المعرفة الحقّة.

 

المعرفة الحقّة

هناك معرفة ومعرفة. فالمعرفة المادّيّة تقع تحت الحواس، ويمكن أن تخطئ. يكفي لذلك أن ننظر إلى القضيب في الماء. وهناك معرفة عقليّة، ولكنَّها تبقى محدودة لأنَّ الإنسان محدود ولا يمكن أن يدرك من الله إلاّ ما يقدِّمه له الله. وهناك معرفة تصلنا بواسطة أشخاص. تسلَّموا ثمّ سلِّمونا. هذا ما قاله بولس: تسلِّمتُ من الربِّ ما سلَّمت إليكم. أمّا المعرفة الباطنيّة التي تصل إلينا بشكل تدريجيّ في إطار جماعات صغيرة نعتبر أنَّها تعطينا معرفة محفوظة لبعض الناس المميَّزين، فهي في الواقع انغلاق على الذات وعلى المعرفة. المعرِفة الحقّة هي التي يعطيها يسوع المسيح، وهي لقاء بالربّ قبل أن تكون إعمال العقل والقلب والعاطفة. المعرفة الحقّة هي موهبة من الله في هذا الإطار نقرأ 2كور 5: 16-17:

فنحن لا نعرف أحدًا بعد اليوم بحسب الجسد. وإذا كنّا عرفنا المسيح يومًا بحسب الجسد، فنحن لا نعرفه الآن هذه المعرفة. وإذا كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. زال القديم وها هو الجديد، وهذا كلُّه من الله.

1- بعد اليوم

بدأ بولس فحدَّثنا عن الواقع: واحد مات عن الجميع. والنتيجة: الجميع ماتوا. الجميع شاركوا المسيح في موته. وبدون هذه المشاركة لا قيامة ممكنة. مات يسوع مرّة واحدة. والإنسان لا يموت سوى مرّة واحدة. أكانت حياته كاملة أو ناقصة، فحياته واحدة وموته واحد. على كلِّ حال، ما من كمال لنا بأنفسنا ولو عشنا أكثر من حياة. الإنسان ناقص والله يكمِّله. ولو مات وهو بعد طفل في حضن أمِّه. يلتقي به الربّ ويحمله إليه. وهكذا تبدَّل الوضع بعد اليوم. هذا يعني أهمّيّة اليوم الحاضر بالنسبة إلى المؤمنين. ففيه تحقَّق العمل الخلاصيّ بيسوع الميت والقائم من الموت. وكلُّ هذا يعيشه الواحد حين يتقبَّل سرَّ المعموديّة، حين يموت ويقوم مع المسيح. عندئذٍ تبدأ فيه حياة جديدة يسيرها مع الربّ على الأرض، بانتظار أن تتجلّى في بهائها، في السماء.

نحن. هو الرسول يتكلَّم ومعه الفريق الرسوليّ. بل جماعة كورنتوس كلُّها. نحن جميعًا مدعوّون إلى هذه المعرفة. وهذه المعرفة تقريبًا من المسيح فنلتقي به، على أن نحيا منه. فالمعرفة إن لم تكن حياة، تبقى كلمات وكلمات تبقينا في عالم الأوهام، وفي النهاية تترك في قلبنا مرارة. عندئذٍ نبقى على المستوى الشخصيّ ونتكلَّم، وفي النهاية نحتاج أن نكرَّر الكلام لكي نملأ الفراغ الذي في قلبنا.

لا نعرف أحدًا على مستوى الجسد. أي معرفة بشريّة. مثل هذه المعرفة لا تتعدّى القشور. مثلاً، يتحدَّث بولس عن ابن الله الذي جاء في الجسد، في شكل بشريّ من نسل داود. ولكن هل نكتفي بهذه المعرفة وننسى أنَّ هذا الذي »ولد في الجسد« قام أيضًا، في القدرة، من بين الأموات (روم 1: 3)؟ بهذا المسيح افتخر الشعب اليهوديّ: يسوع هو منهم بحسب الجسد. ولكن ماذا انتفعوا؟ لا شيء. رفضوا أن يكون يسوع هذا، هو المسيح الذي انتظروه. وعرفوا أيضًا إبراهيم على مستوى الجسد. فتوقَّفت المعرفة عند الختان أو عدم الختان، وما وصلت إلى إيمان ذاك الذي دعاه الله، فترك كلَّ شيء ليستسلم استسلامًا تامٌّا بين يدي من وضع فيه كلَّ ثقته.

ونحن ما هي معرفتنا للمسيح؟ هو الإنسان الذي وُلد، في ملء الزمن، من امرأة، فكان إنسانًا شأنه شأن كلِّ الإنسان. هو مميَّز ولا شكّ ونستطيع أن نجعله مع الفلاسفة الكبار! الفلاسفة الكبار يبحثون يبحثون وما زالوا يبحثون، وما لم يسكبوا معرفتهم في قلب الله، سيظلّون حائرين مضطربين. فهم ما وصلوا بعد إلى الميناء بعد أن مشوا في هذا البحر المتقلِّب.

هو المعلِّم الكبير. هو رابّي كما كان اليهود يسمّون المعلِّمين عندهم. معلِّم يكرز بما سمعه من الذي تعلَّم على يده. فيكرِّر ويكرِّر. أمّا يسوع فلم يمرّ في المدارس التي عرفها الكتبة في ذلك الزمان. هو تعلَّم ما تعلَّمه من عند الآب. لهذا رأى الناسُ البسطاء، ونحن منهم، إنَّه يعلِّم كمن له سلطان. كلمته لا تقنع العقل فقط أو العاطفة، بل تصل إلى القلب وتطلب من الإنسان أن يعمل بها. من ليس معي فهو ضدّي. لا حياد مع يسوع. من أراد أن يتبعني... هناك شروط يكتشفها المؤمن فيفهم أنَّ معرفة يسوع هي مسيرة تنتهي في قلب الله.

يسوع عرفه اليهود ذاك الذي صنع المعجزات. صفَّقوا له، وانتهى الأمر عند هذا الحدّ. رافقوه يوم أطعمهم خبزًا، نظروا إليه يشفي العميان والمقعَدين فمجَّدوا الله. ولكنَّ المعجزة التي يتطلَّع إليها يسوع هي تبديل القلوب: توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات. أو إنّنا نعرف يسوع المصلوب الذي يبقى وجهه المجيد مخفيٌّا، أو إنّنا لا نعرف يسوع كما يجب أن يُعرَف. يقول عنه بولس: أخفى ذاته وأخذ صورة العبد، وصار طائعًا حتّى الموت والموت على الصليب.

2- الخليقة الجديدة

تحوُّل المعرفة يقودنا إلى تحوُّل في النظرة وإلى تبدُّل في الحياة. صرنا خليقة جديدة. والقديم قد زال. تعرّفنا إلى المسيح فخُلقنا من جديد. قال يوحنّا في هذا المجال: من لم يولد ثانية لا يدخل ملكوت الله. ومن لم يولد من علُ يبقى على مستوى الأرض. عندئذٍ بماذا يفترق الإنسان عن سائر الخلائق؟ لا شي. يبقى على مستوى الطعام والشراب والراحة. وينسى بذرة الخلود التي فيه. هناك العمل الخارجيّ الذي قد ينفع الإنسان أو لا ينفعه في الحياة اليوميّة، ولكنَّه لا يؤثِّر كثيرًا على مستوى حياة الله فينا. في هذا المجال، قال يسوع لليهود: لا الختان ينفع، ولا عدم الختان. المهم أن نطرح السؤال: هل بدأنا نعيش الخليقة الجديدة التي وُضعت فينا مثل بذرة يجب أن تنمو؟ هل بدأنا نتاجر بالوزنات التي وُهبت لنا؟ إن كنّا ما فعلنا حتّى الآن، فماذا ننتظر؟

يتطلَّع الإنسان إلى جسده فيراه ينمو. ومع تواصل السنين يتقهقر ويستعدّ للوصول إلى الموت. هذا هو الإنسان الظاهر الذي رآه بولس، في الوحي، يسير إلى الفناء. هذا ما نراه. ولكنَّ الأهمَّ هو ما لا نراه. »فالإنسان الباطن يتجدَّد يومًا بعد يوم« (2كور 4: 16). هذا هو عمل الله فينا. لا شكّ في أنَّه لا يُجبرنا، لا يزيل منّا حرّيتنا. نموُّنا عمل نقوم به مع الله. بدوني لا تستطيعون أن تعملوا شيئًا. هذا ما يقول الإنجيل.

والخبرة المسيحيّة تُفهمنا أيضًا أنَّ الله لا يعمل لنا شيئًا بدوننا. وقد قال أحد الآباء: الله الذي خلقك بدونك، دون أن يستشيرك، لا يخلِّصك بدونك. يقول عنه سفر الرؤيا: يقف على باب قلوبنا مثل شخص يطلب خدمة. ينادي. نسمع أو لا نسمع. فهنيئًا لنا إن سمعنا وميَّزنا صوته بين الأصوات العديدة. وقد لا نسمع لأنَّ آذاننا مغلقة وقلوبنا أيضًا. أو لا نريد أن نسمع صوتًا يطلب منّا ولا يتركنا نستريح لأنَّه يريدنا أن ننمو يومًا بعد يوم في القامة والحكمة والنعمة.

ها أنا واقف على الباب أقرعه. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل. وهنيئًا لنا إن فتحنا الباب. فستكون بيننا حياة حميمة. يتعشّى معنا ونحن معه. ويمكننا أن نُبقي الباب مقفلاً فيبقى الربُّ في الخارج ولا يفرض نفسه إطلاقًا على حرِّيَّتنا. ينتظرنا وينتظرنا ولا سلاح له سوى الحبّ الذي وصل به إلى أن يضحّي بذاته من أجلنا. على ما قال بولس الرسول: أحبّني وبذل ذاته من أجلي.

هل نقبل أن نبدِّل نظرتنا ونتخلّى عمّا يقوله عدد من الناس حولنا؟ أفكار ونظريّات عديدة. القدّيس أوغسطينس مرَّ في أكثر من فلسفة وعرف أكثر من تيّار، ولم يصل قلبُه إلى الهدوء إلاّ حين سمع ذاك الصوت يدعوه، في الحديقة خذْ واقرأ. أخذ الكتاب المقدَّس، قرأ، استنار. وهكذا وصل إلى المعرفة الحقّة.

خاتمة

انطلقنا من معرفة خارجيّة شابهنا اليهود الذين عرفوا يسوع على الأرض. رافقوه، سمعوه. رأوا عجائبه. ولكن مثل هذه المعرفة التي لا تصل إلى القلب، وتبدِّل الحياة ستكون دينونة. أُعطينا مواهب وما تاجرنا بها. مرَّ المسيح في حياتنا، وكان الباب مقفلاً عندنا. كنّا نيامًا مثل الناس العائشين في ظلمة الموت، قبل الموت. لا في نور الحياة التي بدأت تعمل فينا منذ الآن. أمّا المعرفة التي نتوق إليها فهي تلك التي تجعلنا نلتقي بالمسيح كما الصديق يلتقي بصديقه. هل نقبل أن يرافقنا كما رافق تلميذي عمّاوس وهو يسير معهما في الطريق ويشرح لهما الكتب؟ إن قبلنا تبدأ معه مغامرة تحمل الكثير من السعادة رغم الصعوبات التي يمكن أن تجابهنا. في قلب كلِّ حياة، مسيرةٌ نسلِّم فيها أمرنا إلى الربّ وهو وحده يوصلنا إلى الإنسان الذي يتجدَّد يومًا فيومًا في البرِّ وقداسة الحقّ.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM