النبي ناحوم

النبي ناحوم
تسألون من هم الانبياء الكتبة، أتراهم شعراء أم حكماء أم صوفيين أم أصحاب رؤى أم مرسلين أم خطباء؟
أقول: هم كل هؤلاء وليسوا واحداً منهم.
هم رجال كلمة. وكلمة الله الموحاة عندما تتجسد في فم الانبياء تستحيل إلى شعر أو ملحمة أو حكمة أو رؤيا، كما أصبحت يوماً ابن الله المتأنس: "بعدما كلَّم الله أباءنا قديماً مرات كثيرة بلسان الانبياء كلاماً مختلف الوسائل، كلّمنا في هذه الايام وهي آخر الايام، بلسان الابن" (عب 1/1). "والكلمة صار بشراً وحل بيننا". (يو 1/14).
واذا أردت أن تعرف كيف تجسدت كلمات الله في شعر ملحمي نبوي لا أقوى ولا أروع، إقرأ سفر ناحوم حيث تتحول الألفاظ إلى نفير يدعو إلى الحرب، وتصبح الصور القرمزية ملطخة بالدماء، وتدوي قعقعة السلاح في وسط المعركة ويرتفع أنين الجرحى لتغدو الأرض مقبرة لا قرار لها.
"ويل لمدينة الدماء، يملأها الغدر والرعب ولا يجول فيها طرف. ها صوت السياط وجَلجلة العجلات ووقع حوافر الخيل، وخضخضة المركبات، وثوب الفارس، ولمعان السيف، وبريق الرمح، وكثرة القتلى وتراكم الجثث التي بها يعثرون" (3/1- 3).
هذا وصف لسقوط مدينة نينوى عاصمة الاشوريين التي وقعت تحت أقدام البابليين سنة 613. فبعد أن وصلت الدولة الآشورية إلى أوجها باحتلال لسامرة سنة 722، و"طيبة" في مصر سنة 663، بدأ يتضاءل نفوذها بعد موت اشور بانيبال. وظهر قائد من بابل اسمه نابوفلسر يطمح إلى الاستقلال عن سلطة الأشوريين، فتحالف مع أهل ماداي في الشمال واحتلوا آشور ونينوى. حينئذ ذبحوا من ذبحوا، وسلبوا ما استطاعوا سلبه، ودمروا المدينة وقتلوا اهلها، بيما هربت فلول الاشوريين إلى الغرب، إلى نصيبين وحاران.
1- ناحوم يعلن عن حضور الله في التاريخ
وفي تلك الأيام أي بين سنة 660 و612 كان نبي يبشر في هيكل اورشليم اسمه ناحوم من مدينة القوش من بلاد ما بين النهرين. وكانت له حظوة كبيرة عند الملك يوشيا وكهنة الهيكل وأفراد الشعب.
وهلل ناحوم مع المهللين بسقوط دولة آشور، لأنها أذاقت الشعوب التي حكمتها، الذل والهوان، وكان قد أخبر بسقوط نينوى عاصمتها بأسلوب شاعري قريب من الرؤيا.
ولكن النبي قبل أن يكون شاعراً هو رجل الروح. فهو يقرأ الأحداث في ضوء الله ويستغل حدثاً سياسياً تاريخياً ليفسر التاريخ بنظرة دينية مؤكداً أن الخلاص سيأتي من عند الرب.
لقد كان الشعب يتساءل أمام الجور والطغيان والظلم: أين أنت يا الله؟ فكان سفر ناحوم جواب الرب الذي يقول: أنا هنا.
فالله حاضر، وهو سيد التاريخ، ويتدخل في الوقت المناسب. لا شيء يقف بوجه الله، يكفي أن يحضر فيختفي كل عدو متشامخ وتصبح نينوى عبرة لكل المدن التي تفكر بالشر. "منك يا نينوى خرج المفكر بالسوء على الرب والمبشر بالهلاك" (1/11). "ها أنا عليك يقول الرب القدير: أقذفك بالارجاس، وأطرحك وتكونين برة لكل من ينظر اليك" (3/6).
وجاء المسيح ليؤكد أن الله إصبعاً في مجريات التاريخ، وتاريخ البشرية تاريخ مقدس لأن الله نفسه دخل في حكم الزمان: "من رآني رأى الاب" وسيبقى سيد التاريخ إلى منتهى الدهر: "سأكون معكم إلى انقضاء الدهر".
ونحن اليوم نتساءل أحياناً أمام ضروب الحياة وأخبار الناس وأحداث البشرية بما فيها من طغيان وظلم وجور: أين أنت يا الله؟ ويأتي الجواب كما في الماضي: "أنا هنا، لا تخافوا". فلا بد لليل أن ينجلي، لأن الشمس تولد من جوف الليل لتنبئ بيوم جديد.
وكلمات النبي ناحوم تشدد عزائمنا اليوم أيضاً وقد عبر عن ذلك القديس بولس أيضاً بقوله: "إذا كان الله معنا فمن يقول علينا".
2- سفر ناحوم: نشيد النصر وملحمة الرجاء
يبدو لنا سفر ناحوم منذ أول مطالعة كمزمور يشيد بمآثر الله، ثم يستحيل إلى نشيد يتغنى بالفرج وما يلبث أن يصبح قصيدة تحتفل بالخلاص من كل عبودية والتحرر من كل طغيان.
اليك بعض صفات الله التي تشهد أن الغلبة هي له:
1- الله المنتصر دوماً: "ماذا تفكرون على الرب؟ وهو الذي يفنيكم فناء، ولا من يقاومه مرتين" (1/9) هذا الله ولا احد سواه.
2- الله سيد الكون: "منه ترتعش الجبال، ومنه تموج جيع التلال، من أمامه تتراجع الارض، يتراجع العالم وسكانه" (1/5).
3- الله يذل الاقوياء ويرفع الضعفاء: "هذا ما قال الرب: مع أن الآشوريين أقوياء وكثيرون، فيسقطون ويُبادون. أذللتك يا شعبي، فلا أعود أذلك" (1/12).
4- "الرب اله غيور ومنتقم" (1/2) انتقام الرب لا يشبه انتقام البشر بما فيه من حقد وضغينة، بل يعني اقتصاصه العادل من الخاطئ وغيرة الله تنبع من حبه العميق. أحبَّ الله شعبه حبّاً جماً مجانياً فعلى شعبه أن يحبه وحده دونا كيره.
5- "الرب بطيء عن الغضب" (1/3) فهو الذي يمهل ولا يهمل. كما يقول بطرس الرسول: "ان الرب لا يؤخر اتمام وعده، كما اتهمه بعضهم، ولكنه يصبر عليكم لأنه لا يشاء أن يهلك واحد منكم، بل أن تبلغوا جميعاً إلى التوبة" (1 بط 3/9).
هذا هو اله ناحوم، وما كتابه سوى نشيد للاله المنتصر وهو نوع من الشماتة اذ يفرح بمصيبة قوم رفضوا الله. ولِمَ لا يشمت بعد أن أصبح لديه رصيد واثبات بأن الله هو الأقوى وهو أمين لوعده؟؟
ويأتينا سفر ناحوم كليتورجيا فيها الايمان والرجاء والثقة بالله. هي صلاة الضعيف الذي يفتخر بانتصار ربه. ألم تكن المزامير ضرباً من هذه الصلوات؟.
ولنا في نشيد الانتصار لموسى الذي أنشده عندما غرقت جيوش الفراعنة خير مثال على هذا النوع من الاناشيد في العهد القديم. قارن بين هاتين الآيتين لتتأكد صحة ما ذهبنا اليه: يقول موسى: "تطلق سخطك كالقش فيأكلهم" (خر 15/7).
ويقول ناحوم: "كالشوك المتشابك والقش اليابس يؤكلون جميعاً بناره (1/10).
وهناك أناشيد أخرى لدبورة وحنة وغيرهما ولعل أفضل مثال هو نشيد مريم العذراء التي تعظم الله وتبتهج بقدرته: "كشف عن ساعده فشتت المتكبرين في قلوبهم. خلع الاقوياء عن الروش ورفع الوضعاء" (لو 1/51).
ونجد في سفر الرؤيا صدى لسفر ناحوم. فيوحنا ايضاً ينشد قوة الله وانتصاره على بابل القديمة ورومة الحديثة، وبعد أن يصف ما حل بالمدينة وسكانها ويشبهها بالبغي لكثرة خطاياها يهتف ويقول: "هللويا، لالهنا النصر والمجد والقدرة، لان أحكامه حق وعدل. دان البغي المشهَّرة التي أفسدت الأرض بدعارتها، وانتقم منها لدم عبيده (رؤ 19/2).
أرأيتم كيف أن المعطيات التاريخية تغيرت ولكن النظرة الدينية بقيت في العهد الجديد كما في العهد القديم. فتفسير يوحنا هو نفس تفسير ناحوم: الغلبة لله. قارن بين رؤ 7/15- 19 ونا 3/5- 6.
اذا كان سفر ناحوم نشيداً للظفر وملحمة للرجاء فماذا يقول لنا اليوم؟
ان الدرس واحد لأن الله لا يزال رب العالمين وسيد الكون. وكل دولة مهما عظمت هي إلى زوال عاجلاً أم آجلاً. كما يقول المثل الشعبي: "ما في شجرة وصلت إلى ربها".
ولا نظنّن بأن الله مع سياسة دون الاخرى، ومع دولة ضد دولة. أي أنه مع سياسة بابل المنتصرة أو مع سياسة يهوذا المحررة. فبابل إلى زوال أيضاً. لأن يهوذا وقعت على يد البابليين، والبابليون سقطوا تحت أقدام الفرس، والفرس تراجعوا أمام الرومان، ورومة انهارت واندثرت. الدول والسياسات تظهر وتمضي، وأما الله فيبقى.
وجاء المسيح ليقول لنا أن اللكوت الوحيد الذي لا يزول هو الملكوت الروحي: مملكتي ليست من هذا العالم!.
وجاء ليعلمنا أيضاً أن الملك الوحيد الذي لا يموت هو الله الآب ومعه الابن الجالس على عرش مجده (متى 5/35؛ 25/31).
وأجمل ما قال ناحوم في هذا الاله: "الرب صالح لمن يلوذ به، ويصون المحتمي به في الضيق" (1/7).
3- سفر ناحوم: نشيد الفرح ونداء السلام.
في خضم هذه الأشعار الصارخة والكلمات النارية التي تفوّه بها ناحوم في نشوة الانتصار، يأتينا بآية غريبة عن الاجواء ويقول: "ها على الجبال قدما مبشرٍ منادٍ بالسلام" (2/1). ما أروع هذا التعبير وكأني به علماً أبيضاً مرفوعاً في وسط المعركة أو قوس قزح بعد عاصفة هوجاء أو غصن زيتون في فم حمامة وديعة.
ولا عجب أن يستخدم أشعيا أيضاً هذا التعبير الجميل (52/7).
فالمبشر هو الذي يحمل البشرى السارة، وأي خبر أفضل من خبر انتصار الله وانتهاء عهد الظلم والفسق وبداية الفرح: "عيِّدي يا يهوذا أعيادك وأوفي نذورك، فالمُهلك لا يعود يعبر فيك من بعد لأنه انقرض انقراضاً" (2/1).
أضف إلى ذلك أن المبشر الذي يأتي بالخبر السار ينادي أيضاً بالسلام.
وكأني بناحوم يرى وجه المسيح المبشر على الجبال الذي حمل الينا انجيل الخلاص والانتصار الدائم على الخطيئة والشيطان والموت: "أنا غلبت العالم"، فولّد في المؤمن الفرح الكامل: "قلت لكم هذه الاشياء ليكون بكم فرحي، فيكون فرحكم تاماً" (يو 15/11).
وهذا المسيح نادى بالسلام والمسالمة: "طوبى للساعين إلى السلام فانهم أبناء الله يدعون. "السلام استودعكم وسلامي أعطيكم". "ليسالم بعضكم بعضاً".
وكلمة ناحوم التي تأتينا من عمق التاريخ لم تفقد معناها اليوم، بل هي دعوة معاصرة وملحة للتبشير بالخلاص والنداء بالسلام في عالم يتخبط في الحروب حيث أصبح الانسان ذئبا لأخيه الانسان.
الخاتمة
نعرف القليل عن شخصية ناحوم، ووصل إلينا اليسير من أعماله وهو سفر من 47 آية.
ولكن بالرغم من أن هذا السفر الصغير لا يكشف كل افكار النبي، إلاّ أنه يوحي إلينا بدوره الكبير في فترة زمنية محدودة. ومَثله كمَثل جبل الجليد ترى جزءاً منه ولكن تعرف أن القسم الأكبر تحت الماء.
ومع ذلك ترك لنا ناحوم أفكاراً عظيمة بكلمات قليلة، عن قدرة الله وأمانته والرجاء بانتهاء الكرب.
لم يخرج ناحوم عن خط الأنبياء عامة ولا عن خط أرميا الذي كان معاصراً له وخدم مثله في هيكل اورشليم. فالنبوءات لا بد أن تتلاقى لأنها من مصدر واحد وتتوجه إلى شعب واحد. تختلف باختلاف الظروف أما الجوهر فواحد. وناحوم كسائر الانبياء يحارب الظلم ويدعو إلى ملكوت سلام ويذكّر بالعهد.
ولعل اسم ناحوم أي المعزي هو خير معبر عن رسالته لأنه عزى شعبه في وقت المحنة وأعلن سقوط نينوى، فكان رجل الايمان الراسخ بقوة الله، ورسول الرجاء بانتصار الحق، والبشير بالعدالة الالهية التي حلت على الأرض لأنَّ الزمن زمن الخلاص.
وتمر السنوات فيأتي المسيح ليرسل إلينا معزياً آخر هو الروح القدس ليلهم عبر العصور وحتى يومنا هذا آلاف الشعراء المسيحيين الملتزمين لينشدوا قصائد الخلاص وملاحم الرجاء وأهازيج الفرح وزغاريد السلام.
المطران بطرس مراياتي

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM