القراءة البحثيّة: من المعمدان إلى يسوع.

 

القراءة البحثيّة:

من المعمدان إلى يسوع

إنَّ شهادة المعمدان العامَّة إلى القارئ (1: 29-34) فتحت الطريق لشهادة خاصَّة للتلاميذ (آ35-36)، الذين وثقوا بشهادته (ق آ19-28) واختبروا بأنفسهم الحياة مع يسوع (آ37-39). وهذان التلاميذان صارا بدورهما شاهدَين (آ40-42). جعل يو مراجعَه هنا، في لاهوت الشهادة، وبيَّن أنَّ الذين قبلوا شهادة آخر، يمكنهم أيضًا أن يختبروا بأنفسهم ليكون لهم ملء اليقين (1: 39، 46).

1- يوحنّا والإزائيّون

في ما سبق راح يو وحده. أمّا هنا، فنحتاج إلى مساندة الأناجيل الإزائيَّة لكي نصل إلى بعض الأمور »التاريخيَّة«. فقد كان أمام الكاتب الإنجيليّ مراجع أخرى غير تلك التي استقى منها الإزائيّون، هذا عدا تقليده الخاصّ(1). فمع أنَّ الإنجيل الرابع كان عارفًا بالتقليد التاريخيّ(2) حول الاثني عشر، لم يشعر بالحاجة إلى أن يعدَّ أسماءهم (مر 3: 13-19؛ مت 10: 1-4؛ لو 6: 12-16). ولا أن يذكر دعوتهم كصيّادين على شاطئ البحيرة (مر 1: 16-20؛ مت 4: 18-22؛ لو 5: 1-11). هذا مع العلم أنَّ التقليد اللوقاويّ كان معروفًا في المحيط اليوحنّاويّ (يو 21: 3-6). إلى هؤلاء مضى يسوع في حياتهم اليوميَّة: تبعاه، قدَّما له السفينة (كما في لوقا).

رأى Dodd أنَّ عدد التلاميذ هنا هو خمسة (1: 35-51). وهذا العدد يعكس التقليد حول التلاميذ الأوَّلين (سمعان وأندراوس، يعقوب ويوحنّا، متّى أو لاوي). ونحن لا ننسى أهمِّيَّة العدد خمسة، غير أنَّ التقليد اليوحنّاويّ مستقلّ عن التقليد الإزائيّ. لا نجد هنا سوى سمعان وأندراوس Dodd, Tradition, p. 303-304.

فمقابل الرواية الإزائيَّة لنداء الصيّادين، لم يكن يسوع قد ربح الجموع بعد حين التقى بأندراوس وسمعان. دلَّ المعمدانُ التلاميذ الأوائل على يسوع. في الإزائيَّة، يسوع هو الذي دعاهم. وهنا يسوع دعاهم أيضًا (1: 43: تعاليا)(3). عرف أندراوس مدلول شهادة المعمدان (1: 26-27، 29-36)، فاعترف حالاً بيسوع على أنَّه المسيح (1: 41). وهذا بالرغم من المنع اليهوديّ (9: 22). هنا نلتقي مع بداية مرقس (1: 1). أمّا اعتراف بطرس فسوف يكون في 6: 69. هنا في يوحنّا، كلُّ شيء لبث حميمًا بين يسوع وتلاميذه الأُوَل (1: 41-42، 45-46).

ويُطرح السؤال: هل أرسل المعمدان تلاميذَه إلى يسوع؟ (1: 36). عادة، يتبع التلاميذ معلِّمًا واحدًا. ولكن هناك أخبارًا استثنائيَّة تروي بأنَّ معلِّمين تأثَّروا بمعلِّم آخر فأرسلوا إليه تلاميذهم. روى ديوجين لائيرتيوس(6/1: 12) أنَّ أنيستان أرسل تلاميذه إلى سقراط. وفي ديوجين 7/1: 3، بحث زينون عن معلِّم مثل سقراط، معلِّم كسينوفون، فقيل له: إتبع هذا الرجل. وهكذا صار زينون تلميذ سقراط. بل إنَّ سقراط نفسه أرسل بعض تلاميذه إلى معلِّمين آخرين على ما روى كسينوفون في مذكَّراته (3/1: 1-3). بل إنَّ الطلاب اليونان كانوا أحرارًا في أن ينتقلوا من معلِّم إلى آخر (شيشرون، بروتس 91: 316)، أو يسمعوا أكثر من معلِّم في اليوم الواحد. ونقول هنا: إذا كان المعمدان رأى في يسوع موضوع شهادته، على أنَّه أعظم منه، فيبدو من المعقول أنَّه أرسل تلاميذه إلى يسوع.

ويُطرح سؤال آخر: هل كان أندراوس تلميذًا ليوحنّا، كما التلميذ لدى الرابّي؟ يبدو الأمر صعبًا. فهو صيّاد، في جماعة صيّادين (مر 1: 20؛ لو 5: 10) مع ابني زبدى. ولكن بما أنَّ البعض اعتادوا أن يتبعوا »معلِّمًا« في أوقات فراغهم (السبت، مناسبة الأعياد) فقد يكون المعمدان قبلَ مثلَ هؤلاء التلاميذ (1: 42-43).

2- اتِّباع يسوع إلى بيته (1: 37-39)

مع أنَّ تلاميذ المعمدان »تبعوا« اتِّباعًا (1: 37؛ رج 11: 31؛ 20: 6) يسوع، فقد نفح الكاتب الخبر بتفاصيل عميقة (1: 43؛ رج 8: 12؛ 10: 4؛ 21: 22 Barett, John, p. 180). فاتِّباعهم البدئيّ يمثِّل استباقًا للتلمذة الحقَّة. ولغة الاتِّباع akolouqew تشير إلى اللغة المعروفة لدى التلاميذ اليهود Haenchen, John I: 158. في تلك الحقبة، التلميذ لا يعني فقط ذاك الذي يتعلَّم، بل ذاك الملتصق بمعلِّم كبير وبمدرسته(4).

إنَّ ما قيل عن الدعوة في 21: 19-23، يمكن أن يرتبط بخبر الدعوة في 1: 37-39، في شكل احتواء. وحضورُ التلميذ الذي لا يُذكر اسمه هنا، قد يكون التلميذ الحبيب (13: 23؛ 19: 26-27؛ 20: 2-8؛ 21: 7، 21-24)، والتلميذ الثاني اسمه أندراوس (1: 40). وهكذا يكون بطرس من البداية إلى النهاية مع التلميذ الحبيب، بانتظار أن يصبح هو ذاك الذي يحبُّ يسوع أكثر من هؤلاء (21: 15). ونلاحظ في 1: 41 صيغة المتكلِّم الجمع (نحن): »وجدنا«، أي أندراوس والتلميذ الآخر. والشهادة تحتاج إلى شاهدين. ويبقى أنَّ التلميذ الحبيب لا يظهر بشكل صريح قبل 13: 23(5).

أ- الضيافة

بما أنَّ السَفَر لا يكون أمينًا بعد العتمة (حيث يعمل اللصوص، أي 24: 14؛ إر 49: 9؛ عو 5)، وبما أنَّ الناس لا يتبعون شخصًا آخر من دون سبب، يستطيع القارئ أن يفهم الدافع لدى التلميذين لكي يسيرا وراء يسوع، حتّى وإن لم يكن قريبًا من معرفة يسوع الفائقة (1: 42، 48). ونشير أيضًا إلى أنَّ اتِّباع شخص آخر يدلُّ على التواضع، ويُظهر الوضع الاجتماعيّ البسيط للتابع Schnakenburg, John 1: 308. أمّا سؤال يسوع فيشبه سؤال الله لآدم في الجنَّة (تك 3: 9، 11) أو لقايين في الحقل (4: 9؛ رج 4: 10). سؤال يسوع هو بلاغيّ، بمعنى أنَّه يعرف الجواب. فالإنسان يمكن أن »يطلب« يسوع لأكثر من سبب (7: 19؛ 18: 4).

في ذلك الوقت، وجب على التلاميذ (سواء أرادوا أن يتبعوه، أو أن يدلُّوا على احترامهم له) أن يعطوا يسوع لقب »رابّي«(6). رج 7: 15؛ أع 4: 13. هو المعلِّم بأبسط معنى الكلمة. ولكنَّ الإنجيليّ أعطى يسوع اسم رابّي في إطار الصراع مع العالم اليهوديّ. وحده يسوع هو المعلِّم. رج مت 23: 8. في الواقع، التعليم الرابِّينيّ الذي بعد سنة 70ب.م. رفض أن يعطي يسوع اسم »رابّي«. كان ذاك لقبًا طبَّقه عليه تلاميذه (1: 49؛ 4: 31؛ 9: 2؛ 11: 8؛ 20: 16)، وآخرون يبحثون عنه (3: 2؛ 6: 25). كما طُبِّق هذا اللقب على المعمدان (3: 26). رأى فيه الإنجيل لقبَ كرامة، ولكنَّه عنى في النهاية: »معلِّم« (1: 38؛ 20: 16). كان موسى رب (تر يوناتان إلى تث 9: 19). أعطى الإنجيل هذا اللقب، وما عاد يستعمله بعد ذلك، هذا يعني أنَّه لقب كرستولوجيّ ناقص. أمّا الذين شكّوا في »يهوديَّة« يوحنّا لأنَّه تَرجم هذا اللقب، فهم يقرأون كلامه في حقبة متأخِّرة. ولكن، ساعة يترجم يوحنّا الكلمات الساميّة لقرّائه (1: 41؛ 9: 7)، لا يترجمها متى (المعروف بيهوديَّته). كما أنَّ متّى لا يورد الألفاظ الآراميَّة التي نقرأها عند مرقس (ما عدا مر 15: 34، إلهي إلهي، ويقلبها إلى العبريَّة)، ولا يستعمل لفظ »ماسيّا« (أو: مشيح) عكس يوحنّا الذي يستعمل اللقب مرَّتين (1: 41؛ 4: 25). ويتميَّز متى بأنَّه يستعمل وحده »خرستُس«.

كان من المناسب لأندراوس وللتلميذ الآخر، أن يطلبا رضى من يتبعان، ويستفيدا من مناسبة سؤاله: »ماذا تريدان؟« (1: 38). لماذا تتبعانني؟ مثلُ هذا السؤال أمرٌ طبيعيّ في لقاء شخص غريب (تك 37: 15؛ فرجيل، الأنياذة 7: 197؛ 8: 112: 114). ولا يعني أنَّ السائل يخاف منهما ويستبعدهما. (فرجيل، الأنياذة 7: 197، 202. بعد السؤال كانت الضيافة). أمّا لفظ »طلب« zhteite في فم يسوع، فله مدلول خاصّ في السياق اليوحنّاويّ (6: 26؛ 7: 34، 3؛ 20: 15؛ رج 6: 24؛ 7: 18؛ 18: 4). وكما أنَّ لفظ ''تبع'' (سار وراء الربّ) استُعمل مرارًا في الأدب اليهوديّ (4: 23، والموضوع هو الله)(7)، وصلت الكرستولوجيّا الخاصَّة بيوحنّا إلى هذا المستوى من الألوهة. ففي مكان آخر، استعمل يسوع سؤالاً مماثلاً ليُجبر أولئك الذين يطلبونه لأسباب كاذبة، أن يُوضحوا سببَ طلبهم (18: 14). أمّا هنا، فالدوافع هي إيجابيَّة، كما في 20: 15(8).

في كلِّ المواضع، عرف يسوع الجواب، ولكنَّه طلب من سائليه أن يُقرُّوا بذلك. ربَّما يكون هذا أسلوبَ يوحنّا. وربَّما يشير إلى طلب أحد المؤمنين (12: 42-43) كما يَبرز هنا.

كان من الطبيعيّ انتظارُ الوجهاء في المجتمع للكلام عن دعوة إلى الطعام، أو المحافظة على وضع الشخص لكي لا يقبل مثل هذه الدعوة (لو 24: 28-29؛ رج قض 19: 4-9). أمّا السؤال اللامباشر الذي طرحاه في آ28 (أين يقيم)، جعل يسوع يعكس الآية: هو يدعوهما إلى بيته، ولا يدعوانه هما. في الحضارة اليونانيَّة(9) كما في الحضارة اليهوديَّة(10)، يقف التلاميذ بعض المرّات مع معلِّمهم. ومع أنَّ معلِّمي اليهود يسافرون بعض المرّات برفقة تلاميذهم (2: 12) أو يعلِّمونهم في الهواء الطلق، فقد اعتادوا أن يعلِّموهم في »قاعة الدراسة« (عكس يسوع في إنجيل مرقس) أو في بيوتهم. ربَّما يكون يسوع شابه المعلِّمين في القرن الأوَّل المسيحيّ، فما كان له »قاعة الدراسة«. فعلَّم في بيته أو في بيت أحد تلاميذه (مر 1: 29). مثل هذه البيوت كانت صغيرة، وتألَّفت، خصوصًا في الجليل، من غرفة أو غرفتين. والضيافة للمعلِّم المسافر كانت هي مهمَّة جدٌّا. أمّا هنا، فوسَّع يسوع الضيافة لمن يريد أن يكون تلميذه. بدأ الحديث في الطريق. وواصله يسوع في البيت. فما كان فقط من المشّائين (كما في عالم اليونان)، بل من الرابّينيّين الذين يقرأون الكتب المقدَّسة خلال سفرهم (لو 24: 14-17؛ أع 8: 28ي).

»الساعة العاشرة«. تعني هنا قرابة الرابعة بعد الظهر. فبداية النهار هي الساعة الواحدة. والظهر الساعة السادسة. رج مر 15: 25، 33؛ مت 27: 45-46؛ لو 2: 44؛ خر ربا 41: 7. لا مجال للتأخير من أجل العودة من كفرناحوم (2: 12 بضع ساعات) وبالأحرى من الناصرة (1: 45-46، مسيرة يوم) إلى بيت صيدا (1: 44) قبل حلول الليل. في تلك الحالة، تطلب الضيافة أن يُقيم المسافران الليل حيث هما (هومير، أوذيسة 3: 345-358؛ تك 19: 2-3؛ قض 19: 6-7، 20؛ لو 24: 29). هذا مع العلم أنَّ »قضاء النهار« لا يفرض هذا التفسير.

»دعوة« يسوع »تعالا تريا« (1: 39) كانت دعوة كافية. هي عبارة معروفة في السبعينيَّة. رج تك 37: 14؛ 42: 12؛ 2صم 13: 6. ويتواصل الكلام: أتيا فرأيا. 2أخ 31: 8؛ يه 14: 6؛ 1مك 15: 32. قد يكون كلام الإنجيل انعكاسًا لهذه الصلاة (11: 34؛ رج 21: 12). ولكن نحن لا ننسى المعنى اللاهوتيّ (12: 21: نريد أن نرى يسوع).

في الأدب الرابّينيّ ؟؟ ؟؟؟ (تعال فترى) أو ؟؟ ؟؟؟ (امضِ فترى)، قد يعنيان: تعال وانظر المتواضع. أو: تعال ترَ كم يحبُّ الربُّ إسرائيل. وقد يكون المعنى نداء إلى التفكُّر والقرار. أو: تعالَ واسمعْ لتبدأ حياة جديدة.

إذ دعا يسوع التلميذين ليأتيا ويريا، بدأ يدعو سائر التلاميذ ليأتوا أيضًا ويروا. والإنجيل يكرِّر هذه الدعوة: تعالوا (6: 35، 37، 44-45، 65؛ 7: 36-37). ثمَّ: تريان. هي النظرة الروحيَّة في الإنجيل الرابع. تريان التعليم الذي ينتظركما (سي 51: 23). في نظرة إلى الكرستولوجيّا اليوحنّاويَّة، (1: 1-18)، رأى بعضهم في هذا النداء صدى لدعوة الحكمة (أم 8: 5؛ 9: 5؛ حك 6: 12-14)(11).

وهكذا صار هذان التلميذان نموذج التلاميذ في يوم يوحنا. فحين سألا يسوع أين »يقيم«، سُمح لهما أن يقيما معًا ويتعلَّما كتلاميذ (هكذا في القديم مع الفلاسفة مثلاً. بل إنَّ العادة تواصلت بالنسبة إلى إعداد الكهنة في الشرق، حيث يقيم الشابّ مع كاهن شيخ). والمؤمنون اليوحنّاويّون يستطيعون أن يقيموا في حضور يسوع ويتعلَّموا منه على الدوام (14: 23، 26). فالفعل menw يعني الحياة الحميمة(12) وبالتالي التلمذة(13). هكذا يتبع التلميذ يسوع ويقيم معه حيث هو (14: 2، 6، 23؛ 15: 4، 10). ويستمرّ معه حتّى النهاية (8: 31). فالذين جاؤوا ورأوا، هم الذين اختبروا يسوع بأنفسهم (1: 46، 50)، وردَّدوا الدعوة الأولى التي قدَّمها يسوع (1: 46؛ 4: 29).

ب- أن تكون تلميذًا

غير أنَّ يسوع يضع بعض المرّات »الصعوبات« أمام التلاميذ الذين يريدون أن يتبعوه. فهو يدفعهم دفعًا (المعين في مت 8: 19-22؛ لو 9: 57-62)، ولا سيَّما إذا كانوا من الوجهاء (مر 10: 21-22؛ مت 19: 21-22؛ لو 18: 22-23)(14). في الطريقة عينها بدا يسوع قاسيًا مع نيقوديمس كما مع الموظَّف في حاشية أنتيباس (4: 48)، بل مع أفراد عائلته (2: 4؛ 7: 6-8)، كأنَّ لهم حقٌّا عليه! وهذا عكس السامريَّة ومعاملة يسوع لها. وفعلَ يسوع ما فعلَ كما اعتاد المعلِّمون أن يفعلوا: هو يمتحن إرادة الآتي ليتعلَّم، ويتحدَّى التلميذ ليعرف مدى حاجته إلى التضحية والعطاء.

فالتضحية المطلوبة من معلِّم متنقِّل مثل يسوع، هي كبيرة. في الواقع، كان التلاميذ يدرسون مع معلِّم يُقيم في مكان ما. فيعيشون مع نسائهم خلال دروسهم. ولكنَّ الأمر لم يكن دومًا كذلك، ولاسيَّما في مراجع القرن الثاني المسيحيّ. فهناك خبر تعليميّ من رابّي عقيبة يعكس النظرة إلى تلك الحقبة: رجع إلى البيت بعد سنوات من الدرس. وسمع أنَّ امرأته تريد أن تبتعد عنه لسنوات أخرى عديدة، طلبًا للدرس، فعاد هو إلى دراسته ليرجع إلى بيته مع عدد من التلاميذ. وفي الخطِّ عينه قيل عن رابّي شمعون بريوحاي أنَّه ترك عياله ثلاث عشرة سنة للدراسة مع رابّي عقيبة. مع أنَّ هذه الأمثلة مضخَّمة (وشريعة التنائيم تمنع الرجل من أن يترك امرأته أكثر من ثلاثين يومًا من أجل دراسة التوراة)، إلاّ أنَّ الحقيقة هي أنَّ عددًا من الرجال اليهود مضوا يدرسون الشريعة مع معلِّمين مشهورين(15). فمن الواضح أنَّ الذين كتبوا هذه الأخبار عن رابّي عقيبة وتلاميذه، أرادوا أن يمتدحوا مثلَ هذه التضحيات من أجل دراسة التوراة.

غير أنَّ المعلِّمين لم يُسهِّلوا دومًا الطريق للتلاميذ لكي يتبعوهم، ولاسيَّما في التقليد الكلبيّ أو الرواقيّ. ويمكننا هنا أن نقابل ما حصل للشابّ الغنيّ (مر 10: 17-22 وز) الذي أراد اتِّباع يسوع، وما حصل لتلميذ أحد المعلِّمين الرواقيّين: »رجل من رودس، وجيه وغنيّ، ولا شيء بعد ذلك، أراد أن يأتي إلى مدرسة ذاك المعلِّم. ما استقبله بحفاوة مع سائر التلاميذ. أجلسه على مقعد وسخ، حيث يجلس الشحّاذون. في النهاية، ترك هذا الرودسيّ المدرسة. ذاك هو وضع العجرفة ولاسيَّما عند الشباب(16). وقيل أيضًا أنَّ ديوجين الكلبيّ فرض فرائض على تلاميذه لكي يُبعدهم. نشير إلى أن مثل هذا الخبر قيل عن زينون الفينيقيّ الذي أسَّس مذهب الرواقيَّة.

ولكن يتواصل خبر هذا الرجل الرودسيّ. مضى فوزَّع كلَّ أمواله وجاء يعيش حياة الكلبيّين. وهكذا كانت الأمثولة لتلميذ آخر (كراتيس) أن يتخلّى عن حقوله ويرمي فضَّته في البحر...

نستطيع أن نقابل هذا مع طلب يسوع إلى تلاميذه بأن يتركوا حقَّ الواجبات العائليَّة لكي يتبعوه (مت 8: 21-22؛ لو 9: 57-62). حتّى دفن الموتى صار في المرتبة الثانية من أجل الالتصاق بتعليم يسوع. غير أنَّ يسوع يبقى ذاك القائد الذي يؤثِّر على الشباب بمواهبه المميَّزة (ما تكلَّم أحد مثله...)، لا بأنَّه معلِّم في مدرسة على مثال المعلِّمين في القرن الثاني ب.م. Hengel, Reader, p. 1-2, 27-33. ولكنَّ الجواب يكون هو نفسه، وكأنَّ يسوع يستبق ردَّة الفعل عند الآتي إليه (على المستوى التاريخيّ، وفي الجواب الحرفيّ الذي نقرأه في الأناجيل الأربعة). الطالب يلحُّ ويلجّ: المرأة السوريَّة الفينيقيَّة (مر 7: 27-29).طيما بن طيما الأعمى (مر 10: 48-52)، الضابط الرومانيّ (مت 8: 7-13)، أمّ يسوع (يو 2: 3-9). مثل هذه الصعوبات تتوخّى تبديل حياة التلاميذ. ولكنَّ هذا لا يعني أنَّ يسوع يتوخّى إبعاد الآتين إليه. فهو من حزنَ حين تركه الشابّ الغنيّ (مر 10: 23-25). ما يطلبه يسوع من تلاميذه أن يختاروا الطريق الضيِّق إن أرادوا أن يتبعوه.

إنَّ هذا المقطع صوَّر لنا يسوع كالمضيف والمتحفِّظ. دعا التلاميذ »العتيدين« وامتحنهم لكي تكون طريقهم قريبة من طريقه. وفي المقطعين التاليين، يُرسَم يسوع وهو يدعو أحد التلاميذ لأتباعه: »أنت سمعان« وبدَّلَ له اسمَه ليدلَّ على أنَّه يخصُّه.

3- أندراوس وسمعان (1: 40-42)

نستطيع أن نرى طَبعَ كلِّ واحد، كما في خبر، بحيث يبدو كلُّ واحد نموذجًا من النماذج. وهكذا نصل إلى الحقيقة بشكل عامّ، فنبيِّن كيف أنَّ نمطًا من الأشخاص يقدر أن يتكلَّم أو يعمل في ظرف معيَّن(17). ذاك ما يفعله الإنجيل الرابع بأنواع الناس الآتين إلى يسوع (1: 42، 43، 45، 45-51؛ 3: 1-10؛ 4 1-20: التلاميذ الأوَّلون، نيقوديمس، السامريَّة)(18).

عبر شهادة المعمدان، صار أندراوس تابعًا ليسوع (1: 36-37، 40). وعبر شهادة أندراوس، صار سمعان تابعًا ليسوع (آ40-43أ). ولكن في الحالتين، أضحى الطالب تلميذًا حقيقيٌّا، فقط عبر لقاء شخصيّ مع يسوع (1: 29، 38-39، 42؛ رج 8: 31). وفي الحالتين أيضًا، عرف يسوع طبعَ الشخص الآتي إليه. فهو يعرف خرافه (10: 14، 27)، والآب سلَّمهم إليه (10: 29؛ 17: 7)، كما يعرف قلوبهم (2: 23-25). صار أندراوس هنا الشاهد الثاني، وهذا ما بيَّن أنَّ دور المعمدان كشاهد هو نموذجيّ، ولا ينحصر في شخص محدَّد، هو يوحنّا المعمدان نفسه (في 1: 41 نقرأ: »أوَّلاً« prwton هو الأوَّل). وتتواصل الشهادة، أبعد من العشيرة (7: 5) فتصل إلى سمعان وإلى ما بعد سمعان. إنَّ أندراوس »وجد« euriskei سمعان (1: 41)، كما سيجد يسوع فيلبُّس في 1: 43. تلك هي لغة يوحنّا المميَّزة (5: 14) حيث أندراوس يتدخَّل ليقرِّب الآخرين من يسوع. في مشهد تكثير الخبز، قرَّب الصبيَّ حاملَ الأرغفة (6: 8-9). كما قرَّب اليونانيّين الذين أرادوا أن يروا يسوع (12: 22).

أعلن أندراوس مسيحانيَّة يسوع (1: 41)، وهذا يعكس تفسيره لشهادة يوحنّا حول حمل الله (1: 29) على ضوء خبرته مع يسوع. وفي الطريقة عينها، قَدَّمت شهادة فيلبُّس حول مسيحانيَّة يسوع، مناسبةً لكي يفسِّر نتنائيل معرفة يسوع العلويَّة (1: 45-49). ففي لاهوت يوحنّا، شهادةُ التلاميذ الكرستولوجيَّة والخبرة الشخصيَّة مع يسوع، ضروريّتان من أجل الإيمان الحقّ. ففي لغة الرسالة الأولى، يحتاج الإنسان إلى كرستولوجيّا مستقيمة (1يو 2: 22-24) عبر الشهادة الرسوليَّة (1يو 4: 6)، كما إلى شهادة الروح (1يو 2: 20-27؛ 3: 24؛ 4: 13؛ 5: 7-8). والواحد لا ينفصل عن الآخر (1يو 4: 1-6؛ رج يو 15: 26-27). وحين يلتقي تلاميذ عتيدون يسوعَ من أجل أنفسهم، فهم يكتشفون أنَّه يعرفهم، وهذا ما يقنعهم بهويَّته (1: 48-49؛ 4: 17-19، 29). نستطيع أن نقرأ مثل هذا الجواب في 1: 42. ولكن لماذا لا يُروى في هذه الحالة؟ ربَّما ترك الإنجيل اعتراف بطرس إلى 6: 69. ويمكن أن نقول أيضًا: ترك الباب مفتوحًا لكلِّ واحد منّا، لكي يعلن ما أعلنه بولس: »نحن آمنّا وعرفنا«.

في الوقت عينه، كانت ردَّةُ الفعل ظاهرة على »رفعة« بطرس في بعض طبقات التقليد اليهومسيحيّ (كما نقرأ في البسيدوإقليميَّة). واللافت أنَّه بالرغم من حضور بطرس في الإنجيل الرابع (قيل عن أندراوس هو أخو سمعان بطرس، 1: 40، إذًا بطرس هو الأوَّل)، فأندراوس هو أوَّل من مضى إلى يسوع واقتاد بطرس إليه (1: 41-42). في مر 1: 16-18؛ مت 4: 18-20، دُعيَ الاثنان معًا. وفي لو 5: 1-11 أغفل اسم أندراوس فما بقي سوى سمعان ويعقوب ويوحنّا.

ورأى شرّاح آخرون أنَّ الإنجيل الرابع جعل بطرس مع سائر التلاميذ، وما أراد أن يميِّزه(19). في مر 8: 29، بطرس هو أوَل من أعلن أنَّ يسوع هو المسيح(20). أمّا يوحنّا فجعل أندراوس يسبق بطرس.

مثل هذه المواضيع اللاهوتيَّة تحتاج إلى أن لا ننكر التقليد التاريخيّ الأوَّل(21). فبطرس هو هنا في النهاية كما في الأناجيل الإزائيَّة: يتكلَّم مرارًا ويعمل ويندفع نحو الخير (6: 18؛ 13: 9؛ 18: 15؛ 20: 3-6) أو عكس ذلك (13: 6-8، 36-37؛ 18: 10)(22). مثلاً، لا يورد الإنجيل جواب بطرس على كلام يسوع في هذه النقطة، ولا إلى النداء لاتِّباعه تجاه جواب نتنائيل الحماسيّ في الخبر اللاحق (1: 49). فالإيمان المتضمَّن هنا ليس بعدُ إيمانَ التلميذ الذي يترك اهتماماته وراءه ليدرس مع معلِّم متنقِّل. فإذا كان التلميذ فلاَّحًا، يصعب عليه أن يحافظ على عيشه العاديّ ليتبع مثل هذا المعلِّم. بالإضافة إلى علاقة يوحنّا بمرقس، تبديل اسم سمعان إلى بطرس، عرفه متّى في مرجع خاصّ به (مت 16: 17-18)، ثمَّ مرقس (3: 16). نحن في الواقع أمام تقليد عُرف في الكنائس دون أن يرتبط، في شكل مباشر، باعتراف بطرس. ابتعد يوحنّا عن مرقس، على مستوى السياق (يو 6: 67-70) ودعا يهوذا »شيطان« (6: 70) لا بطرس كما فعل مر 8: 33.

هنا يتكلَّم يسوع عن الجماعة المقبلة، بعد أن تربّى التلاميذ على يد معلِّمين، من أجل هذا الهدف. واستعمل لفظ »كنيسة« في خطِّ قمران. رأى بعضهم في هذا القول تدوينًا جاء بعد القيامة(23). ولكنَّ هذا ليس بالضروريّ. فلا بدَّ أن يكون يسوع أعدَّ العدَّة لجماعته ولاسيَّما على المستوى الخلقيّ، عارفًا أنَّه ابن الإنسان الإسكاتولوجيّ، الجالس عن يمين الآب، المالك في الملكوت حيث يخضع له جميعُ أعدائه. ثمَّ نستطيع أن نتحدَّث عن أولويَّة بطرس في الوجه الأقدم من التقليد (أع 1: 15؛ 2: 14؛ 12: 3؛ 15: 7؛ 1كو 1: 12؛ 3: 22؛ 9: 5؛ 15: 5؛ غل 1: 18؛ 2: 7-8؛ 1بط 1: 1؛ 2بط 1: 1). ونحن لا ننسى أنَّ يعقوب أخا الربّ اتَّخذ القيادة الإداريَّة في كنيسة أورشليم (أع 1: 14؛ 12: 17؛ 15: 13؛ 21: 18؛ 1كو 15: 7؛ غل 1: 19؛ 2: 9، 12). قال كولمان: »بر يونا« (مت 16: 17) لا تعني ابن يوحنّا كما يظهر من الإنجيل الرابع (1: 42؛ 21: 15). وهذا قول لا بأس به(24). غير أنَّ هذه التسمية تبرِّر بصعوبة، وفي أيِّ حال، التقليدَ الواحد بين متّى ويوحنّا.

كان لتبديل الاسم مدلول لاهوتيّ، كما حصل بالنسبة إلى أبرام ويعقوب. فالناس في حقبة الإمبراطوريَّة، بدَّلوا أسماءهم من »المحلّي« إلى »العالميّ«. كان »سمعان« اسمًا مشتركًا لدى اليهود. واعتاد المعلِّمون أن يعطوا تلاميذهم صفة ترافق اسمهم. في سياق الكرستولوجيّا اليوحنّاويَّة، نلاحظ أنَّ الله مارس سلطانه فسمّى من جديد »عبيده« الأخصّاء مثل سارة وأبرام ويعقوب. عادة الوالدان يعطيان الاسم لأولادهما (في رومة، يسمّون الصبيّ في اليوم التاسع، والبنت في اليوم العاشر، كما قال بلوتارك في مسائل رومانيَّة 102، وفي الأخلاقيّات 288 ب ج. رج لو 1: 59-60). فلا يحقُّ لأحد سوى لشخص أكبر منهما بأن يبدِّل اسم أولادهما. ذاك ما فعل ملوك في الشرق (2مل 23: 24؛ 24: 17؛ رج تك 2: 19-20؛ 3: 20). أمّا هنا، فيسوع هو الذي بدَّل اسم سمعان، فدلَّ على »سلطانه« تجاه تلميذه. هناك صفات إيجابيَّة تلتصق بالاسم. وهنا »الصخر« يوجِّه أنظارنا إلى البناء، بناء الكنيسة وبناء الجماعة، في خطِّ الفكر اليهوديّ، ويتوافق مع تعليم يسوع الذي دعا نفسه حجر الزاوية (مر 11: 9؛ مت 21: 9؛ لو 19: 38) في خطِّ مز 118: 22. والاحتفاظ بالاسم الآراميّ ؟؟؟؟ كما في التقليد الأوَّل (1كو 9: 5؛ غل 2: 11، 14)، يدلُّ على صدقيَّة هذا القول. في اليونانيَّة، الصخر هو petra. أمّا الإنجيليّ فجعل petroV. ولكنَّ المعنى هو هو، وإن حاول بعضُ الشرّاح أن يفرضوا لاهوتهم على نصِّ الكتاب، بحيث اختلف petroV عن petra.

هناك شرّاح اكتشفوا تقليدًا تاريخيٌّا خاصٌّا في عدد التلاميذ الأوَّلين الذين ذُكروا قبل عرس قانا الجليل. ولكن أبعد من التاريخ، هناك الهدف اللاهوتيّ: أربعة تلاميذ (أندراوس، بطرس، فيلبُّس، نتنائيل). يحتاجون إلى الخامس (التلميذ الذي لا يُذكر اسمه) فنكون أمام الرقم المقدَّس: خمسة (الله مع أربعة أقطار الكون الأربعة).

1 رج لو 1: 1 الذي يتحدّث عن الكثيرين. من الملاحظ أنَّ متّى ولوقا انطلقا من مرقس كمرجع أوَّل، واتَّخذا المعين رِّمٌٌم وأضاف كلُّ واحد تقليدًا خاصٌّا به. وتبع يوحنّا تعليم مرقس في شكل عامّ، ولكن سار في طريقه.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM