النبي يوئيل

    النبي يوئيل
- النبي:
شخص النبي يوئيل ابن فتوئيل (1/1) مجهول. وقد يشير كتابه، بسبب لهجته الليتورجية، انه كان نبياً مرتبطاً بخدمة الترتيل في هيكل اورشليم (راجع 1- 3).
من اي عصر هو؟ يبدو للكثيرين أنه من حقبة ما بعد السبي وذلك بسبب عدم ذكر ملك اورشليم في نبوءاته وبسبب الطابع الرؤيوي الذي يلاحظ خاصة في 3- 4. انما الاشياء ليست واضحة لهذه الدرجة لان هنالك تشابهاً عميقاً على الصعيد الفكري ومن حيث صيغة الكلام بين النبي يوئيل وبين انبياء القرن السابع وبدء القرن السادس ق م. مثل ارميا وصفنيا ومؤلفي تثنية الاشتراع غير المعروفين.
- ترتيب السفر:
واذا تفحصنا ترتيب السفر لرأينا توضيحه صعباً أيضاً. لقد كان المفسرون يميزون إلى الان جزءا اولَ (1- 2) يحتوي على صلاة طقسية حزينة كتبت بمناسبة مصيبة ضربت ارض يهوذا، ألا وهي اجتياح الجراد، وجزءا ثانياً يحتوي على سلسلة نبوءات ذات طابع رؤيوي موضوعها العام حكم الله وفوزه على الامم. وموضوع "يوم يهوه"، بنظر هؤلاء المفسرين، هو الموحِّد بين الجزئين إذ إنه بالضبط موضوع الجزء الثاني ويبرز ايضاً في الجزء الاول في 1/15؛ 2/1- 2، 10- 11.
وانما ليس بأكيد، بنظر المفسرين الحاليين، ان النبي يصف في الجزء الاول حادثاً عاشه شخصياً كشاهد عيان، ورأيهم ان يوئيل يقصد، في كل ما يتنبأ عنه، التصدي لموضوع فاجعة كبيرة او محنة مهمة نستطيع ان نسميها فاجعة الفاجعات او محنة المحن، ألا وهي قدوم "يوم يهوه"، يوم ظم وديجور، يوم غام وضباب يضطرب منه جميع سكان الارض (2/1- 2). وفي هذا "اليوم" يُمتحن الناس امتحاناً ولا يخلص فيه الا الذين يتجردون مطلقاً من ذواتهم. ويتصدّى الني لهذا الموضوع مستعملاً كل ما عنده من امكانية وقوة في التعبير ليبلغ وصفُه قمتَه في الفصل الثالث والفصل الرابع. ويُلاحَظ بعد الانتباه اولا، وفي ما كان يسمى الجزء الاول والجزء الثاني، ان الفرق من حيث الاسلوب في التعبير شبه ظاهري ويتلاشى اكثر فاكثر، وثانياً، ان النبي يتحلى بدينامية مدهشة تسمح له بقوته في الكلام، تخريب العالم وتكوينه من جديد.
- رسالة النبي:
على كل حال، ومهما كان الرأي بما يخص ترتيب السفر الادبي، إن رسالة يوئيل واضحة تماما وتتسع في موضوعيين مهمين مترابطين. اولاً: التجرد المطلق هو شرط خلاص الانسان. وثانياً: موضوع "يوم يهوه". والموضوع الاول يشتبك دوما بالثاني والثاني بالاول ليؤلفا جموعة متماسكة تماسكاً شديداً.
"يوم يهوه" مذكور في كل من الفصول الاربعة (1/15؛ 2/1- 2؛ 3/4؛ 4/14). وما هو بيوم عادي، لأن له ابعاداً زمنية ومكانية متجسدة نوعاً ما. فيتراءى لنا كشيء مخيف للغاية يشبه تكاثف قوة غير قابلة للقياس، او طاقة لا تُضاهَى ولا توصف ولا يعبَّر عنها إلاَّ برموز ملائمة. إنه يشبه فاجعة من الفاجعات الطبيعية الكبيرة. فهو تارة حرب مخرّبة، وطوراً طاقة معتمة كلها ظلام بالنسبة لنورنا الارضي. انه يفوز، فيقتل كل حياة ويطفئ كل كواكب السماء، ويحكم بالعدم على كل من يطمح الى مجابهة الله سيد العالم.
وهذا اليوم هو للانسان مرادف تعرّ او تجرد مطلق يحاول النبي وصفه باستعمال صيغة يقتبسها من جموعة تعابير مجازية لا تنفد. فهو يُشبه في الفصل الاول جراداً كثيفاً ينتشر ولا يستطيع احد مقاومته (1/4) وبسببه ينقطع كل طعام شهي عن الافواه وحتى كل قوت لا بد منه للعيش. فلا خمر ولا عصير ولا قمح ولا زيت (1/5، 10). الكرم جف واصبح خراباً، والتين ذبل وصارت شجرته حطاماً، والرمان والنخيل والتفاح وجميع الاشجار قد ذوت، فذوى السرور عن بني البشر (1/7، 12). ونسمع العذراء تنوح على بعل صباها لأنه توفي، والكهنة خدام الرب ينتحبون لأن التقدمة والسكيب قد انقطع عن بيت الله (1/8-9).
وفي الفصل الثاني يظهر "يوم يهوه" وكأنه جيش غريب بعدده وقدرته، إنه كنار مخربة، يملأ المدن والبيوت ولا ينجو منه احد ولا شيء. والرب بذاته "يجهر بصوته لان عسكره كثير جدا وهو ينفذ كلمته. ان يوم الرب عظيم وهائل جداً، ومن يطيقه" (2/11).
وفي الفصل الثالث يأخذ التجرد ملامح الاضطراب الشامل. فروح الرب يحل محل القوى الطبيعية، ونرى الناس وكأنهم طائشون، ويصبخ الكون وكأنه مسرح لمعجزات غريبة تضعه في حالة الفوضى: فالبنات والبنون يتنبأون، والشبان يرون رؤى، وتحلم الشيوخ احلاماً، وتظهر عجائب في السماء ودم ونار على الارض، واعمدة دخان... قبل ان يأتي يوم الرب (3/1- 4).
وفي الفصل الاخير يدين الله الحاكمُ الاممَ في وادٍ خيالي ورؤيوي يدعى "يوشفاط" اي "اله يقوم بالحكم" (4/12).
والاكيد ان هذا التجرد المطلق هو بحسب فكرة النبي يوئيل الشرط الاساسي للرجوع الكامل إلى الله. وهو يؤدي عملياً إلى تحويل جذري عند الانسان. وهذا التحويل هو في توجيه جديد للحياة اكثر مما هو في طاعة لطقوس تعبِّر خارجياً عن صيرورة باطنية. انه التوبة إلى الله في تمزق القلوب أو تغييرها وفي "الدعاء باسم الرب" (2/12- 14؛ راجع 1/13- 14؛ 3/15- 17). ويوضح النبي في 3/5، ان توبة الانسان مرتبطة بالاختيار الالهي لأن الذين "دعاهم الرب" هم وحدهم الذين (يبقون" او يخلصون بعد الامتحان الكبير. فعلى الانسان اذاً، بعد أن يتجرد عن كل شيء وخاصة عن ذاته، أن يتكل على الله ويرتكز بكل تواضع على نعمته الخلاصية، "لعل الرب يرجع ويندم لانه رؤوف ورحيم" (2/14).
ويبشر النبي يوئيل، في ثلاث نبوءات خلاصية موزعة في كتابه، بكينونة جديدة يتمتع بها كل من تجرّد وتاب بالمعنى المذكور (2/18- 27؛ 3/5، 4/18- 21). وتتميز هذه الكينونة بالبحبوحة العجيبة التي يعطيها الله لمؤمنيه (2/21 ونتابع). انما هذه البحبوحة ليست يالذات غاية الحياة وهدفها، لان المهم هو أن "يعرف" المؤمن الله بمعنى المعرفة الاختبارية، وان يسكن الله الأحد في وسط مؤمنيه فيوحدهم ولا يخذلهم إلى الابد (2/27؛ 4/17).
- سفر يوئيل في العهد الجديد:
في كرازته يوم العنصرة، وقد كانت اول اعلان رسولي للبشارة المسيحية، استعمل بطرس الرسول صيغة كتابية استعارها خاصة من نبوءة يوئيل (3/1- 5؛ راجع اعمال 2/7- 24). وتظهر لنا هذه النبوءة كفاتحة يذكرنا فيها الرسول بما وعد الله بلسان النبي "ان يفيض روحه على كل بشر" (اعمال 2/16). والاكيد بنظر بطرس الذي يتكلم باسم الكنيسة (اعمال 2/14)، ان نزول الروح يوم العنصرة يحقق هذا الوعد، وان الايام الاخيرة قد تمت (اعمال 2/17؛ قارن يوئيل 3/4 "يوم الرب") وهي تخص مجيء المسيح "يسوع الناصري" الذي "صلبه اليهود الكافرون، واقامه الله ورفعه واعطاه ان يفيض الروح القدس الموعود" (اعمال 2/24، 32- 33). وقد اعلن يسوع بعد قيامته هذه المواعد عندما بشر رسله (بانهم يعمَّدون في الروح القدس بعد أيام قليلة" (أعمال 1/5).
واذا تساءلنا بأي معنى فهم بطرس والكنيسة نبوءة يوئيل فالجواب متشعِّب وغني. لقد اكتشفنا في يوئيل ان الروح النازل على الانسان يجرده من قواه الطبيعية ليهيئه للرجوع الكامل الى الله (يوئيل 3- 4). فالاكيد ان الرسل، واولهم بطرس، قد "امتلأوا جميعاً من الروح القدس" (اعمال 2/4)، فاضاعوا قواهم البشرية الطبيعية التي كانت تدفعهم إلى "غلق ابواب الدار التي يقيمون فيها خوفا من اليهود" (يو 20/19)، واخذوا بدافع من الروح يحملون كلمة الله بجرأة الى الناس فكانوا "شهوداً" ليسوع المسيح في "اورشليم واليهودية كلها والسامرة، حتى أقاصي الأرض" (اعمال 1/8).
والأكيد أيضاً أن الناس الذين شاهدوا الرسل وسمعوا بطرس "أحسوا ان قلوبهم تتفطّر فأخذوا يتوبون ويندمون على ماضيهم" واعتمد كل منهم باسم يسوع وانعم عليهم بالروح القدس" (اعمال 2/37- 41).
ولقد اكتشفنا من جهة ثانية في نبوءات يوئيل الخلاصية ان شعب الله الجديد يتميز، وبعد أن تجرد وتاب بدافع من الروح، بمعرفة الله الاختبارية وبالوحدة العميقة الناتجة من تواجد الله في وسطه. فالعنصرة حققت جمع الشعب المسيحاني في الوحدة الروحية بين كافة اليهود والمهتدين من الشعوب "الذين اتوا إلى أورشليم القدس من كل امة تحت السماء" (اعمال 2/5، 11). ولنا توضيح كامل لهذا كله في العنصرة الخاصة بالوثنيين والتي يتكلم عليها سفر الاعمال (10/44- 46).
وكما ان المظهر الخارجي لفيضان الروح أمر عابر ولكن الوحدة الحاصلة للشعب هي دائمة، كذلك الهبة الحاصلة للكنيسة هي دائمة رُغماً عمَّا يوجد من عابر في المظهر الخارجي للعنصرة (ألسنة من نار والتكلم باللغات). ونرى الجماعة المسيحية تتابع في بدء نشأتها تعليم الرسل وتمارس الحياة المشتركة وكسر الخبز والصلاة وتزداد كل يوم عدداً (اعمال 2/42- 47؛ 4/32- 36؛ 5/12- 14).
فالكنيسة في مسيرتها على الارض تتلقى من الرب الروحَ الذي يجمعها في الايمان والمحبة ويقدسها.
واذا تأملنا في تعليم بولس الرسول اكتشفنا اننا نشارك الله في كيانه بواسطة الروح القدس المعطى لنا. فهو قد جدّدنا جذرياً بسر المعمودية ساكباً في قلوبنا المحبة، جوهر الله، فحوّلنا إلى أبناء ومتّعنا بالنور والقوة اللازمة لنسلك بكل حرية سبيل الروح لا سبيل الجسد (روم 5/5؛ 8/4؛ غل 5/16، 22؛ قارن يو 4/8). حتى ان الروح هو بنفسه حال فينا (رو 8/9- 11) وساكن في اجسادنا بنوع أننا لسنا لأنفسنا (1 قور 6/19) لكننا هيكله، وهذا الهيكل "مقدس في الرب" (أف 2/21). فالروح يقودنا اذاً من الداخل مانحاً ايّانا نوره وقواه، كباراً كنا أم صغاراً. ونكتشف بفضله دعوتنا الشخصية في خدمة الكنيسة ونقوم بها لأن كل منا "يتلقى من تجليات الروح لأجل الخير العام" (1 قور 12/7 وتابع؛ اعمال 15/28).
- المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني:
التأم هذا المجمع المقدس بالروح القدس. وكانت رغبته الحارة في "ان ينشر على كل البشر ضياء المسيح نور الامم المتلألئ على وجه الكنيسة" (دستور عقائدي في الكنيسة). ونسمعه يشدد باستمرار على الروح، ذاكراً اياه على ما يبدو مئتين وثمان وخمسين مرة لكثرة اهمية دوره في الفكر المسيحي والحياة المسيحية. فنحن نؤلف الكنيسة وهي "هيكل الروح" و"مسكن الله في الروح". إنها في "خدمة الروح" لأنها "عروسه". والقاب الروح متنوعة ومنها خاصة: "روح الرب"، "روح المسيح"، "روح الحق"، "روح الحرية"، "روح الحياة".
إن الروح يحوّلنا، بصفتنا اعضاء الكنيسة، إلى شركة اخوية، ويعمل فينا على صعيد شامل. هو يحفظ رؤساءَنا ويقويهم ويعضدهم لتقديسنا نحن شعب الله (دستور عقائدي في الكنيسة 27). فبعون منه يعبّر المجمع رسمياً وبصورة معصومة عن تعليم المسيح المتعلق بالايمان وبالاخلاق. هو الروح يحل على الاساقفة فيصبحون معلمي الايمان ورعاة اصيلين. وهو يدعو الكهنة فيقبلون طابعه ويعيشون له، فيدفعهم الى خدمة المسيح. هو ينفح الازواج المسيحيين بروح المسيح "الذي ينعش كل حياتهما بالايمان والحب والرجاء فيبلغان اكثر فاكثر كمالهما الشخصي وقداستهما المتبادلة فيساهمان هكذا سوية في تمجيد الله" (دستور راعوي 48). وهو مصدر الحياة الرهبانية لان "بالهام منه يعتنق كثيرون الحياة الكنسية لمارسوا المشورات الانجيلية ويتبعوا المسيح بحرية اكبر ويتشبهوا به بامانة اعمق (قرار مجمعي في تجديد الحياة الرهبانية 1).
وعلى هذا المستوى الشامل يدفع الروح القدس ويدعو الكل إلى رسالة الكنيسة في العالم ويساهم فيها. فهو "يضع في قلوب المؤمنين ذلك الروح الرسولي عينه الذي كان يدفع المسيح بالذات، وهو يستبق احياناً العمل الرسولي ويرافقه دائماً باشكال متنوعة ويوجهه دون انقطاعاً (قرار في نشاط الكنيسة الارسالي 4).
وينتشر عمل الروح حتى "خارج النطاق المنظور للكنيسة الكاثوليكية". فلا ننسينَّ أن كل ما تعمله نعمة الروح القدس في الاخوة المنفصلين بامكانه ان يسهم في بنياننا. ولذلك "يرغب المجمع بالحاح ان تنمو مبادرات ابناء الكنيسة الكاثوليكية متحدة مع مبادرات الاخوة المنفصلين دون وضع اي عقبة في سبل العناية الالهية، دون ان يستبقوا باحكامهم دوافع الروح القدس المستقبلة" (قرار مجمعي في الحركة المسكونية 3، 4، 24).
واخيرا وبمثابة خاتمة لكل قولنا، ان الروح القدس حاضر لدى غير المسيحيين لتنفتح قلوبهم بمعونته فيؤمنون "ويرتدون إلى الرب بحرية ويتعلقون به باخلاص" (قرار في نشاط الكنيسة الارسالي 13).
الاب جورج صراف
سوريا.

   

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM