موت المسيح.

 

موت المسيح

زك 12: 10-11

حين تحدّث الإنجيل الرابع عن موت يسوع، ذكر إيرادين أخذهما من العهد القديم. الأوّل يتعلّق بحمَل الفصح: »لن يُكسَر له عظم« (خر 12: 46). والثاني يرينا يسوع وقد طُعن بحربة. فاختلف عن رفيقيه اللذين كسر الجنديّ لكلّ منهما ساقيه. فرأى الإنجيليّ في عودة إلى نبوءة زكريّا، أنّ ما قيل في الماضي، نستطيع أن نقرأه اليوم ونطبّقه على »موت المسيح«. هو تقليد نبويّ يكشف لنا المعنى اللاهوتيّ والروحيّ لصليب المسيح.

وقبل أن نقرأ النصّ، نتعرّف إلى نبوءة زكريّا التي تتألّف من قسمين. الأوّل (ف 1-8) جاء قريبًا من النبيّ حجّاي، وأوّل مرّة تدخّل كان في شهر تشري (ت1 ت2) سنة 520. وامتدّ نشاطه حتّى شهر تشرين الثاني سنة 518 ق.م.، أي ثلاث سنوات قبل تدشين الهيكل الذي أعيد بناؤه بعد العودة من المنفى. وتضمّن ما يمكن أن نسمّيه »زكريّا الأوّل« ثماني رؤى، التي تبدأ بشكل يوميّات دُوِّنت في صيغة المتكلّم المفرد (1: 8. رأيتُ في الليل رؤيا). هي نبوءة تصوِّر إقامة الجماعة بشكل نهائيّ.

أمّا زكريّا الثاني (ف 9-14)، فدوِّن بعد زكريّا بزمن طويل بسبب التبدّل الكبير الذي حصل: أعيد تنظيم الجماعة، بُنيت الأسوار والهيكل، وتحوّل الانتظار المسيحانيّ إلى شخص لا يُقال اسمه: المسيح المسكين، الراعي الذي رُذل، المطعون الخفيّ. من هذا القسم الثاني، يؤخذ النصّ الذي نقرأ:

10 وأفيض في بيت داود،

وعلى سكّان أورشليم،

روح حنان وتحنّن

فينظرون إليّ أنا الذي طعنوه

ويندبونه كمن يندب وحيدًا له،

ويتفجّعون عليه

كمن يتفجّع على ابن بكر.

11 في ذلك اليوم،

يكون النواحُ عظيمًا

كالنواح على هدد رمون،

في سهل مجدّو.

1- من هو هذا المطعون؟

هذا المقطع الذي يُعتبَر خفيٌّا يدخل في نصّ أكثر خفاء. وكانت أكثر من ترجمة بعد تصحيحات قام بها هذا أو ذاك:

- فينظرون إلى الذي طعنوه.

- فينظرون إليّ أنا الذي طعنوه...

ويُطرح السؤال: من هو هذا المطعون؟ وبرزت بضعة أفكار: موت مرسَل من لدن الله. أهميّة الشخص التي يُبرزها وسع الحداد والبكاء، وتماهي هذا المرسل مع الله. إرسال روح جديد إلى إسرائيل. فمن هو مرسَل الله هذا الذي طعنه إسرائيل وبكاه؟ تحاشى هذا المقطع أن يُسمّي هذا الشخص ويصوِّر ظروف موته، فولَّد لدى القارئ شعورًا غريبًا بالغياب. فالذي شغل جميع العقول لم يعد حاضرًا.

غير أنّ موته يمكن أن يكون نقطة انطلاق لاهتداء بني إسرائيل: اهتداء حقيقيّ، روحيّ، باطنيّ. اهتداء عميق، لأنّ لله المبادرة. وهذا الاهتداء الذي يبدو صادقًا ونهائيٌّا، وتحوّل القلوب الذي يفعله الله، وأهميّة النواح، والواقع الذي فيه يعتبر الربّ أنّه هو الذي طُعن عبر ممثّله، كلُّ هذا يدعونا لكي نرى في هذا الشخص، المسيح. إما هو الابن الوحيد لإسرائيل؟ إما هو البكر البكر؟ أما هو الممثّل الكامل لله والأداة في يديه ليحوّل الشعب المختار؟ وبعد ذلك، إما نبقى حيارى ومتردّدين أمام غياب كلّ إشارة واضحة؟ فلو أراد الكاتب أن يتكلّم عن المسيح، لوجب عليه أن يشير إليه أقلّه بتلميح بسيط. فهل من إشارة؟

حين نقرأ زك 9-14، نرى علاقات أدبيّة ولاهوتيّة بين المقاطع التي تدلّ على مجيء شخص استثنائيّ، وجهوده اللامثمرة لتحرير بني إسرائيل، وموته. ففي 9: 9 يبرز ملك مسيحانيّ:

ابتهجي يا بنت صهيون،

واهتفي يا بنت أورشليم،

ها ملكك يأتيك

عادلاً مخلّصًا وديعًا،

راكبًا على حمار،

على جحش ابن أتان.

وفي 11: 14-17 يحاول هذا الشخص عينه أن يُبعد الأخطار التي تهدّد الشعب من الداخل ومن الخارج. غير أنّ هذا الراعي فقد كلّ عزم بسبب الإرادة السيّئة لدى الخراف التي تطرده في النهاية:

8 نفسي ضاقت بهم،

ونفوسهم أيضًا سئمت منّي.

9 فقلتُ للغنم: لا أرعاكم.

فمن يمت ليمُت

ومن يتوارى ليتوارَ،

والبقيّة فليأكل بعضُها لحم بعض.

12 فقلت لهم:

إن حسن في عيونكم،

فهاتوا أجرتي وإلاّ فامتنعوا.

فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفضّة.

وفي 12: 10، قُتل الملك الراعي، بفعل أورشليم، على ما نفهم. حينئذٍ تسقط كلُّ الآمال الغاشّة في انتصار مادّيّ يناله إسرائيل الخاطئ. ففي قلب الكارثة، لن يبقى سوى حنان الله وتحنّنه. فحثَّ النبيّ أورشليم على التوبة، على بكاء موت الملك الراعي، فتوجّه قلبها إلى الربّ وتتنقّى من خطاياها. غير أنّ هذا الرجوع سيكون عمل الله نفسه، الذي يفيض على أخصّائه روح الحنان.

أمّا 13: 7-9 فيأتي امتدادًا وتوضيحًا لما في 12: 10-11. بعد أن يُضرَب الملكُ الراعي بالسيف، يتنقّى الشعب. غير أنّ هذه التنقية تتضمّن المحن القاسية، قبل أن تأتي »بقيّة« وتجدّد العهد الذي قطعه الربّ.

7 استفقْ، أيّها السيف، على راعيّ،

وعلى رجل رفقتي.

إضرب الراعي

فتتبدّد الخراف،

وأنا أرفعُ يدي على الصغار.

8 وينقرض في كلّ الأرض

ثُلثا سكّانها ويهلكون،

والثلثُ يبقى فيها.

9 فأُدخل هذا الثلثَ في النار،

وأصهره صهر الفضّة،

وامتحنه امتحان الذهب.

هو يدعو باسمي

وأنا أستجيب له.

أنا أقول: هو شعبي.

وهو يقول: الربّ إلهي.

وهكذا تستضيء هويّة الشخص المطعون. هو الملك المسيحانيّ الذي قُدِّم لنا خبره في هذه المقاطع الأربعة المتوازية (9: 9-10؛ 11: 4-17؛ 12: 10-13: 1؛ 13: 7-9). والتماهي بين الله ومرسله، الذي يشكّك القارئ، لا يمكن أن يدهشنا. فهو حقٌّا في خطّ هذه المقاطع. ففي 13: 7، يقدّم الله الراعي المضطهد على أنّه في معيّته (ع م ي ت ي)، كالعمّ والقريب. وهذا »القريب« من الله يُطعَن بالسيف. وإذا عدنا إلى زك 2: 12، نرى أنّ الله يتماهى مع شعبه:

من مسّكم،

مسّ حدقة عيني.

وفي زك 11: 13، اعتبر الله أنّ ما صُنع للملك الراعي صُنع له:

ألقها في الخزانة،

ثمنًا كريمًا ثمّنوني بها.

وأجرة ثلاثين فضّة تشير إلى الراعي الذي أعفيَ من عمله. وفِعلةُ الطرد والاحتقار تُصيب الله من خلال الراعي. وهكذا نقول عن 12: 10 حيث يعتبر الله نفسه مطعونًا عبر الراعي الذي قُتل. لا شكّ في أنّ لا كلام هنا عن ألوهيّة المسيح. ولكنّنا نفهم أنّ التعابير القويّة في زك 11: 13 (ثمّنوني بها)؛ 12: 10 (ينظرون إليّ)؛ 13: 7 (رجل رفقتي، الذي هو معي. عمّي وقريبي) سوف يتجاوزها الواقع فتنطبق في النهاية على يسوع المسيح.

2- التقليد النبويّ حول المسيح

إنّ نبوءات زك 9-14 صدى لوصف المسيح مرّاتٍ في السابق. قال إر 23: 5:

وستأتي أيّام يقول الربّ،

أقيم من نسل داود ملكًا صالحًا،

يملك ويكون حكيمًا،

ويُجري الحقّ والعدل في الأرض.

وقال أش 9: 5-6 في المعنى عينه:

5 لأنّه يُولَد لنا ولد،

يُعطى لنا ابن،

وتكون الرئاسة على كتفه...

6 سلطانه يزداد قوّة،

ومملكته في سلام دائم،

ليوطّد عرش داود

ويثبّت أركان مملكته

على الحقّ والعدل

من الآن إلى الأبد.

وفي معرض الكلام عن الراعي الذي سيكون في النهاية الله، قال حز 34: 23-24:

23 وأقيم عليها راعيًا واحدًا،

ليرعاها كعبدي داود.

فهو يرعاها،

ويكون لها راعيًا صالحًا.

24 وأنا الربّ أكون لشعبي إلهًا،

ويكون داود عبدي لها رئيسًا.

ولكن في هذا التقليد النبويّ، يجب أن نُفرد مكانًا خاصٌّا لأناشيد عبد الربّ المتألّم، التي أثّرت على زك 12: 10-11، بشكل مباشر أو لا مباشر. ففي أش 53: 5 (مجروح، مسحوق)، كما في زك 12: 10، بدا مُرسَل الله »مطعونًا«. ولا شكّ في أنّه مات. وشاهد النبيّان، عبر هذه المحنة، مشيئة الله. »رضي الله أن يسحقه بالأوجاع« (أش 53: 10). وأمر الربّ في زك 13: 7: »استفقْ أيّها السيف على راعيَّ«. غير أنّ هذا الموت لا يبدو عقابًا سامه الله لشخص خاطئ. فمرسل الله بريء وبارّ. »هو لم يمارس العنف (أو الجور) ولا وُجد في فمه غشّ« (أش 53: 9). وقال زك 11 إنّ الراعي عارض الرعاة الأردياء، والضربات التي نالها ما أصابت خطاياه، بل أصابت الله من خلاله (12: 10). وحين دعاه الله »راعيّ ورجل معيّتي« (13: 7)، دلّ على براءة الراعي المطعون بل على كمال حياته.

وفي الحالين نشهد اهتداء إسرائيل. في أش 53، بكى الشعب وأقرّ بخطيئته، وندم لأنّه تجاهل عابد الربّ. وفي زك 12: 10-13: 9، انتحب الشعب أيضًا: بكى بمرارة وصار في الحداد (12: 10ب-14)، وعاد إلى الله (12: 10أ) فنال روح التحنّن. ابتعدَ عن الأصنام وعن الأنبياء الكذبة (13: 2-6) وتنقّى فدعا الربّ إلهه (13: 9). وفي الحالين، نُزعت الخطايا، سواء رفعها »عابد الربّ« (أش 53: 11-12) أو انفتح ينبوع ليغسل الخطيئة والإثم (زك 13: 1).

بالرغم من هذه التقاربات، كانت النظرة مختلفة بين نبوءة ونبوءة. ولكنّ النظرتين تتكاملان. فمحنة إسرائيل في المنفى تقابل مناخ العبد المتألّم. مع زك 12، نحن في زمن خيبة أزالت الوهم، حيث أدرك النبيّ أنّ لا شيء يقدر أن يجعل إسرائيل يتوب، حتّى حنان الله الذي أرجع شعبه من المنفى، حتّى مرسل الله الذي لم يلقَ سوى الرفض والفشل.

ولكن بعد أن زال هذا الأملُ الأخير الذي لبث أملاً بشريٌّا في فكر إسرائيل، فإسرائيل الذي شارك في مجيء المسيح، سوف يخلص ويجعل كلّ ثقته في الله وحده.

اختلفت هاتان النبوءتان وتشابهتا. فأعطتنا عن المسيح نقاطًا متكاملة. فصورة المسيح المتألّم لأجلنا (أش 53) تكمّلُها صورةُ الراعي الذي يجذب إليه القطيع في محن مطهّرة (زك 13: 7-9). ووجهُ المسيح الذي يخلّصنا بعذاباته القيّمة وموته (أش 53)، يكمّله وجهُ الراعي المطعون الذي يفرض على الشعب التائب أن ينتظر كلَّ شيء من سخاء الله ومجّانيّته.

3- نحو العهد الجديد

أ- الاهتداء والإيمان

يحيط بالمقطع الذي قرأنا ما يشير إلى الخطيئة والتطهير (11: 4-7؛ 13: 1؛ 13: 2-6). فإذا أُريد انتصار على هذا الشرّ الذي لا يُقتلَع، والذي سبّب موت الملك الراعي بشكل مباشر أو لا مباشر، لا سبيل سوى تقبّل روح جديد من الله. ففي التقليد النبويّ، جاء زك 12: 10-11 في خطّ حز 36: 25-27:

25 وأرشّ عليكم ماء طاهرًا،

وأطهّركم من جميع أصنامكم،

وما به تنجّستم.

26 وأعطيكم قلبًا جديدًا،

وأجعل في أحشائكم روحًا جديدًا،

وأنزع من لحمكم قلب الحجر،

وأعطيكم قلبًا من لحم.

27 وأجعل روحي في أحشائكم،

وأجعلكم تسلكون في فرائضي،

وتحفظون أحكامي وتعملون بها.

هذا التقليد النبويّ يقودنا عبر حز 36 وزك 12 إلى أفكار القدّيس بولس حول الخلاص بالإيمان. ساعة قامت أورشليم بقتل المسيح الموعود، وما عادت تقدر أن تطلب من الربّ شيئًا إلاّ مسّها حنانه فغرقت في التوبة وتوجّهت في النهاية إلى الربّ. حينئذٍ حقّق الخلاص الذي أملوا به كثيرًا، حقَّق كلّ المواعيد، بالرغم من كلّ شيء. بمجّانيّة تامّة، بنعمة الله وبرحمته، مُنح الخلاص للذين بالإيمان انتظروا كلَّ شيء من مخلّصهم.

ب- النبوءة وكمالها

حين نكون أمام يسوع المسيح الذي تجاوز مجيئُه كلّ انتظار، لَن نجعل على المستوى الواحد، إعلانًا نبويٌّا والأحداث التي أتمّته. ومهما كانت الألقاب التي أعطيت للملك الراعي، ومهما قيل عن قربه من الله، إنّه رفيق الله، مع الله (زك 12: 10؛ 13: 7)، فلا نستشفّ لحظةً طبيعتَه الإلهيّة. غير أنّ الطريق أعدّت بحيث كفى يوحنّا أن يحوّل بعض الشيء زك 12: 10 فيجعله يمتدّ بحيث يكيّفه مع المسيح. فبدلاً من أن ينقل النصّ العبريّ الذي يجعل الله يتكلّم (يلتفتون إليّ، يندبونه)، رأى في المسيح الإله الذي طُعن والذي قتل في الواقع. لهذا طبّق بشكل مباشر على المسيح المصلوب، أقوال النبيّ: »ينظرون إلى الذي طعنوه« (يو 19: 37). حاول أن يكون أمينًا للنبوءة، وفي الوقت عينه طبّقها على المسيح.

ثمّ إنّ زك 12 ما كان له أن يرى قيامة الراعي المسيحانيّ مسبقًا، إلاّ بشكل عودة السلالة الداوديّة (12: 8). في هذا المجال، أورد سفر الرؤيا 12: 10 فكمّل النبوءة ومدّها، وطبّق النصّ على المسيح القائم من الموت، كما في رؤ 1: 7:

ها هو آتٍ مع السحاب،

ستراه كلّ عين،

حتّى عيون الذين طعنوه،

وتنتحب عليه جميع قبائل الأرض.

الخاتمة

بين النبوءات القليلة حول آلام المسيح وموته، قد يكون يسوع قرأ هذه النبوءة فرأى فيها مشيئة الله حول رسالته. وفي أيّ حال، ساعد زك 12: 10 الكنيسة الأولى كما يساعدنا نحن اليوم لنقبل عثار الصليب. قال يسوع لتلميذي عمّاوس: »أما كان يجب على المسيح أن يقاسيَ هذه الآلام كلّها ليدخل في مجده؟ ثمّ بدأ بموسى فجال في جميع الأنبياء وفسّر لهم كلّ الكتابات التي تعنيه« (لو 24: 26-27). هذا الذي أرى توما جنبه ودعاه أن يضع يده، لا بدّ أن يكون ذكر لهم نبوءة زكريّا حيث يتألّم الربّ من شعبه، ومن كلّ مؤمن منّا: ينظرون إليّ بعد أن طعنوني. ولكنّ تلك الطعنة أخرجت الماء والدم. أخرجت العماد والإفخارستيّا، وهكذا وُلدت الكنيسة من جنب ذاك الذي طعنوه. فما أمجدها جراح!

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM