النبي عوبديا

النبي عوبديا
مقدمة
كان من الممكن أن يُفقِد السبيُ البابلي سنة 587 ق. م. المسبيين اليهودَ إيمانَ آبائهم وأجدادهم، فيتحوّلون إلى ديانة مستعمريهم، وأن يقضي بالتالي على مؤسساتهم الدينية. ولكن ما حصل هو العكس تماماً. إذ بعد عودتهم من السبي، راح اليهود يتأملون في تراثهم القديم وطقوسهم السابقة، وبمقارنتهم اياها مع وضعهم التاريخي الحاضر، هبَّت فيهم روح دينية عارمة جعلت ايمانهم ينضج بنوع نهائي. هذه "الثورة الروحية" جعلتهم يُعيدون قراءة نصوصهم التوراتية القديمة ويكتبون، مضيفين عناصر جديدة، تاريخ هذه المؤسسات الدينية التي سوف تشكّل، بعد ذلك التاريخ، محورَ ديانة شعب اسرائيل (انه زمن تأسيس الطقوس- إذا جاز التعبير- كالسبت والاعياد... وبكلمة اخرى ولادة اليهودية كديانة). في هذه الحقبة، تأثر روح العبادة اليهودية كثيراً بنشوء هيكليات دينية جديدة وبغنى عقائدي ناجم عن قراءة جديدة للتراثات الكتابية القديمة بوحي من الوضع التاريخي الراهن، وبات المؤمنون معه مقتنعين، بأن عقاب الله الذي انذر به الأنبياء سابقاً قد تحقق (بالسبي)، وبقيت لهم المواعيد التي ينتظرون تحقيقها.
1- رسالة عوبديا
كتب عوبديا في زمن الجلاء. إنه يكتب على طريقته ويفسر تحقيق مواعيد الله، مدفوعاً بشعور وطني. وتتلخص رسالته بالكلام عن "يوم الرب" وولادة اسرائيل الجديد، انطلاقاً من حالة تاريخية خاصة في زمانه: ففي سنة 587 ق. م. استفاد الأدرميون، وهم قبيلة سامية مستقرة قي الجبال، جنوب البحر الميت، من سقوط اليهودية ليستولوا على أراضيها في الجنوب خصوصاً في حبرون (الخليل). فهب عوبديا ضدهم. ظنوا انهم بمأمن من الاجتياح (الآية 3) ولكنهم سيهبطون مهما ارتفعوا (الآية 4). قريباً يأتي "يوم الرب" (الآية 15) وستنال هذه القبيلة عقابها، فيقاصص الله المذنبين بالجرائم ويمنح الخلاص لأتقيائه (الآيات 16- 21).
ليست المواعيد هنا للفرد وإنما للأمة كلها التي تستعبر من ويلاتها الماضية لتبني مجدها الحاضر. رغم شقائها، هي مقتنعة بأنها وحدها تعبد الله الحقيقي، سيد الكون، الساكن في صهيون (آية 21)، الذي به يرتفع قرن (رأس) شعبه وتنحط الأمم الأخرى، أما إذا أرادت هذه الأمم الخلاص، فعليها هي الأخرى أن تمر بالعقاب والموت.
ليس يوم الرب مع عوبديا يوم قصاص الله لاسرائيل، كما مع صفنيا، ولكن يوم ثأر من باقي الأمم. مع عوبديا، أصبحت كلمة "نبوءة" مرادفة لكلمة "الموعد".
2- عوبديا والعهد الجديد
عاش النبي عوبديا في زمن اشتد فيه عند الشعب شعور بقرب انتهاء الأزمنة، في وقت بان له ان تدخل الله النهائي لخلاص شعبه أمر قريب وواقع لا محالة. في مثل هذه الأجواء عينها اطلق يسوع صرخته: "لقد تمت الأزمنة واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالانجيل" (مر 1/15) (انه موضوع تعليم يسوع الاساسي ويرد أكثر من ثمانين مرة على لسانه في الأناجيل الازائية). أما الجديد في تعليم يسوع فهو انه يبشر ببدء الأزمنة الاسكاتولوجية وبظهور ملكوت الله في التاريخ الحاضر لاسرائيل ولسائر الأمم. أجل تنال الأمم حصة في الخلاص الحاصل في أورشليم والمنتشر منها. وجميل ان نلاحظ كيف ان لوقا الذي يبدأ انجيله في هيكل اورشليم (لو 1/5- 25) ينهي أعمال الرسل في رومة، عاصمة الأمم والعالم الوثني (اع 28/23- 28). فلا حدود إذاً لكلام الله ولإعلان بشارة الملكوت.
3- قراءة مسيحية وحالية لنبوءة عوبديا
إن نبوءة عوبديا، هي من أقصر أسفار العهد القديم. انها تعبر عن حقائق يعيشها الإنسان في أي زمان ومكان، ولذا فهي تنطبق في جوهر تعاليمها على واقع أيامنا الحاضرة. ومع أنها تتوجه إلى شعب تكبّر وتجبّر، فهي تعني الفرد أيضاً مع ما فيه من مقومات طبيعية، وما الشعب إلا جموع الأفراد، وقد يقود فرد أحياناً شعباً بكامله. لقد أثار آدوم غضب الله بتعجرفه (الآية 3) وأصبح الشعب المتكبر مذنباً وقاتلاً لأخيه عندما أنكره في شدته (آيات 10 - 14). ونحن اليوم، ألا نشهد مثلما شهد عوبديا في زمانه؟ ألا يقوم شعب على شعب ودولة على دولة؟ وليست الدولة الغازية غريبة، فأحياناً تكون دولة صديقة، جارة، شقيقة! وما نقوله على مستوى الشعوب نقوله على مستوى الأفراد. أما يقوم الإنسان على أخيه الإنسان؟ لا بل الأخ على أخيه في بيت واحد؟ ويأكل الصديق مال صديقه، والجار جاره، والشريك شريكه؟ ويبلغ بهم الصلف والتعجرف حداً لا يعودون يعرفون معه الشفقة والرحمة؟!...
لكن الله "حط المقتدرين عن عروشهم ورفع المتواضعين" (لوقا 1/52). لا يدع المتكبر يسترسل في هواه والظالم يظلم إلى ما لا نهاية. في عوبديا يطبق الله على آدوم شريعة "عين بعين وسن بسن" ويعاقبه بالمثل. "فكما فعلت يُفعل بك" (آية 15) "وكما تدينون تدانون ويكال لكم بما تكيلون" يقول يسوع إلهنا له المجد (متى 7/2). "لك يوم يا ظالم" يقول المثل العامي. ذلك أن يوم الرب قريب (آية 15) وحكمه عادل على جميع البشر. لن يتأخر حتى يأتي ليدين كل واحد حسب أعماله وكل أمة حسب سياستها!.
فالباطل إذاً لا يدوم. ومهما طالت محنة شعب هُضمت حقوقه، وسلبت ثرواته، وتشرّد بسبب ما حلَّ به من ويلات الغريب والقريب، فلا بد من أن يشرق عليه نور الحق فينتصر به، لأن الحق هو السلاح الأمضى، وقد شهد له المسيح نفسه (يوحنا 18/37). وتعود صهيون مكان الهيكل المقدس، المسكن المقدس، بيت العبادة وعاصمة مملكة الله القادمة على الارض (آيات 19- 21). ذلك يعني أن ما كان سيبقى، "وما بيصح إلا الصحيح" كما يقول المثل العامي الآخر "الصبر- مفتاح الفرج"، "وبثباتكم تنقذون أنفسكم" (لوقا 21/19). انه وعد الله ينطبق على حياتنا اليوم وكل يوم. وكم من أناس نالوا المواعيد وحصلوا على خلاص الههم لأنهم صبروا في المحن والضيقات...
"لأن الملك للرب" (آية 21)، نغمة اسكاتولوجية، شمولية ينهي بها النبي عوبديا رسالته. الله يملك على السماوات والأرض "ولا يكون لملكه انقضاء" (لوقا 1/23). "الملك لله" نكتبها على واجهات بيوتنا ومداخلها، وبحق نفعل ذلك. يترادف "يوم الرب" وصوت الله هذا. "ليأت موتك". انها صلاة ورسالة: صلاة علمنا اياها يسوع ورسالة لتحقيق ملك الله على الارض تقع مسؤوليتها على عاتق كل مؤمن وكل من ينتظر حقا مجيء ربنا يسوع المسيح وتجلّيه في آخر الأزمنة. "تعال أما الرب يسوع" (رؤيا 22/20) "واقضِ في الأرض" واملك عليها، "لأن لك الملك والقدرة والمجد إلى أبد الدهور".
الأب جوزيف صغبيني المخلّصي

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM