القراءة اللاهوتيّة والرعائيّة: فـــي خطــى يســـوع.

 

القراءة اللاهوتيّة والرعائيّة

فـــي خطــى يســـوع

في خطى يسوع. أربعة شباب من الجليل يلتقون بالربِّ يسوع. لا نستطيع القول إنَّنا أمام نداء يرد في صيغة الأمر: إتبعاني، إتبعني، أجعل منكم صيّادي بشر. هو الشاهد يوجِّه أنظارهم نحو يسوع، فيعرفون فيه ذاك الذي هو المسيح. إذا كان أندراوس وسمعان وفيلبُّس معروفين في موضع آخر، فنتنائيل الذي يتَّخذ مدى كبيرًا في الخبر، يجهله التقليد الإزائيّ، ولن يُذكَر بعدُ سوى مرَّة واحدة في الإنجيل الرابع.

على المستوى الأدبيّ، أحاط بالنصِّ قولان هامّان. الأوَّل، قول المعمدان: »ها هو حمل الله« (1: 36). والثاني قول يسوع: »ترون السماء مفتوحة« (1: 51). أمّا 1: 35-51 فتتوزَّع في يومين (آ35-42 ثمَّ آ 43-51) يتركَّزان على يسوع (آ37-39 وآ41-42. ثمَّ آ43 وآ45-51).

1- من يوحنّا إلى يسوع

وفي الغد... فتبعا يسوع (آ35-37).

وواصل المعمدان كلامه في صيغة الحاضر. »قال« legei. أمّا موقفه فيصوَّر في صيغة الماضي المستمرّ »واقفًا« eisthkei وكأنَّه لا يتحرَّك من موضعه. لقد لعب النبيّ دوره: أمسِ دلَّ على ذاك الذي »يتجلّى لإسرائيل« (1: 31). ما قاله في الماضي يمكن أن يقوله اليوم. وإن كان الشاهدُ بلغ إلى نهاية مهمَّته، إلاّ أنَّ هذه النهاية تنفتح على المستقبل: البشارة سوف تنتشر ولا شيء يوقفها.

ومرَّ يسوع. هذه المرَّة لا يأتي إلى يوحنا (1: 29). هو يمشي ونحن لا نعرف إلى أين يمضي. كما النصّ لا يحدِّد من أين أتى. أمّا المعمدان الذي يحدِّق فيه فيبدو وكأنَّه يعرف. هو آتٍ من عند الله. هو »حمل الله«. استعمل الإنجيليّ embleyaV فدلَّ على حرارة في النظرة لا نجدها في »رأى« blepei (1: 29). هي نظرة تحاول أن تلج سرَّ الإنسان، وكأنَّها تريد أن تتحدَّث عن ذاك الذي تُحدِّق فيه. والإشارة »ها« ide التي ترتبط بفعل oraw (رأى) تُبرز نظرة يوحنّا. فكأنَّه أراد أن تصبح نظرةُ يوحنّا نظرةَ التلاميذ.

لماذا لم يقل يوحنّا مرَّة ثانية: »الذي يرفع خطيئة العالم؟«، كما فعل في 1: 29؟ لأنَّ الإعلان الذي استعاده هنا لا يحمل الوظيفة التي حملها في المرَّة الأولى. هناك أظهر المعمدان إعجابه أمام الله ليصل بعمل الخلاص إلى هدفه، لا عبر شعائر العبادة، بل »بحمله«. أمّا هنا، فركَّز المعمدان انتباه التلاميذ على شخص ذاك الذي يحقِّق مخطَّط الله في يسوع الحاضر هنا.

وأوضح الراوي: ما إن سمع التلميذان إعلان الشاهد حتّى راحا يتبعان يسوع. قال في آ40: »واحدًا من الاثنين اللذين سمعا يوحنّا وتبعا يسوع«. فعل السماع سبق، ووصل إلى المعمدان حين أعلمه الله بالطريقة التي بها يعرف ذاك الذي يعمِّد في الروح القدس (1: 33). وبعد ذلك »رأى« (1: 32، 34). أمّا عند التلاميذ، فالسماع سبق »رأى«، الذي دُعوا إليه في هذا الخبر. نجد في آ37 المسيرة التي بها ينتقل الإيمان في الشعب: بالسماع عبر »تقليد الآباء«. أمّا »رأى« فلا يتحقَّق إلاّ حين يتجلّى يسوع نفسه.

لا يقدِّم يوحنّا تلاميذ يسوع على أنَّهم صيّادون من الجليل تركوا القارب لكي يتبعوا يسوع، بل كأنَّهم أناس يبحثون. هم طالبون، يهمُّهم الإله المخلِّص الذي انتظروه لدى المعمدان. وبما أنَّ المعمدان هو مرسَل الله (1: 6)، وبما أنَّ الصوت الذي يردِّد هو صوتُ الأنبياء الملهَم ويؤوِّنه، فهذا يعني أن الله، في الواقع، يعطي لابنه تلاميذه الأوَّلين. ذاك ما يقوله يسوع بوضوح في حلقة واسعة: »أولئك الذين أعطيتني« (17: 6؛ رج 6: 37، 39-65). قال يسوع هذا في حديث مع الآب. فالإنجيل الرابع عمَّق التقليد الإزائيّ حول دعوة التلاميذ، التي وجدت جذورها في الآب، مع »تعاليا« ercesqe الذي وجَّهه يسوع إلى التلميذين لا مع »اتبعني« akolouqei الذي سيسمعه فيلبُّس.

وتبع التلميذان. سارا وراء يسوع hkolouqhsan، الماضي إلى مصيره. وبيَّن تصرُّفهما، في شكل ملموس بم يقوم وضع التلميذ لدى اليهود؟ يتبع الرابّي لا في تنقُّلاته فقط، بل في النقطة التي وصل إليها من المعرفة والحكمة. استُعيدت الاستعارة مرارًا عند الإزائيّين وعند يوحنّا بفم يسوع الذي يعلن: »من يتبعني لا يمشي في الظلام« (8: 12). أو: »خرافه تتبعه« (10: 4). إلى أين يقود »اتِّباع يسوع«؟ بما أنَّ يسوع يمشي في الطريق، ارتسمت حركة منذ الآن. والنصُّ الذي نقرأ يبيَّن مرحلتها الأولى: يسوع الذي كان وحده، يحيط به الآن بعضُ الشبّان الذين يتطلَّعون إلى تتمَّة المواعيد الإلهيَّة.

2- تعاليا وسوف تنظران

فالتفت يسوع ونظرهما يتبعانه... الساعة العاشرة (آ38-39).

وبدأ الراوي يصوِّر تصرُّف يسوع ذاته. مشى إلى الأمام. »التفت« strajeiV وكأنَّه يحسب حساب الماضي الذي أعدَّه الله من البدايات، والذي منه أتى التلاميذ. وهكذا ارتبط أيضًا خبرُ يسوع الناصريّ مع النبوءة البيبليَّة التي وصلت إلى شخص المعمدان، ومع انتظار إسرائيل حيث بدا تلميذا يوحنّا بعيدين عنه.

اتَّخذ يسوع المبادرة معهما. ما أرسل نداء بصيغة الأمر والتسلُّط. بل طرح سؤالاً. أجل، السؤال هو أوَّل كلمة من كلمات يسوع في الإنجيل الرابع: »ماذا تطلبان؟« ti zhteite. اغتذى المؤمنون بالكتب المقدَّسة، فتوجَّهوا نحو المستقبل الذي أعلنه الله. أمّا تفسير المواعيد فيمكن أن ينغلق ويحجِّم المضمون الحقيقيّ، وهذا ما تدلُّ عليه تيّاراتٌ مسيحانيَّة أرضيَّة.

طرح يسوع سؤالاً وهو العارف كلَّ شيء(1)، لكي يراعي حرّيَّة محاوريه ويتيح لهم أن يعبِّروا عن رغبتهم بالكلام والعمل. وما هو في الباطن يصبح في الخارج، وتلك طريقة تربويَّة رائعة. ثمَّ إنَّ الإنجيليّ يحرِّك القارئ لكي يتساءل: هل هو يبحث؟ وعمَّ يبحث؟

ويَبرز هدفٌ مختلف وأكثر عمقًا إذا قابلنا هذا النصّ بذاك الذي يورد أوَّل كلمة تلفَّظ بها القائم من الموت. »ماذا تطلبين؟« (20: 15). سؤال توجَّه إلى مريم المجدليَّة. نلاحظ على مستوى الشكل أنَّ المتتالية التي تَلي، متشابهةٌ في المقطعين. في 1: 38 ردَّ التلميذان على يسوع في سؤال آخر: »رابّي، أين تقيم؟« ومريم ردَّت فسألت: »أين« وُضع ذاك الذي لا تجده في القبر؟ في الحالين، يعود السؤال المطروح إلى تموضع في هذا العالم: مسكن يسوع أو الموضع الذي فيه يرقدُ جسده. أجاب يسوع مريم أنَّه »صعد إلى أبيه« وأضاف: »هو أبوكم«. ويشدَّد هذا النصُّ بشكل غريب على الفعل »أقام« menw »أين تقيم؟«... ويواصل النص: »فأتيا ونظرا أين يقيم وأقاما عنده ذلك اليوم«.

فإن كان السؤال سطحيٌّا حول مسكن يسوع الذي يمكن أن نلمسه، فتكرُّر الفعل يوجِّه القارئ العارف بيوحنّا إلى »المسكن« الذي يتحدَّث عنه فيما بعد (14: 2-3، 23؛ 15-: 4-5). وبسؤال يسوع »ماذا تطلبان؟«، توخّى يسوع أن يرفع موضوع الطلب: على التلميذ أن يشارك في العلاقة التي توحِّد يسوع بالآب. ونتطلَّع أيضًا إلى الكلمة التي بها صرَّح يسوع بما يقوم فعل »تبع«: فبعد طلب اليونانيّين الراغبين بأن يروه (12: 21)، أجاب يسوع فيلبُّس وأندراوس اللذين توسَّطا للطالبين: »من يخدمني فليتبعني وحيث أكون أنا هناك يكون خادمي«. فحين يتبع التلميذ يسوع، يقوده صليبُ المجد، أي يكون »حيث أنا«، أي حيث يقيم يسوع.

وجاءت الدعوة معلَّقة: »تعاليا وسوف تنظران«. هناك انفتاح على مستقبل ما زال حتّى الآن غامضًا. ففي اللغة اليوحنّاويَّة، »المجيء« إلى يسوع يعني عادة »الإيمان به«. والفعل »تنظران« يعود في 1: 51 حيث موضوع رأى يتوضَّح بواسطة صورة بيبليَّة. فأخيرًا يعرف القارئ أنَّ التلاميذ يُقتادون إلى قانا وهناك ينظرون مجد يسوع (2: 11). بانتظار ذلك، أوَّل »نظرَ« مسكن يسوع، يصل بنا إلى أقامَ »قرب«. هي إقامة موقّتة تُعدّ إلى »نظر« هو أبعد من »قبضة« عين، فيعلن بدوره »إقامة« نهائيَّة.

ما قيل شيء عن مضمون الحوار، كما لم يُصوَّر حوار يسوع مع السامريّين (4: 40-42). ولكنَّ النتيجة هي هنا. وقبل ذلك، يلاحظ الراوي أنه »كانت الساعة نحو العاشرة«. لا شكَّ في أنَّ هذا التفصيل لا يتوخّى أن يُعلِّمنا أنَّه بقيَ مساءٌ طويل من أجل اللقاء، في الساعة الرابعة بعد الظهر، بل يشير إلى ساعة خاصَّة، ساعة التتمَّة(2). ويتوقَّف الخبر لكي يستعيد القارئ أنفاسه.

3- يسوع وسمعان

وكان أندراوس أخو سمعان... يعني بطرس (آ40-42).

متى حصل هذا المشهد؟ أفي الغد صباحًا، أو في مساء ذلك اليوم(3)؟ ما يهمُّ الراوي هو إبراز النتيجة التي حصلت بفعل »أقام« مع يسوع. بدأت النار تشتعل وهي تنتقل بسرعة.

ها هو أندراوس. »وجد« (أو »التقى«)(4) أخاه سمعان. فجاء به إلى يسوع وأعلنه »المسيح«(5). في التقليد الإزائيّ، دُعيَ أندراوس وسمعان معًا بفم يسوع. في إنجيل يوحنّا، جاء سمعان إلى يسوع بواسطة أخيه. هو »الثاني« نوعًا ما. هذا لا يعارض وضْعَه التقليديّ كالأوَّل بين مجموعة التلاميذ، لأنَّ هذا الوضع يُرسَم حالاً بما يقول له يسوع. وفي موضع آخر، سمعان هو أوَّل من ينعم بكلمة شخصيَّة. غير أنَّ ذلك يفترض وجود تقليد حول دعوة التلاميذ الأوائل. وهناك اختلاف آخر مع التقليد الإزائيّ: سبق أندراوس بطرس، فأعلن مسيحانيَّة يسوع وكان أوَّل من يعلنها.

أعطى يسوع سمعان اسم كيفا بدون دافع ظاهر: نظر إليه في العمق emblemyaV. كشف له معنى المسيرة حين ترك أندراوس يقوده إلى المسيح: دعوتُه أن يكون صخرًا، صخرة. كلمة آمرة، خالقة. فالاسم يعبِّر عن جوهر الشخص أو عن مصيره. وقد شرح أوريجان هذه التسمية فقال:

»قال إنَّه يُسمّى بطرس، فاستخرج هذا الاسم من الصخر الذي هو المسيح. فكما أنَّ ''حكيم'' يأتي من ''حكمة''، و''قدّيس'' يأتي من ''قداسة''، كذلك ''بطرس'' يأتي من ''الصخر'' (أو الحجر)«(6).

إذًا، استَبقت آ42 معطية جعلها الإزائيّون في وسط يسوع العلنيَّة، وربطها متّى بالاعتراف المسيحانيّ (مت 16: 18). غير أنَّ الفعل يرد في صيغة المضارع klhqhsh: ستُدعى. هو يجعلنا في خطِّ التقليد الواحد. فاهتمامُنا كلُّه ينصبُّ على يسوع الذي له السلطان على الزمن بحيث يكتشف مهمَّة بطرس، كما سيفعل مع نتنائيل. ولماذا لا نقول: نحن أمام قراءة لاحقة على ضوء القيامة وحياة الكنيسة الأولى؟

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM