى 1/23= اش 7/14)؛ والمجوس، الذين أتوا من المشرق" (2/1) يريدون "السجود له" (2/2).
ثانياً: بحسب رواية يوحنا في 7/40- 43 حدث خلاف بين أعداء يسوع يخص أصل المسيح. فهذا يدل على أن ميلاد المسيح في بيت لحم كان مجهولاً منهم. على كل حال من الواضح ان يوحنا، كلما اراد ان يبرهن عن مسيحية يسوع، تحاشى الاعتماد على انتماء يسوع الى سلالة داود وعلى ميلاده في بيت لحم، وهو يتفق بهذا مع مرقس ويتميز عن متى ولوقا. فيسوع بنظره ليس هو المسيح الذي كان ينتظره اليهود، بل هو أعلى وأسمى منه: هو "الكلمة" الذي كان في البدء. وكان لدى الله؛ وهو الله... وصار بشراً فسكن بيننا ورأينا مجده..." (يو 1/1، 14).
- قراءة مسيحية لسفرميخا 6/3- 5 و6/8.
* النص: -"يا شعبي ماذا صنعت بك وبما اسأمتك؟ اجبني. فاني اخرجتك من أرض مصر وافتديتك من دار العبودية وارسلت امامك موسى وهارون ومريم... (مي 6/3- 5).
-... قد بيَّن لك الرب أيها الانسان ما هو صالح وما يطلب منك الرب. انما هو ان تجري الحكم وتحب الرحمة وتسير بتواضع مع الهك" (مي 6/8)
* القراءة المسيحية:
بلهجة مؤثرة يتهم الله الامين والرحيم شعبه المصطفى بالخيانة. أجل ان هذا الشعب هو بحسب القراءة الأولى لسفر ميخا شعب يهوذا الذي توجّه النبي إليه مباشرة في القرن الثامن قبل الميلاد. لكنه يشمل كافة شعوب الارض الذين يؤلفون الكنيسة الجامعة لأن كلام الرب في الكتاب المقدس موجّهٌ "اليوم" إلينا اجعين حيثما كنا.
"واليوم اذا سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم"!
خان شعب يهوذا اللهَ بالمعنى الذي وضّحناه. والكنيسة أيضاً في أشخاص اعضائها الأفراد تخون مراراً سيدَها لا بل عريسَها. ولماذا؟ لأسباب مختلفة ومعروفة تتلخّص بانانيتنا. فاين المحبة للذي هو المحبة، واين تكريسنا له نحن الذين عمّدنا باسمه، واين الخدمة خاصةً في الساعات الصعبة أهمها ساعة الخوف من الاضطهادات؟
* اترى هو اسْأَمنا؟ لا ولا! لنصغِ:
"اني اخرجتك، يقول الرب لاسرائيل، من ارض مصر وافتديتك من دار العبودية وارسلت أمامك موسى".
نعم لا نجهل ان آباءنا عبروا البحر والصحراء تحت قيادة موسى واختبروا طِوال هذا العبور كل نِعم الرب، وخاصة المنّ والماء. والوحي يُخبرنا ان "ذلك كله حدث ليكون لنا مثلاً- او بالاحرى "آية". فعبور البحر اماتَهم عن مصر المستعبدة، ووجَّه خطواتهم نحو أرضِ الميعاد وكان لهم المعمودية"؛ والمن الذي أكلوه كلهم في الصحراء كان لهم "طعاماً روحانياً؛ والماء الذي شربوه كلهم "من الصخرة" كان لهم شراباً روحانيا؛ حتى ان هذه "الصخرة" التي كانت ترافقهم كانت صخرة روحانية" وهي المسيح (1 قور 10/1- 4، 11).
ونحن أبناء الكنيسة "أنجهل أنّا وقد اعتمدنا في يسوع المسيح، انما غطّسنا في موته فدُفنا معه بالمعمودية لنموت فنحيا حياة جديدة كما اقيم المسيح من بين الاموات بمجد الرب" (روم 6/3- 4). أنجهل ان كأس البركة التي لا نزال نباركها إلى أن يَتم في ملكوت الله" هي "مشاركة في المسيح"، والخبز الذي نزال نكسر إلى أن "يأتي الرب"، هو مشاركة في جسد المسيح" (1 قور 10/14- 17)، وقد يرافقنا المسيح "صخرتنا" في عبورنا صحراء هذه الحياة نحو "وطننا السماوي" في حين أننا منذ الان نسكن هذا الوطن سرياً وندركه حالياً بالايمان (أف 2/6)، ولكننا "ننشده" في آن واحد (عب 11) لأننا "اليوم نرى في مرآة رؤية ملتبسة، واما يومذاك فتكون رؤيتنا وجهاً لوجه" (1 قور 13/12).
ولا نجهل خاصة أننا اليوم في حالة النمو مع جسد المسيح كله "إلى أن نصير الانسان الكامل ونبلغ القامة التي توافق سعة المسيح" (قول 1/24؛ 2/19؛ اف 4/13). ولا تخلو طبعاً هذه المرحلة من "التجربة" او الاختبار.
والاختبار امتحان يقوم به الرب ليكشف بواطن قلبنا (تثنية 8/2) وليمنحنا "الحياة" على قدر ما نحن صابرون على المحنة (يعقوب 1/12).
"فليحذر السقوط من توهم انه قائم"، ولنتذكر "ان الله الصادق لا يكلّفُنا من التجارب غير ما في وسعنا" (1 قور 10/13)، و"لننظر إلى اسرائيل من حيث انه بشر" (1 قور 10/18)، ولقد "كلّمه الله مرات كثيرة بلسان الانبياء (عب 1/1)، وكل ما حدث له كتب تنبيها لنا" (1 قور 10/11).
- وقال النبي ميخا للشعب على لسان الرب:
"قد بيّن لك الله ما هو صالح وما يطلبه منك. انما هو أن تُجري الحُكم، وتحب الرحمة وتسير بتواضع مع الهك" (6/8).
. الحكم يساوي العدل بالمعنى الحصري والعدالة الاجماعية التي تكفل لكل واحد حقه. واذا رفضت ان اقوم بها بل اكتفيت بسبب أنانيتي بالامور التافهة لأنقاذ كرامتي وتحرير ضميري اصبحت ظالماً وأشبهَ بالفريسيين المرائين الذين لعنهم يسوع لانهم "يؤدّون عشر النعنع والكمون، ويهملون ألزم ما في الشريعة: اي العدل والرحمة والوفاء" (متى 23/23). وهذا أمر مهم، خاصة في عصرنا، حيث تُطرح قضية العدل والسلام على الصعيد المسكوني، والعدل أول خطوة إلى السلام والى الرحمة.
* والرحمة التي يقصدها الرب يعبر عنها بالعبرية (6/8) بكلمة (حيسيد). وهي تشير إلى العلاقة الروحية التي تربط كائنين معاً، وتظلّ واعية ومقصودة بعكس (راحاميم) التي تعني الطِيبة الغريزية المحدودة بنوع من الاحسان اسمه "الحنان".
والله يطالبنا لكي نعامل بعضُنا بعضاً "برحمة" بمعنى (حيسيد) لانه هو كلّي الرحمة. ولقد كشف عنها في العهد القديم، واظهرها لنا يَسوع ابن الله المتجسد في كل تصرفاته، وطلب منا أن نعيشها على مثال أبيه وأبينا لندخل ملكوت السموات (لو 6/36؛ متى 5/7).
وعلينا أن لا نكتفي فقط بالاقتداء بأبينا السماوي وبالمسيح ربنا، لنكون رحماء على مثالهم فحسب، انما ان نعيش الرحمة نفسها الكائنة فيهما وفينا لاننا هيكل الله وجسد المسيح، ولاننا "ارتوينا من روح واحد" (1 قور 3/17؛ 12/13، 27).
. واخيراً "السير بتواضع مع الهنا" (ميخا 6/8).
"والسير بتواضع" يعني السير على ضوء حقيقتنا الواقعية، ونعم أننا سوية أبناء الله وضعفاء، وفقراء بسبب ضعفنا. فلنصغِ إلى الرب يسوع ينادينا:
"تعالوا اليّ جميعاً أيها المرهقين فاني اريحكم. احملوا نيري وتتلمذوا ليّ أنا الوديع المتواضع القلب" (متى 11/28- 29).
والتلمذة هنا هي بمعنى الانتماء إلى يسوع لنشاركه سرياً بحياته لأننا أعضاء جسده، ولأنه الكرمة ونحن الاغصان.
الاب جورج صرّاف

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM