القراءة البحثيَّة: يسوع يطلب فيلبُّس، وفيلبُّس يطلب نتنائيل.

القراءة البحثيَّة:

يسوع يطلب فيلبُّس، وفيلبُّس يطلب نتنائيل

هذا السرد يوازي خبر أندراوس وسمعان (تلميذ يأتي بتلميذ آتٍ إلى يسوع، ويسوع يكشف قلب الآتي إليه الآن)، مع مدلولٍ معارض (يسوع نشَّأ فيلبُّس) وتوسُّعٍ سرديّ (اعتراف نتنائيل الكرستولوجيّ: هي الذروة كما المثل الثالث في لو 15).

1- يسوع يطلب فيلبُّس (1: 43-44)

موقف هذا المقطع لافتٌ للنظر. مع أنَّ يسوع هو منذ الآن في الجليل، إلاَّ أنَّه مضى إلى الجليل (1: 43) ليلتقي في شكل احتفاليّ بتلميذٍ جليليّ (1: 44؛ 12: 1)، يأتي حالاً »بإسرائيليٍّ لا غشَّ فيه« (1: 47) إلى هذا المعلِّم. مع أنَّ الجملة تعني أكثر من أن يكون يسوع ترك موضعًا خاصٌّا لينطلق إلى موضع أوسع، فهذا يُبرز التشديد الجغرافيّ لدى يوحنّا على أنَّنا على حدود يهوذا حيث نجد العداوة ليسوع حين يأتي »إلى خاصَّته« (1: 11؛ 4: 43-44؛ 7: 1-9). وعلى المستوى الاجتماعيّ، هذا يعني تضمُّنًا تاريخيٌّا لأجوبة على إرساليَّة المسيحيّين الأوَّلين. ولكن على المستوى الأدبيّ الداخليّ، نتطلّع إلى نشاط الله لدى الذين همَّشتهم النخبةُ الدينيَّة بمواقفها المتشدِّدة (7: 52؛ رج 2: 9).

اسم فيلبُّس يونانيّ، وهذا ما جعل اليونانيّين يقتربون منه أوَّلاً (12: 20-21) وهكذا كان نقاش: هل فيلبُّس يهوديّ(1)، أو أحد الهلّنيّين المقيمين في فلسطين(2)، أو يهوديّ أخذ اسمًا يونانيٌّا(3). فهناك عدد قليل من الرسل يحملون اسمًا يونانيٌّا. ولكن في بيت صيدا كثرت مثل هذه الأسماء Cullmann, Peter, p. 22. بعد ذلك، تبع يسوعَ أشخاصٌ من الأمم، فرفض ذلك بعضُ تلاميذه، ومقاوموه بشكل خاصّ. لهذا تطلَّعت الكنيسة فيما بعد إلى الرسالة وسط الأمم: خبر قائد المئة (مت 8: 5-13 = لو 7: 1-10) والمرأة السوريَّة الفينيقيَّة (مت 7: 24-30 = مت 15: 21-28)

إلاّ إذا كان فيلبُّس التلميذَ الذي لم يُذكَر اسمه (1: 37). رج Michaels, John, p. 21 الذي يُسند كلامه إلى البنية الموازية بين آ42-43 وآ43-51. فالتلميذ (أندراوس) الأوَّل جاء من الخبر السابق. فلماذا لا يكون التلميذ الثاني فيلبُّس، الذي لم يُذكَر اسمه، ولكن لو كان فيلبُّس واحدًا من التلميذين الأوَّلين، لأشار إليه يوحنّا في 1: 40. ولكنَّه ما أشار. وراح بعضهم برفض التماهي بين هذا التلميذ والتلميذ الحبيب. ولكنَّ بعضهم اعتبر التماهي ممكنًا. (1) هو في رفقة أندراوس، صيّادًا في جماعة الصيد مع يعقوب ويوحنّا (لو 5: 10). ثمَّ (2) هذا الطرح يشرح التقليد الخاصّ بالمعمدان الذي يُروى هنا. ففي الإنجيل الرابع، إغفال الاسم ينطبق على التلميذ الحبيب(4)، ولكن لا يمكن أن ينحصر فيه.

بداية دعوة فيلبُّس غير معقولة من دون شاهد متوسِّط، تجاه الخبر السابق. ولكنَّ فيلبُّس أضحى سريعًا شاهدًا لنتنائيل، فدعاه إلى لقاء شخصيّ مع المسيح الذي أقنعه بسرعة كما سبق وأقنع فيلبُّس. اراد يوحنّا أن يدلَّ على أنَّ اللقب الصادق والمنفتح، الذي يتواجه مع يسوع الحقيقيّ (لا مجرَّد شهادة عابرة من دون لقاء)، يصبح في الحال تابعًا له (3: 20-21).

عادة، يبحث التلاميذ عن معلِّم خاصٍّ بهم. فيشوع بن برخيا، ذاك الحكيم السابق للمسيحيَّة، نصح بأن يكون للإنسان رفيق ر ، يرافقه في دراسة التوراة (مشناة، أبوت 1: 6). وكرَّر ربّان غملائيل النصيحة ذاتها في سياق آخر (أبوت 1: 16). وفي الإطار اليونانيّ، نقرأ رسائل كلبيَّة تنصح باختيار تربية صالحة ومعلِّم حكيم (سقراط، الرسالة الرابعة). ولكن في دعوة فيلبُّس، كما في أمثلة دراماتيكيَّة في الأناجيل الإزائيَّة (مر 1: 17؛ 2: 14؛ مت 4: 19؛ 9: 9؛ لو 5: 10، 27)، هناك نداء مباشر من يسوع من أجل أتباعه، على مثال بعض المعلِّمين الجذريّين الذين حاولوا هديَ منفتحِ العقل إلى فلسفتهم. مثلاً، سقراط مع تلميذه كسينوفون (ديوجين 2: 48). وفي العهد القديم، مع الله الذي يطلب شعبه (حز 34: 11).

تحدَّث بعضهم عن التلميذ الذي يمضي عادة للبحث عن معلِّم واختياره، لا العكس، بحيث يصبح عملُ يسوع لاعاديٌّا ومتسلِّطًا (موقف يهوديّ). مثل هذا القول وإن كان فيه بعض الحقيقة، يحتاج إلى بعض اللطائف، لأنَّ التلاميذ العديدين أتوا إلى يسوع، ولأنَّه سمح لهم أن يتبعوه إذا كانوا مستعدّين أن يدفعوا الثمن. في الحالين، دلَّ يسوع على سلطانه حين طلب اتّباعه.

الحاشية الجغرافيَّة في 1: 44 (تتكرَّر في 12: 21) لافتة للنظر. مع أنَّ الإزائيّين جعلوا بيت بطرس في كفرناحوم، جعله يوحنّا في بيت صيدا وما شرح. فبيت صيدا، شأنها شأن سائر المدن المحيطة ببحيرة الجليل، لم تكن معروفة لدى الكتّاب العائشين خارج فلسطين (صارت منسيَّة بعد أن دمَّرها الرومان)، وما عاد يذكرها أحد خارجَ تقليد يسوع. وبيت صيدا يرتبط اسمها بالسمك وكذلك سكّانها. ومن الممكن أن يكون أندراوس وبطرس عمِلا فيها مساعَدةً لتجارتهما، فكانا يقيمان فيها بشكل متقطِّع. هو موقف. وموقف ثانٍ يعتبر أنَّهما كانا من بيت صيدا، ثمَّ انتقلت الأسرة إلى كفرناحوم قبل أن يتزوَّجا. أمّا الشعب الآتي من الخارج، فكان يُدعى باسم موطنه الأصليّ (يسوع الذي من الناصرة). وبالرغم من إمكانيَّة توفيق بين التقليد اليوحنّاويّ والتقليد الإزائيّ، فخطُّ يوحنّا يدلُّ على استقلاليَّة تقليده، سواء عرف التقليد الإزائيّ أم لا، أو على رفضه بأن يتبع أخبارًا خاصَّة سبقته. ومع أنَّ الإزائيّين يذكرون بيت صيدا بشكل عابر، فمن الواضح أنَّ يسوع كان ناشطًا هناك (مت 11: 21 = لو 10: 13؛ مر 6: 45؛ 8: 22 = لو 9: 10). تحدَّث يوحنّا عن مواقع جليليَّة تركها الإزائيّون، وعرفها قرّاؤه (يو 2: 1؛ 4: 46) الذين كانوا من الجليل، أو قريبين من التقليد الجليليّ الذي يعرفه مثلُ هؤلاء الجليليّين الذين اقتُلعوا لكي يقيموا في آسية الصغرى. ويبدو أنَّ فيلبُّس عرف نتنائيل في موطنه (1: 45).

2- وفيلبُّس يطلب نتنائيل (1: 45-46)

»ووجد« فيلبُّس نتنائيل (1: 45)، كما وجد يسوعُ فيلبُّس (1: 43). نتنائيل اسمٌ ساميّ وإن لم يكن كثير الاستعمال(5). بعضهم ماهاه مع برتلماوس المذكور في التقليد الإزائيّ(6). ولكن بما أنَّ اليهود لم يعتادوا أن يأخذوا اسمين ساميّين، فضَّل بعضُ الباحثين أن يتبعوا آباءً أخرجوا نتنائيل من جماعة الاثني عشر. وقال آخرون: برتلماوس يمثِّل الشكل اليونانيّ الآراميّ ''؟؟ ؟؟؟؟'' (ابن تلماي) الذي هو لقب أبويّ، لا اسم علم Higgins, p. 59. ولكنَّ الضمَّ الظاهر لاسم فيلبُّس مع نتنائيل في اللوائح الإزائيَّة (مر 3: 18وز)، قد يُفهمنا هذا التماهي! ويبقى أنَّ صورة نتنائيل برزت في الإنجيل الرابع، لا لأنَّه من الاثني عشر، بل لأنَّه الينبوع الأوَّل لتقليد الإنجيل الجليليّ، الكائن في قانا (21: 2؛ رج 2: 1؛ 4: 46)، أو أقلَّه الصديق القريب لكاتب هذا الينبوع (21: 2). دوره في هذا الإنجيل جعله وكأنَّه أحد الاثني عشر (مجموعة عرفها يوحنّا في 6: 7). وإذا كان من الاثني عشر، فيكون برتلماوس أكثر من أيِّ شخص آخر. ولكنَّ التعرُّف إليه يبقى غير أكيد.

حين أعلن فيلبُّس لنتنائيل أنَّ يسوع هو الذي كتب عنه موسى والأنبياء(7) (1: 45؛ رج 5: 46)، قدَّم اعترافًا يشبه في المعنى اعتراف أندراوس: »وجدنا المسيح« (1: 41). ففي نظر يوحنّا، الكتاب كلُّه يوجِّهنا إلى المسيح (2: 17، 22؛ 7: 37-39؛ 12: 15-16؛ 20: 9). غير أنَّ اعتراف فيلبُّس بدا أكثر صراحة في رجوعه إلى سلطة الكتاب المقدَّس، حيث وظيفةُ موسى الأولى في الإنجيل الرابع هي الشهادة للمسيح(8) وهكذا تكون الذروة مع اعتراف نتنائيل بمسيحانيَّة يسوع (1: 49).

وضعُ يسوع كابن يوسف (1: 45؛ 6: 42)، نجده أيضًا في التقليد الإزائيّ (مت 1: 16؛ لو 3: 23؛ 4: 22؛ رج مر 6: 3)، مع ارتباط بالإرث الداوديّ (مت 1: 6؛ لو 3: 31). فهذا الاعتراف لا يحتاج أن يتضمَّن جهل الجماعة اليوحنّاويَّة، ولا معارضة التقليد حول ولادة يسوع في البتوليَّة (وهذا أمر عرفه التقليد الأوَّل، السابق للوقا ولمتّى)، كما لا يحتاج أن يتضمَّن »النقص« في الفهم الكرستولوجيّ لدى فيلبُّس، وإن لم يكن سببٌ يفترض أنَّ القرّاء فهموا الولادة في البتوليَّة، ولا أن يكون استعمل يوحنّا سبب التقليد حول الولادة في البتوليَّة (7: 42). فيمكن (وإن لم يكن معقولاً) أنَّ يوحنّا تطلَّع إلى تلميح لاهوتيّ آخر: يسوع هو نسل يوسف الروحيّ (4: 5) وأشرفُ أولاد يعقوب. أمّا التلميح إلى يعقوب في 1: 47-51، فيشير إلى تسامي يسوع اللامحدود على يعقوب: فهو الإله والوسيط، لا مجرَّد مماثلٌ له أو بعض نسله.

»صالح« ti agaqon. هي طريقة بها نقلِّل من أهمِّيَّة شخص أو شيء. أمّا هنا فاللهجة مازحة أكثر منها معادية. توقَّف نتنائيل عند أصل يسوع الذي من الناصرة، مع أنَّه هو أيضًا جليليّ، لأنَّه اعتبر أنَّ الجليليَّ ليس معدٌّا لأن يحكم الجليل كلَّه على مثال الفرّيسيّين في يهودا، المعدِّين لذلك. وقال Smith في John (1999) p. 75: حين ذكر الناصرة، شدَّد على أصل يسوع المتواضع وعلى بشريَّته كما في 1: 14. فالناصرة كانت مدينة صغيرة. سكّانها على ما يبدو 1600-2000 نسمة، وذلك انطلاقًا من المدافن(9). وكان تقدير آخر 500 نفس(10). يمكن أنَّ الذين عاشوا في الجوار عدُّوا أنفسهم أكثر ممّا هم. ومع أنَّ بعضهم ارتأى أنَّ المجيء من المدن المشهورة ضروريّ للسعادة (بلوتارك، ديموستين 1: 1)، إلاّ أنَّ بلوتارك ظنَّ أنَّ الحياة في المدن المشهورة ضروريَّة فقط لمن يحتاج إلى المخاطرة (2: 1؛ رج يو 7: 3-4).

نشير هنا إلى أنَّ مدن الجليل وقراها لم تكن في أكثريَّتها واسعة، تضمُّ معظمها أقلّ من 300 نفس(11). ولا نستطيع أن نسمّي حواضرَ في المعنى الهلِّنستيِّ للكلمة سوى طبريَّة وصفوريَّة(12). المشكلة ليست المساحة. ثمَّ مع أنَّ الناصرة وُجدَت في ظلِّ حاضرة صفوريَّة المدينة اليهوديَّة الهلِّنيَّة، التي اشتهرت بشرِّها، فالمشكلة لم تكن هنا أيضًا (يتَّسع مسرحها لـ 4000-5000 شخص). فإنَّ صفوريَّة(13) لبثت أمينة للعالم اليهوديّ، مع أنَّها رفضت المشاركة في الثورة(14). والمنطقة المحيطة بها لبثت يهوديَّة(15)، وسكّان الناصرة بدوا من »الأرثوذكس« المتشدِّدين(16). بالإضافة إلى ذلك، لم تطلب مدن الجليل وقراه ارتباطًا اقتصاديٌّا وحضاريٌّا بهاتين الحاضرتين الجليليَّتين(17)، مع أنَّها تأثَّرت بالمبادلات الواسعة في الإمبراطوريَّة الرومانيَّة. فهذه المدن الكبيرة كانت تمتصُّ الاقتصاد في محيطها. لهذا أبغض الجليليّون هاتين الحاضرتين. إنَّ أولويَّة صفوريَّة والتقليد المسيحيّ المتأخِّر نحوها، جعلها غائبة من الإنجيل، وهذا ما يلفت النظر. فقد تكون اتِّصالات يسوع بها نادرة. وقد يكون موقف نتنائيل من الناصرة، نابعًا من نظرته إلى صفوريَّة (4: 44؛ مت 13: 54-57؛ لو 4: 24)، أو من تزاحم بين قرية وقرية، وهذا أمر معروف في العصر القديم. رج أع 21: 39؛ رسالة أرستيس 249.

وعلى المستوى اللاهوتيّ والأدبيّ، يتوازى سؤال نتنائيل مع سؤال معارضي يسوع، حول أصله وموطنه (7: 41-42، 52)، وذلك مع أنَّ نتنائيل اختلف عن معاصري يسوع واقتنع سريعًا أنَّ موطن إنسان لا يَنزع عنه صفةً وصفَهُ بها فيلبُّس. أمّا دعوة فيلبُّس له »لكي يأتي ويرى« فتُوازي دعوة يسوع في 1: 39. واللقاء مع يسوع يُتمُّ الأمرَ أكثر من الجدال (الذي لا يقود عند يوحنّا إلى الاهتداء الصريح). فكما في آ39 »تعال فتنظر« صارت عبارة نموذجيَّة في الأدب القديم، ولاسيَّما في »الهلكة« أو الحلقات السلوكيَّة. هذه الدعوة تعكس المعرفة المميَّزة في العالم اليهوديّ: فقائد المجمع يعرف التوراة المكتوبة. أمّا تلميذ يسوع، فالتوراة التي صارت بشرًا (1: 1-18). هذا يعني خبرة شخصيَّة مع الله (9: 25؛ 10: 4) وتطلُّعًا إلى الروح بيَّن معارضو يسوع أنَّهم لا يمتلكونه.(18)

3- لقاء نتنائيل بيسوع (1: 47-51)

كشف يسوع لنتنائيل هويَّته الحقيقيَّة (1: 47)، كما كشف لبطرس (1: 42). وهكذا جعل وحيَه الموجَّه إلى شخص يأتي إليه، في سياقه. بعض المرّات ينتظر الشعب من صانع العجائب في العالم اليونانيّ الرومانيّ وفي التقليد اليهوديّ، أن يقرأ في القلوب أو أن يُنبئ بالمستقبل (موسونيوس روفس 48؛ سي 48: 24). أمّا في سياق الإنجيل الرابع، فنظرةُ يسوع إلهيَّة وليست فقط بشريَّة في طبيعتها (2: 24-25).

أ- نتنائيل، يعقوب الحقيقي، وإسرائيليّ لا غشَّ فيه (1: 47-48)

نتنائيل هو »إسرائيليّ أصيل« (1: 47). هو حقيقيّ لا غشَّ فيه، مثل يسوع (1: 9؛ 6: 22، 55؛ 7: 18؛ 15: 1). هذا ما يميِّزه عن معارضي يسوع، »اليهود« الذين يستندون إلى علاقتهم بالله من خلال العهد، للردِّ على يسوع »التوراة المتجسِّدة« (8: 54-55). نتنائيل يمثِّل تتمَّة رسالة المعمدان في 1: 31. وإذ دعا يسوع نتنائيل إسرائيليٌّا »لا غشَّ فيه«، عارضه بيعقوب ممثِّل إسرائيل (تك 28: 16). فإحدى الصفات النادرة في قياديّي إسرائيل هي »الأمانة« (خر 18: 21). أمّا الغشّ فلفظٌ سلبيّ، ولكنَّه يظهر في تك 27: 25 (بحسب السبعينيَّة، doloV) حين سرق يعقوب حقَّ البكوريَّة من أخيه.

ناقش الشرّاح معنى قول يسوع لنتنائيل أنَّه رآه تحت التينة (1: 48). بحث بعضُهم عن المعنى الأليغوريّ، الاستعاريّ. في أوغسطين، رمزت التينة إلى الخطيئة والموت، على ضوء تك 3: 7. وآخرون رأوا تلميحًا إلى الشعب اليهوديّ، انطلاقًا من مرقس 11: 12-25 والكلام عن نتنائيل الإسرائيليّ الأصيل(19). وآخرون أشاروا إلى أن دراسة التوراة تمَّت تحت التينة. ولكنَّ الشعب يدرس التوراة في أماكن غير »تحت التينة«. فالجلوس تحت الشجرة يعطي البرودة من حرِّ الظهيرة (بلوتارك، رومولوس 4: 1). الجلوس تحت التينة يعني الراحة بعد التعب، والهدوء بعد الاضطراب. رج 1مل 4: 25؛ 2مل 18: 31؛ أش 36: 16؛ مي 4: 4؛ زك 3: 10؛ 1مك 14: 12 1: 36؛ Bernard، John p. 18Hoskyns، Gospel،2؛ Barrett، John، p. 185

ترك معاصرو يوحنّا الإشارة إلى التوراة. فتطلَّعوا إلى خبر سوسنة في سفر دانيال: فهذا الفتى سأل كلاٌّ من الشاهدين الكاذبين على حدة: تحت أيِّ تينة رأى سوسنة تزني. أعطى الواحد جوابًا مختلفًا عن جواب الآخر، فدلاّ على شهادة الزور (تحت أيَّة شجرة؟ دا 13: 54-58). أمّا يسوع فرأى نتنائيل تحت شجرة محدَّدة، في موضع معيَّن، ومن هناك أتى إليه.

معرفة يسوع لنتنائيل لها طابع إيجابيّ (1: 47) في إنجيل يوحنّا، حول الكلام عن معرفة يسوع لما في الإنسان (2: 23-25). وسوف يقال إنَّ يسوع عرف مسبقًا من يخونه (6: 70-71؛ 13: 26)، وذلك في إطار دفاعيّ تجاه العالم اليهوديّ. وفي أيِّ حال، دلَّ يسوع على معرفته الإلهيَّة للطبائع البشريَّة. مثلُ هذه النظرة نُسبت عادة إلى الأنبياء، والسحرة، وفي النهاية إلى الله. ومثل هذا اللقاء يبيِّن فيه يسوع للناس أنَّه عرفهم، يدفعُهم نحو الإيمان (1: 42؛ 4: 17-18؛ 16: 30). فاللقاء مع يسوع صار في الإنجيل الرابع النموذج للذي قلبه منفتح على مثل هذا النداء.

فيسوع الذي يعرف خرافه ويدعوها بأسمائها (10: 3؛ رج 6: 8 مع فيلبُّس) بيَّن معرفته الحميمة لنتنائيل، كما عرف فيه نتنائيلُ راعيَه (1: 49؛ 10: 14، وبيَّن أنَّه عضو في شعب الله.

ب- يسوع ملك إسرائيل (1: 49)

حين كشف يسوع لنتنائيل هويَّته الحقيقيَّة، ما جاء كشفُه فقط موازيًا لكشفه هويَّة سمعان، بل كشفًا لهويَّة يسوع ذاته بفم نتنائيل (1: 49). وإذ كشف يسوع هويَّته الخاصَّة (1: 50-51)، جاء جواب نتنائيل اعترافًا كرستولوجيٌّا على هذه المعرفة الإلهيَّة. عادة، تكون هذه »الاعترافات« بعد معجزة. أمّا نتنائيل فما احتاج إلى ذلك: اللقاء مع يسوع كان كافيًا، مع كلمة دلَّت على نظرة يسوع وما فيها من حبٍّ ولجَ قلبَ نتنائيل. أتُرى نتنائيل قابل توما؟ هذا أراد أن يرى لكي يؤمن. أمّا نتنائيل فأعلن إيمانه حين سمع كلام الربّ. ذاك ما يقود يوحنّا إلى القول: الذي هو حقٌّا »من الله« يقود الآخرين الذين هم من الله (3: 20-21؛ يو 4: 6).

انتظر البعض أن يكون اللقبان (ملك إسرائيل، ابن الله) متوازيين، أو يكون الثاني أرفع من الأوَّل. فاستعمال »ابن الله« يقودنا في الدرجة الأولى إلى التقليد المسيحانيّ الذين نقرأه في العهد القديم كما في الأناجيل الإزائيَّة، لا إلى الكلام عن اللاهوت. في هذه القراءة، »ابن الله« و»ملك إسرائيل« عبارتان مسيحيّتان، لما انتظر يوحنّا من قرّائه أن يفترضوا معنى كلام نتنائيل. ومع ذلك، ليس فقط »ابن الله«، بل أيضًا »ملك« توسُّعًا في لطائف سوف تتطوَّر في الإنجيل الرابع(20)، بحيث إنَّ »ابن الله« تشير إلى الألوهة. من جهة، مملكة يسوع (12: 15) لم تتمَّ بحسب الانتظار اليهوديّ للملك المسيحانيّ (6: 15؛ 12: 13)، حيث رذله شعبُه كما رذله الآخرون (18: 33، 37، 39-40؛ 19: 3، 12، 14-15، 19، 21). إذا تطلَّعنا إلى مسيحانيَّة يوحنّا الإلهيَّة والتعارض بين مُلك قيصر ومُلك الله، فهذا يعني أنَّ 19: 15 قد تشير إلى يسوع الملك الإلهيّ والله. فالله مَلك في زك 14: 9، 16؛ يه 9: 12؛ طو 13: 6؛ 2مك 12: 15؛ 1أخن 25: 3، 5؛ 91: 13؛ سيب 1: 73؛ 3: 11، 56، 499، 560، 704؛ 1تم 1: 17 (لملك الدهور، الإله الواحد). هذا ما أقرَّت به المسيحانيَّة اليوحنّاويَّة: ففي الوحي يحمل يسوع لقبًا إلهيٌّا: ملك الملوك (19: 16؛ رج 17: 14). رج دا 2: 47؛ 1تم 6: 15؛ 2مك 13: 4؛ 3مك 5: 35؛ 1أخن 9: 4؛ 84: 2.

في منطق الخبر، قدَّم اعترافُ نتنائيل درسًا آخر من أجل الجماعة اليوحنّاويّة: عرف نتنائيل أنَّ يسوع هو المسيح، انطلاقًا من صفته النبويَّة: فإذا كان النبيّ الحقيقيّ لا يمكن أن يكون المسيح »الكاذب«، فقد سبق فيلبُّس وقال لنتنائيل مَن هو يسوع انطلاقًا من الكتب المقدَّسة (1: 45). وهكذا كان شاهدًا وعلامة لإعداد نتنائيل من أجل تفسير صحيح لهويَّة يسوع. فجواب يسوع والمثال الكرستولوجيّ الناقص الذي قدَّمه الآخرون ردٌّا على الآيات (6: 15)، يُفهمنا أنَّ الآية وحدها لا تكفي لتُبرز الطابع الحقيقيّ لشخص يسوع ورسالته.

ج- يسوع وسلَّم يعقوب (1: 50-51)

ساعة وبَّخ يسوع آخرين لأنَّهم احتاجوا يقينًا من أجل الإيمان (20: 29)، هنَّأ نتنائيل لأنَّه آمن على أساس يقين بسيط. وها هو يسوع يعد بأكثر (1: 50). استعمل يوحنّا لفظ »أعظم« meizw (13: 16؛ 15: 13؛ 19: 11)، فطبَّقه على عظمة الآب (10: 9) فوق كلِّ شيء! فوق يسوع في 14: 28 الذي جاء ليشهد للآب، 5: 36؛ يو 5: 9)، وعلى عظمة الابن فوق الآباء (4: 12؛ 8: 53)، بل على وعد يسوع من أجل عمل أعظم له (5: 20) ولتلاميذه (14: 12) كما هو الأمر هنا. تحدَّث شناكنبورغ (يوحنّا 1: 319) عن تواصل آيات يسوع (2: 11َ. وأبرز Jonge في كتاب يسوع، ص 59 اتِّصالَ يسوع المستمرَّ في السماء.

أشار يوحنّا إلى سلطة كلمات يسوع فاستعمل لفظًا يُبرز صدق ما يُقال في الإنجيل amhn amhn legw (3: 3، 5، 11؛ 5: 19، 24-25؛ 6: 26، 32، 47، 53؛ 8: 34، 51، 58؛ 10: 1، 7؛ 12: 24؛ 13: 16، 20-21، 38؛ 14: 12؛ 16: 20: 23؛ 21: 18. مع أنَّ ضمّ »آمن« إلى »آمين« يجعلنا أمام تلاعب على الألفاظ في العبريَّة، فلغةُ الإنجيل اليونانيَّة وتواتر »أمين، أمين« في الإنجيل، يجعل الكلام موازيًا لما في الأناجيل الإزائيَّة: amhn واحدة: الحقّ. رج Keener، متّى ص 54، 181، ومقابلَ آمين: أقول لكم legei autw رج مت 3: 9؛ أع 5: 38؛ 1كو 7: 12؛ ق رؤ 2: 24.

بعد أن وعد يسوع نتنائيل بأنَّه يرى »أعظم« من هذا، توجَّه إلى التلاميذ الحاضرين (أقلَّه فيلبُّس ونتنائيل) بل إلى الكنيسة في زمن يوحنّا. رج 3: 11-12 حيث الكلام ينتقل من المفرد إلى الجمع (نحن نتكلَّم). وعَد تابعيه بأنَّهم سيرون السماء مفتوحة (هي لغة الوحي والكشف، حز 1: 1؛ أع 7: 56؛ 10: 11؛ رؤ 4: 1؛ 11: 19؛ 15: 5؛ 19: 1). رج رؤ موسى 53: 2؛ 2با 22: 1؛ وص لاوي 2: 6؛ ترك يوحنّا الكلام بشكل خاصّ عن انفتاح السماء في عماد يسوع (مر 1: 10؛ يو 1: 32)، فوعدَ به هنا. يسوع هو الرباط بين السماء والأرض، بين ملكوت العلاء وملكوت الدنيا، بين الله والبشريَّة. هذا ما يقابل تجلّي اللاهوت لدى الإزائيّين الذي امتدَّ إلى كلِّ خدمة يسوع، 1: 14، أو إلى أسبوع الحاش والآلام الذي يغطّي رسالة الربِّ كلَّها، على أساس وجود يسوع في الهيكل، 2: 14-16 عبر خدمة يسوع العلنيَّة كلّها، كما شرح لفيلبُّس، صديق نتنائيل (14: 9)

كما وعد يسوع أنَّ نتنائيل وزملاءه سوف يرون الملائكة صاعدين (ثنائيّة يسوع العموديَّة في 3: 13؛ 6: 62؛ 20: 17) ونازلين (الروح »نازل« من »السماء« على »يسوع« في 1: 32؛ ويسوع في 3: 13؛ 6: 33، 38، 41، 42، 50، 58). بالنسبة إلى صعود الملائكة ونزولهم، رج رؤ 7: 2؛ 10: 1؛ 18: 1؛ 20: 1. نحن هنا في الإطار الجليانيّ مع سفر الرؤيا (رؤ 3: 12؛ 21: 2، 10). فهو ليس فقط »ابن الإنسان« الذي يأتي من السماء (دا 7: 13-14)، بل الوسيط بين السماء والأرض حيث يتنقَّل الملائكة فيدلّون على حضور الله على الأرض في شخص يسوع، كما في السماء. إنَّ »ملائكة الله الصاعدين والنازلين« صورة مأخوذة من تك 28: 12. فيسوع هو »سلَّم يعقوب«، الذي يتوسَّط بين الله في السماء وعبده يعقوب على الأرض (14: 6). وهكذا »فالإسرائيليّ الأصيل« (1: 47) يستطيع أن يتقبَّل وحيَ الله مثل جدِّه يعقوب (تك 28: 12). فهو، على مثال سلَّم يعقوب، بيت إيل، بيت الله (تك 28: 19). هي صورة تربط يسوع بالهيكل الجديد (1: 14؛ 2: 19-21؛ 4: 20-24؛ 7: 37-39؛ 14: 2-23).

بحث عدد من الشرّاح عن التقاليد حول يعقوب في خلفيَّة هذا المقطع. فالإشارة إلى الملائكة النازلين على الموضع، يمكن أن يكونوا نزلوا على يعقوب، كما صوَّرت التقاليدُ اليهوديَّةُ الملائكَةَ عابرين إلى يعقوب. في بعض التقاليد الرابّينيَّة، رأى الملائكة صورة إسرائيل محفورة في السماء، فمضوا ليجدوا يعقوب الأرضيّ على الأرض (تك ربا 68: 12). وأشار الترجوم الفلسطينيّ أيضًا أنَّ الملائكة صعدوا ونزلوا ليروا يعقوب. وهكذا يكون يسوع يعقوب الجديد. وتطلَّع آخرون إلى صورة قديمة من فيلون حول إسرائيل السماويّ، فوجدوا صورة مماثلة في يوحنّا، حيث يمثِّل يسوع إسرائيل السماويّ، ونتنائيل إسرائيل الأرضيّ(21).

هنا نترك عالم الرابينيّين ونعود إلى السبعينيَّة التي انتشر تفسيرها في نهاية القرن الأوَّل المسيحيّ، حيث الملائكة يصعدون السلَّم وينزلون كما في سفر التكوين (هناك السلَّم الصُوريّ والسلَّم المصريّ، خبر أبولونيوس ملك صور 43). فنتنائيل، لا يسوع، هو يعقوب الجديد هنا (1: 47، فعيسو أكبر من يعقوب، 4: 12). يسوع هو سلَّم يعقوب (في اليوبيلات 27: 27 هو »باب السماء«) والطريق بين الله والعالم (14: 6). إن قال بعض المعلِّمين إنَّ موسى أكبر من يعقوب، لأنَّه لم يرَ الملائكة فقط، بل صعد إلى حيث يقيمون، فبالأحرى يكون يسوع أعظم من يعقوب، لأنَّ الملائكة يرتبطون به من أجل علاقة حقيقيَّة بين العالمين (3: 13-15 حيث يسوع هو الصاعد الحقيقيّ، المتفوِّق على موسى). فقمَّة هذا الاعتراف الألقابُ الكرستولوجيَّة: يسوع هو المسيح، هو الحمل، هو الابن والملك. ولكن فقط حين يعرفه التلاميذ كابن اللهi الممجَّد والطريق إلى الآب، يقدرون أن يعرفوا ملء الواقع السماويّ وراء الألقاب الأخرى(22).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM