القراءة البحثيّة مع سيناء الجديدة.

 

القراءة البحثيّة مع سيناء الجديدة

في اكتشافنا مختلف السياقات للبحث عن لطائف النصّ، جاءت الصورة التي ساعدَتْنا على قراءة 1: 14-18 من سفر الخروج (ف 33-34). هناك يكشف الله »سماته« لموسى مرَّة ثانية، في سياق إعطاء الشريعة على جبل سيناء. فكما في سفر الخروج، كذلك في مطلع يوحنّا، أتى الكلمة إلى شعب الله. ولكن هنا، ذاك الذي هو مسكن الله وسط الشعب والذي كُشف مجده، هو الكلمة (12: 41). هنا (كما في 2كور 23) لا موسى، بل يسوع الشاهد هو الذي رأى وشهد على مجد الله. وطابع العهد (في النعمة والأمانة) الذي هو جوهر ذاك العهد، يجد تعبيرًا عنه في تجسُّد يسوع كإنسان مائت. وذروةُ التجسُّد (في مسيرة الإنسان) تكونُ على الصليب. لاحظ عدد من الشرّاح نقاط الاتِّصال بين خر 33-34 ويو 1: 14-18(1) مع أنَّهم لم يُقرُّوا كلُّهم بالعلاقة الصريحة بين لوغُس يوحنّا وتوراة اليهود، التي تجد ذروتها في 1: 17-18.

1- الكشف (1: 14)

كما كشف الله عن مجده لموسى في خر 33-34، »مملوءًا نعمةً وحقٌّا«، كذلك كشف هنا مجده في يسوع لتلاميذه، الذين مهمَّتهم الآن هي المناداة بالعهد الجديد الذي يتفوَّق مجدًا على العهد القديم.

أ- تجسُّد الكلمة

رأى بعضهم في إعلان يوحنّا عن تجسُّد الكلمة هجومًا على أفكار هلِّنستيّة أو غنوصيّة حول إله لا يتألَّم(2). من الأكيد أنَّ الإله الرفيع في الفلسفة اليونانيّة، لم يكن مادّيٌّا أو نعماويٌّا مثل آلهة هومير في الميتولوجيّا(3). فالرواقيّون مثلاً، اعتقدوا أنَّ »لاشكل بشريٌّا للإله« (في ردٍّ على الأصنام Diogène Laerce: 7/1:147). وأعلن الإسكندر بن نومانيوس أنَّ الإله لا يُولَد ولا يدمَّر. واعتبر أورفيه أنَّ الجسد هو قبر. فطبيعة الإله ليست »لحمًا« sarx ولا ترابًا، بل عقلاً وذهنًا (إبيكتات، الهجاء 2/8: 2). وشرح أوغسطين فهمه لأفلاطون قبل أن يصير مسيحيٌّا، فأبرز أنَّ تجسُّد الله لا يمكن أن يُفهم(4) تجاه لاهوت يوحنّا (1يو 1: 1). يصوِّر الأفلاطونيُّ العقلَ الإلهيّ، على أنَّ لا اسم له، لا يُرى، لا يُلمس (مكسيم الصوريّ، الخطب 11: 9). وقال مكسيم في 27: 8: »مثل هذا الإله اللاجسميّ، تنقصه الوجهة الدنيا من النفس، فيصبح عقلاً مجرَّدًا. إنَّ الطبيعة تستطيع أن تُمسك وجهاتٍ من »طبع« الله (من هنا استعمال الصور)، ولكنَّ الله أبعـدُ من الطبـيعة. وهكـذا قـدَّم جـوابًا علـى الطقـوس في الديـانـات التقليديّة Mystère 1,8 JAMBLIQUE. وكما قال أحد النيوأفلاطونيّون، ينعكس الله في حياة الإنسان الحكيم، ولكن لا يمكن أن يُرى عبر الجسد (بورفير، إلى مارسيلا 13: 221-223). ففي نظام فلسفيّ حيث الشخص الحقيقيّ لا شكل له ولا جسد، فيدرك فقط بواسطة العقل (8: 147-150)، التجسُّدُ الصحيح غيرُ ممكن. مثلُ هذا الفكر الفلسفيّ، كان وراء بعض الجدالات اللاهوتيّة في كنيسة القرن الرابع. ونظرةُ فيلون إلى اللاخطأ في الله، تتجاوز في الظاهر النظرة الرواقيّة والنيوأفلاطونيّة، وإن عكست توسُّعات أفلاطون حول الطبيعة(5).

والإله الغنوصيّ أيضًا لا يمكن أن يتجسَّد. حين رأى يوحنّا خطر الظاهريّة في نهاية القرن الأوَّل وبداية القرن الثاني، واجه الغنوصيّة هنا، على ما يبدو. وصوَّر القدماءُ الملكَ المثاليّ على أنَّه الشريعة الحيَّة nomon emyucon (موسونيوس روفس 28، رج كسينوفون، تربية كورش 8: 122؛ فيلون، موسى 2: 1، 4). إنَّه تجسيد للشريعة وقيمها، ولكنَّهم يقرُّون بأنّنا أمام لغة رمزيّة، لا أمام تجسُّد حقيقيّ.

أن يَبرز تفسير ظاهريّ في التقليد حول يسوع، أمرٌ لا مفرَّ منه، بسبب التعليم المسيحيّ حول ألوهيّة يسوع. هو بدأ في الوسط الهلنستيّ. فالآلهة الوثنيّة اعتادت أن تتخفّى في البشر المائتين (هومير، إلياذة 4: 86-87، 121-124؛ 13: 43-45، 69؛ فرجيل، الأنياذة 2: 784-785). هم يأتون بعض المرّات للمساعدة، ومرّات أخرى من أجل علاقات جنسيّة (أوفيد، التحوُّلات 2: 425، 434-437، 850-851؛ 4: 222؛ 14: 765-771) أو يجتذبهم إلى الموت (هومير، إلياذة 22: 224-231. فهمَ البطلُ هكتور ذلك ولكن بعد فوات الأوان؛ أوفيد، التحوُّلات 3: 275-277). ويظهر الإله أيضًا كغريب يختبر الضيافة (هومير، أوذيسة 17: 484-487؛ أوفيد، تحوُّلات 8: 626-627) أو يختبر إن كان مائتٌ يكشف سرقتَه (أوفيد، تحوُّلات 2: 698). غير أنَّ هذه الأمثلة دخلت بصعوبة في عالم يوحنّا الفكري. وحتّى إذا وضعنا جانبًا الاختلافات اللاهوتيّة العميقة، فمحيطُ يوحنّا الضيِّق يرتبط بالعالم اليهوديّ الذي تأثَّر بالعالم الهلّينيّ كما نجده عند فيلون وبسودوأرستيس ويوسيفس. أو في مراجع تتوجَّه إلى مثقَّفين عرفوا الحضارة الهلِّنيَّة وفلسفتها.

أخطأ كازمان(7) حين اعتبر فكر يوحنّا فكرًا يرتبط بالظاهريّة، فردَّ عليه اليوم عددٌ من الباحثين(8). تحدَّث يوحنّا بشكل خاصّ عن التجسُّد، عن الكلمة الذي صار بشرًا، من لحم ودم. والفعل يدلُّ على تجسُّد كيانه كلِّه. لا تجسُّد موقَّت. ولا بعض التبنّي أو قشرة خارجيّة أو غطاء(9). ويذكر 4: 6 كيف »تعب يسوع من السفر، فقعد على حافَّة البئر«. أو 19: 34: »خرج دم وماء«. في الوقت عينه، لا يبقى يوحنّا فيه. فالثيمة الثابتة في المطلع هي أنَّ الكلمة هو الله، لا تجسُّد الكلمة. وفي عبارة أخرى، لا يتوسَّع المطلع في حرب على العالم اليهوديّ، في هذا المجال. بل يأخذ النظرة اليهوديّة حول الخلق ويتوسَّع فيها بدلاً من الكلام عن ألوهيّة يسوع في التاريخ. ربَّما عاد الكاتب أو الحلقة اليوحنّاويّة إلى حرب مثل هذه في 1يو 4: 2 (كلُّ روح يعترف بيسوع المسيح أنَّه جاء في الجسد، يكون من الله). هذا ممكن، وإن لم يطلب التقليد المسيحيّ مثل هذا التفسير، كما نجد في روم 1: 3؛ 8: 3؛ 9: 5؛ 1تم 3: 16 (ظهر في الجسد، وتبرَّر في الروح).

ولو كانت بعض النصوص اليهوديّة الفلسطينيّة تتحدَّث عن الله الذي يتماهى مع البشر ليجعلهم يفهمونه، أو ينزل إلى مستوى البشر لكي يبرِّر قراراته لعبيده، أو هو يستعمل بعض المرّات عبارات أنتروبومورفيّة ليصوِّر الله (قمران، الحرب 12: 10؛ القوّالون في جا ربا 2: 21). رج خر 15: 3 مع عبـارة عبريّـة: ا ي . م ل ح : رجل قتال، مقاتل. ستطبَّق العبارة على الملاك في عد ربا 10: 6.

سبق يوحنّا هنا كتّـابٌ يهـود هلنيُّـون مثل حزقيــال التراجيديّ Exagogé 70 (القرن 2 ق م). دعا فيلون اللوغس »إنسان الله« (البلبلة 41: 62، 146) و»الإنسانَ بعد صورته« (بلبلة 146). غير أن فيلون رفضَ التجسُّد الحاليّ (دود، التفسير، ص 60). وبالرغم من بعض الاعتراضات، فقد صارت صور الله الأنتروبومورفيّة نموذجًا في التيّار الرابّينيّ(10). غير أنَّ أكثر العالم اليهوديّ رفض فكرة تقول: الله صار بشرًا. وفي بداية القرن الثاني ب.م.، وجد بعضُ المعلِّمين اليهود أنَّه من الضروريّ الحرب على هذه الفكرة(11). وجاهد يوحنّا فشدَّد على أنَّ يسوع في عين تلاميذه هو التوراة الإلهيّة في العالم اليهوديّ. »البشريّ« يدلُّ على بشريّة المسيح (1: 13؛ 3: 6)، وعلى تضامنه مع البشريّة كلِّها (17: 2؛ رج مز 145: 21؛ إر 32: 27). هذا لا قيمة له في ذاته لإدراك الحقيقة (3: 6؛ 6: 63؛ 8: 15). ولكن فقط في بشريّته، حين يشارك البشرَ مواتَهم، فيكون لهم الخلاص (6: 51، 53، 54، 55، 56).

ب- مسكن الله بيننا

كما »سكن« الله مع شعبه في البرّيَّة، سكن كلمةُ الله بين شهود الخروج الجديد الذي تمَّ في يسوع(12). أشار بعضهم أنَّ مترجم السبعينيّة أبرز هذا اللفظ اليونانيّ الخاصّ، لأنَّ حروفه توافق حروف »ش ك ه« أي حضور الله. أن تكون صورة الكلمة الساكن وسط الشعب قد وجد له بيتًا، لدى قرّاء يوحنّا، أمرٌ يشير إليه ابن سيراخ الذي كان معروفًا. فالذي خلق الحكمة أمَّن لها مسكنًا skhnhn ترتاح فيه. لهذا أقامت kataskhnwson في يعقوب (سي 24: 8؛ رج با 3: 37؛ فيلون، التفسير الأليغوريّ 3: 46؛ المسكن يمثِّل الحكمة. فيلون نسل 122: اللوغس الإلهيّ يسكن وسط الذين يشاهدون الالهيات logoV qeioV enoikei؛ وص لاوي 2: 11؛ 5: 2؛ 6: 5). وبعد هذا المقطع بقليل، ماهى ابن سيراخ الحكمة مع التوراة. هذا التلميح يُفهِم سامعي يوحنّا التعارض. فالصورة الإنجيليّة الأولى عن عيد المظالّ skhnophga (7: 2) تُبرز خلفيّة البرّيّة في الصورة: مجدُ الله يقيم وسط شعبه (أش 4: 5: تحدَّث عن سحابة اسكاتولوجيّة من المجد من أجل خروج جديد، ترجوم أش 4: 5). فهمت الجماعة اليوحنّاويّة ذلك على أنَّه مثال. أنَّه وضْعٌ اسكاتولوجيّ (رؤ 7: 15؛ 21: 3؛ رج عب 8: 2).

رأى عدد من المفكِّرين اليهود روحَ الله على أنَّه ملازم لله. فحكمةُ سليمانَ احتذت الفكر الرواقيّ فأعلنت أنَّ روح الله اللافاسد، هو في كلّ شيء en pasi (حك 12: 1). قال إيساكس(13) إنَّ تعليم فيلون حول التلازم يعكس ارتباطًا بالتقليد البيبليّ كما باللغة الرواقيّة. ومع ذلك، فحضورُ (شكينة) الله أو فعلُ إقامته، ارتبط بعض الشيء بالتوراة (عد ربا 11: 6). في سفر الحكمة (9: 11)، ارتبطت الحكمةُ بالمجد، وشغلت وظيفةَ المجد أو الحضورَ في البرّيّة: قادت الأبرار فظلِّلتهم في النهار، وأرسلت إليهم شعلة النجوم في الليل (حك 16: 17؛ رج خر 13: 21). وقد حلَّت هذه الحكمة في الخيمة (عد ربا 12: 3؛ 14: 22؛ نش ربا 3: 11؛ تر نيوفيتي حول خر 25: 8). وانتقلت الفكرة إلى المجمع (لا ربا 11: 7). وانضمَّ المجد إلى المظالِّ في البرّيّة، ولكن بشكل نادر. وسعى بعض القوّالين إلى تنسيق حضور الله الشامل مع إقامته في الخيمة (عد ربا 12: 4؛ نش ربا 3: 10). رج عن المجد والخيمة في خر 40: 32-36؛ 1مل 8: 10-11 (بوامار، المطلع ص 144).

وحلَّت الحكمة في الهيكل (تك ربا 97؛ خر ربا 2: 2). وانضمَّ المجد إلى الهيكل في فسقتا ربا 1: 2؛ 32: 1. وبالنسبة إلى الروح المقيم في هيكل الله، نعود إلى إيساكس (حاشية 13، 25) الذي يورد يوسيفس (العاديّات 8: 114) مع تواز في العالم الرابّينيّ بين الروح والشكينة. واعتبر سيفرس(14) أنَّ الشكينة نالت شمولاً بعد دمار الهيكل سنة 70ب.م. ونحن لا ننسى أنَّ مجد الله صُوِّر على أنه ساكن في السماء (نج 10: 3).

كلُّ هذا ميَّز شعب إسرائيل وسط الأمم (عد ربا 11: 5) ولاسيّما »الأبرار« (تك ربا 86: 6، يعود إلى القرن الثاني)، وخصوصًا في حدث الخروج حين قاد الله الشعب في البرّيّة (خر 13: 21؛ 40: 36-38؛ نح 9: 12؛ مز 78: 14). ومن الطبيعيّ أن يرتبط المجد بهذا الحدث (2مك 2: 7-8؛ مز سل 11: 2-6). ولكن منذ نهاية القرن الثاني على الأقل، دلَّ التقليد الرابّينيّ على أنَّ الشكينة شاركت شعب إسرائيل في أسره في مصر وفي بابلونية (خر ربا 15: 16؛ عد ربا 7: 10؛ مرا ربا 1: 5).

وسواء حوى »السكن« اليوحنّاويّ أو لم يحوِ مضامينَ يهوديّة حول الشكينة، فالمجد يدعو إلى هذا الجمع بين الاثنين. أشار أبالسون(15) أنَّه مع أنَّ »ك ب « (المجد) تماهى بعض المرّات مع »شكينة«، فليسا هما متساويين. فإنَّ doxa في العهد الجديد تغطّي الترتيب الدلاليّ للفظين. أما بورناي(16) فجعل ا ي الأراميّة مع »شكينة«.

ج- رأينا مجده

لاحظنا أعلاه أنَّ »المجد« doxa يدعونا إلى المقابلة مع مضمون يهوديّ يرتبط به، هو »شكينة«. وهذا يَبرز واضحًا في شكل خاصّ، في الأدب الرابّينيّ. هذه النصوص تشخِّص شكينة، ولكنَّها لا تجعلها »أقنومًا«. إنَّها تعبير عن الله (عد ربا 20: 10، وإن بدت »شخصًا يقبِّل جدران الهيكل«، مرا ربا، المقدَّمة 25)، تشير إلى قربه من البشر (أيالسون، حاشية 14، ص 117-134). فنحن نتوجَّه إلى الله نفسه على أنَّه »المجيد« (ا ش. ك ب ): في قمران، الحرب 12: 10 كان وجه الله »مجيدًا« حين اقتاد إسرائيل من مصر (1أخن 89: 22) ودُعي أيضًا: »مجد الكلمة« (تر نيوفيتي حول تك 1: 17، 28؛ 2: 3؛ 9: 27؛ 11: 5؛ 17: 22؛ 18: 33؛ 22: 14؛ 28: 16. وحول خر 17: 7، 16؛ 19: 11؛ 33: 23). وتجادل المعلِّمون حول قول لرابّي اسحق أحد التنائيم من القرن الثاني: »مجد حياة العالمين« (تك ربا 100: 5).

إنَّ القرّاء اليهود الذين اعتادوا مثل هذا العدد من المضامين، لا يسعون في أن يكشفوا »المجد« على أنَّه وحيٌ عن طبيعة الله يُبعَد بواسطة الخطيئة (تك ربا 19: 7؛ نش ربا 5: 1)، ويُدعى إلينا بواسطة استحقاقاتنا ولاسيّما على سُحُب المجد في البرّيّة أو في وحي لموسى (تك ربا 60: 16؛ خر ربا 45: 5؛ عد ربا 19: 20؛ نش ربا 4: 5). أمّا يوحنّا فجمع مع صورة الحضور الذي أُبعد من الهيكل (8: 59) التجسُّدَ البشريّ لمجد الله في يسوع الناصريّ، في حبٍّ لا يستحقُّه البشر: »هكذا أحبَّ الله العالم« (3: 16). وكذا كان الوضع بالنسبة إلى افتداء إسرائيل »أنتم شعب مقدَّس للربّ... لا لأنَّكم أكثر من جميع الشعوب... بل لمحبّته« (تث 7: 6-8؛ رج 9: 5-6: »لا بتقواك ولا باستقامة قلبك...«).

وكما في البيبليا العبريّة (أش 60: 1-3)، ما زال العالم اليهوديّ يضمُّ في نظرة واحدة، الوحي الأخير للمجد، مع الزمن الإسكاتولوجيّ(17). ومع أنَّ إسكاتولوجيّة يوحنّا قد تمَّت في بدئها، فمع ذلك نستطيع أن نفهم نظرته الإسكاتولوجيّة: ذروةُ وحي المجد حلَّت في المسيح، كما التوراة أوحيَت أيضًا في عهد جديد (أش 2: 2-3؛ إر 31: 33).

و»المجد« يحتفظ بعض المرّات بمعناه العاديّ: الكرامة، الموافقة، الشهرة، الاسم المعروف (رج 12: 43). أمّا يسوع وفي موقف يعارض خصومه، فيقبل هذا المجد من الآب فقط (5: 41، 44؛ 7: 18؛ 8: 50؛ 9: 24؛ 12: 41-43؛ 16: 14؛ 17: 22). وكيَّف الإنجيل الرابع »مجد« يسوع على أعمالٍ مختلفة من الوحي (الآيات، 2: 11؛ 11: 4، 40). وقد يتضمَّن هذا تحوُّلَ التلاميذ (14: 13؛ 10: 8؛ 17: 10، 24)، على مثال موسى الذي تحوَّل في رؤية المجد (2كور 3: 7-18). وقد اجتمع »المجد« و»الآيات« معًا، في السبعينيّة (عد 14: 22. وقد يعني سي 45: 3 موسى. ق خر 16: 7).

غير أنَّ التعبير الأخير للمجد هو مجمَّع يتضمَّن موت يسوع (12: 16، 23، 28؛ 13: 31-32؛ رج 21: 19) وقيامته وتمجيده (7: 39؛ 12: 16؛ 17: 5)(18). وهكذا صار هذا المجد الوحيَ الأخير »للنعمة والحقّ«. وحيث بُغضُ العالم لله يصل إلى تعبيره الأخير، كذلك يكون حبُّ الله للعالم (3: 16). وإن نظر معارضو الجماعة اليوحنّاويّة إلى الصليب على أنَّه البرهان بأنَّ المسيح لم يكن المسيح، فيوحنّا نظر إلى ذلِّ يسوع على أنَّه الوحي الحقيقيّ لله. فتجسُّده التامّ، وخصوصًا مواته وموته، كلُّ هذا يشكِّل الوحي الأخير لنعمة الله وحقيقته كما كُشفتا لموسى (1كور 1: 23-25؛ فل 2: 8).

قد تعود صيغةُ المتكلِّم الجمع (أبصرنا، نحن) إلى العالم. ولاشكَّ في أنَّ مسكنه »بيننا« بُنيَ بهذا الشكل (1: 10-11؛ ق 12: 35)، مع أنّنا نلاحظ أنَّ يسوع سمح بشكل خاصّ لتلاميذه، بأن يبدأوا، »ويسكنوا« معه (1: 38-39؛ 14: 23). والمؤمنون يشاركون في حميميّة الكلمة مع أبيه (1: 1-2). والمتكلِّم الجمع في أبصرنا eqeasameqa يدلُّ فقط على حميميّة بالقياس، وتشير في حالة أولى، إلى سند خاصّ، تاريخيّ. فالفعل »أبصر« وما يرادفُه (مثل qeaomai في 1: 38؛ 4: 35؛ 6: 5. مثل oraw في 1: 18) ينطبق على رؤية في الجسد من أجل العالم (6: 36؛ 15: 24). وعلى رؤية بعين الإيمان (11: 45؛ 14: 7-9؛ رج 1يو 3: 6؛ 3ي 11). ويسوع كشف مجده بشكل غامض للجميع، ولكن بشكل واضح في أعين تلاميذه (2: 11، رج 14: 21-23). والذين يرون مجده الآن هم الذين يؤمنون به (11: 44). ويفسِّر التقليد اليوحنّاويّ أيضًا هذه اللغة، في عودة إلى شهادة التلاميذ (1يو 1: 1-3) التي تتوافق مع ما تبقّى من الإنجيل (19: 35).

وهكذا فإنّ البنية الطبيعيّة لصيغة المتكلِّم الجمع، تعني أنَّ يوحنّا جعل نفسه وسط الشهود(19). فشهود مجد الكلمة لا يشيرون إلى التنشئة السرَّانيَّة في العالم الهلِّنستيّ، بل إلى موسى الذي أبصر مجدَ الله على جبل سيناء(20). وفي عبارة أخرى، إنَّ شهود يسوع بمن فيهم يوحنّا، هم وسطاء وحيٍ أعظم من وحي موسى، ولكن في شكل شبيه بالقياس لما حصل لموسى. وقد وصف بولس الرسول خدمته في شكل مماثل في 2كور 3: 7ي. ومشهد التجلّي في الأناجيل الإزائيَّة، يلمِّح إلى هذا الوحي على أنَّه واقع فريد(21). ومع أنَّ هناك تلاقيًا بين »النور« و»المجد«، فهذا ربَّما لم يكن معروفًا لدى القرّاء الأوَّلين. فمن المعقول أن يكون موحيًا لمَّح إلى وجه يسوع على أنَّه النور (1: 4-9)(22). فالذين قاربوا المطلع، وسمعوا الإنجيل أقلَّه مرَّة واحدة، يفكِّرون بالذين رأوا مجدًا رآه موسى، وأشعيا في رؤياه في الهيكل (12: 41؛ أش 6: 1-4. ثمَّ ترجوم أشعيا في 53: 2ب). في هذا السياق، يلمِّح »المجد« بشكل خاصٍّ إلى وحي الله لموسى في خر 33-34 الذي يُمكن أن يصوَّر بشكل شعاع (خر 34: 29). ساعة قابل عددٌ من الشرّاح(23) يسوع مع موسى في الإنجيل الرابع، صار التلاميذ شبيهين بموسى وتوازى يسوع مع المجد الذي رآه موسى على الجبل.

د- الابن الوحيد (1: 14-18)

وتكـلَّــم »الإلـه« الـيونانـيّ أيضــًا عـــن »ابنه الوحيد« PEARCHERS، 812 ولكنْ لزوش أولاد عديدون). كما تكلّم عن »ابنه الحبيب« (هومير في الإلياذة 5:314، 318؛ 16: 460). ولكنَّ تعدُّديَّة الأولاد وكثرة الآلهة، تجعل الصورة خارج الفكر اليوحنّاويّ، والحسّ اليهوديّ حول البنوَّة الإلهيّة. ومن اعتبر أنَّ نظرة يوحنّا هي في بدئها يهوديّة، لن يجد جوابًا على سؤال: ماذا يعني يوحنّا بلفظ monogenh".

يتجادل الشرّاح حول مدلول monogenh". بعضهم تبع النقل التقليديّ: المولود وحده(24). فاعترض آخرون: ليست هذه قراءة فقهيّة للفظ(25). بل يجب أن يقال: monogennhto". أمّا monogenh" فتعود إلى جذر آخر geno" الذي يعني: نوع، جنس. هذا على مستوى الاشتقاق. ولكنَّ المدلول العمليّ هو الذي فرض نفسه. فعددٌ من آباء الكنيسة قرأوا اللفظ على أنَّه »المولود الوحيد« ولكنَّ هذا يرتبط بكرستولوجيّة القرن الثاني، قبل الكلام عن فرضيّات دلالة الألفاظ بين يوحنّا وسامعيه. لفظُ »الوحيد« هو ترجمة قديمة ظهرت في بعض الترجمات القديمة مثل السريانيّة (ي ح ) التي ظهرت حوالي سنة 170ب.م.، والقبطيّة (حوالي سنة 200) واللاتينيّة العتيقة (في نهاية القرن الثاني).

مع أنَّ يسوع أخذ دور الابن بشكل خاصّ في قيامته، عند بولس وفي الكرازة الرسوليّة في سفر الأعمال (رج لو 1: 35؛ في البشارة)، وفي الرسالة إلى العبرانيّين (1: 5 في سياق 1: 3-9؛ 5: 5 في سياق 5: 6)، فقد وُجدت علاقة خاصَّة بين يسوع والآب، في هذا الإنجيل، قبل تمجيده العلنيّ، الرسميّ، بل في وضعه السابق للتجسُّد. وهكذا نفسِّر monogenh" على ضوء النصوص البيبليّة والشرق أوسطيّة: الرئيس يُولد يومَ يجلس على العرش (مز 2: 7؛ أع 13: 32).

monogenh" استعمل عادة للكلام عن ولد وحيد. وقابل » ي د« العبريّ كما تُرجم في السبعينيّة (مز 22: 21؛ 25: 16؛ 35: 17). واتَّخذ اللفظ أيضًا معنى »الحبيب« بجانب معنى »الوحيد«. وهذا ما وصل بنا إلى يوحنّا. وفي الأدب الرابّينيّ، صار »ي « يعني »ب ر إختار. وإسرائيل لم يكن فقط »البكر« (خر 4: 22؛ إر 31: 9) والولد الوحيد (سي 36: 12 gono"prwto؛ مز سل 18: 4؛ 4عز 6: 58؛ يوب 19: 29: إسرائيل حبيب الله وكأنَّه ولد وحيد). وواصل التقليد في الكلام عن إسرائيل الذي دُعيَ الحبيب (با 3: 36-37 hgaphmenw مز سل 9: 8 lao" on hgaphsa" يوب 3: 15، 20؛ 4عز 5: 27؛ روم 11: 28) مثل بعض خدّام الله الأخصّاء رابّي اسماعل في 3 أخن 1، 8، عزرا في رؤ عز 1: 1)، إبراهيم (فيلون، إبراهيم 50)، وموسى (سي 45: 1)، وصموئيل (سي 46: 13)، ويوسف (وص يوسف 1: 2) وإسحق (وص إسحق 2: 20، 25، ربَّما هو مؤلَّف مسيحيّ: فيلون، إبراهيم 50؛ تك ربا 59: 9) والأبرار بشكل عامّ (حك 4: 10؛ مز سل 13: 9؛ وص يوسف 11: 1). في إطار المرافعة اليوحنّاويّة، أبرز الإنجيل الرابع يسوع الوحيد تجاه الشعب الذين يعتبرون نفوسهم أولاد الله. نجد أنَّ الجملة قد تتوسَّع في الصورة دون مِثل هذا التحـدّي. بما أنَّ monogenh" ترجـم »ي «، وبمــا أنَّ »ي ح ي د« صــارت agaphto" مثل إسحق الذي دُعيَ »ي « (مع أنَّ له أخًا هو إسماعيل)، صار من الطبيعيّ أنَّ monogenh"، يرتبط ب agaphto" في الإطار البيبليّ كما انتقل إلى اليونانيّة.

وهناك أسباب أخرى جعلت عبارة الابن »الوحيد« تعني بشكل خاصّ الابن »الحبيب«. بعضهم نال محبَّة خاصَّة، وهذا ما يتعلَّق بالابن الوحيد. فحين تحدَّث تث 16 عن الأبكار، ثمَّ عن البنات والعبيد واللاويّين، لاحظ المعلِّمون أنَّ المحبوب جاء في الدرجة الأولى. ودعـا إرميــا كاتبــه بـاروك »ابني الحبيب« uie mou agaphte في 4با 7: 24. وكما الملك يفضِّل ابنه الأصغر، أحبَّ الله بنيامين، بشكل خاصّ. ودُعيَ حورس الابن المحبوب لإيزيس ولأوزيريس، كما قالت البرديّات الديموتيّة السحريّة (الملحق 131). أن يكون الواحدُ الابنَ الوحيد، يعني أنَّه الابن الوحيد المحبوب. وموت مثل هذا الوحيد، قد يعود بوالديه إلى الموت بسبب الحزن (طو 6: 14؛ رج تك 42: 38). فموتُ الابن الوحيد مأساة خاصَّة (طو 8: 14؛ رج 4عز 10: 1. مثل هذا الابن هو الوارث، بمعزل عن سلوكه. رج منسّى في صعود أشعيا 1: 1). وهكذا كان من الطبيعيّ أن يكون »الوحيد« لا الابن الوحيد فقط، بل الابن المحبوب.

في النصوص المسيحيّة الأولى، وخارجًا عن الأدب اليوحنّاويّ، يُستعمَل monogenh" في معنى لاهوتيّ (لو 7: 12؛ 8: 42؛ 9: 38)، ويطبَّق على إسحق (عب 11: 17). أمّا في يو، وفي الاستعمال اليهوديّ العاديّ، الابن »الخاصّ« هو الابن »الحبيب« (أكثر من »الابن الوحيد«)(26). وهذا ما يجعل الذبيحة تترافق مع الألم (3: 16) ومِثل ذبيحة إسحق، مثَّل تجسُّد الابن فعلاً خاصٌّا من الحبّ والطاعة، بالنظر إلى علاقة خاصّة للابن مع الآب الذي صُوِّر بهذه الطريقة (3: 16؛ 18: 1؛ 1يو 4: 9). فيسوع الشبيه بالروح القدّوس وروح الفهم (حك 7: 22 monogenh") هو الوحيد، لا في معنى تفرّغ، بل على أنَّه الوحيد وموضوع حبٍّ خاصّ من لدن الله. وما هو عجيب فيه هو أن هذا الحبّ صار في متناول جميع الذين يتبعونه (17: 23). فالمسيحيّون، شأنهم شأن شعب إسرائيل، دُعوا أبناء الله (1: 12-13)، أمّا يسوع فهو الابن بشكل خاصّ، الواحد الوحيد(27).

هـ - مملوء نعمة وحقٌّا (1: 14).

يُفهم استعمالُ يوحنّا للفظ plhrh" فهمًا كافيًا في اليونانيّة اليهوديّة(28) دون عودة مباشرة إلى العالم الرواقيّ أو الفيلونيّ (استعارة 3: 77-78؛ الغرس 87-89؛ البلبلة 123) وإلى الاستعمال الخاصّ للفظ plhrwma (إيرينه، الهراطقة 1/1: 1). ونستطيع العودة إلى الوراء: حين كشف الله مجده لموسى، كشف عن وفرة حبِّه وأمانته في عهده. هذا ما يترجم عند يوحنّا »مملوء نعمة وحقٌّا«. نادرًا ما تترجم السبعينيّة »ح د« العبريّ cari". ولكنَّ عودة إلى يوحنّا أو إلى مراجعه، قد تُفهمنا أنَّ يوحنّا يعود إلى العبريّة حين يورد نصٌّا من النصوص(29). كانت eleo" تعني »حظوة« في السبعينيّة، ولكن مثل هذا الاستعمال تراجع فيما بعد. فاستعمل الأدب المسيحيّ cari" في هذا المعنى. وذاك ما فعله يوحنّا(30).

ومع أنَّ العبارة متواترة في البيبليا العبريّة (2صم 15: 20؛ مز 25: 10؛ 40: 11؛ 57: 10؛ 89: 1، 2، 14، 24، 33، 49؛ 86: 15)، وتظهر في أكثر من موضع في النصوص اليهوديّة (نج 4: 4، 5؛ رج حك 3: 9)، فتكديس التلميحات إلى خر 33: 34 في يو 1: 14-18، يترك شكٌّا قليلاً بأنَّ عبارة يو هي تلميح واعٍ إلى وقوعها في هذا السياق. وهكذا نفترض أنَّ الملء يعني ملء المجد. فحين كشف الله عن ذاته كمملوء نعمة وحقٌّا على جبل سيناء، كان ذلك ناقصًا. فقد رأى موسى فقط جزءًا من مجد الله (خر 33: 20-23؛ يو 1: 18). ولكن ما كان ناقصًا على مستوى وحي النعمة والحقّ مع موسى، صار كاملاً عبر المسيح (1: 17).

لاحظ بعضُ الشرّاح هذه المقابلة في آ17، فما أشاروا فقط إلى تلميح إلى النعمة والحقّ الحاضرين في عطيَّة التوراة، بل إلى أنَّ يوحنّا أعلن أنَّ هذه الصفات كانت حاضرة في المسيح لا في الشريعة(31). غير أنَّ هذه الإشارة تُجمل معنى التواصل الممكن الذي يدلُّ عليه إلغاء النقيضة إلغاء صريحًا: المسيح هو التجسيد التامّ للتوراة، وتتمَّة ما كان جزئيٌّا (ولكنَّه الآن حاضر) في التوراة. وهكذا جسَّد يسوع رجاء العالم اليهوديّ. ما شجَّع يوحنّا جماعته للبحث عن ماضيها اليهوديّ، بل دعاها لكي تتعرَّف في المسيح الآتي، إلى تجسيد التوراة، بحيث تُتمُّ جماعتُه أسمى ما يطلب العالمُ اليهوديّ. تجاه ذلك، فاليهود الخصوم ورؤساء المجمع الذين اعتبروا أنَّهم يتكلَّمون من أجل الجماعة اليهوديّة، ثاروا على التجسيد الأخير للتوراة.

ساعة المفكِّرون اليونان والرومان، واليهود البيبليّون، شدَّدوا على »محبَّة الحقّ« (مرقس أورليوس، اعتبارات 1: 14)، جاء معنى »ا ت« (العبريّ) مختلفًا عن معنى alhqeia بحيث نتفحَّص إلى حدٍّ فيه يعكس استعمالُ يوحنّا لطائفَ يعرفها الأسلوب اليونانيّ النموذجيّ (18: 38). وإلى أيِّ حدٍّ يعكس هذا النقل اليونانيّ فيخون المعنى العبريّ المرتبط بالعبارة التي يستعملها يوحنّا (17: 17).

مع أنَّ البعض رأوا في نظرة يوحنّا إلى alhqeia على أنَّها هلّنستيَّة في الأصل، إلاَّ أنَّ عددًا من الباحثين عادوا إلى المعنى التقليديّ للفظ »ا ت«، في الإنجيل الرابع(32)، ورأوا أنَّ 90 في المئة من استعمال السبعينيّة للفظ alhqeia يقابل »ا ت« العبريّ، وأنَّ يوحنّا يُخرج استعمالَه لـ»مملوء نعمة وحقٌّا« من البيبليا العبريّة. هذا يعني أنَّه أخذ المعنى في سياقه البيبليّ. وقد يكون انتظر من القارئ أن يسمع العبارة »النعمة والحقّ«، ساعة يرد الحقُّ وحده 35 مرَّة في ما تبقّى من الإنجيل. إذا كان الأمر هكذا، »فالحقّ« يتضمَّن مرارًا معنى الأمانة للعهد في الإنجيل الرابع.

في نظرة شاملة إلى بعض استعمالات alhqeia، نفهم التركيز الكرستولوجيّ في الإنجيل الرابع. الحقّ يحمل المعنى الخلقيّ في 3: 21 (في معارضة مع الشرّ. والخلقيّة تقوم في تجاوب مع عمل الله). جاء »الحقّ« مع »الروح« في 4: 23-24؛ 15: 26؛ 16: 13. وارتبط بالحقيقة (ضدّ الكذب، في 5: 33؛ 8: 4؛ 16: 7. وهكذا الشهادة للمسيح) في 8: 32، 40، 44، 45، 46. كما ارتبط بالمسيح في 5: 33؛ 14: 6؛ 18: 37 في شكل مباشر. وكلُّ هذه الاستعمالات جاءت مع أل التعريف. وفي صيغة الصفة (الحقيقيّ) هناك المعنى اللاهوتيّ (3: 33؛ 7: 28؛ 8: 26) أو الكرستولوجيّ (6: 32، 55؛ 7: 18؛ 15: 1؛ 21: 24) أو الكنسيّ (1: 47؛ 8: 31). فطابع الله والعامل معه، يحدّدان الجماعة الحقيقية.

ب- شهادة المعمدان (1: 15)

ودخل المعمدان مرَّة ثانية في السرد. »شهادته« العامَّة للنور، صارت خاصَّة في تَقابلٍ بينه وبين المسيح. وهذا ما يُبرز أيضًا موضوع المرافعة حول دور يوحنّا في الإنجيل الرابع. هنا أعلن الإنجيل أنَّه وإن سبقت رسالةُ يوحنّا رسالةَ يسوع، إلاَّ أنَّ يسوع هو أعظم منه، بل سبقه في الوجود: جاء قبله(33). فيسوع هو »في البدء مع الله« (1: 1-2).

إن كان يسوع جاء »بعد« يوحنّا في معنى من المعاني، فهذا يعني أنَّ يسوع كان التلميذ(34). ما عمَّده يوحنّا فقط، بل كان الأوَّل في الرسالة وبالتالي الأفضل (3: 22-24، 30). نحن نفهم اهتمام الإنجيل لكي يشرح سموَّ اللوغس في الزمن وفي المقام. عادة الأدنى يتبع الأسمى، ولكنَّ لاهوت يوحنّا عن التجسُّد قلبَ هذا المبدأ (13: 14-16). فمع أنَّه لا يُعقَل أن يكون المعمدان قال هذا الكلام الذي نُسب إليه، فالأناجيل الإزائيّة تشهد أيضًا أنَّ يوحنّا تواضع أمام يسوع: فالخدمة السامية، الإسكاتولوجيّة، تتبع خدمته الزمنيّة. عرف الإنجيل الرابع أنَّ يوحنّا عرف ذاك الذي جاء بعده opisw. هذا ما يقوله التقليد (1: 27، 30) كما مر 1: 7 ومت 3: 11.

ج- وحي أعظم من وحي موسى (1: 16-18)

والمسيح أعظم من موسى، وهو ذاك الذي رآه موسى أعظم من موسى. في الانجيل الرابع، المجد الذي شهد له الانبياء، كان مجد يسوع نفسه. فشهادة النبيّ (أشعيا) هي من أجل يسوع نفسه (12: 41)، بعد أن رأى مجد يسوع. ومجدُ العهد الجديد أعظم من مجد العهد الأوَّل (2كور 3: 13-18).

أوَّلاً: نال ملء النعمة والحقّ (1: 16)

إنَّ أولئك الذين قبلوا يسوع (1: 12)، قبلوا ملء النعمة والحقّ الحاضرَين فيه، لا جزءًا مخفيٌّا في الشريعة. »فالملء« يحمل دلالة كبيرة ويلمِّح إلى أنَّ الله يملأ الكون بحكمته، بروحه (حك 1: 7؛ سي 24: 25؛ سيب 3: 1-7 والمجد في مز 72: 19؛ حب 2: 14؛ 2أخن 39: 5). أمّا في هذا السياق، فيبدو من الطبيعيّ الكلام عن الملء في 1: 16 في علاقة مع »مملوء نعمة وحقٌّا« في 1: 14. صيغة المتكلِّم الجمع تعود إلى الشهادة في آ14. ولكنَّ الفعل يضمُّ أيضًا جميع الذين يؤمنون عبر شهادتهم (1: 12؛ 17: 20). »جميعًا«. رج آ7، 9. أي الذين آمنوا بالنور.

نعمة على نعمة carin anti carito". ماذا يعني هذا الكلام؟ من السياق نفهم أنَّ الله كشف في يسوع عن ملء النعمة والحقّ(35). عاد Matthew BLACK إلى شكل أراميّ مع »ح س ا« في مقاله »Tradition« وأورد ما يشبه ذلك في ترجوم يورشليم حول لا20: 17. نحن لا ننسى الخلفيّة الأراميّة في التقليد الإنجيليّ، ولكننا لا نوافق عبارات »مكتوبة«، نُقلت من اليونانيّة إلى الآراميّة. »النعمة« تدلُّ على سخاء الوالدين وكرمهم، وتلتقي مع »النعمة« التي تعني أيضًا عرفان الجميل SOPHOCLE, Ajax, 522; SENEQUE, Bienfaits, 2/35, 1.

وتحدَّث آخرون عن بَركة تجاه بَركة. وآخرون أيضًا عن تبديل نعمة قديمة بنعمة جديدة، فبدَّلوا معنى anti. أو أيضًا: نعمة تجاه نعمة، أي نعمة المسيح من أجل تلاميذه. أو نعمة المسيح التي تتفوَّق على نعمة العهد القديم (بوامار، المطلع، 60-61). وآخرون: تبادلٌ عجيب بمجيء الكلمة. بما أنَّ يسوع أكملَ موسـى وما ألغـاه (5: 39، 45-47)، ضَـمُّ نعمـة إلـى نعمـة يُفضـَّل علـى إحـلال نعمــة محـلّ نعمــة فـي كــلام عـن »ملء« النعمـة (1: 16؛ خر 34: 6 RIDDERBOS, John, 56). فسواء تحدَّثت العبارة عن تجديد النعمة أو نموِّها، إلاَّ أنَّها تعني أيضًا نعمة تحمل بركة لا حدود لها. ونحن نقرأ عبارة مماثلة في سي 26: 15: »المرأة الخجول نعمة على نعمة«. ونقرأ أيضًا في الرسائل البولسية: »من مجد إلى مجد« (2كور 3: 18؛ 2تم 3: 13). ومع ذلك تبقى النيَّة الهجوميّة حاضرة في anti. أي لا مقابلة في العمق مع نعمة يقدِّمها يسوع وأخرى يحملها موسى أو يوحنّا المعمدان. هذه ترتبط بالبشر، أمّا النعمة الآتية من يسوع، فهي الكلمة بالذات الذي حمل إلينا ملء نعمة الآب. لا نعمة بعد تلك التي حملها يسوع.

ثانيًا: نعمة المسيح ونعمة الشريعة (1: 17)

لمَّح يوحنّا هنا أيضًا إلى خر 33: 34، إلى عطيَّة كافية للشريعة على جبل سيناء. هذا ما قال بوامار في المطلع (ص 62). أمّا DUMBRELL وفي مقال عن الشريعة، فبيَّن أنَّ المسيح أتمَّ هدف الشريعة المعطاة في خر 19-20، وهو غير الهدف الذي نجد في خر 34. هذا يعني أنَّ الجماعة اليوحنّاويَّة أخذت بالفرق بين عطيَّتي الشريعة، بحسب المدراش. ولكن لا شيء في النصّ يُتيح لنا أن نقول هذا الكلام.

كُشفت النعمة والحقيقة مع عطيَّة الشريعة (خر 34: 6). وصارت في ملئها للبشريَّة مع يسوع المسيح. النعمة هي هي. والتشديد هو على »كثافة« وملء عطاء. فقد قبل يوحنّا بشهادة الشريعة من أجل ملء النعمة والحقّ في المسيح، ولكنَّ المسيح هو ملء تجسيد الشريعة والنموذج الحاليّ للعيش بحسب الوصايا، في الجسم البشريّ. لا يعارض يوحنّا الشريعة، ولا يشكُّ بأنَّ النعمة والحقّ أعطيا بقدرٍ ما. هو يماثلها مع يسوع ويعلن أنَّ تلاميذ يسوع يخضعون فقط للعبارة الإسكاتولوجيَّة. هناك كلام عن »شريعتكم«. عن »أبيكم« في إطار حوار عن إبراهيم(36). بقيت كتاباتُ موسى كلامَ الله، ولكنَّها ليست ملء وحي النعمة والحقّ كما تجسَّدت في يسوع المسيح.

وهكذا شهد موسى والشريعة ليسوع (1: 45؛ 5: 45-47). ولكنَّ الذين يسيرون مع يسوع على أساس الشريعة فقط (7: 49؛ 9: 28-29؛ 18: 31؛ 19: 7)، لم يفهموا الشريعة (7: 23؛ 8: 17؛ 10: 34؛ 15: 25)، بل كانوا عاصين لها (7: 19، 51). نلاحظ هنا أنَّ يوحنّا لا يجعل grafh (الكتب المقدَّسة) في إطار هجوميّ كما هو الأمر بالنسبة إلى الشريعة nomo".

تحدَّثت المراجع اليهوديَّة عن الشريعة التي أعطيَت لموسى. الله أعطاها وكان موسى وسيطَها (3 عز 9: 39؛ كعب 11: 2). وكلُّ كلام غير هذا يجعلنا في الإطار الغنوصيّ، في القرن الثاني المسيحيّ. وقبِلَ يوحنّا بالأصل الإلهيّ للشريعة (أُعطيت، المجهول الإلهيّ)، ولكنَّه أعلن أنَّ يسوع، لا موسى، هو وسيط الطابع الإلهيّ للشريعة كشاهدة للمسيح. ذكر يوحنّا »إبراهيم« 11 مرَّة في الإنجيل ولكنَّه ذكر موسى 12 مرَّة ليدلَّ عليه خاضعًا كعامل وكشاهد (حاشية 36، ص 51. موسى الخادم والمسيح الملك. أوغسطين في إنجيل يوحنّا 3: 16). رأى المعارضون للجماعة المسيحيَّة في موسى الشاهد (9: 28-29)، ولكنَّه في الوقت عينه شاهد عليهم: »هو يشكوكم« (5: 45-46).

ثالثًا: نرى الله في وجه المسيح (1: 18)

ما استطاع موسى أن يرى كلَّ مجد الله، لأنَّ الله أعلن أنَّ أحدًا لا يقدر أن يرى وجهه ويحيا، وهو بعدُ على قيد الحياة (خر 33: 20)(37). أعلن يوحنّا أوَّلاً المعنى الذي يكون فيه هذا القول حقيقيٌّا: ما من أحد استطاع أن يرى الله في وقت من الأوقات. ويواصل كلامَه في الإنجيل: الله لا يُرى في هذا العالم (5: 33؛ 6: 46؛ 1يو 4: 12، 20). ولكن تبدَّل الأمر الآن. كشف الله عن نفسه في الابن الحبيب، الكلمة المتجسِّد، بحيث نستطيع فيه أن نرى الآب (14: 9). وفي الطريق عينها، لن يرى العالمُ يسوع بعد قيامته، بل التلاميذ وحدهم (14: 21-23؛ 16: 16-19، 22؛ 20: 18-25). وقبل القيامة »رآه« التلاميذ كما رآه العالم، على مثال ما حصل على جبل سيناء (6: 36؛ 19: 37؛ رج خر 24: 10).

أبرزت المراجع اليونانيَّة والرومانيَة أنَّ الإله لا يُرى إلاَّ بالعقل المجرَّد (مكسيم الصوريّ، العظة 11: 9-10). واختلفت النظرات مع كسينوفون في التذكُّرات (1/4: 9) وإبيكتات في الهجاء (1/6: 19) وبلوتارك في إيزيس 9. وفي شكل ثابت، أبرز التقليدُ اليهوديّ الفلسطينيّ »لارؤيويَّة« الله (رأى بعضهم هجومًا على الذين يعتبرون نفوسهم أنَّهم يصلون إلى الله بدون يسوع)، (نج 11: 20؛ 2أخن 48: 5؛ ترجوم تك 16: 13؛ ترجوم نيوفيتي على خر 3، 23)، حتّى وإن اعتبر بعضهم أنَّه رأى مجده في خبرة صوفيَّة خاصَّة. ويهود الشتات مثل فيلون (خلق 69: الشرائع 1: 47؛ 2: 165) والأقوال السيبليَّة (3: 12، 17 aorato") ويوسيفس في إبيّون 2: 19، اعتبروا أنَّ الله لا يُرى (روم 1: 20؛ 1تم 1: 17). أمّا الكتّاب اليهود فقدَّموا تعليم الكتب: الله تكلَّم مع موسى وجهًا إلى وجه (كعب 11 :14؛ رج فيلون، الشرائع 1: 41)، ولكنَّ موسى لم يستطع أن يرى مجدَ الله كلَّه. شدَّد المعلِّمون على هذه الفكرة لئلاّ يظنَّ أحدٌ أنَّ رؤية الله ألَّهت موسى، على مثال ما يُعرَف في العالم الوثنيّ(38). وحين أعلن المسيحيّون أنَّهم رأوا ملء صورة الله، التي ما رآها موسى، اعتُبر كلامُهم تجديفًا في نظر اليهود. وصعود أشعيا، هذا المؤلَّف المسيحيّ (3: 8-10) الذي يدافع عن أشعيا الذي رأى الله، قد يكون هجومًا على المسيحيَّة من قِبَل المجمع اليهوديّ.

غير أنَّ بعض المراجع اليهوديَّة تحدَّثت عن رؤية إسكاتولوجيَّة لله (1أخن 90: 35. الأبرار الراقدون يستطيعون أن يروا الله). فرأى يوحنّا في مجيء يسوع، الوحيَ الإسكاتولوجيّ، الوحيَ الأخير لشخص الله. ولكن لا ننسى أنَّ يوحنّا وإن لم يترك النظرة الإسكاتولوجيَّة، إلاَّ أنَّه شدَّد على الوحي في التاريخ، في حياة يسوع اليوميَّة.

وبالنسبة إلى يسوع الذي أراد أن يجعل الله معروفًا، فالصورة المرئيَّة لا تكفي. فيسوع »ترجم« الله ترجمة تامَّة. رج سي 43: 31: »هل رآه (رأى الله) ti" eoaraken حتّى يُخبر عنه »فيجعله معروفًا«. ekdihghsetai؟« تحدَّث إبيكتات في الهجاء (1/16: 19) عن بشريَّة تلاحظ الله وأعماله. فتكون "hthghxe .

كلُّ هذا يُثبت معنى السياق: كشف يسوع شخص الله في شكل مُطلَق. ودلَّ يوحنّا على امتداد عمل هذا الموحي الكامل، يسوع المسيح (3: 11-13). فيسوع هو الكلمة الذي هو مع الآب منذ البدء (1: 1-2). استعمل يوحنّا صورة مأخوذة من الحياة مع الوالدين: »هو في حضن الآب«(39). كما الولد في حضن أمِّه. هي صيغة اسم الفاعل. هو في حضن الآب على الدوام، لا في شكل عابر. وهو يحمل الوحي في حياته على الأرض وصولاً إلى الصليب. حضورُه التاريخيّ وسط البشر، يعيشه يسوعُ تجاه الآب في المحبَّة والطاعة.

إنَّ هذا الاتِّحاد الحميميّ بين الآب والابن، ليس فقط على مستوى علاقة قد تكون خارجيَّة. بل مشاركة في الطبيعة، وفي دور واحد يلعبه الآب والابن. قرأ البعض : »الابن الأوحد« وأخذ بهذه العبارة(40) بل الأفضل: »الإله الأوحد الذي في حضن الآب«(41). في اهتمام من أجل تبسيط معنى النصّ، قام الجدال مع الأريوسيّين في مصر، منبعِ عددٍ كبير من المخطوطات، ففضَّل عبارة الابن وقرأ »الأوحد« »المولود الأوحد«، »الله المولود الأوحد«. فإن رحنا في العبارة إلى الأخير، يكون غموض ضدَّ أريوس وأثناز. يستحيل أن يحوِّل الناسخ لفظ »الابن« إلى »الله«، بل العكس حلاٌّ للصعوبة: كيف يكون الله في حضن الله؟ هذا لا يفهم إلاّ في إطار الثالوث، حيث الآب هو الله، والابن هو الله.

وينتهي المطلع في تضمين: كان الكلمة الله. والآن، الإله الأوحد. والتوازي واضح بين البداية والنهاية. في 20: 28 مع فعل إيمان توما: »ربّي وإلهي«. بهذا ذكَّر يوحنّا اليهودَ الذين اعتنقوا المسيحيَّة أنَّ الكرستولوجيّا هي في قلب الإيمان بإله إسرائيل.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM