الذي مات على الصليب رفعه الله جدٌّا.

 

الذي مات على الصليب رفعه الله جدٌّا

حين رأى بولس أنَّ الجماعة المسيحيّة في فيلبّي، التي هي أوَّل مدينة بشَّرها في أوروبّا، نسَيت التواضع المسيحيّ، فتباهى الواحد على الآخر، وتوزَّعوا أحزابًا. حين رأى المؤمنَ يفضِّل نفسه على الآخرين، في أنانيّة قاتلة تجعله يحسب نفسه أنَّه من طينة لم يُجبَل منها إنسان آخر. حين رأى الواحد ينظر إلى منفعته وحده، ولا يهتمّ لمنفعة الآخرين، امتنع عن إعطائهم نصائح عمليّة يعرفونها ولا يعملون بها، بل وضع أمامهم صورة المسيح، الابن، الذي هو على صورة الله. هذا الابن تواضع حتّى الموت على الصليب. وفي النهاية رفعه الله جدٌّا. هو اتَّضع إلى النهاية فرفعه الآب إلى النهاية. أمّا من يريد أن يرتفع ويترفَّع على إخوته، فيُوضَع على الأرض، لأنَّ الربّ يحطُّ المقتدرين عن الكراسي ويرفع المتواضعين، كما قالت مريم في نشيدها.

ونقرأ نصّ القدّيس بولس إلى أهل فيلبّي:

هو في صورة الله، ما اعتبر مساواته لله غنيمة له، بل أخلى ذاته، واتَّخذ صورة الإنسان. تواضع، أطاع حتّى الموت، الموت على الصليب. فرفعه الله جدٌّا. أعطاه اسمًا فوق كلِّ اسم لتنحني لاسم يسوع كلُّ ركبة في السماء وفي الأرض وتحت الأرض، ويشهد كلُّ لسان أنَّ يسوع المسيح هو الربّ تمجيدًا لله الآب (فل 2: 6-11).

1- مَن هو في صورة الله...

من البداية، تطلَّع الرسول إلى الوجهة اللاهوتيّة في شخص المسيح. على ما قال يوحنّا في بداية إنجيله: »في البدء كان الكلمة (أي الإبن)، والكلمة كان لدى الله، وكان الكلمة الله« (يو 1: 1). يسوع هو في صورة الله، وصورة الله الكاملة، بحيث من أراد أن يرى الله، يكتفي بأن يرى يسوع. فالابن والآب واحد. والإنسان شبيه بالله. على صورة الله ومثاله. هو يحاول أن يصير صورة الله. ولكنَّ الطريق بعيدة، ولولا الابن، لما عرفنا صورة الله. لهذا تجسَّد. بل إنَّ سرَّ التجسُّد هو في فكر الله منذ إنشاء العالم. قبل أن يخلق الله الإنسان، الذي يرمز إليه آدم، المجبول من تراب الأرض الأسمر، والذي ترمز إليه حوّاء، أمُّ كلِّ حيّ. قبل ن يفكِّر في البشريّة، وفي كلِّ واحد منّا، نظر إلى ابنه، واستعدَّ أن يُرسله إلى العالم. »هكذا أحبَّ الله العالم فأرسل ابنه الوحيد« (يو 3: 16).

الإبن صورة الله في كلِّ الخلق. إذا كان الله منذ البدء، قد خلق السماوات والأرض، فهو بالابن خلق. بكلمته خلق. قال بولس: »به خُلق كلُّ شيء في السماوات وعلى الأرض« (كو 1: 16). فالتقى مع يوحنّا: ''به، بالمسيح، كان العالم« (يو 1: 10). وشدَّد يوحنّا: »به كان كلُّ شيء، وبدونه ما كان شيء ممّا كان« (يو 1: 13). وإذا كان الله هو الحيّ الذي يَهب الحياة، فالحياة هي يسوع المسيح. هو الحياة الذي منه تنبع كلُّ حياة في العالم. وإذا كانت الخليقة بدأت بالنور، فيسوع هو النور الذي ينير العالم. وكلُّ نور يجد فيه أصله وجذوره وغايته. بل كلُّ نورٍ تجاهه ظلام.

بالابن خُلق كلُّ شيء. هو الواسطة، هو الطريق إلى الخلق. وهو في الوقت عينه الغاية: له خُلق كلُّ شيء، من أجله. انطلقت المخلوقات كلُّها من الابن، وإليه ستعود في النهاية، لأنَّه يجمع في شخصه »كلَّ ما في السماوات وما على الأرض« (أف 1: 10).

2- تواضع حتّى الموت على الصليب

إلى هذا المستوى الرفيع طلب بولس من أهل فيلبّي أن يصعدوا. وهو يطلب من كلِّ واحد منّا أن يترك الحسابات البشريّة المسكينة، ويتطلَّع إلى يسوع المسيح. هو مثالنا، لا البشر. ونحن نقتدي به، ولا نتطلَّع إلى البشر إلاّ بقدر ما يقتدون هم به. فمن أراد أن يبقى على مستوى البشر فقط، لا يقدر أن يدعو نفسه مسيحيٌّا. ومن أحبَّ أن يُرضي البشر، لا يمكن أن يكون خادمًا للمسيح.

جعل الرسول أمامنا الابن في كلِّ عظمته. ومع ذلك، فهذا الابن ما تمسَّك بما فيه من عظمة وُلدت فيه حين وُلد من قلب الآب، قبل كلِّ الدهور، منذ الأزل. فالابن ما نال هذه العظمة فيما بعد، بل هي جزء من كيانه العميق. ومع ذلك، تخلّى عنها. وإذ تخلّى عنها بدا وكأنَّه يتخلّى عن ذاته، من أجلنا ومن أجل خلاصنا نحن البشر. نستطيع القول: أفرغ ذاته، ما ترك شيئًا لنفسه. هذا لا يعني أنَّه لم يعُد الإبن تجاه الآب. فالوحدة بين الآب والإبن وحدة كيانيّة. فالآب هو دومًا مع الابن. والابن هو دومًا مع الآب. حتّى على الصليب حين صرخ يسوع: »إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟« في ذلك الوقت أيضًا، كان الابن متَّحدًا بالآب اتِّحادًا وثيقًا.

ومع ذلك أخلى ذاته. بكلِّ إرادته. ما فرض عليه أحدٌ ذلك. حبُّه هو الذي دفعه. قال بعد العشاء السرّيّ، وهو يستعدُّ للصلب: هكذا تعرفون أنّي أحبُّ الآب. قوموا ننطلق من هنا. وكانت مسيرة الآلام. هو الراعي الصالح الذي يحبُّه الآب ويعتني بحياته. ويتابع: »ما من أحد ينتزع حياتي منّي، بل أنا أضحّي بها راضيًا، فلي القدرة أن أضحّي بها ولي القدرة أن أستردَّها« (يو 10: 17-18). يضحّي يسوع بحياته في الموت. ويستردَّها في القيامة. في أيِّ حال، حياته وموته وقيامته تسير بحسب مشيئة الآب.

وقدَّم لنا بولس، سيرة التضحية التي نزلت ونزلت. هذا الذي هو في صورة الله أخذ صورة إنسان. الأزليّ صار في الزمن، والخالد صار مائتًا. والسيِّد صار عبدًا. كان شبيهًا بالله فصار شبيهًا بالبشر. كان مساويًا للإنسان دون أن يترك مساواته لله. فهو إله وهو إنسان معًا. هذا الإله العظيم قبِلَ أن يصير إنسانًا من تراب الأرض، أن يُولد من امرأة، في ملء الزمن، أن يُولَد تحت الناموس. هذا الذي لا يحدُّه المكان، وُلد في مذود، في بيت حقير، فما عرف به أحد.

وما توقَّف تواضُع يسوع عند هذا الحدّ. طلب منه الآب أن يتجسَّد، فأطاع. وها هو يطلب منه أن يبذل حياته، أن يضحّي بنفسه. فأطاع حتّى الموت. غير أنَّ هناك موتًا وموتًا. أمّا يسوع فاختار أبشع الميتات: الموت على الصليب. وما رُبط كما يُربَط من يُعلَّق على الصليب. بل جُعلت في يده المسامير. كان الصليب عقاب العبيد، أمّا يسوع فصار آخر العبيد. هو الرفيع كلَّ الرفعة، انحدر إلى أعمق انحدار.

3- رفعه الله جدٌّا

دعا الرسول جماعة فيلبّي. وهو يدعونا. تأمَّلوا في هذا الوجه. كان بهيٌّا، فما عاد له بهاء. كان جميلاً فزال عنه كلُّ جمال. اشتهينا جماله. وها نحن الآن نحتقره. ننبذه. كنّا ننظر إليه بإعجاب، وأمّا اليوم فنحجب وجهنا عنه لئلاّ نراه. لا شكل له. ضاع وجهه. ضاعت ملامحه. بدا وكأنَّ الله تركه فتركناه بدورنا يسير إلى مصيره. هذا ما قال عنه أشعيا (53: 1-3). فماذا نتعلَّم نحن منه؟ التواضع أم التكبُّر؟ الأنانيّة أم بذل الذات؟ العطاء والتضحية أم البحث عن منفعتنا الخاصّة ولو على حساب الآخرين، ولو ظلمناهم وافترينا عليهم؟

ولكن هل انتهى مصير يسوع عند الصليب؟ كلاّ. فذاك الذي مات هو ذاك الذي قام. والحمل الذي ذُبح هو في الوقت عينه ذاك القائم من الموت. ونحن حين نتبعه في الآلام نرافقه في المجد. وحين نسير معه في الموت نبقى معه في القيامة. هو يمسك بيدنا. وإلى المجد يأخذنا، بحيث لا نبغي سواه في السماء وعلى الأرض.

فالمسيح الذي تنازل كلَّ التنازل رفعه الله كلَّ الرفعة. يقول الرسول: رفعه الله جدٌّا. ويقول عنه أشعيا إنَّه نال نصيبًا مع العظماء، وغنيمة مع الجبابرة. ذاك الذي بدا ضعيفًا عند الصليب، ذاك الذي أدار ظهره للضاربين، وخدَّه لناتفي اللحى، ذاك الذي احتمل التعيير والبصق (أش 50: 6)، صار القويّ القويّ. لا أقوى من الناس وحسب، بل أقوى من قوى الكون كلِّه. في موته دحرج الحجر عن قبره. وفي آلامه اجتذب الناس أجميعين. كان صليبُه علامة العار، فصار علامة المجد والافتخار. لا شكّ في أنَّ هناك من يرفض الصليب لأسباب بشريّة. هم خاسرون. أمّا بولس فقال عن نفسه: »أنا لا أفتخر إلاّ بصليب ربِّنا يسوع المسيح« (غل 6: 14).

هذا الصليب نرسمه على جباهنا. نجعله على صدرنا، لا للزينة وحسب، بل للدلالة على مكانته. فالصليب على رأسنا، على قلبنا، في كنائسنا، في بيوتنا، على مفارق طرقنا. هو حاضر في كلِّ مكان. يذكِّر الإنسان، أيَّ إنسان، أنَّ الالم حاضر في الكون، والعذاب مسيطر. وأنَّ لا دواء لهذا الحالة »الشقيّة« كما يسمّيها بعض الفلاسفة، سوى صليب يسوع. هو ما تنكَّر للألم واعتبره لاموجودًا. بل عانقه، قبَّله، كي يحوِّله بالحبّ إلى سبيل خلاص. هو ما تنكَّر للموت ولا أراد أن ينسيه، بل أخذ الموت وحوَّله إلى حياة، بالحبّ. فالحبّ أقوى من الموت، كما يقول الكتاب.

خاتمة

ذاك هو تأمُّل المؤمنين في زمن الصليب المقدَّس. الصليب مرفوع في كلِّ مكان. وحيث يُوجَد مسيحيّ يكون الصليب مرفوعًا، فلا نبحث عن علامة أخرى. الصليب هو صليب الحياة والقيامة، وكلّ الشارات التي يمكن أن نتَّخذها ليست سوى توافه شبيهة بالأصنام القديمة إلى حدٍّ بعيد. شعارات وشعارات تظلُّ عند الإنسان. هي سراب ودخان وخيبة أمل. وحده الصليب هو الحقّ. وحين نعرفه نعرف الحرّيّة الحقيقيَّة. هذا الصليب ارتفع أمام الملك قسطنطين نورًا في السماء، كما روى أوسابيوس، أسقف قيصريّة في فلسطين. وكما روى القدّيس كيرلُّس، أسقف أورشليم، أنَّ الصليب ظهر فوق الجلجلة. فشجَّعه على المضيّ في الجهاد من أجل المسيح. بل إنَّ هذا الصليب وقف في طريق بولس على طريق دمشق وقال له: »لماذا تضطهدني؟« في الصليب وحده الخلاص، في الصليب وحده المجد الحقيقيّ. وكلُّ طريق غير هذه الطريق لا يمكن أن تقود إلاّ إلى البغض والكبرياء، والتحزُّب والانقسامات. بالصليب نتواضع مع المسيح لكي نرتفع معه. نتألَّم كي نمجَّد به. نموت كي نقوم. هذا ما قاله الربّ لتلميذين رافقهما من أورشليم إلى عمّاوس: »كان يجب على المسيح أن يعاني هذه الآلام فيدخل في مجده« (لو 24: 26).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM