يـــوم الـــربّ.

 

يـــوم الـــربّ

ملا 3: 19-20

هناك أمور تصدم الإنسان المعاصر، ومنها انتظار »يوم الرب«. بعضهم رأى فيه ما يغذّي الهروب خارج مضايقات العالم ومهمّات التبشير الصعبة. وآخرون مثّل لهم مهربًا واستقالة أمام مصير البشريّة المأسويّ. ومع ذلك، فانتظار دينونة نهائيّة وعهد سعادة، كما في الفردوس، لا تني تُولَد في قلب الإنسان. هذا هو الفردوس المفقود كما قال الشاعر. وسعادة المساء العظيم كما قال بعض المنظّرين. ولكنّ الإيمان وحده ينتظر يوم الربّ. ولقد استعاد يسوع صرخة الأنبياء، بضعة أيّام قبل آلامه، فقال: »ها تأتي أيّام...« (لو 21: 6). وملاخي، نبيّ القرن الخامس، يُعينُنا لكي نفهم مدلول هذا اليوم. ونقرأ كلامه عن مجيء يوم الربّ في 3: 19-20:

19 ها يأتي يوم،

يحترق فيه كما في التنّور،

جميعُ المتجبّرين وفاعلي الشرّ.

يكونون كالقشّ،

ويلهطُهم اليومُ الآتي،

يقول الربّ القدير،

فلا يترك لهم أصلاً ولا فرعًا.

20 وتشرق لكم أيّها المتّقون لاسمي،

شمس البرّ، والشفاءُ في أكنافها.

نتوقّف في قراءتنا عند اثنين. الأوّل، أزمة الإيمان. الثاني، يوم الربّ.

1- أزمة الإيمان

في مناخ أزمة يُشبه إلى حدّ بعيد ما يمكن أن تعيشه الكنيسة اليوم، أراد النبيّ أن يجيب على تساؤلات القلق لدى إخوته وأخواته في الإيمان، فأطلق صرخته: »جاء يوم الربّ«. ولماذا هذه الصرخة؟ ليحذّر المؤمنين.

أ- مستقبل مسدود

نحن في سنة 450 ق.م. تقريبًا، منذ خمسين سنة تمّت عودة المنفيّين، وأعيد بناء الهيكل الثاني منذ سنة 515. غير أنّ الشعب يعيش حياة قريبة من التلاشي. والاستقلال السياسيّ الذي انتظروه بحماس، يتأخّر ويتأخّر حاملاً معه الألم. أقامت مجموعة المؤمنين في أرض ضيّقة، تقع على حدود الإمبراطوريّة الفارسيّة. والأحداث لا تسمح لهم بأن يستشفوا بريق أمل في طريق التحرّر. ما بُنيت بعد أسوار أورشليم، والعاصمة التي لا تزال »مدينة مفتوحة« تجد نفسها بدون دفاع أمام هجمات السلب والنهب، واجتياح الجيران مثل الأدوميّين.

بالإضافة إلى ذلك، تواجه الجماعة الصغيرة مضايقات وتحرّشات من قبل الإدارة السامريّة، التي قلقت أمام تماسك هذه المجموعة الجذريّة التي لا تريد الامتزاج، وترفض كلَّ مساومة مع الغرباء، بمن فيهم السامريّون أنفسهم. ثمّ إنّ العائدين إلى الوطن، لم يجدوا لدى أهل الوطن الذين لبثوا فيه، الاستقبال الذي يحقّ لهم أن ينتظروه منهم. بدوا مزعجين وقد جاؤوا يستعيدون ميراثهم الذي قُسِّم وأعطيَ لآخرين. وهكذا لم يتحسّن الوضع المالي »لمساكين الربّ« هؤلاء.

وما هو أخطر من ذلك، هو أنّ هذه الحالة المؤلمة يبدو وكأنّها »تكذّب« المواعيد النبويّة التي أعلنت في زمن المنفى. فأشعيا الثاني (ف 40-55) ربطَ عودة الانتصار للمنفيّين، بتدشين العهد المسيحانيّ. ومنذ بعض العقود، ربط حجّاي تحقيق هذه المواعيد بإعادة بناء الهيكل. ولكن بُني الهيكل منذ خمسين سنة، وحتّى الآن لم يحصل شيء.

ب- التراخي الخلقيّ والدينيّ

وأصاب الإيمان ردّة فعل من هذه الخيبات السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة. ففي الحوارات الستّة التي تتوزّع الكتاب، واجه ملاخي فئاتٍ عديدة تؤلّف الجماعة، فندّد بالتراخي الحاضر وما أشفق: عدم الأمانة في مجال العبادة، من قبل الكهنة الذين يخونون مهمّتهم كخدّام الكلمة، وينسون مسؤوليّتهم عن العبادة. نقرأ في ف 1:

6 فأين مهابتي أيّها الكهنة،

الذين تحتقرون اسمي وتقولون:

كيف احتقرنا اسمك؟

7 إحتقرتموه بأنّكم تقرّبون

على مذبحي خبزًا نجسًا.

وتقولون: كيف نجّسناه؟

نجّستموه بقولكم:

مائدة الربّ محتقرة.

9 فالآن استعطفوا، أيّها الكهنة،

وجهَ الله ليحنَّ علينا.

من أيديكم وبسببكم ما جرى لنا،

فكيف يرفع الربُّ القدير شأنكم؟

11 فمن مشرق الشمس إلى مغربها،

اسمي عظيمٌ في الأمم...

12 أمّا أنتم فدنّستموه...

ويتابع ملاخي في الفصل الثاني:

1 والآن، أيّها الكهنة،

إليكم هذا الوصيّة من الربّ:

2 إن كنتم لا تسمعون ولا تبالون

أن تعطوا مجدًا لاسمي،

أنا الربّ القدير،

أرسل عليكم اللعنة،

وأجعل بركتكم لعنة.

وكما فعل الكهنة، كذلك فعل العوام، فأهملوا القيام بواجباتهم الدينيّة، على مستوى العشور، كما على مستوى التقدمات (3: 7-12):

7 من أيّام آبائكم،

زغتُم عن فرائضي،

وما عملتم بها.

إرجعوا إليّ أرجع إليكم.

8 وتقولون: ماذا سلبناك؟

سلبتموني العشور والتقدمات.

10 هاتوا جميع العشور إلى الهيكل،

وليكن في بيتي طعام.

هو الظلم الاجتماعيّ تجاه الصغار والمساكين، كاليتيم والأرملة والغريب. والتساهل الخلقيّ يسهِّل ممارسة الحنث والحلف الكاذب. كما يسهِّل الزنى، كما نقرأ 3: 5:

أقتربُ منكم لأقاضيكم،

وأكون شاهدًا عليمًا،

على العرّافين والفاسقين والحالفين زورًا،

وعلى الذين يظلمون الأجير في أجرته،

ويظلمون الأرملة واليتيم،

ويصدّون الغريب ولا يخافونني،

أنا الربّ القدير.

ويبدو أنّ أخطر من كلّ ذلك، الخطر الذي يهدّد الأمانة الدينيّة، حول ممارسة العهد، وتماسك الجماعة. فهناك نظام يتبعه الكثيرون على مستوى الزواجات المختلطة، بين أبناء العهد والغرباء. نقرأ في الفصل الثاني:

11 غدر بيتُ يهوذا بالربّ،

فعملوا الرجسَ في إسرائيل وفي أورشليم،

لأنّهم دنّسوا مقدس الربّ،

فأحبّوا وتزوّجوا بنات آلهة غريبة.

ونستطيع أيضًا أن نتكلّم عن جماعة لا تزال تتذمّر وتطالب، مثل الآباء في مسيرة برّيّة سيناء. ورأى بعضُهم في كلّ هذا لغة ملاخي الأصيلة التي جعلت بلاغه في إطار »جدال ومناقشة«. فالنهج الذي أخذ به النبيّ، دلَّ على تقارب بين ملاخي ومجموعة معلّمي الشريعة. ومهما يكن من أمر، ففي هذه المسألة الأخيرة، اللوحة تبدو قاتمة.

ج- الارتياب والجحود

مهما كانت هذه الأخطاء خطرة، فالنبوءة تجعلنا نستشفّ مسألة أساسيّة جدٌّا. فوراء الانحرافات العباديّة، والمظالم الجماعيّة، والخيانات الدينيّة، نُدرك سؤالاً أكثر جذريّة، وجب على ملاخي أن يجيب عليه، وإلاّ خان رسالته. ويُعبَّر عن هذا التساؤل بشكل قاطع. في رأس الحوار الأوّل. »قال الربّ: أحببتكم، فقلتم: كيف أحببتنا؟ (1: 2). شكّ المؤمنون. قالوا: لا ندري إن كان الله يحبّنا. وهكذا تغلغل الارتياب في القلوب، فبدا أساسًا في جميع التصرّفات التي سبق النبيّ وندّد بها.

وهذا الجدال الأوّل قدَّم فيما بعد الإطارَ الروحيّ والبعد الحقيقيّ للكتاب. ما استخفّ النبيّ بالسؤال، بل حاول أن يجيب فبيّن عمل الله الخلاصيّ في التاريخ وجاء السؤال أكثر دقّة في الحوار الرابع (2: 17):

أتعبتُم الربّ بكلامكم.

وتقولون: كيف أتعبناه؟

أتعبتموه بقولكم:

كلّ من يفعل الشرّ،

فهو صالح في نظر الربّ وبه يسرّ.

أو بقولكم: أين إله العدل؟

إنّه هجوم قاسٍ على عدل الله وصدقه: إذا كان يُسرّ بفاعل الشرّ، فأين صار الإنسان، أين صار المؤمن؟ ذاك هو الشكّ لدى المؤمنين الذين أغرقتهم المحنة حين رأوا أنّ الأشرار لا ينالون عقابهم، بل إنّ الربّ يبدو وكأنّه يمنحهم النعم فيميّزهم عن الأبرار، أي عن الشعب الذي يعلن أمانته للربّ. في هذا الإطار نقرأ أيضًا: 3: 13-15:

13 وقال الربّ:

جُرتُم عليّ بكلامكم.

وتقولون: ماذا تكلّما عليك؟

14 تكلّمتم قائلين:

عبادة الله باطلة،

وما المنفعة في حفظنا شرائعه،

وسيرنا بلا لوم أمام الربّ القدير؟

15 ونحن نرى

أنّ المتجبّرين هم السعداء،

وفاعلي الشرّ هم الذين ينجحون.

يجرّبون الله وينجون.

ذاك كان الحوار الأخير، الذي سيجد امتداده في سفر أيّوب. لماذا نُتعب نفوسنا في خدمة الربّ؟ وهكذا يصل مثلُ هذا الشكّ بالمؤمن إلى الجحود. ويكشف الحوار عن وجهة مؤلمة، لا سيّما وأنّنا أمام »الفاضلين«، خائفي الله ومتّقيه. هؤلاء الذين حافظوا على الأمانة لالتزامات إيمانهم، بالرغم من كلّ شيء. لهذا، لا يوبّخهم ملاخي، بل يحاول أن يعيد إليهم الثقة، فيوجّه أنظارهم إلى المستقبل، ويذكّرهم بالتعليم التقليديّ حول يوم الربّ. وبمختصر الكلام، يدعوهم إلى الرجاء.

2- يوم الربّ

أ- يوم الربّ آتٍ

استعاد ملاخي عبارة خاصّة بنهاية الأزمنة لدى آخر الأنبياء:

أنفخوا في البوق، في صهيون،

إهتفوا في جبلي المقدّس.

إرتعدوا يا جميع سكّان الأرض.

يوم الربّ مقبل وهو قريب (يوء 2: 1).

وقال يوئيل في 3: 4:

تنقلب الشمس ظلامًا،

والقمر دمًا،

قبل أن يأتي يوم الربّ العظيم الهائل.

وقال زك 14: 1: »ها يوم الربّ يأتي«. ذاك هو موضوع تقليديّ، فيه يذكر الشعب تلك الأيّام العجيبة في الماضي، حيث تدخّل الله من أجل شعبه، بواسطة انتصارات على الأعداء، في إطار الحرب المقدّسة. في قض 7: 1ي ذُكرت حرب مديان وانتصار جدعون. وفي أش 9: 3، تحدّث النبيّ عن »أيّام مديان«. عادت هذه »الأيّام« حيّة وتأوّنت في الليتورجيّا، فغذّت في قلوب المؤمنين، انتظار زيارة حاسمة من قبل الله الذي حدّث شعبه بواسطة نبيّه عن يوم الربّ (عا 5: 18 -20):

19 ويل للمتمنّين يوم الربّ،

ماذا ينفعكم يوم الربّ،

وهو لكم ظلام لا نور؟

20 أنتم كمن هرب من وجه الأسد،

فلقيَه الدبّ.

أو أسند يده إلى الحائط،

فلسعته الحيّة.

21 فيوم الربّ ظلام لا نور،

بل هو سواد لا ضياء له.

وهكذا رفض الأنبياء هذه الطمأنينة الكاذبة. فقلبوا قلبًا جذريٌّا معنى هذا اليوم فماهوه مع دينونة العالم التي لا تعفُّ عن الشعب نفسه. من يقدر أن ينسى نشيد صف 1: 14-15 وتشديده على يوم الغضب؟

14 قريبٌ يومُ الربّ العظيم،

قريب وسريع جدٌّا.

يوم الربّ قصير، مرّ،

يصرخ فيه الجبّار.

15 يوم عقاب ذلك اليوم،

يوم ضرر وضيق،

يوم سوء ومساءة،

يوم ظلمة وسواد،

يوم سحاب وضباب.

وهذه الأقوال المهدِّدة قد تحقّقت في التاريخ، بحيث يعيشون أيّامًا مؤلمة ودمويّة، كما في »يوم أورشليم«، على ما في مز 137: 7:

أذكرْ يا ربّ بني أدوم،

يوم سقطت أورشليم.

قالوا: اهدموها،

اهدموها حتّى أساسها.

والكلام هو على سقوط أورشليم ودمارها، كما نقرأ في الفصل الأوّل من المراثي:

7 أورشليم تتذكّر الآن،

في أيّام بؤسها وضياعها،

كلَّ ما عزّ لها،

منذ أيّام القدم.

وقعت في يد الخصم،

وما أنجدها أحد.

خصومُها نظروا إليها،

فضحكوا على سقوطها.

10 بسط العدوّ يده

على كلّ عزيز لها.

رأت الأمم يدخلون

إلى هيكلها المقدّس...

11 كلُّ شعبها ينوحون،

وهم يطلبون طعامًا،

يقايضون ما عزَّ لهم،

بما يسدّ الرمق.

أنظر يا ربّ وتأمّل،

كم أنا ذليلة!

منذ الآن لن يتخلّص إعلان يوم الربّ من هذا الطابع المأساويّ الذي يرافق الكارثة. وامتزج هذا اليوم بمشهد مجيء الله في النهاية، فحرّك في بُنى الكون زلزلة تامّة، وأدخل قطيعة جذريّة في مسيرة تاريخ يضع الله له حدٌّا. فلا شكّ بعدُ في أنّ في تلك الحقبة وفي هذا السياق، ما أشار ملاخي إلى تدخّل الله الأخير حيث يتمّ كلُّ برّ. إنَّ ما انتظره المؤمنون من التاريخ، رفضه ملاخي في نهاية الأزمنة. ولكنّ هذه النهاية قريبة جدٌّا: »ها هو أتٍ«!

ب- يُحرق كالتنّور

هذه العدالة التي تجازي كلّ إنسان بحسب أعماله، تمارَس أوّلاً في دينونة »المتجبّرين وفاعلي الشرّ«. يُقابَل كلُّ هؤلاء الأشرار بكومة من التبن، فتأتي نار النهاية وتشعلهم في حريق قويّ لا يُقاوَم. والصورة ليست بجديدة، بعد أن تحدّث عنها أش 5: 24 فقال:

فلذلك،

كما تأكل ألسنةُ النار القشّ،

وكما يفنى الحشيش اليابس في اللهيب،

يذهبُ كالعود النخر أصلهم،

ويتناثر كالغبار زهوُهم.

كما تحدّث أش 30: 33 عن عقاب أشور:

مذبح الإله مولك مهيَّأ من قبل،

ليكون حفرة عميقة واسعة،

ملؤها قشّ وحطب كثير،

ونفخة الربّ كسيل من الكبريت،

تشعل فيها النار.

وقال الربّ لإرميا: »سأجعل كلماتي في فمك نارًا، وهذا الشعب حطبًا فتأكلهم« (5: 14). وفي الخطّ عينه قال زك 12: 6:

وفي ذلك اليوم،

أجعل جميع بيت يهوذا،

كموقد نارٍ في أكوام الحطب،

وكمشعل نار في أكداس الحنطة.

وندهش من هذه المقابلة بين اليوم والتنّور المهيِّء الخبز. ففيه موقد هو ينبوع حرارة. نلاحظ أنّ ملاخي يهوى هذه الصور المأخوذة من عالم الصنّاع. ففي ملا 3: 2، استعمل رمزًا أخذه من عالم الصناعة:

من يا ترى يحتمل مجيئه؟

ومن يثبت عند ظهوره؟

هو مثل نار الممحّص،

وكصابون القصّار.

وساعة أفلتت بقيّة صغيرة من الاحتراق، في 3: 19 احترق الأشرار كلُّهم فما بقي لهم »أصلٌ ولا فرع«. وهكذا ننتقل من صورة القشّ، من دون انتقالة، وفجأة، إلى صورة الشجرة التي صارت فحمًا فسقطت. وتوجّهت النبوءة، مع ملاخي، نحو الفنّ الجليانيّ (كما في الرؤيا والكشف) حيث يُضحَّى بتماسك التمثّلات من أجل تماسك المدلول. فسواء كان الكلام عن القشّ أو عن الشجرة، فهو يشير إلى الأشرار الذين يكونون في إسرائيل »رمادًا تحت أخامص أقدامكم في يوم يهيّئه الربّ« (3: 21).

إنّ الخلفيّة البيبليّة التي سبق ونوّهنا بها، تقدّم لنا مدلول هذه النار التي لا تشفق: هي نار الغضب الإلهيّ. فاليومُ لا يبدو فقط زمنًا، بل وقتًا في التاريخ، وربّما آخر وقت في التاريخ. ونستطيع القول إنّه يتّخذ كثافة وثقلاً، بحيث يُصبح واقعًا إسكاتولوجيٌّا، وقوّة هائلة تهدّد. وقد يكون ملاخي هو الذي دفع بالواقع إلى أقصى حدوده، فقال هنا: »اليوم الآتي يلتهمهم«. إذن، نستطيع أن نستعيد نبوءة صفنيا: يوم غضب هو ذاك اليوم. ولا نأخذه فقط في هذا المعنى بحيث يدلّ على وقت يمارس فيه غضبُ الله أضرارَه، بل أيضًا وبشكل خاصّ، في معنى يمثّل غضب الله نفسه حين يدين الجاحدين والكاذبين. واللافت هو أنّ لفظ »ب ع ر« (أحرق) يُستعمَل عادة للكلام عن نتيجة غضب الربّ وانتقامه. هنا نقرأ أش 30: 27-28:

27 ها اسم الربّ آتٍ من بعيد،

غضبُه متّقد وهولُه شديد.

شفتاه امتلأتا غيظًا،

ولسانه كنار آكلة.

28 لهاثُه كسيل عارم،

يعلو إلى العنق.

يغربل الأمم بغربال الهلاك،

ويضع لجامًا في أشداق الشعوب.

وقال إرميا، داعيًا الناس إلى التوبة (4: 4):

عاهدوا الربَّ في قلوبكم،

يا رجال يهوذا وسكّان أورشليم،

لئلاّ يخرج غضبي كالنار لشرِّ أعمالكم،

فيُحرق ولا من يطفئ.

وقال إرميا أيضًا يهدّد أورشليم بالخراب (21: 12):

يا بيت داود،

أحكموا بالعدل كلَّ صباح.

وأنقذوا المظلوم من يد الظالم،

لئلاّ ينفجر غضبي كالنار،

جزاء شرِّ أعمالكم،

فيُحرق ولا من يطفئ.

هذا الواقع الإسكاتولوجيّ، الذي يجتاح التاريخ فجأة، يوم الربّ، يُشعل العالم في حريق كبير، حيث يهلك جميعُ الخطأة والجاحدين. فيدلّ على نهاية عالم، عالم خاطئ.

وماذا نقول بعد؟ يبدو أنّ عبارة »اليوم آت« التي استعادها ملاخي أكثر من مرّة، توجّهنا نحو سرّ الله نفسه. فإنّ ملا 3: 1-2 بدا وكأنّه يماهي »الربّ الآتي« مع »اليوم الآتي كالنار« المحرقة التي تطهّر بني لاوي. فكلّ مرّة يظهر انتظارُ يوم الربّ، تجد الكلمات ذروتها في إعلان مجيء الله شخصيٌّا. وهذا ما يثبته استعمال لفظ »ب ع ر«: فإن هو رافق مرارًا موضوع غضب الله، فهو يدخل أيضًا كعنصر متكامل في الإطار الظهوريّ. هذا ما نقرأ في خر 3: 2-3:

2 فتراءى له (لموسى) ملاكُ الربّ في لهيب نار من وسط العلّيقة، ورأى موسى العلّيقة تتوقّد بالنار ولا تحترق.

3 فقال في نفسه: أميل وأنظر هذا المشهد العظيم: ما بال العليقة لا تحترق؟

وفي الخطّ عينه تحدّث سفر التثنية (4: 11-12):

11 فاقتربتم، ووقفتم في أسفل الجبل، والجبلُ مضطرم بالنار إلى أعالي السماء، وعليه الظلام والسحاب والضباب.

12 فكلّمكم الربّ من وسط النار. فسمعتم صوتًا، ولكن لم تروا صورة.

والتنّور (ت ن و ر) مثّل أيضًا عبور الله السرّيّ، حين قطع العهد مع إبراهيم، فقال تك 15: 17: »فما إن غابت الشمس وخيّم الظلام، حتّى ظهر تنّورُ دخان ومشعل نار عابرٌ بين تلك القطع من الذبائح«. فاليوم الذي يأتي في إطار من الحريق هائل، أما هو الله نفسه، العابر ليحرق الخطيئة والخطأة في نار قداسته؟

ج- تشرق شمسُ البرّ

ولكنّنا لا نترك إطار الكارثة يغطّي عيوننا كما بالسحاب. فمهما تكن الدينونة مهدّدة، فهي تدلّ على سرّ الحبّ والخلاص. فالقداسة تحمل في ذاتها اندفاعًا لا يوقفه شيء، من انطلاق نحو الإنسان. فالله يريد أن يقاسمنا حياته وحبَّه. ذاك هو الموضوع المركزيّ في الوحي. وقد أدرك ملاخي هذا الأمر كما لم يدركه أحد، فجاء بلاغُه بلاغَ رجاءٍ للقلوب المنكسرة. فالكلمة الأولى (3: 17: هؤلاء يكونون لي) والكلمة الأخيرة (3: 20-21) في الوعد الذي يتضمّنه هذا الحوار الأخير، هو إعلان حبّ قويّ وفاعل من أجل »الذين يخافون اسمه«. ويومُ الربّ هو اليوم الذي يُعدّه الله لمختاريه. هو يوم شفقة ورأفة (آ 17) وهو يوم انتصار. وهكذا تصبح نار القداسة شمسًا تعزّي وتغذّي.

وصورة الشمس وتمثّلها بسمات قرص مجنَّح ووصفها بأنّها »شمس البرّ«، كلّ هذا يفاجئ ويحيّر. من الواضح أنّ ملاخي أخذ هنا موادّ ميتولوجيّة نجدها في نقيشات المصريّين والبابلونيّين والحثّيّين... ولكنّه نزع كلّ صورة متيولوجيّة. فإن كان إسرائيل عرف، خصوصًا في القرنين 8-7، وسط انحرافات أصناميّة، عبادة الكواكب وبينها عبادة الشمس، فالتمثّلات القويمة ما زالت تحارب هذه العبادة:

قال سفر الملوك الثاني (17: 16) عن بني إسرائيل: »تركوا وصايا الربّ إلههم... وسجدوا لنجوم السماء« (2 مل 21: 3ي). وقال أش 17: 7-8:

7 في ذلك اليوم،

يلتفت الإنسان إلى خالقه،

وتنظر عيناه إلى قدّوس إسرائيل

8 ولا يلتفت إلى عابد الأوثان، صنعة يده،

ولا ينظر إلى ما صنعت أصابعه...

وإلى رموز الشمس.

وشدّد سفر التثنية (17: 3ي) على عقاب من يسجد »للشمس أو للقمر أو لسائر كواكب السماء«. هذا الرجل تخرجونه وترجمونه حتّى يموت. فالشمس مجرّد خليقة (تك 1: 14). نعجب بقدرة حرارتها وبالخير الذي نأخذه منها. لهذا نمجّد الله بسببها، في هذا المعنى قال ابن سيراخ (43: 2):

2 الشمسُ عند طلوعها،

تُعلن أنّها شيء عجيب صنعه الله.

3 وفي عزّ الظهيرة،

تجعل الأرض يباسًا بشعاعها،

فمن يحتمل حرّها.

4 نار الأتون تُحرق وتذيب،

أمّا حرارة الشمس على الجبال،

فثلاثة أضعاف.

تبعث الأبخرة الناريّة

فوق الأرض، وتبهر العيون.

5 فما أعظم الربّ الذي صنعها،

والذي بأمره تُسرع في سيرها.

ولكن حين الدمار الأخير، لا تُفلت الشمس من الانقلابات التي تصيب كلَّ ظواهر الكون، كما قال أش 13: 10:

كواكب السماء ونجومُها

لا تعود تُرسل نورها.

والشمسُ تُظلم عند طلوعها،

والقمر لا يضيء بنوره.

وقال يوئيل في المعنى نفسه:

تسودُّ الشمس والقمر،

وتمنع الكواكب ضياءها (2: 10)

تنقلب الشمس ظلامًا،

والقمرُ دمًا،

قبل أن يأتي يوم الربّ (3: 4).

أمّا في ملاخي، فذكر الشمس يرتبط بالرمز، وطلوعُها يدشّن يوم السعادة الإسكاتولوجيّة والسلام. وإذا أخذنا بالطابع »الشخصانيّ« لليوم الآتي، نجد هنا رمزًا إلى حضور الله كما في أش 59: 19:

فيخافون من المغرب اسم الربّ،

ومن مشرق الشمس مجده،

حين يجيء كنهر واقف

تدفعه نفخة من الربّ.

إنّ تدخّل الله هذا من أجل المؤمنين به، وصفه الكاتب بأنّه »شمس البرّ«. فقد تكون الخلقيّة الإسكاتولوجيّة ساعدت على ضمّ اللفظين (ش م ش. ص د ق ه). فالبابليوّن يرون أنّ الشمس تُشرف على نظام الكون، بسبب انتظام مسيرتها. نقرأ في رسالة إرميا:

59 الشمسُ والقمر والنجوم تضيء،

فتؤدّي واجبها وهي طائعة.

60 ومثلها البرقُ إذا لمع،

والريح إذا هبّت.

هذا ما قرأنا في هذه الرسالة ويُذكر في با 6: 59-60. وقال مز 19:

5 للشمس أقيم مسكن فيها

6 تطلُّ منه كالعروس من خدرها،

وتبتهج كالجوزاء بقطع شوطها.

7 من أقصى السماء شروقها،

وإلى أقاصيها دورانُها،

ولا شيء يستتر عن حرّها.

الشمس عالية. إذًا تستطيع أن ترى كلّ شيء، وتأخذ وظيفة الديّان الذي يجازي كلّ إنسان حسب أعماله. هكذا قال البابليّون. وكان مثل شعبيّ: الشمس شارقة والناس ناظرة. والصورة هنا جاءت مطابقة كامل المطابقة، لسياق الدينونة حيث يميَّز الأخيار والأشرار، كما في 3: 18:

ويعودون يميّزون،

بين صدّيق وشرّير،

بين عابد لله ولا عابد.

غير أنّ النبيّ أعاد صياغة الرمز فأعطى اللفظ مدلولاً غنيٌّا وأصيلاً، كما نجده عادة في الكتاب. ويحدَّد هذا المدلولُ بالنسبة إلى علاقات خاصّة يعقدها الربّ مع شعبه في إطار العهد. الله بارّ، عادل، لأنّه يتجاوب مع ما يمكن أن ننتظر منه كإله العهد. هم ينتظرون أن يُسحَق الأعداء ويُعاقَب الأشرار، كما ينتظرون خلاص »خائفي الله« وعودة حالة السعادة التي لا يشوبها شقاء. فعدالة الله تمارَس قبل كلّ شيء، في الدفاع عن المساكين والمظلومين الذين يسلّمون أمرهم إلى الربّ لكي ينالوا حقوقهم.

إذًا، مثلُ هذه العدالة ترتدي في جوهرها مدلولاً إيجابيٌّا، فتتماهى عمليٌّا مع عمل الله الخلاصيّ والفدائيّ: »الربّ هو ذاك الذي يقيم العدل« (أش 61: 10). وفي أيّام ملاخي، اتّخذ اللفظ رنّة إسكاتولوجيّة، لأنّ البناء المسيحانيّ سيُظهر عدالة الله في أجلى مظاهرها، فتتوطّد أركان المملكة »على الحقّ والعدل« (أش 9: 6)، ويُقضى للفقراء بالعدل، ويُنصَف المظلومون (أش 11: 4). وهكذا نفهم أنّ ملاخي يحتفظ بالعدالة ليوم يُعدّه الله للذين يخافونه. حينئذ تظهر فاعاليّة حبّه (3: 17).

وصورة »الشفاء في أكناف«، في الأجنحة (آ 20) تذكّرنا بالوعد نفسه. فقد يكون النبيّ رأى في »الأكناف« شعاع الشمس الذي يحمل الحرارة والحياة. وهكذا يحمل الربّ الذي هو »شمس البرّ« للمؤمنين الذين جرحتهم الحياة، واضطرب إيمانُهم، الشفاء، أي الخلاص، »يوم يصبح نور الشمس سبعة أضعاف، ويعصب الربّ جرح شعبه ويشفي رضوضه« (أش 30: 26). قد يكون نصّ أشعيا هذا قدّم الصورة المتشعّبة والجليانيّة التي قرأناها في ملاخي.

الخاتمة

كلام ملاخي وامتداده في الكتاب، هو درس للمسيحيّين، لجميع المؤمنين، الذين يعيشون محنة القنوط والشكّ أمام تفكّك الكنيسة والجماعات، أمام انتصار الإلحاد والابتعاد التدريجيّ عن الله، أمام أمانتهم المؤلمة لعمادهم، التي يحسّون أنّ لا نفع منها. فالنبيّ يُعلن اليوم الحاسم الذي فيه يُعيد الله خلق العالم في البرّ والعدل، في السلام والمحبّة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM