سفر يونان

      سفر يونان
مقدمة:
لا تحتفظ المخيلة الشعبية من سفر يونان إلاّ بصورة النبي وقد ابتلعه الحوت في جوفه وبعد ثلاثة أيام أعاده إلى الأرض اليابسة بأمر من الله. انه لأمر هام بقدر ما ترمز هذه الصورة إلى موت المسيح وقيامته. ولكن ما علاقة هذه الصورة بباقي الأحداث التي يسردها علينا هذا السفر، وكيف باستطاعتنا أن نقرأه اليوم قراءة مسيحية؟
لقد كان لهذا السؤال أجوبة عدة عبر التاريخ: ولا عجب في ذلك، فإن سفر يونان هو تحفة أدبيه ولاهوتية تصعب قراءتها من وجهة نظر واحدة. فلذلك لسفر يونان تفسيرات مختلفة وإليك بعضها. فالبعض يرى ان سفر يونان يعالج قضية النبوءات. فهو يطرح مشكلة عدم تحقق هذه النبوءات التي يعلنها الله. فالقسم الأول من سفر يونان يعرض لنا براهين على ذلك: يرسل الله النبي محمِّلا اياه رسالة، ويخلّصه في آخر الأمر، ولما تتحقق الرسالة التي لأجلها قد ارسل. أما القسم الثاني من السفر فيرض علينا مباشرة عدم تحقق هذه النبوءات والسبب في ذلك هي رحمة الله للبشر. فلا يسلم الله اهل نينوى إلى الموت والدمار.
أما الترجمة المسكونية الفرنسية للكتاب المقدس فقد لخصت معاني سفر يونان بهاتين الفكرتين: انه يهدف إلى أن يظهر تجربة الني الباطنية ويعلّم عطف الله الشمولي. لقد توقف مفسرون آخرون عند فكرة التوبة: يهب الله الغفران لكل إنسان يتوب عن خطيئته. ولكن أغلب التفاسير اليوم تجد في سفر يونان تفكيراً لاهوتياً في محبة الرب اله اسرائيل للوثنيين.
ما معنى سفر يونان؟ سوف نجيب على هذا السؤال انطلاقاً من أسئلة ثلاثة: من هو يونان؟ من هو الله؟ وكيف باستطاعتنا ان نقرأ هذا السفر قراءة مسيحية؟
1- من هو يونان:
ورد اسم يونان في 2 مل 14/25. لقد استعار مؤلف سفرنا اسم يونان النبي من القرن الثامن قبل الميلاد، وهو نبي مغمور قد عُرف بروحه القومية المتطرفة، إن يونان هو أكثر من فرد، هو شخصية نموذجية تمثل جموعة من الناس. فدراسة الكتاب تؤكد على هذا الرأي: فنينوى والبحارة يمثلون العالم الوثني وترشيش هي المدينة التي لا تسمع كلمة الله، والبحر هو مقر قوى الموت. فالسفر قائم على الرموز ولا يُفهم فهماً صحيحاً دون ان نفك معانيها. في وجه يونان نكتشف قايين قاتل اخيه، وفيه نرى الشعب الذي عبد العجل الذهبي في سيناء ورفض السماع لصوت الأنبياء. ان يونان يرمز إلى بيئة، فهو اسم مستعار للتعبير عن جماعة تعاني من سؤال تحمله في أعماق قلبها مثل أيوب المتألم ودانيال الذي يتأمل في قوى الظلم في العالم الذي يحيط به.
سفر يونان صورة عن بيئته:
ما هي البيئة التي يتحدث عنها سفر يونان؟ لا نقع في سفر يونان على تواريخ تساعدنا على صرفة زمن تدوينه، إلا ان أسلوب الكتاب ومفرداته هي التي تخولنا على أن نحدد البيئة التي فيها نشأ. ففيه نقع على تعابير ومفردات لا نجدها قبل القرن السادس. ولنأخذ بعض الأمثلة على ذلك. إن استعمال اسم الموصول، "ش" هو تأثير واضح من الارامية المنتشرة بعد القرن السادس انتشاراً واسعاً. وكذلك كلمة "سفينة" (1/5 وهي الحالة الوحيدة في الكتاب المقدس) هي آرامية أيضاً. ان العبارة "اله السماوات" نجدها تسع عشرة مرة في الكتاب المقدس ومنها سبع عشرة مرة في الأسفار اللاحقة للجلاء (عزرا، نحميا، دانيال). فالعبارة تعود إلى الزمن الواقع بعد العودة من الجلاء، أعني العصر الفارسي والعصر الهليني. أما نينوى فم تعد المدينة المخيفة كما ورد في نبوءة نحوم وغيره من الأنبياء. فلو لم تكن ذكريات العنف التي ترافق تاريخ نينوى قد ابتعدت عن مخيلة المؤلف، لما كان استطاع ان يتحدث بهذه الطريقة عن توبة أهل نينوى إلى الرب. وأخيراً في سفر يونان تضمين لتعاليم الأنبياء، من يوئيل وارميا بصورة خاصة، لأن لاهوتي بعد الجلاء قد حاولوا تأوين تعليم الأنبياء السابقين، دون ذكر اسمائهم مباشرة. وان تقدمنا في التاريخ فإننا نجد اننا لا نقع في سفر يونان على تأثير هليني في الأسلوب والمفردات والمضمون. تحمل هذه الحجج دارسي سفر يونان على التأكيد على أن مصدر سفر يونان هو أواسط القرن الخامس قبل الميلاد. فهو يصنف جماعة اورشليم في ذلك الزمان. يونان هو صورة كاريكاتورية عن بيئة يريد المؤلف انتقادها بطريقة لبقة وحذقة.
عصبية قومية:
غابت مملكة يهوذا عن الوجود في القرن الخامس وناب منابها اقليم صغير له تشريعه القائم على التوراة، وخاضع للأمبراطورية الفارسية. لقد بُني الهيكل بعد خراب دام عشرات السنين، والجماعة اليهودية التي تعيش حوله في أورشليم هي جماعة قومية كهنوتية متعصبة. باستطاعتنا القول أيضاً أن الجماعة قد انطوت على نفسها وراحت تحافظ على اصالة الانتساب اليهودي تحت تأثير سلطة الكهنة والكتبة. في هذه الجماعة، خوف من الخطيئة وحقد على الوثنيين. فالخطيئة قد سببت، بحسب تعليم الأنبياء، سقوط الهيكل ونهاية الملكية الداودية، وعقاب الجلاء. أما الحقد على الوثنيين، وهم سبب فساد الشعب، فقد حمل الجماعة على التقوقع في روح قومية دينية صلبة. إن إله الآباء هو إله يهوذا بصورة خاصة، والاختيار لم يعد خدمة بل حقاً متطلباً وامتيازاً فردياً: لقد طُردت النساء الغريبات، وابعد السامريون، والأمم الوثنية كتب لها الدمار. لا قداسة إلاّ في أورشليم، فالله الذي عرَّفنا عنه الأنبياء قد تحوَّل إلى إله الجماعة المنطوية على ذاتها وفي حدودها الاقليمية.
انفتاح مؤلف سفر يونان:
تجعلنا هذه الخلفية التاريخية نكتشف رفض سفر يونان لهذه القومية الضيقة. ان وضعنا سفر يونان في إطاره القومي هذا، سهلت علينا قراءته. فإننا نفهم رفض يونان وتمرده أمام دعوة الله له. فإن الله يطلب منه ان يعمل ما يعاكس تماماً اللاهوت الرسمي الذي كان يحيط به. ولا يذكر سفر يونان أورشليم ويهوذا، ولا يذكر الهيكل إلا في المزمور. إن سفر يونان يتجاهل امتيازات سكان أورشليم. فإن خلاص أهل نينوى وخلاص اسرائيل ها رسالة واحدة في نظر إله اليونان. وهذا أمر لا يطاق.
يحاول يونان أن يهرب من وجه الله، لأن خلاص أهل نينوى لا يعني له شيئاً، ولأنه عالم أن الله يريد خلاصهم (4/2). فالوثنيون في نظره هم نجسون، ولكن كاتبنا يصفهم على أنهم أشد تديناً من يونان وأشد إنسانية منه. فالبحارة يتوسلون إلى الله ويكتشفون عمله في الأحداث وينتقدون عدم طاعة يونان ويحترمون في الوقت نفسه حياته. انهم يتوبون إلى الديانة اليهودية ويقدمون الذبائح وينذرون النذور (1/16)، بيما يونان ينام والعاصفة تهدد بالهلاك. وعندما يستيقظ من نومه فإنه لا يشارك حتى في صلاة الوثنيين. ولو لم يُزَد المزمور على هذا السفر لما شكر يونان الله الذي خلصه من الموت. فالبحر والموت والخروعة، عناعر الطبيعة كلها تطيع الله. أما يونان فيعصي أمره وهو اليهودي الذي يشهد بشكل صحيح على حقيقة الله.
تناقضات يونان ومأساته:
أراد صاحب سفر يونان أن يعرض على قرائه تناقضات بيئته. انه لا ينتقد قوميتهم الضيقة فحسب بل ديانتهم الخاطئة. إن مأساة يونان هي مأساة إنسان مؤمن في صراع مع نفسه ومع العالم.
يقول يونان على ظهر السفينة: "أنا عبراني، وإني أتقي الرب". يشدد يونان على المسافة التي تفصل اليهود عن الوثنيين المثركين. ان كلمات يونان تحمل إلى ذهننا كلمات القديس بولس في الرسالة إلى أهل رومة: "فإذا كنت انت تدعى يهودياً، وتعتمد على الشريعة، وتفخر بالله، وتعرف مشيئته، وتميّز ما هو الأفضل بفضل تلقنك الشريعة، وتوقن انك قائد للعميان ونور للذين في الظلام ومؤدب للجهال ومعم للسذج، لأن لك في الشريعة أصول المعرفة... افتعلِّم غيرك ولا تعلم نفسك؟" (روم 2/17- 21). يعيش يونان هذا التناقض، فهو بيما يعترف بإيمانه ويشهد لربه، ينسى انه يتمرد على الله ويهرب من وجهه. إن هذه التناقضات في يونان تحمله على تمني الموت والاستسلام له.
رأفة الله:
لا يقوم الصراع الأساسي بين ايمان يونان ومواقفه الخارجية كما استنتجنا منذ قليل، بل في صلب معرفته لله. فإن معرفة الله هي أمر مقبول ومرفوض في الوقت نفسه. إن يونان يعترف أمام الرب شاهداً: فإني علمت أنك إله رؤوف رجم طويل الأناة وكثير الرحمة ونادم على الشر" (4/2). إن يونان يصيب جوهر الله وعمله. إنه يعترف ان القوة والعدل والقداسة لا تشكل كلمة الفصل في الله، بل الرأفة والرحمة. ولكن يونان يقع في التناقض، فإن كان الله هو إله الرأفة والرحمة، فكيف لا يكون رؤوفاً رحيما متجاوزاً حدود اسرائيل وواصلاً حتى إلى أعداء اسرائيل؟ إنه السؤال الذي يضعه في حيرة من أمره وتناقض مع نفسه.
خط التقوقع:
لماذا يرفض يونان ويهرب ويتمرد؟ لأن يونان يمثل بيئة وديانة، يمثِّل شعباً يتقوقع على نفسه مستسلماً إلى نوع من الوثنية. فالمؤمن الحقيقي هو الإنسان الذي يدع الله ينسج خيوط حياته طارداً من قلبه أشكال الأوثان المختلفة. يتطلب الاعتراف بالله والخضوع لعمل الله وإرادته حتى ولو تجاوز الله رؤانا البشرية المحدودة: علينا أن نفكر بذبيحة إبراهيم وبصراع أيوب كي نفهم صراع يونان الرافض. يمثل يونان جاعة أورشليم التقية والدؤوبة الواعية لمسؤوليتها في التاريخ والمحامية عن هويتها ضد كل غريب. لكن هذا الموقف الشرعي قد يغلقها ويغلق الله في برج عاجي. إن سفر يونان هو انتقاد لمثل هذه الانطوائية ولمثل هذا التقوقع.
الايمان: الانفتاح على رأفة الله:
إن يونان هو إنسان يهودي، ومشكلة اليهودي هي واحدة: مشكلة الله. ولا نعني بذلك مشكلة الله في معناها الفلسفي. إن يونان لا يشك في وجود الله ومشكلته هي على العكس من ذلك: إن وجود الله هو سؤال مطروح على طريقة عيش يونان. يطرح سفر يونان هذا السؤال الوحيد: هل يقبل يونان أن يوجَد الله كما هو وكما عرَّف عن نفسه؟ هنا تكمن مأساة يونان الحقيقية مع الله. وإن قبلنا بالخلفيات الكتابية لسفر يونان، بدا نقده لاذعاً إلى أقصى الدرجات. يتسم يونان بسمات قايين الحسود والقاتل، وبسمات شعب عاص وكافر، وبسمات شعب متمرد لا ينصت إلى نداء الأنبياء. وبكلمة، إن يونان هو إنسان أعمى لا يرى ان مواقفه لا تختلف عن مواقف الوثنيين: يونان، وهو رمز اسرائيل، هو الخطيئة. واختياره يتأصل في حب الله المجاني له ويفترض خلاص الأمم. وقد يكون اسرائيل اسوأ من الوثنيين، لأن يونان الرافض خلاص الوثنيين هو مثل قايين الذي يقتل أخاه. ومن لا يريد خلاص أخيه يقتله. إن كان هذا التحليل صحيحاً، فإن سفر يونان هو انتقاد لعصبية يهود بعد الجلاء الذين رفضوا إله الخروج وإله سيناء. فسفر يونان هو إذا تأوين لرؤية في سيناء: إن إله اسرائيل هو إله الرأفة والرحمة لكل الناس على الاطلاق.
2- إله يونان:
يهوه (الرب) ايلوهيم (الله)
"أنا عبراني، وإني اتقي الرب، إله السماوات، الذي صنع البحر واليبس" (1/9)، إنها شهادة يونان أمام البحارة الوثنيين. نقع في هذه الشهادة على اسمين الهيين: الرب والله (يهوه وايلوهيم)، ونرف من سفر التكوين ان ايلوهيم هو الله، خالق السماوات والأرض. أما يهوه فهو الرب إله موسى واسرائيل، هو إله الاختيار وإله العهد. فيهوه هو الله بصفته إله الوحي الاسرائيلي. ومما لا شكّ فيه هو أن ايلوهيم ويهوه هما إله واحد ولذلك يتحدث سفر التكوين عن يهوه وايلوهيم في الفصل الثاني منه. ومن الأمور الدقيقة في سفر يونان هو احترامه لهذه الفوارق المرتبطة باسمي الله. فعندما يدور الحديث على الوحي، نرى أن اسم يهوه هو الذي يتردد. ولكن عندما يدور الحديث على الخلق، يستعمل المؤلفة اسم ايلوهيم. ولهذا يستعمل المؤلف التعبير: "كانت كلمة الرب إلى يونان" (1/1 و3/1)، ويقاوم يونان الرب "فالآن، أيها الرب، خذ نفسي مني" (4/3)، ويهرب من وجه الرب (1/3- 10) ويدعو الرب (4/2 و3). إن يهوه، كما نعم، هو إله ابناء إبراهيم وهو في قلب تاريخ اسرائيل.
اما الوثنيون فلا يعرفون يهوه بل ايلوهيم، الاله الخالق والكائن في خليقته. فهم يُجبِرون يونان على الصلاة لالهه (1/6) كما هم انفسهم قد توسلوا اليه (1/5). ينتصب وراء هذه الالهة ايلوهيم، الله خالق الكون وسيده. ولكن يونان يحمل البحارة من حيث لا يدري ولا يشاء على الاعتراف بيهوه اله اسرائيل. ولذلك لا يتحدث النص عن ايلوهيم بل عن يهوه بشكل متعمد (1/14 و16). ويناسب البحارة ليهوه السيادة الكونية التي لايلوهيم. ففي العاصفة، وفي رسالة النبي ومصيره، يكتشف البحارة ارادة يهوه المطلقة: "فانك انت ايها الرب، قد صنعت كما شئت" (1/15).
ان كلمة الرب تقود يونان ثانية إلى نينوى (3/1 و3). اهل نينوى هم أيضاً وثنيون ولا يعرفون سوى ايلوهيم (3/5 و8 و9 و10). ولا يتوبون إلى يهوه مثل البحارة، ولكن يونان يعلن كلمة الرب في نينوى، ويخاطب ملكُ نينوى شعبَه على طريقة ارميا النبي، بل يستعمل كلمات الرب نفسه. ويتجاوب اهل نينوى مع متطلبات الديانة اليهوية. ونرى في ذلك أن إله الوثنيين ليس إلاَّ إله اسرائيل. ولكن كان لا بد من مبادرة يتخذها الله ومن وساطة يقوم بها يونان لتوبة أهل نينوى.
وأما في المشهد الاخير، فتظهر معالم العلاقة الجدلية بين يهوه وايلوهيم بشكل واضح أيضا. فيونان يخاطب اسم الرب يهوه (4/2 و3) والرب يجيبه (4/4). ولكن عندما يدور الحديث على الدودة (4/7) والهواء (4/8) والخروعة (4/9)، وكلها عناصر من الطبيعة، فان اسم ايلوهيم يتخذ مركز الصدارة. وفي مرة واحدة يذكر المؤلف الاسمين معاً وذلك للدلالة على ان الهوية واحدة (4/6) وتبقى الكلمة الاخيرة ليهوه (4/10). لا يهدف سفر يونان الا لان يشدد على هوية يهوه- ايلوهيم: انه يؤكد لنا على أن مُلك يهوه يتعدّى حدود اسرائيل التي فيها أغلقه اليهود. فلذلك لم يرسَل يونان إلى اسرائيل، بل إلى نينوى المدينة الوثنية البعيدة والكبيرة.
يهوه: الخالق والمخلص
ان هوية يهوه- ايلوهيم، هوية اله الخلق واله الوحي تظهر بطريقة واضحة في سفر يونان. فالخليقة كلها هي في خدمة إرادة الله المطلقة: البحر والعاصفة والهواء والموت والدودة والشمس والريح اللافحة والخروعة، فكل شيء يخضع لله. يجد يونان الهه خارج اسرائيل، على البحر وفي نينوى نفسها. فالخليقة كلها هي مجال عمل الرب، فهو حاضر في كل مكان ولا حدود لملكه.
عندما كتب مؤلف سفر يونان تعليمه اللاهوتي، كان قد سمع وقرأ سفر اشعيا النبي. فاننا نعلم أن اشعيا الثاني (الفصول 40- 55) يسلّط الأضواء على لاهوت يشرح ان الله هو خالق ومخلص للعالم كله. لم يكن في ايام يونان من يجهل أن يهوه هو سيد كل الامم وأن يده تطال اقاصي الارض. ولكن الجديد الذي يحمله الينا سفر يونان هو أن عمل يهوه- ايلوهيم في العالم لا يغيّر شيئاً في شخصية يهوه العميقة. هذا يعني ان يهوه هو يهوه، ليس لاسرائيل فحسب بل لكل الامم. وبتعبير آخر، ان يهوه يكشف عن نفسه في كل مكان. انه لا يتغير هنا أو هناك ولا يتصرف بطرق مختلفة في داخل الحدود أو خارجها. ومن هنا تبدأ المشكلة في حياة يونان ومعاصريه. إن مؤلف سفر يونان يؤكد على ان ارادة الله ازاء الامم هي ارادة خلاصية. وهذا يعني ان هوية يهوه في اسرائيل لا تتغير في وسط الامم. ولا شك ان الرب بالنسبة لاسرائيل هو أولاً المخلص وهو بالتالي مخلص بالنسبة للامم.
لدينا في مثل هذا التفكير لاهوت فريد من نوعه. لا ينكر اليهود امتداد عمل يهوه إلى الأمم. فمن يكون الله ان كان سلطانه محدوداً؟ ولكن ما نوعية العمل الذي يمارسه الله بالنسبة للأمم؟ اليس هو عمل انتقامي واعلان دينونة؟ كان يحلم اليهود بانتقام من نينوى الوثنية يتناسب مع جرائمها ولقد عبر النبي نحوم عن ذلك باسلوب شديد اللهجة (نح 3/1- 4). وقد سقطت نينوى في السنة ستماية واثنتي عشرة على يد البابليين.
يجرؤ سفر يونان على تقديم رؤية لاهوتية جديدة: رسالة يونان إلى أهل نينوى وتوبة هؤلاء الوثنيين إلى الرب. ان الله ليس اله اسرائيل الذي ينتقم لشعبه، بل اله الخلاص بالذات لنينوى. لا تنحصر شمولية هذا الكتاب في عمل الله عامة، بل تتوسع وتعبر عن ذاتها في العمل الخلاصي. ان الله هو خلاص لنينوى كما هو خلاص لاسرائيل.
اله الرأفة:
مما يلاحظ أيضاً في هذا السفر ان الرب لا يتحدث عن توبة أهل نينوى، وهذا يعني أن لا أهمية لها مباشرة في خلاصهم. فان رجوع أهل نينوى عن فعل الشر ليس بشرط أساسي في رجوع الله عن الشر الذي كان ينوي ان ينزله بهم (3/10). لا يتصرف الله بحسب مواقف الناس الخاطئة اأ البارة ولكن بحسب قلبه وجوهره هو. ويسعى مؤلف سفر يونان إلى ان يؤكد لنا أن الله يتصرف عفوياً برأفة ورحمة مع خليقته كلها ولا سيما مع الضعفاء والاطفال والحيوانات. ان رأفة الله تحمله على خلاص البشرية. ان جدلية الخطيئة والتوبة والحياة التي نجدها لدى ارميا وحزقيال قد تحاوزها هنا سفر يونان.
3- قراءة سفر يونان قراءة مسيحية:
هل باستطاعتنا أخيراً أن نتجاهل قوة هذا السفر النبوية، وهل نعجب من كون يسوع قد تحدث عن "آية يونان"؟ كيف يمهد هذا السفر الصغير لوحي الله العامل في شخص يسوع المسيح؟ وماذا كان يعني يسوع في حديثه عن "آية يونان"؟
الرحمة والشمولية:
ان سفر يونان يبشر بمجيء يسوع المسيح. لم يكن يونان نبياً سيئاً، فقد عرف ان الله يكشف لأهل نينوى عن طبيعته العميقة: "فاني علمت انك اله رؤوف رحيم طويل الاناة كثير الرحمة ونادم على الشر"، فلذلك تهرّب من رسالته واستسلم لليأس. لقد تحدث سفر يونان عن حرية الله ومفارقة وحيه عن نفسه بشكل فريد: ان الله، اله اسرائيل والأمم، هو اله الرأفة والغفران، هو المخلص. فان مثل هذا الوحي الشمولي يصدم اليهودي العادي ومحاولاته في امتلاك الله، يصدم لاهوتاً تقليدياً يجعل من الله شخصاً يعاقب ويكافئ. هذه الرؤية الشمولية مع ما تحتويه من عمل خلاصي لجميع الشعوب هي تقدم لاهوتي حققه سفر يونان في البيئة اليهودية استعداداً لوحي الله في يسوع المسيح..
لم تكن شمولية الخلاص يوماً بشكل فعلي وكامل في أولى اهتمامات اسرائيل. وهذا امر طبيعي جداً لان علاقة اسرائيل بالأمم لم تكن يوماً بالامر السهل. فكيف يتراجع اسرائيل عن اختياره من جهة وكيف يقبل من جهة أخرى ان يغلق على الله الحي في حدود قوجمية ضيقة. عاش اسرائيل هذا الصراع بين خصوصيته الضيقة وانفتاحه الشمولي حتى مجيء المسيح. فعندما تُهدِد الأمم اسرائيل، فهو يرفض دخولها في الملكوت فتزداد الهوة عمقاً بين اسرائيل والأمم، ويرتفع جدار الشريعة الذي يفصل بينهما. فاسرائيل مقدس وطاهر، اما الأمم فهي نجسة في نظره. فان الدين اليهودي يقوم على هذا الانفصال الذي هو من مقومات القداسة: "تعلمون ان قد حرّم على اليهودي ان يعاشر اجنبياً او يَدخل منزله" (رسل 10/28). "نحن يهود بالولادة ولسنا من الخاطئين الوثنيين" (غل 2/15).
وفي آخر الأمر، ان الوحي الكامل الذي اظهر حب الله هو الذي هدم الجدار الذي يفصل بين اليهود والأمم. فعندما يصبح الخلاص مجانياً بشكل جذري، لا يستطيع أحد من بعد ان يدّعي حقاً في هذا الخلاص. فان كان الله هو وحده يخلص، لأنه رؤوف رحيم، ومن دون ان يكون للانسان أي استحقاق في ذلك، فعندئذ تتهدم الحدود التي كانت تفصل بين الناس. لم يهدم سفر يونان هذه الحدود الفاصلة بين اسرائيل والأمم ولكنه اعدّ الطريق اليها. ان موت يسوع وقيامته هي آية يونان التي تحققت في التاريخ واعطتنا الشريعة الجديدة الكاملة.
فلا نعجبن من ان يخاف يونان من مثل هذا الوحي. لقد تمرد أيضاً عمال الساعة الأولى الذين وجدوا في السيد انساناً ظالماً (متى 20/1- 16) وتمرد الابن الكبير على والده واخيه في مثل الابن الضال (لو 15/25- 30). قد يفضل الانسان شريعة تقيد حريته وتغلقه في العبودية على شريعة الحب الصعبة... التي تفترض ذبيحة حياته. ان سفر يونان هو تعميق روحي لايمان اسرائيل وإعداد أكيد لوحي الله في شخصية يسوع المسيح.
خاتمة:
لقد قال القديس ايرونيموس وعلى حق، في صدد حديثه عن سفر يونان: "ان يسوع هو يونان الجديد". فكما تكلم القديس بولس عن آدم الجديد ومن بعده آباء الكنيسة، فالحديث عن "يونان الجديد" وقد سمى يسوع نفسه"، اعظم من يونان "يفتح أمامنا آفاقاً لاهوتية وانسانية رائعة. يسوع الناصري، هو هذا الانسان المتأصل في تاريخ وفي شعب، هو هذا الانسان الذي عاش في حدود بشريتنا وشاركنا الافراح والاحزان ودخل في اعماق واقعنا البشري وعاش خبرة الموت إلى اقاصي الحدود وهو الانسان البريء. انه يونان، وهذا يعني انه اخذ ضعفنا على عاتقه وصار خطيئة لاجلنا على حد قول القديس بولس. ويسوع الناصري هذا هو يونان الجديد، هو أعظم من يونان. لقد شدّد كاتب سفر يونان مرات عديدة على موقف الهرب في يونان "هرب من وجه الرب" في بداية الرواية كما شدّد أيضاً على ركبة يونان في الموت في آخرها:
"خذ نفسي مني، فانه خير لي ان أموت من ان أحيا" (4/3). أما الاناجيل فتصف لنا يسوع في موقف معاكس تماماً للهرب أولاً. فالأجير يهرب في انجيل يوحنا (10/12)، اما يسوع فيسير في مقدمة القطيع. فيونان الجديد هو الابن أمام الاب وهو الاخ مع الاخوة. والرغبة في الموت التي يتمناها يونان، وهي تعبير عن الحسد والحقد والانتقام في قلب الانسان، تتحوّل في يسوع إلى رغبة في اعطاء الحياة: "لا أحد يأخذ حياتي، بل أنا أعطيها". ان يونان الجديد يعطي حياته في طاعة كاملة لإله العهد وفي تضامن كامل مع إخوته البشر. في موت يسوع وقيامته صارت آية يونان واقعاً، واعطي الخلاص مجاناً لكل انسان تحت السماء.
ألسنا اليوم في عالم يحمل التساؤلات نفسها؟ وبشكل أدق، ألسنا في عالم تتهدده دوماً تجربة الاستسلام إلى الخصوصية الضيقة والقومية السهلة، وفي عالم يسعى نحو شمولية كاملة ومتحققة؟ أليست المسيحية، وبشكل خاص، اليسس سر موت المسيح وقيامته هو المجال الذي فيه تعاش أولاً وتعلن ثانياً في العالم ضرورة عيشِ جدلية خصوصيات الشعوب وانفتاحها على بعضها البعض في حب شمولي متصاعد ومتكامل؟
الاب انطوان اودو اليسوعي

     

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM