إليكم هذه الوصيّة أيّها الكهنة.

 

إليكم هذه الوصيّة

أيّها الكهنة

ملا 2: 1-10

حين نقرأ ما قاله يسوع للكتبة والفرّيسيّين في إنجيل متّى (23: 1-12)، نفهم ما قاله النبيّ ملاخي هنا في عناصر متفرّقة. الوثنيّون هم أفضل منكم في عبادتي وتمجيدي. والعهد الذي قطعتموه، وأنتم أبناء لاوي، أين صار اليوم؟ ووصيّة المحبّة الأخويّة، هل ضاعت عندكم فنسيتم أنّ للبشر كلّهم أبًا واحدًا؟ في قلب رجاء خاب، وإيمان بدأ يفتر، كانت تنبيهات النبيّ لأنّ الكهنة عادوا إلى الخطايا السابقة، من إهمال لشرائع العبادة، من بيع وشراء، من محاباة الوجوه. ويمكن أن تطول سلسلة الخيانات. هذا ما وصل إلى الإنجيل مع »الويل، الويل«. ويمكن أن يصل إلينا اليوم »نحن الذين انتهت إليهم أواخر الأزمنة« (1 كور 10: 10). ونقرأ نصّ النبيّ (2: 1-10):

1 والآن إليكم هذه الوصيّة، أيّها الكهنة:

2 إن كنتم لا تسمعون ولا تبالون

أن تُعطوا مجدًا لاسمي،

أنا الربّ القدير،

أرسل عليكم اللعنة

وألعن بركاتكم،

بل أنا لعنتُها

لأنّكم ما وضعتموها في قلبكم.

3 ها أنا أجدع لكم الذراع

وأرمي وجوهكم بالزبل،

زبل ذبائح أعيادكم،

وأرفعكم معه.

4 فتعرفون أنّي أرسلت إليكم هذه الوصيّة،

ليثبت عهدي مع لاوي (أبيكم).

5 كان عهدي معه للحياة والسلام،

فأعطيتهما له ليخافني.

فخافني وهاب اسمي.

6 شريعة الحقّ كانت في فمه،

ولا جور في شفتيه.

سار معي بالسلام والاستقامة،

وردّ الكثيرين عن الإثم.

7 شفتا الكاهن تحفظان المعرفة،

ومن فمه تُطلَب الشريعة،

لأنّه رسول الربّ القدير.

8 وأنتم حُدتُم عن الطريق،

وجعلتم الكثيرين يرتابون في الشريعة،

ونقضتم عهد لاوي أبيكم.

9 فأنا أيضًا أجعلكم منبوذين،

سافلين عند جميع الشعب،

بقدر ما لم تحافظوا على شريعتي،

وحابيتم هذا وذاك في أحكامكم.

10 أما لنا كلّنا أبٌ واحد؟

أما إله واحد خلقنا؟

فلماذا يغدر الواحد بالآخر،

مدنّسًا عهد الله مع آبائنا؟

نشير أوّلاً إلى ترجمة خاصّة في آ 3. الترجمة العاديّة: أمنع عنكم الزرع. هذا إذا قرأنا الفعل العبريّ »ج ع ر«. ولكن إن قرأنا »ج ع د« مع اليونانيّ، يعني النصّ أجدع (أقطع) لكم الذراع. فالكاهن الذي تُقطع يده يُمنَع من ممارسة الكهنوت. أمّا الزبل المذكور هنا، فهو ما يبقى من الذبائح، والذي يُحرَق في الخارج (خر 29: 14). فإذا كانت الاستعدادات على هذا المستوى، فالذبيحة تصبح نجسة كالزبل المتبقّي من الحيوان.

في آ 4، أضفنا »أبيكم« مع لاوي. هذا ما كان بعد المنفى حيث اعتَبرت قبيلة لاوي نفسها حاملة الكهنوت بالنظر إلى العهد، دون سائر القبائل، كما نقرأ في نصّ إرميا (30:20-22) الذي دُوِّن بعد المنفى، فجمع يهوذا مع لاوي:

20 إن أمكن أن تنقضوا عهدي مع النهار،

وعهدي مع الليل.

18 حتّى لا يكون الليل ولا النهار في أنواعهما،

وكما أنّ نجوم السماء لا تُحصى،

ورمل البحر لا يُكال،

كذلك أكثر ذريّة داود عبدي

واللاويّين خدّامي.

1- اسمي مهيب بين الأمم (1: 14ب)

بدأنا في الآية الأخيرة من الفصل الرابع عشر. هي تدلّ على تسامي الله، وسلطانه على الكون، ومبادرته الرفيعة في الكشف عن سرّه. »أنا الربّ القدير ملك عظيم« (1: 14). قد تعود العبارة إلى العالم الأشوريّ، على ما نقرأ في 2 مل 18: 19: »يقول لك الملك الكبير، ملك أشور«. في زمن ملاخي، طُبّقت بشكل اعتياديّ على الله في المزامير، وفي إطار إسكاتولوجيّ. نقرأ مز 47 3-4:

3 لأنّ الربّ عليٌّ رهيب،

ملك عظيم على كلّ الأرض.

4 أخضع الشعوب والأمم...

ورنّم المرتّل لله في مز 95: 3-4:

3 لأنّ الربّ إله عظيم،

وملك عظيم على جميع الآلهة.

4 بيده أعماق الأرض،

وله أعالي الجبال.

مثل هذه العبارة تلتقي مع هتاف النصر: »ليحيَ الملك«، كما في مز 97: 1-2:

1 الربّ يملك فلتبتهج الأرض،

ولتفرح البحار الكثيرة.

2 السحاب والضباب من حوله،

وقضاء عدله قاعدة عرشه.

هي تتضمّن سلطانًا آنيٌّا على شعبه وعلى العالم (1: 5، الربّ عظيم وراء تخوم إسرائيل) وتشير في الوقت عينه على ديناميّة تسير نحو التتمّة في نهاية الزمن.

مُلك الله مسيحانيّ. وبالتالي شموليّ. ومزامير الملك تفرض على الشعب بأن يحمل هذا البلاغ إلى الأمم. نقرأ مز 96: 10:

نادوا في الأمم: الربّ يملك.

يثبّت المسكونة فلا تتزعزع،

ويدين الشعوب بالاستقامة.

ونقرأ في المعنى عينه مز 47: 8-9:

8 الله يملك في الأمم،

ويجلس على عرش قدسه.

9 عظماء الشعوب تجمّعوا،

مع شعب إله إبراهيم.

لله الأرضُ ووسعُها،

وهو متعالٍ جدٌّا.

وينتهي أشعيا بقول على هؤلاء الأمم، يفتح الآفاق البعيدة (66: 18-19):

18 أنا عالم بأعمالهم (= الوثنيّين) وأفكارهم،

وسأجيء لأجمع شمل كلّ الشعوب

والألسنة، ليروا مجدي.

19 وأجعل بينهم آية،

وأبعث بعض من ينجو منهم إلى الأمم،

إلى سكّان ترشيش وفول ولود،

المشتهرين برمي السهام،

وإلى سكّان توبال وياوان

والجزر البعيدة،

الذين لم يسمعوا بصيتي،

ولا رأوا مجدي،

فينادون بمجدي في الأمم.

ينادي الشعب، بل يدعو الكهنة، فتنضمّ الأمم إلى شعب إله إبراهيم لتشارك في مديح الكون والخلائق، وتُنشد الهتاف لإله كلّ الأرض، على ما نقرأ في مز 47: 2:

صفّقوا بالأكفّ يا كلّ الشعوب،

إهتفوا لله بصوت الترنيم.

ويقول مز 102: 23 في هذا الإطار:

حين تجتمع الشعوب والممالك،

تجتمع معًا ليعبدوا الربّ.

هذا ما يعني الاحتفال »باسم الله العظيم المهيب« (مز 99: 2). ويواصل مز 102: 16:

ستخاف الأمم اسمك،

وكلُّ ملوك الأرض مجدك.

أمّا مز 98 فيحدّثنا عن الربّ المنتصر والديّان:

1 أنشدوا للربّ نشيدًا جديدًا،

لأنّ الربّ صنع العجائب.

يمينُه المقدّسة وذراعه

أحرزتا لنا الخلاص.

2 الربّ أعلن خلاصه،

ولعيون الأمم تجلّى عدله.

3 تذكّر رحمته وأمانته،

لبيت إسرائيل شعبه،

فرأت جميعُ شعوب الأرض

إلى أقاصيها، خلاص إلهنا.

في امتداد هذه الأناشيد، أسمع ملاخي صوتَ الله المنتصر: اسمي مهيب. تخاف منه الأمم. استعادت هذه الآية عمدًا بعض ما في 1: 11:

فمن مشرق الشمس إلى مغربها،

اسمي عظيمٌ في الأمم،

وفي كلّ مكان يُحرَق لاسمي البخور

وتُقرَّب تقدمةٌ طاهرة،

لأنّ اسمي عظيم في الأمم.

في هذا النصّ الخفيّ، يبدو أنّ النبيّ رأى في شعائر العبادة الفارسيّة المنقّاة، في عبارة »إله السماء« بدايةَ اهتداء الأمم في نهاية الأزمنة. فكأنّه رُمِيَ أمام هذا المستقبل النهائيّ: ليتورجيّا عظيمة لاسم الله لدى شعوب الأرض كلّها.

في هذه المرحلة من الوحي، يركّز اسمُ الله في ذاته قوّة الكائن الإلهيّ وديناميّته. والعبارة تعود أكثر من مرّة في 1: 6-2: 9. هذا يعني أنّ حوله (= اسم الله) تترتّب الخدمة العباديّة في الكهنوت. وفي سفر التثنية هو يقابل جوهر الله، فيؤكّد بتميّزه التسامي في قلب حضور الله القريب والخلاصيّ لشعبه: الله يُقيم في السماء، واسمه يُقيم في المعبد. مع دمار الهيكل، امّحى ذاك التميّز اللاهوتيّ، غير أنّ الاسم الإلهيّ حافظ على ارتباط وثيق مع شعائر العبادة، وله، بَعد أن صار يقابل (يحلّ محلّ) شخص الله، يتوجّه المديحُ والشكر والتكريم والحبّ... هو يواصل الوساطة التي بها يكون الحضور الإلهيّ.

لهذا، من أكرم الله »خاف اسمه«. وقد صارت العبارة عاديّة في الحقبة البعد منفاويّة، وتضمّنت بلا شكّ رنّة ليتورجيّة. نستطيع أن نقابل مز 102: 23 (الشعوب والممالك يتعبّدون لله) مع 102: 16 (الأمم يخافون اسم الربّ). وهذا يسري بشكل خاصّ على ملاخي باهتماماته العباديّة وتشديده على خطورة الخيانات العباديّة: عارض بين الوضع المؤلم لليتورجيّا أورشليم في عصره، وبين نقاوة العبادة التي يحتفل بها الوثنيّون. ولكنّنا نخطئ، ونجور على ملاخي إن نحن حصرناه في طقوسانيّة شكليّة. فالعكس هو الصحيح. فهو باسم إيمان حيّ وشخصيّ يندّد بالانحرافات العباديّة. ونظرته إلى الله هي من الرفعة ومن الكمال بحيث لا يقدر أن يحتمل إهمال متطلّبات الله. لهذا نماهي هنا مخافة الله والديانة.

وانطبع ملاخي انطباعًا عميقًا بسفر التثنية حتّى في أسلوبه. ونحن نعرف أنّ في هذا السفر تبدو مخافةُ الله إحدى التعابير العديدة عن وصاياه، عن حبّ الله نفسه. هي الوصيّة الأساسيّة، ليس فقط لأنها الأولى على مستوى الأهميّة، بل لأنّها وصيّة مبدئيّة تُشرف على سائر الفرائض، فتعطيها بُعدها الحقيقيّ وفحواها. وفي ما يتعلّق بقرابة ملاخي من سفر التثنية، نلاحظ بشكل خاصّ ما نقرأ في تث 28: 58: »وإن لم تحفظوا جميع أحكام هذه الشريعة المكتوبة في هذا السفر، وتعملوا بها، وتخافوا اسمَ الربّ إلهكم المجيد الرهيب، يرسل الربّ عليكم وعلى نسلكم ضربات عديدة«.

إنّ مخافة الاسم في ملاخي، شأنها شأن مخافة الربّ في التثنية، تحدّد الموقفَ الدينيّ الإجماليّ الذي يعبّر عن تحرّك الإنسان بكلّيّته أمام وحي القداسة، والاحترام أمام التسامي، ووعي حقارتنا أمام عظمة الله، والالتزام التامّ تجاه مشيئة الله كما أوحيَتْ لنا. وهذا الموقف يجد أسمى تعبير عنه في مختلف التظاهرات العباديّة. بل يذهب أبعد من ذلك فيوجز في لفظة واحدة »الديانة المثاليّة« التي يعيشها الأمم (ج و ي م) في أزمنة النهاية. وهو يبيّن بوضوح أنّ الوثنيّين سيدخلون حينذاك حقٌّا في شعب العهد.

2- نقضتم عهد لاوي

»والآن إليكم من الربّ هذه الوصيّة«. هذه الوصيّة تعبّر في الواقع عن حكم وقرار يلي ما قيل من توبيخ. فالتعارض واضح. ففي خلفيّة هذه اللوحة المثاليّة لعبادة تامّة تؤدّى لله لدى الوثنيّين، برزت خيانةُ الكهنة بروزًا لافتًا. جاء الكلام أوّلاً في صيغة شرطيّة: إن كنتم لا تسمعون... ثمّ انتقل القرار حالاً إلى صيغة التأكيد »منذ الآن لعنتها« (2: 2). فكأنّ النبيّ يشدّد على العناد في الخطيئة وعلى طابع للحكم لا دواء له. وهذا الحكم يجد نفسه منذ الآن وقد تحقّق في فكر الله. غير أنّنا قد نرى هنا أسلوبًا خطابيٌّا، وتنبيهًا أخيرًا يتوخّى أن يقتلع الكهنة من التساهل أمام ضميرهم، ويدفعهم إلى أن يتحرّكوا.

ما الذي أخطأ فيه هؤلاء الكهنة؟ أهملوا ما يشكّل قلب الخدمة الكهنوتيّة: تمجيد الله وشكره. وهذا أمرٌ مشكّك في العمق في نظر الله: ساعة الوثنيّون يقرّبون لله عبادة كاملة (1: 11)، لا يهتمّ أولئك المكلّفون بأن يأتوا بهم للاحتفال باسم الله، بما يشكلّ بداية الخدمة، أعني تمجيد الله. وفي الوقت عينه، هذا الحكم هو نداء أخير: فبحسب السياق واستعمال العبارة، نحن أمام مديح للدينونة. حين نمجّد الله، نقرّ بخطئنا، ونعترف بذنبنا ونمجِّد الله ساعة هو يعاقبنا. في هذا المجال، نقرأ إرميا (13: 16):

مجّدوا الربّ إلهكم،

قبل أن يُنشر الظلام،

وقبل أن تعثر أقدامُكم

على الجبال المعتمة.

وفيما أنتم تنتظرون النور،

يحوّله الربّ إلى ظلمات،

ويجعله ظلامًا دامسًا.

ونقرأ أيضًا في سفر المزامير (115: 1):

لا لنا يا ربّ لا لنا،

لكن لاسمك أعطِ المجد،

من أجل رحمتك.

فالتهمة الحقيقيّة التي بها يُتَّهم الكهنة، هي أنّهم لم يكونوا أمناء على المهمّة التي تسلّموها من التقليد منذ القديم القديم: »نقضوا عهد لاوي« (2: 8). هي المرّة الأولى نقرأ كلامًا في الكتاب المقدّس، عن عهد أبديّ مع لاوي. لا شكّ في أنّ هذا التعبير يدلّ، في زمن العودة من المنفى، على ترفيع قبيلة لاوي إلى الوظائف الكهنوتيّة. نقرأ في مز 106: 30-31:

30 قام فنحاس وسيطًا لهم،

فكفّ الوباء عن الفتك بهم.

31 فحُسب له ذلك الفضلُ،

جيلاً بعد جيل إلى الأبد.

وقال يشوع بن سيراخ في ف 45: 23-24:

23 والثالث في المجد بعد موسى وهارون،

كان فنحاس بن أليعازار،

وهذا جزاء له على غيرته وتقواه،

والوقوف بجرأة وعناد إلى جانب الربّ،

عند ارتداد الشعب عليه،

فكفَّر عن بني إسرائيل.

24 لذلك عاهده الربّ،

أن يتولّى دون سواه،

أمر المكان المقدّس،

وأن يُبقي له ولنسله

منصب الكاهن الأعلى إلى الأبد.

وقدّمت التقاليد القديمة نقاطًا تساند هذا الطرح فتبرز الوضع المميّز للاوي، والرباط الخاصّ الذي يربط هذه القبيلة بالربّ. نقرأ سفر التثنية (18: 1-2):

1 لا يكون للكهنة اللاويّين، أي لكل سبط لاوي، نصيب ولا ملكٌ مع بني إسرائيل. فهم يأكلون من الذبائح المحرقة وغيرها ممّا يقدّمه بنو إسرائيل للربّ.

2 ولا يكون لهم ما يملكونه فيما بين إخوتهم، بني قومهم، لأنّ الربّ هو مصدر كلِّ ملك لهم.

وتحدّث سفر الخروج (32: 25) عن بني لاوي الذي دعاهم موسى فاجتمعوا لديه... وفعلوا ما أمرهم به (آ 28). حينئذ قال لهم: »اليوم كرّستم نفوسكم للربّ« (آ 29). وسفر العدد (25: 7) ذكر ما فعله فنحاس »حين قام من وسط الجماعة وأخذ رمحًا بيده«، ولمّا اقتلع الشرّ »كفّت الضربةُ عن بني إسرائيل« (آ 8). ولكن يبقى النصّ المهمّ تث 33: 8-11: وظيفة لاوي الأولى: يعلّمون بني يعقوب أحكامك وشريعتك، ويقدّمون البخور على مذبحك (آ 10).

هنا نلتقي مع اهتمامات ملاخي الذي يجعل من الكاهن قبل كلّ شيء، خادم الكلمة. فالكاهن أودع معرفةَ الله، فصار رجل التعليم (2: 6-7). لا شكّ في أنّ مضمون هذه »ت و ر ه« لبث على مستوى الطقوس، كما تدلّ على ذلك اهتمامات ملاخي المتواصلة. ولكنّنا نخطئ إن حصرنا التعليم في هذا المجال الدقيق، لأنّ النبيّ يهتمّ أيضًا بالأخلاق والدين: فالعبادة الخارجيّة تلاقي الموقف الباطنيّ. ولكن هنا تبرز الشكوك: من وجب عليه أن »يردّ الكثيرين عن الشر« (2: 6) صار ذاك الذي يجعل الناس »يرتابون في الشريعة«، فيُبعد الناس عن الطريق الحقّ. ذاك هو الاتّهام الذي أطلقه هوشع (4: 4-6) قبل بضعة أجيال:

4 ولكن لا يخاصم أحدٌ شعبي ولا يوبّخه،

فخصومتي معكم أنتم أيّها الكهنة.

5 تسقطون في النهار وفي الليل،

ويسقط الأنبياء أيضًا معكم،

فأنتم علّة دمار شعبكم.

6 لحق الدمار بشعبي لأنّهم لا يعرفوني،

وبما أنّكم رفضتُم أن تعرفوني،

فأنا أرفضكم فلا تكونون لي كهنة.

وبما أنّكم نسيتم شريعة إلهكم،

فأنا أيضًا أنسى بنيكم.

وقال الربّ في معرض اتّباعه للشعب (إر 2: 8):

فلا الكهنة قالوا: أين الربّ؟

ولا معلّمو الشريعة عرفوني.

والحكّام أنفسهم عصوني.

والأنبياء تنبّأوا باسم البعل،

وذهبوا وراء إله لا نفع فيه.

والحكم نفسه ضرب الكاهن الخائن بسبب إهماله وما فيه من خطأ. بل بسبب ما قام به عمدًا لكي يُفسد الشعب. ذاك هو معنى الفعل »ش ح ت«: اجتذب إنسانًا إلى الدمار المادّيّ والروحيّ. أجل، رذل الربّ قبيلة لاوي من كهنوته. »وأرسل عليها اللعنة« (2: 2؛ رج تث 28: 20: لعنات العهد)، قوّةَ خطرٍ تنصبّ فجأة على المذنب، وهذه اللعنة تُصيب الكاهن في قلب مهمّته نفسها، في ما لأجله جُعل، لأنّ وظيفته هي أن يبارك (لا أن يلعن). وجاءت النقيضة لافتة: »ألعن بركتكم«. تصبح بركة الكاهن موضوع لعنة وهي لا تحمل الخير بعد، بل تمنعه. فالأفضل أن لا يباركوا: والنتيجة التي تنبع من هذا الوضع، هو أنّ الكاهن لا يستطيع بعدُ أن يقوم بخدمته (2: 3) فيصبح عارًا للشعب وأضحوكة. نحن هنا أمام شريعة المثل: احتقر الكهنةُ اسمَ الربّ (1: 6، 8، 12)، فاعتبرهم الربّ محتقَرين (2: 9). إن كان هذا القرار يعكس وضع الكهنة في زمن نحميا وملاخي، فقد بدت النظرةُ جذريّة وارتبطت بنهاية الزمن.

3- لنا كلّنا أبٌ واحد (2: 10)

مع هذه الآية، ننتقل إلى موضوع آخر. هي تشكّل بداية حوار جديد، فتقدّم المبدأ الأساسيّ للحوار. جاءت في سؤالين، وكلّ سؤال يتطلّب جوابًا بالإيجاب. أما لنا أب واحد؟ والجواب: نعم. أما إله واحد خلقنا؟ الجواب: نعم. نحن هنا في أجمل التعابير عن العهد. فيهوه يُدعى بشكل واضح »الأب الوحيد«. قد يشير النصّ إلى خلق الكون، أو بالأحرى الجماعات البشريّة. في الواقع، الخلق الذي نتحدّث عنه هنا هو خلق الشعب العبرانيّ، كما في أش 64: 7:

والآن، يا ربّ أنت أب لنا،

نحن طين وأنت جابلنا.

نحن جميعنا من صنع يديك.

ولمّا وعد الربّ بالخلاص، أعلن في نبوءة أشعيا (43: 1، 15):

1 والآن، هذا ما قال الربّ:

أنا خلقتك يا يعقوب،

يا إسرائيل أنا جبلتك.

لا تخف فأنا أفتديك،

سمّيتك وجعلتك لي.

15 أنا الربّ قدّوسكم،

خالق إسرائيل وملككم.

نلاحظ أن هذا الكلام قيل في الأصل عن مملكة إسرائيل، في الشمال، المدعوّة أيضًا مملكة يعقوب ويوسف. ثمّ قيل عن المملكتين، يهوذا وإسرائيل. ولكن يبدو أنّ نصّ ملاخي يُبقي الباب مفتوحًا، وكلامه يتعدّى شعبًا من الشعوب. ونقرأ تث 32: 6:

أبهذا تعترف بجميل الربّ،

أيّها الشعب الأحمق الجاهل؟

أما هو أبوك الذي خلقك،

الذي أبدعك وكوّنك؟

ارتبط الشعب هنا بالآباء بدءًا بإبراهيم، أو بموسى وجبل سيناء، كما نقرأ في إر 34: 13:

قطعتُ عهدًا مع آبائكم،

يوم أخرجتُهم من أرض مصر،

من دار العبوديّة.

إذًا، تحدّد الأبوّةُ الرباطات بين الربّ وشعبه في إطار العهد. وهي تتطلّب من الذين »تعاقدوا« مع الله، أي أعضاء الجماعة، مناخًا من الأخوّة حقيقيٌّا. فمن خان أخاه، نجَّس العهد، لأنّه مسَّ أساس هذه الحياة العائليّة الحميمة، حول الله الآب. وفي هذا الإطار نظر النبيّ إلى ممارسة الطلاق التي تدوس حقوق بعض الأعضاء في الجماعة. في هذا العمق الدينيّ تتجذّر أخلاق المؤمن. هنا نقرأ 2: 13 في ما يتعلّق بالحياة الزوجيّة:

13 وهذا أيضًا فعلتم:

غمرتم مذبح الربّ،

بدموع البكاء والنحيب...

14 وتقولون: لماذا؟

فأقول لكم:

لأنّ الربّ كان شاهدًا

بينك وبين امرأة شبابك

التي غدرتَ بها وهي قرينتك،

والمرأة التي عاهدتها على الوفاء.

15 أما هو الله الذي خلق منكما

كائًنا واحدًا له جسد وروح؟

بالإضافة إلى ذلك، تقيمُ هذه الأبوّة بين الربّ وشعبه رباطات أصيلة تحدّد موقع هذا الشعب على حدة في العالم، كما في محيط مغلق، مقفل. كلّ ما هو خارج عنه ليس بأهل له. مثلاً، من تزوّج بامرأة غريبة (الزواجات المختلطة) بدا وكأنّه ينجّس العهد، ويرفض بشكل عمليّ بنوّة الربّ هذه ليأخذ ببنوّة إله غريب. أي أمر مكروه! هكذا يستخفّ الإنسان بالربّ نفسه بحيث يخسر امتيازات الاختيار، خسارة لا تعوَّض.

سواء كان الكلام عن الزواجات المختلطة أم الطلاق، فقد ربط ملاخي رباطًا وثيقًا بين الخيانة تجاه الربّ والخيانة تجاة الإخوة والأخوات. بل نستطيع القول بشكل ضمنيّ إنّ المبدأ الأساسيّ هو الذي ذُكر في الحوار السابق في اتّهام الكهنة، لأنّ البداية كانت مع كلام عن الأبوّة، كما في 1: 6:

قال الربّ القدير:

الابن يكرم أباه،

والعبد يكرم سيّده،

فإن كنت أنا أبًا،

فأين كرامتي؟

وإن كنت سيّدًا،

فأين مهابتي أيّها الكهنة

والذين تحتقرون اسمي؟

الخاتمة

ما وجّه ملاخي من توبيخ للكهنة، وجّهه يسوع المسيح للكهنة والفرّيسيّين. لا مجال للشكّ في سلطتهم على مستوى التعليم وتربية الإيمان: »فافعلوا كلَّ ما يقولون لكم واعملوا به« (مت 23: 3). ولكنّهم يضعون على الناس أحمالاً ثقيلة، وهم لا يفعلون شيئًا (يقولون ولا يفعلون). بهذا، ينجّسون اسم الله كما قال ملاخي (1: 6-7). إذ يفعلون هذا يتجاهلون أبوّة الله الذي يرتبط ارتباطًا خاصٌّا بمختاريه. بما أنّ هناك أبًا واحدًا، فالجميع إخوة. وكلّ تعالٍ نستخفّ به بالآخر أو نسحقه، يجب أن يُلغى: »الكبير فيكم يكون لكم خادمًا« (مت 23: 11). إن كان هناك أب واحد، فالجميع، بدءًا برؤساء الشعب، مسؤولون عن مصير إخوتهم فيعينوهم ليعيشوا عيش الإيمان.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM