سفر الحكمة
القسم الأول: سفر الحكمة
1- التسمية
تعود تسمية سفر "الحكمة" بهذا الاسم إلى الترجة اللاتينية للكتاب المقدس: الفولغاتا أو الشعبية، التي تدعوه "سابيانسيا"، وكأنها ترمي بذلك إلى الدلالة على قيمته الاستثنائية في الأدب الحكمي، فهو الأغنى من ناحية الأفكار، والأقرب إلى العهد الجديد، والأفضل تنسيقاً من سائر الأسفار الأخرى الحكمية.
2- من حرّر السفر؟
تدعو الترجمة السبعينية سفر الحكمة "حكمة سليمان" فهل تعني هذه النسبة إلى سليمان أنه بالفعل واضع السفر؟ لقد شكّ في صحة هذه النسبة بعضُ آباء الكنيسة مثل أوريجين، وأوزابيوس، وأغوسطينوس، وإيرونيموس، وغيرهم. فالقول بأن سليمان هو المؤلِّف، هو في الواقع وسيلة أدبية استعملت في الأدب الحكمي في العهد القديم، كما في أسفار الأمثال، ونشيد الأناشيد، والجامعة، يستظل فيها الكاتب الحقيقي اسم الملك الذي ملأت شهرته الحكمية العالم، وذلك من أجل إضفاء أهمية استثنائية على الكتاب، وبالتالي إحداث التأثير الأعمق في نفوس القارئين أو السامعين.
المرجّح ان المؤلّف الحقيقي لسفر الحكمة هو أحد أتقياء اليهود الذي يجيد اليونانية، ويلمّ بالفلسفة والثقافة الهلينيّتين. وما يؤكد هذا الأمر هو أن لغة السفر بعيدة كل البعد عن أن تكون ترجمة عن العبرية، إذ إنها معظم الأحيان عفوية، يلجأ كاتبها إلى الجناس والسجع مرات عدة، وهذا ما لا يبدو سهلاً على مَن يترجم. من ناحية ثانية، هناك تقارب بين لغة السفر ولغة الترجمة السبعينية، وتشابه بين فكر السفر وفكر مؤلفات يهودية اسكندرانية من المرحلة ذاتها.
3- متى حرّر السفر؟
بالرغم من نسبة سفر الحكمة إلى سليمان الملك الحكيم (القرن العاشر ق. م.) فالمؤكد هو أنه حُرّر بعد سليمان بعدّة قرون، وبعد إنجاز الترجمة السبعينية التي يستعمل الكتاب نصوصها، وقبل العهد الجديد الذي ترد فيه استشهادات عدّة من سفر الحكمة، اي في النصف الأول من القرن الأول ق.م. كما يعتقد معظم علماء البيبليا.
4- أين حُرر السفر؟
يركّز القسم الثاني من سفر الحكمة (11-19) على مصر وعلاقتها بشعب اسرائيل من خلال تاريخ الخلاص. لذلك هناك مَيل إلى الاعتقاد بأن الاسكندرية قد تكون المكان الذي فيه أبصر السفر النور. لكن لماذا الاسكندرية؟ كانت هذه المدينة المركز العلمي والفكري الهامّ جداً في محيط البحر المتوسط، وأوسع نقاط تجمع الشتات اليهودي في العالم، وهذا يعنى أن العلاقات والاتصالات بين الشعبين المصري واليهودي كانت قد صارت على عكس ما يخبرنا عنها سفر الخروج. فمنذ الاسكندر الكبير ازدهرت مدينة الاسكندرية، وأضحت مرفأ هاماً لتجارة البحر المتوسط مع الشرق، ومركزاً ثقافياً منقطع النظير، فنافست أثينا بمبانيها الرائعة، وبمدارسها المتنوّعة، وخاصة بمكتبتها الفريدة في العالم. وبعد تفاعلها مع الحضارة المصرية، تفتحت الحضارة اليونانية في تلك المدينة ونمت وازدهرت بلون جديد. في هذه البيئة، كانت تعيش جالية يهودية تعدّ حوالي المئة ألف نسمة، من أصل سكان المدينة البالغ عددهم حوالي المليون نسمة، وتمارس إيمانها التقليدي، دون أن يخلو الأمر من تأثير التيارات الفكرية المنتشرة في الاسكندرية.
5- التأثير الهليني على اليهود
كانت العلاقات، في الاسكندرية خاصة، بين اليهود واليونانيين مختلفة الآن عما كانت عليه في فلسطين قبل مئة سنة، أي زمن شهداء اسرائيل، فقد حلّ التعاون، وتلاقي الذهنيات، والمحاولات المقصودة أحياناً لدمج الثقافات، مكان الأضطهاد، والعداوة، والتناحر. هذا الواقع الجديد أدّى إلى اعتناق قسم من اليهود الاسكندارنيين للثقافة اليونانية أو فلسفتها، وإلى تناسي تقاليد الآباء وتعاليمهم. لكن ما يلفت النظر هو أن تكون هذه الجماعة قد فكرت بترجمة الكتاب المقدس إلى اليونانية، بدءأ من القرن الثالث ق. م.!
6- هدف السفر
لم تخلُ الحياة اليهودية في العالم اليوناني من التساؤل حول أصالتها؛ أفَلَم تبتعد اليهودية، التي كانت تتأثر شيئاً فشيئاً بالهيلينية، عن ديانة الآباء الحقيقية وعن تقاليدها؟ وإذ كانت ما زالت أمينة لها، كيف يمكن تبريرها أمام اليهود الذين أغرتهم الثقافة اليونانية فجذبتهم إليها؟ أفلم يكن بالتالي ضرورياً وإلزامياً ومُلحاً إيجاد لغة جديدة تنقل الإيمان التقليدي إليهم، لغة قادرة على إعادتهم إلى إصالتهم، إلى ما هو جوهري في إيمانهم، دون إرغامهم على التنكّر لما كانوا قد صاروا عليه من تأثير الهلينية؟ كل هذه الهموم ادّت، وبدون شك، بأحد اليهود الغيورين على دين الآباء إلى تحرير سفر الحكمة ذي النزعة الأكثر يونانية لغة وفكراً من سائر أسفار البيبليا.
من السفر نفسه يمكننا أن نستنتج إذاً ان هدف واضعه كان تقوية إيمان اليهود القاطنين في الاسكندرية، في محيط وثني متعارض مع مجتمعهم على أكثر من صعيد. فالعلم كان قد حقق انفتاحاً على سر العالم المحيط بهم وعلى جمالاته (7/17- 20)، ومعنى الحياة الحقيقي اكتسب من تنوع الديانات والتيارات الفلسفية حكمة جديدةً وفهماً مختلفاً، والأفكار التقليدية زعزعها الشك وعدم الاكتفاء بنتاجها العلمي. كل هذا أدّى إلى أزمة دقت أبواب الايمان الذي جحده بعض اليهود، وهذا ما تلمح إليه حك 2/12 بقولها: "لنكمن للبار فإنه... يلومنا على مخالفتنا للشريعة"! كما أحِلت محلَّ هذا الإيمان ديانات وثنية، وفلسفات أممية (راجع حك 2/ 1- 20). كان الخطر الكبير يكمن إذاً في أن يتّبعهم يهود آخرون من الذين ما زالوا راسخين في الإيمان. هذا بالإضافة إلى معضلة قديمة لم تكن بعد قد وجدت حلاً وهي مسألة المجازاة؛ فالسؤال كان حول عدل الله أساساً: كيف يعقل أن يعيش الشرير والذي ينكر الله في البحبوحة، والانسان المتقي الله والبارّ في الآلام والضيقات؟!
من أجل هذا فتّش الكاتب عن حلول للمعضلات المذكورة في أسفار الكتاب أولاً وقبل كل شيء، ساعياً إلى استخراج تعليم لمعاصريه من عصارة مما سبق وخطّه الآباء والأنبياء من قبل، آملاً أن يوقد سراجاً ويضعه على منارة تقود خطى شعبه إلى النور الحق.
7- النوع الأدبي
من حيث مضمونه، ينتمي سفر الحكمة إلى الأدب الحكمي، ومن حيث الشكل، ليس الجزء الأول تعليماً يعطيه معلّم لتلميذه (كما في أم وجا)، أو تأملاً يبثّنا اياه عالم ما (كما في جا)، بل هو موجّه الى العامة أصلاً، أي الى الشعب اليهودي. أما الجزء الثاني فهو من نوع المدراش المصاغ على شكل عظة.
8- الاسلوب الأدبي
يلاحظ قارئ سفر الحكمة ان لكل مقطع حدوداً يمكنه ان يتبيّنها من خلال ترداد ذات الكلمة أو الجملة في البداية والنهاية (التضمين)، كما في 1/16 "يكونوا من حزبه" وفي 2/24 "هم من حزبه". كذلك المقاطع هي مُنَسقَّة وفق التطابق المركزي كما في 1-6 و7-8، أو بالاستطراد كما في 13-15، او بالتطابق المتوازي كما في الفصل 9. هناك مقاطع نُسِّقت بطريقة تسير بالفكرة الى الامام موسِّعةً الموضوع بواسطة التكرار كما في الفصل 10، وكما العظة او المدراش في الفصول 11-19.
9- تصميم السفر
بالأضافة الى الفصل 10 والاستطرادان في الفصول 11/17- 12/22، و13/1-15/17، يمكن اعتبار السفر مكوّناً من جزئين: 1/1- 11/1، و11/2- 19/22، يضم كل منهما 251 بيتاً (باليونانية).
يستهل الكاتب كلامه بمدح الحكمة وتبيان الفائدة من ذلك، حاثاً بإلحاح القارئ (1-2) على محبة البّر، ونبذ الأفكار المعوجّة واصحابها، ويقارَن بين مصير الصدّيقين ومصير الاشرار (3/1-9)، ويبيّن ان موت البارّ المبكّر هو خير له (4/7- 15).
ينطلق المؤلّف من معضلة الانسان الاساسية والدائمة، أي الموت، فيؤكّد ان "البرّ خالد" (1/15) و"أن الله خلق الانسان لوجود لا يضمحل" (2/22). ويختتم الافتتاحية بتحريض جديد للملوك على طلب الحكمة (6/1- 11)، وبتقديم لموضوع المديح، اي الحكمة (6/12 و16).
حين يمتدح هذا السفر الحكمة (6/22-9/18)، فهو يتكلم في الوقت ذاته عن اصلها، وطبيعتها، واعمالها. في ما يتعلّق باصلها، يتّخذ الكاتب لنفسه صفات سليمان الملك الحكيم، فيبيّن كيفية إعطائه الحكمة (7/7- 11)، ويؤكد بان الصلاة هي في أساس عطية الله هذه. وبعد ان يتضرعّ إلى الله كي يتكلم عن الحكمة جيداً (7/15 و16)، يصل الى مديح الحكمة حصراً: يصف طبيعتها (7/22-24)، واصلها في الله (7/25-26)، واعمالها (7/27-8/1)، ثم يعود الى الحكيم الذي اشتهى ان يحصل على الحكمة (8/2-15)، قبل ان يطلبها في صلاة حارة، حيث نبلغ الى ذروة السفر (9/9-18).
وعلى سبيل تثبيت الاقوال بالأمثال، ينتقل المؤلف الى الكلام عن اعمال الحكمة في تاريخ الخلاص (10/1-19/9)، فيذكّر اولاً بما عملته من اجل الآباء (10/12-14)، ثم يتوقّف طويلاً عند قصّة الخروج، ذاكراً الضربات التي حلّت بالمصريين، والانعامات التي وهبت لاسرائيل بالمقابل، ويسبّح الله في وسط كل هذا على محبته وطول اناته، حتى تجاه الخطأة (11/23-12/19). تقود هذه الضربات المذكورة المؤتّف الى التأكيد على ان عبادة الطبيعة هي اقل فداحة من تكريم بعض الحيوانات كما كان يحصل في مصر (13/1-9). ثم يستأنف كلامه عن ضربات مصر، متوقفاً عند ليلة الفصح التي شهدت خلاص البعض وموت ابكار البعض الآخر (18/6-16). وينتهي ذكر ماضي اسرائيل المجيد بالتأمل حول عبور البحر الأحمر (19/6-9). ويختم كلامه برفع نشيد شكران (19/22).
10- تفسير سفر الحكمة
يمكن حصر مواضيع سفر الحكمة بعنوانين رئيسيين، يتضمن كل منهما مواضيع أخرى مرتبطة بهما؟ الأول هو مديح الحكمة، والثاني هو أمانة الله لشعبه.
1- مديح الحكمة (1/1- 11/1)
يتكوّن الجزء الأول من سفر الحكمة من قسمين: الأول يطرح موضوع المجازاة على الخير والشر، وموضوع الخلود الذي تتضمنه الحكمة، وينتهي بالدعوة للسعي في طلب الحكمة (1/1-6/21). الثاني يصف الحكمة ونشاطها في العالم، ويبيّن كيفية إيجادها (6/22-11/1).
أ- الخلود هو مكافأة الحكمة (1/1- 6/21):
خسة نقاط تتمحور حول موضوع المجازاة:
1) الحثّ على البر (1/1-15):
ترد كلمة "برّ" في بداية وفي نهاية النص (1/1 و15) وتشكّل إطاراً له. تعني كلمة برّ هنا فضيلة حكم العباد، وبشكل أعمق، تدلّ على الأمانة تجاه شريعة الله. لكن الأمرين غير منفصلين. يجعل الايمان والثقة بالله، والحياة الفاضلة، الاتحاد بالله وبالحكمة أمراً ممكناً (1-5). التذمّر على العناية الالهية أي "الأفكار المعوجّة" (1/3) الصادرة عن اليهود المدّعين ان الله قد أهملهم ولم يعاقب الشرير، هو أمر مرفوض، ويعاقب الله عليه بعدم إعطائه الخلود (6- 11)، علماً أن الإنسان قد صنع للخلود، وما الموت سوى نتيجة الخطيئة التي اقترفها الانسان الحّر بإرادته، وبالتالي ليس الله مسؤولاً عن هذه المأساة؛ "فالله لم يصنع الموت، ولا يسر بهلاك الأحياء، فإنّه خلق كل شيء لكي يكون" (1/13-14 أ).
لا بُدَّ من الإشارة هنا إلى ما يقوله النص عن "الحكمة" فهي مشخصنة هنا (1/4)، كما في أم 1/20-33؛ 8/1-36؛ 9/1-6؛ أي 28؛ با 3/9-4/4؛ سي 24/1- 21، لكنها ليست شخصاً منفصلاً عن الله، بل تشخيصاً أدبياً لأحد أوصافه الألهية، وهذا أمر شائع في العهد القديم، كالروح، والكلمة، والبر، الخ. في النص هنا (وفي 7/22-23؛ 9/17)، الحكمة هي واحد مع روح الرب، وتصبح مبدأ كوسمولوجياً، والمبدأ الضمني للحياة الطبيعية والخُلقية.
كذلك هناك تعبير ثنائي هام في النص، وهو "النفس والجسد" (1/4). لم يتصوّر العبرانيون الانسان مكوناً من جسد مادي ونفس روحية؟ لكن تحت تأثير الهلينية، ظهرت هذه النظرة للمرة الأولى بوضوح في العهد القديم في حك 8/19-20؛ 9/15؛ 15/8، دون اعتماد الفكرة الأفلاطونية بأن الجسد شرّير، ولا التقسيم الثلاثي للإنسان إلى جسد، ونفس، وروح. في سفر الحكمة، تستعمل كلمتا "النفس" (8/19؛ الخ) و"الروح" (15/16؛ الخ) وكأنّهما ذات المبدأ الحياتي، وبالتالي يُوضع الواحد بموازاة الأخرى، كما في 15/11 و16/14؛ لذلك فعبارة "الجسد المَدِين للخطيئة" (1/4 ب) هي موازية لعبارة "النفس الساعية إلى الشر" (1/4 أ).
ويرتبط هذا الثنائي بموضوع "الموت" (1/12 أ و13 أ). سيتّضح في 2/24 أن المقصود ليس الموت الجسدي بل الموت الروحي، على اعتبار أن الثاني هو انفصال نهائي عن الله، وهذا ما يقضّ مضجع المؤلّف، وليس مصير الجسد. وفي هذا المجال، يعتبر "العالم التحتي" "مثوى الأموات" (1/14 د)، أو الشيول، هو تجسيد للموت المشخصن. لكن هذا الموت لن يطال البر: "البر خالد" (1/15)، أن أنه يقود الى الخلود. ويوضح الفصل الثالث أن "الخلود" (عدم الموت) هو وجود مع الله لا ينتهي، وليس شهرة وبحبوحة كما في العهد القديم، ولا المفهوم الفلسفي لعدم موت النفس.
2) ارتباط الشرير بالموت (1/16-2/24)
تربط عبارة "من حزبه" أول النص بآخره (1/16 و2/24).
بأعاله الشريرة، يدعو الشرير الموت، مركّزاً تصرّفه على فلسفة مخطئة، ويمثل هنا اليهود الجاحدين لإيمانهم. في نظرتهم إلى الحياة والموت، يعتنق الأشرار جحوداً عملياً، ناسبين أصل الانسان إلى الصدفة. يرتبط مفهومهم للإنسان بهذا العالم، وينكرون الحياة بعد الموت، وبالتالي الوجود في مثوى الأموات (2/1- 5)؛ من هنا كان قرارهم باتباع حياة تعتمد على اللذة من جهة، وعلى القوة ضد الحق من جهة ثانية (2/6- 11). لذلك فهم يسعون إلى "الانتفاع" (2/6 ب) "لأن الضعف لا يجدي نفعاً" (2/11 ب)، ولذلك أيضا قرّروا أن يضطهدوا الصديق لأن حياته وكلماته هي توبيخ لهم (2/12-16)، وأن يمتحنوا أقواله (2/17-20). وفي نهاية النص، يُصدر المؤلّف حكماً على أفكار الأشرار، فيعتبرها ضالّة "لأن شرّهم أعماهم (2/21)، كما يعلن عن موضوع النص التالي (2/23-24).
من الملفت للانتباه التعبير الساخر الذي يضعه المؤلف على فم الأشرار عندما يقول بأنّهم قد "عدّوا الموت صديقاً" (1/16 ب)، وبأنهم قد "عاهدوه" (1/16 ب). المفردات هنا مستوحات من اش: "... أيها... الساخرون المتسلطون على هذا الشعب،... قلتم: "قد قطعنا عهداً مع الموت، وعقدنا حلفاً مع مثوى الأموات" (28/15). كان الرب قال: "عهداً مع الموت يُلغى، وحلفكم مع مثوى الأموات لا يقوم" (28/18). والموت الذي يعنيه الأشرار هنا هو الموت الطبيعي. وانسجاماً مع تفكيرهم الارضي، يرى الاشرار أن وجود الانسان هو "اتفاق" (2/1 أ). وفي هذا تلميح إلى العقيدة الأبيقورية التي تقول بأن الأشياء قد كوّنت اتفاقاً عن طريق امتزاج الذرات. وهذا ما يدفع الأشرار إلى القول أن "النسمة في مناخيرنا دخان، والنطق شرارة، والجسم يعود رماداً" (2/2-3 أ)، أي إن وجود الانسان مؤقت وزائل، وفي هذا تلميح الى النظرية اليونانية التي تعتقد ان النفس مبدأ ناري. لذلك يُنسى الاسم" (2/4 أ)، إذ لا رجاء بالخلود، ونصيب الصدّيق هو كنصيب غيره بعد الموت. ينكر الأشرار الرجاء البيبلي المعروف الذي يقول باستمرار ذكر الانسان من خلال ذريته كمكافأة له على برّه: "ذكر البار بركة، واسم الأشرار يبلى" (أم 10/7)؛ في المعنى ذاته يقول أشعيا: "أعطيهم... أسماً خيراً من البنين والبنات... اسماً أبدياً لا ينقرض" (56/5). لكن الاعتقاد بزوال الاسم يصبح أمراً واقعاً على شفاه الأشرار وبالنسبة إليهم (أنظر حك 4/19).
هكذا يصبح البارّ مزعجاً للأشرار، فيقررون أن يكمنوا له لأنه يضايقهم، ويقاومهم، ويلومهم على مخالفتهم الشريعة (2/12؛ راجع اش 3/10 حسب السبعينية التي تضيف: "إنه يضايقنا". يستوحي المؤلف الكثير من أشعيا 52-66 في ما يخطه في 2/12 حتى 5/23؛ فتعليمه حول المجازاة هو ثمرة تأمله في فصول النبي الكبير، مع إضافة بعض التفاصيل. فصورة الصديق في 2/13 وفي 3/1-9 مبنية على نشيد يهوه الرابع (اش 25/13-53/12)، وعلى اش 42/1، ومز 22/8.
في 2/23، يربط المؤلّف "صورة الله" (تك 1/26) بالخلود الذي إليه مصير الانسان موجّه، والذي قد يفقده بالخطيئة. لا يقول سفر الحكمة بأن الانسان غير مائت بل أنه ينال عدم الموت (أنظر 3/4؛ 4/1؛ 8/13؛ 15/3).
في 2/24، واضح أن "الموت" كما في 1/11-14، لا يعني الموت الجسدي بل الروحي، وهذا ما اختبره الأشرار. وتعني كلمة "عدم الفساد" في 2/23، كما في 6/18 و19، الخلود وليس عدم الموت الجسدي الذي يعتبره المؤلّف كنتيجة لأصل الانسان الأرضي (أنظر 7/1)، لذلك فهو لا يهتم بالموت الجسدي ولا بقيامة الجسد. وتدل عبارة "بحسد إبليس" (2/24 أ) التي هي تلميح إلى السقطة الأولى (تك 3)، على أن الموت هو روحي، ويساوي بين الحية والشيطان (أنظر يو 8/44؛ رؤ 12/9؛ 20/2)
3) مشورات الله الخفية (3/1-4/19).
على ضوء الاعتقاد بأن الخلود هو مكافأة الصديق، يشرح السفر النقاط التقليدية الثلاث المتعلقة بالمجازاة، أي ألم الصديق، والعقم، وموت البار المبكر، ويبرز في كل منها التناقضَ بين مصير البار ومصير الشرير.
- ألم البار (3/1-12)
إن الأبرار، وإن ماتوا، فإنهم يبقون أحياء مع الله، وإن أصابهم الألم فهذا تأديب، وإصلاح، واختبار الله لأمانتهم، وليس قصاصاً كما كان شائعاً في العهد القديم. فالصدّيق ممتلىء رجاء بالخلود، وعند الدينونة سيحظى بملكوت الله، أما الأشرار فلا رجاء لهم، وعقابهم يبدأ في الحياة الأرضية.
عندما يقول الكاتب إن "نفوس الأبرار هي بيد الله" (3/1)، فإنه يعني أنها تحت حمايته، كما يقول سفر تثنية الاشتراع: "جميع القديسين في يدك" 33/3)، وأشعيا: "وتكونين... في يد الرب" (62/3). والحماية هنا هي من "العذاب" (3/1 ب) بعد الموت (أنظر 4/19: "ويكونون في العذاب") لكن المؤلف ليس واضحاً بشأن نفوس الصديقين بعد الموت مباشرة؛ فهبوطها إلى الشيول غير مقبول لأن هذا الأخير هو مكان مظلم (أنظر 17/14- 21)، ومرتبط ارتباطاً وثيقاً بالموت الروحي (1/14)، وفيه يكون الأشرار في الحزن الشديد قبل الدينونة الأخيرة (4/19)؛ من هنا نستنتج أن نفوس الأبرار لا يمكنها أن تجد السلام في الشيول، بل تكون مع الله في البلاط السماوي (5/5)، وبالتالي لن يكون للدينونة دور تجاهها سوى إعطائها مجداً إضافياً (3/7-9؛ 5/16) في حياة "خالدة". وللمرة الأولى في العهد القديم ترد كلمة "خلود" (3/4)، وهذا هو نصيب الأبرار الذين يكونون قد عاشوا "برجاء" (3/4 ب)، "وامتحِنوا" (3/5 و6)؛ راجع (تث 8/2-5؛ أم 3/11-12؛ سي 2/1-6؛ 4/17-19) "كالذبيحة والمحرقة" كما نقرأ في اش 53/7-10. أما "الافتقاد" فيعني تدخلاً إلهياً، خاصة وقت الدينونة الأخيرة (أنظر اش 10/3)، لصالح الأبرار الذين "يتلألأون" (3/7) لأنهم منتصرون (أنظر عو 8؛ دا 12/3)، "فيدينون" (3/8؛ أنظر دا 7/18-27) "الأمم" و"الشعوب" (3/8)، وهنا تلميح إلى ما كان يأمله اليهود بأن يحكم اسرائيل باقي الأمم في العصر المشيحاني، لكن المقصود هنا هو انتصار الأبرار على الأشرار.
- العقم (3/13-4/6)
كان الاعتقاد سائداً بأن الأولاد هم علامة رضى الله وإنعامه، أما العقم فكان بمثابة لعنة وعدم رضى. يستند المؤلف إلى سي 16/1-4 الذي يتكلم عن "كثرة أولاد لا خير فيهم..." وعن "البنين الكافرين" فيشرح نظرته في أربعة مقاطع: إذا كان العقم مرفقاً بالفضيلة، فلا يكون لعنةً، لأن الثمرة الحقة للحياة هي الفضيلة (3/13-15)، في حين أن أولاد الأشرار هم ثمرة لا تدوم (4/3-6). وإن عاشوا طويلاً فبلا كرامة، وإن ماتوا باكراً فبلا رجاء للخلود (3/16-19). الفضيلة هي الخير لأن الناس يكرمّونها، ويكافأ عليها بالخلود (4/1-2).
الكلام عن "العاقر" 3/13 مستوحىً من اش 54/1، فلقد نُقل هذا الكلام من مستوى الوعود المقطوعة لأورشليم إلى المستوى الفردي. والزنى المذكور هنا يُقصد به الخطيئة عامّة، وهو مأخوذ من اش 57/3: "يا نسل الفاسق والزانية". كذلك في 3/14، يبقى إش مصدر الوحي للكتاب في ما يتعلّق "بالخصي" الذي يحفظ السبت ويتمسك بعهد الرب... (اش 56/2-5)، لأن "الذي يعتصم (بالرب) يملك الأرض ويرث جبل قدسه" (اش 57/13)، أما "أولاد (الزانية) فلن يكون لهم أصول، وأغصانها لن تخرخ ثماراً" (سي 23/25؛ أنظر اش 40/24).
- الموت المبكّر (4/7-19)
كانت النظرة التقليدية للمجازاة تقول بأن الأشرار يموتون باكراً، أما الأبرار فيُبارَكون بعمر مديد ومكرّم. للمرّة الأولى يلقي العهد القديم ضوءاً أوضح حول موت الصّديق المبكّر، فلا يعتبره شراً لأن العمر الطويل الحقيقي هو الحياة الفاضلة والبارة؛ فإذا كان الله قد اختطف أحنوخ من العالم قبل الأوان (أنظر تك 5/21-24)، فلكي يحفظه من عدوى الشر. وفي حال عاش الشرير طويلاً، فلن يكون مكرَّماً، لا في حياته ولا في مماته. تصف الآية 19 مصير الأشرار المرعب بعد الموت وقبل الدينونة الأخيرة، بصور مستوحاة من اش 14/16-19؛ 19/10؛ 66/24: "ويرون جثث الناس الذين عصوني، لأن دودهم لا يموت، ونارهم لا تطفأ، ويكونون رُذالة لكل البشر".
" الراحة" (4/7) بالنسبة لبني اسرائيل مرتبطة بالسبت المرتبط بدوره براحة الله في اليوم السابع (راجع عب 3/7 و4/11). يبدو موت الصدّيق هذا وكأنه دخول في السبت الأبدي، في الراحة الأبدية مع الله.
"الشيخوخة مكرمة" (4/8) ليس بسبب عدد السنين، بل بفضل الحكمة التي يساعد العمر الطويل مبدئياً على اقتنائها، وبالتالي يصبح مقتنيها "مرضياً" عند الله و"محبوباً" (4/10)، حتى ولو كانت سنو حياته قليلة. من النادر مصادفة كلمة "محبوب" في العهد القديم من قبل الله تجاه أفراد، لأنها مستعملة عادةً لاسرائيل (راجع تث 7/8؛ هو 11/1)، أو لرؤساء اسرائيل (2 صم 12/24): لأن الله يحبّه ويريد أن يحفظه من الشّر، فإنه "ينقله" من بين الخاطئين، فالمؤلّف يرى بنظرة تشاؤمية أن العالم مليء بالشرور، والمِحَن، والآلام. ما يعطي قيمة للوجود البشري إذاً، ليس طول العمر بل نوعيته وعلاقته بالله.
4) الدينونة الأخيرة (4/ 20- 5/23)
عند الدينونة سيظهر خلاص الصديق (5/1-2). في كلام مواز لما جاء في حك 2، يعترف الأشرار بأن تقديراتهم في شأن الصديق كانت مخطئة، وبأن طريقة حياتهم كانت ملتوية، الأمر الذي أدّى الى فنائهم في رذيلتهم (5/3-13). بعد ذلك، يصف الكاتب هشاشة رجاء الكافر من جهة، ومكافأة الصّديق بحياة أبدية من جهة ثانية، مصوّراً بوصف رؤيوي، عقابَ الله للأشرار (5/14-33). يلفت النظر بدء النص ونهايته (14 و23) بكلمة "زوبعة" المعبرّة عن شدّة العقاب.
يستوحي المؤلّف في 4/ 20-5/7 أشعيا 59/6-14.
من هم "أبناء الله" "القديسون"؟ هل هم الملائكة (إقرأ أي 1/6؛ مز 29/1؛ 82/1؛ 89/7؛ وأيضاً أي 5/1؛ 15/15؛ مز 89/6 و8؛ سي 44/17. دا 4/14؛ زك 14/5)؟ "أبناء الله" و"القديسون" هما تعبيران مترادفان، يُطبقان إمّا على الأبرار الممَجّدين، في جماعة القديسين، وإمّا على الملائكة. "أبناء الله"، في سفر الحكمة؛ هم الأبرار أو أفراد الشعب المقدّس (راجع 2/18؛ 9/7؛ 12/19 و21؛ 16/10 و26؛ 18/4 و13). تدل كلمة "قديسين" على الاسرائيليين، كما في 18/9 (راجع أيضاً 17/2 أ)، ويمكن أن يكون لها ذات المضمون الذي لكلمة "قديسين" في 14/15، إذ نجد هذا التعبير أو ذاك دون فرق في المزامير، مثل مز 15/3؛ 33/10؛ 73/3؛ 82/4؛ ثم مز 29/5؛ 30/24؛ الخ. هناك استعمال أيضاً اسكتولوجي لهذه الكلمة في بعض النصوص البيبلية (أش 4/3؛ دا 8/8 و21-23 و24). يُبرز النص (5/5) البار مُمَجَّداً في العالم الآخر، في الإطار السماوي، في حين أن الأستعمالات الأخرى لعبارة "أبناء الله" في السفر، هي في إطار أرضي أو تاريخي، لكن مع أصداء أسكتولوجية. لقد استطاع المؤلّف إذاً أن يستعيد هنا صيغة بيبلية شائعة للدلالة على الملائكة (راجع تك 6/2 و4؛ أي 1/6، مز 29/1؛ 82/1؛ 89/7؛ امل 22/9). من ناحية ثانية، يُدعى الملائكة "بالقديسين" في أي 5/1؛ 15/15؛ مز 88/6 و8؛ زك 14/5؛ دا 4/10 و14 و20؛ 8/13؛ سي 42/17؛ طو 11/14. من المفَضَّل إذاً اعتبار "أبناء الله" و"القديسين" ملائكة. يُفهم تَعَجّب الأشرار عند ذلك بطريقة أفضل؛ يُعاد إلى الصدّيق اعتباره عندما يأخذ مكانه في جماعة الملائكة القديسين.
5/6 أ: يكتشف الأشرار ضلالهم عن طريق الحق أي عن مسلك حياتي معيّن. تختصر كلمة "حق" المعنى الحقيقي لتصميم الله تجاه الأنسان، وبالتالي تَعني حقائق أو عقائد تنوّر الانسان حول مصيره فتساعده على بلوغه؛ كما تتضمن الخضوع الثابت والإرادي لإلزامات ووصايا مصدرها الله، والأمانة له. لو اتبع الأشرار "الطريق" لما ضلّوا. ولكان الإيمان والطاعة حلاًّ مكان الفكر الغبي الذي به كانوا يبرّرون مسلكهم الملتوي.
5/6 ب: تحلّ صورة الظلمة التي تغشي الطريق مكان صورة الضلال بعيداً عن الطريق المستقيم، كما تحلّ كلمتا "النور" و"البرد" مكان كلمة "الحق". تدل كلمة نور في الاستعمال اليوناني على ضوء النهار أو الشمس (أنظر 7/10 و29)، لكنها تستعمل أيضاً بالمعنى المجازي. إنه النور الذي يُدخل الانسان في البر، فيبدّد ظلماته، ويجعل طرقه مضاءة، لكنه لن يضيء للأشرار: ا لم تشرق الشمس علينا" (5/6 ج).
تستعيد صورتا "النور" و"الشمس" رمزية بيبلية نجدها في ملا 3/20 وفي غيره. إقرأ في ما يتعلق ببر الانسان أو بر الله ما يلي: اش 51/4؛ 58/8-10؛ 59/9-14؛ 62/1؛ ام 4/18-19؛ 6/23؛ 13/9؛ مز 118/105؛ سي 50/29. ويبدو أن لأشعيا 49/9-14 تأثيراً خاصاً في هذا المجال؛ فالشعب الآثم يقرّ بأخطائه (بدءاً من آية 9 في النص المسّوري، وآية 10 في السبعينية)، ويعترف بأنه مشى في الظلمات واحتقر "البر" و "الحق" (آية 14). في سفر الحكمة، نقل المؤلّف اعتراف الشعب الخاطئ (في اش) إلى الأشرار المحكوم عليهم، وذلك بإعطائه مضموناً مختلفاً لكلمات "الحق"، و"البر" و"النور". فالذين ستنالهم دينونة قاسية قد ضلّوا كالشعب الخاطئ، وساروا في الظلمة، لأنهم لم يَدَعوا النور الالهي يضيء لهم وينيرهم، وبالتالي لم يستطيعوا أن يتبيّنوا إرادة الله، ولا طريقه المؤدية الى المسلك الديني والخُلُقي السليم. من هنا، يعتَبر "الضلال" خطيئة يُحَاسَب صاحبها عليها، والأشرار هم اليهود غير الأمناء والجاحدون، الذين رفضوا النور، وعاشوا غير مبالين بالمتطلبات الإلهية (إقرأ يوم 3/19 و20؛ 2 كور 4/4 حول الخطيئة التي تُعمي).
5/7 أ: "لقد اعتنقنا سبل الاثم والهلاك" (أنظر 2 بط 2/20)، لذلك يصبح المسير صعباً، كما في "براري لا طرق فيها" (5/7 ب؛ أنظر أر 12/10)، إذ يكون المجهود عندها عميقاً، والوحشة قاسية، عند أولئك الذين لا يقبلون أية قاعدة حياتية، ويتبّعون أهواءهم التي ليست سوى سراب.
5/7 ج؛ لم يتبّع الأشرار "طريق الرب" علماً أنها بدت لهم رحبة وسهلة، ومع هذا لم يريدوا أن "يعرفوها" وأن يسيروا فيها "طريق الرب" هو تعبير بيبلي (قض 2/22؛ 2 مل 21/22؛ أش 16/8؛ ار 5/4-5؛ حز 23/17؛ أنظر أيضاً بصيغة الجمع تك 18/19؛ 2 صم 22/22؛ هو 14/10) يدل على إظهار إرادة الرب في الناس. المحكوم عليهم إذاً هم اليهود غير الأمناء لعقائد ووصايا أوحاها "الرب" إله اسرائيل (أنظر 1/1 ب؛ 2/13؛ 3/8 و10). كان بإمكانهم، كما كان عليهم، أن يوجّهوا حياتهم بطريقة مغايرة، لكنهم لم يفعلوا، وهذا ما تبيّنوه متأخرين.
حياة الأشرار ليست سوى جملة خيرات خيالية وباطلة، لذلك لا تقرك وراءها أي أثر عميق ودائم: "كل ذلك قد مضى كالظل" (5/9 أ).
في الآية 14، يستخلص الكاتب فكرة نهائية حول الأشرار ودينونتهم، مؤكّداً تأسّفهم العقيم، وذلك من خلال صور عدّة: الأولى تقارن "رجاء الكافر" ب "عُصافة تذهب بها الريح" (5/14 أ؛ أنظر مز 1/4؛ 34/5؛ اش 17/13؛ 29/5)؛ الثانية تشبّهه بزبد الأمواج الرقيق الذى تطارده الزوبعة (5/14 ب)؛ الثالثة تقارنه بالدخان الذي يتبدّد في الهواء (5/14 ج)؛ والرابعة بذِكرٍ لا قوام له، يتركه ضعيفاً حلّ يوماً وعبر (5/14 د).
الآيات 15-23: مقابل عقاب الأشرار، يُبرز المؤلف ثواب الأبرار الذين يكافأون على رجائهم (15)، بأن يُرَقّوا إلى الكرامة الملوكية: "سينالون إكليل البهاء، وتاج الجمال من يد الرب" (16 أب). بالإضافة إلى ذلك سيَحظوَن بحماية خاصة من الرب (16 ج د) في وجه قساوةِ دينونةٍ تطال الأشرار. يصوَّر الله وكأنه محارب متسلِّح ومُسَلِّح الخليقة أيضاً (17) بسلاح إلهي يعدّد المؤلّف أنواعه مع المضمون الرمزي لكل نوع (18-19). يذكر بعد ذلك الأسلحة الهجومية: سيف الغضب الذي لا ينثني (20 أ)، وقوى الطبيعة الكبيرة (0 2 ب-23 ب). تصبح الأرض عند ذلك قاحلة (23 ج)، وقوى العالم تنقلب (23 د). لكن ليس واضحاً ما إذا كان الأشرار قد أبيدوا بالفعل في النهاية أي في هذه الدينونة الرهيبة أم لا، علماً أن الاعتقاد السائد هو أن العقاب قد نزل بهم.
5) تحريض للسعي في طلب الحكمة (6/1- 21)
يتوجه المؤلف مجدداً إلى الملوك (راجع 1/1)، بعدما تركهم جانباً في الفصول السابقة، ليطلب إليهم أن يستمعوا بانتباه، أن يفكّروا، وأن يُفسِحوا المجال لأن يتعلّموا (1-2، 9، 11). يذكّرهم أن سلطتهم ليست غير مسؤولة، إذ هي تمثيل للسلطة الالهية، وعليهم بالتالي أن يؤدوا حساباً (3-4). أكثر من ذلك، سيطالبهم الله بشدّة لأن أعذارهم أقلّ من أعذار باقي الناس، والديّان الأعظم لا يتراجع أمام أحد (5-8). على عكس ذلك، إذا حكموا وفق البر (4)، وإذا حفظوا بأمانة "الشرائع المقدسة"، وقبلوا أن يتعلّموها، يُعتَرف بهم أنهم "قدّيسون" ودفاعهم يتبعهم (10). هذا التحريض الطويل الذي يبدأ بذكر انقلاب ممالك الأرض (5/23 د)، هو بمثابة انتقال بين 1 و2. في الواقع، يستعيد المؤلف فكرة الدينونة الفردية، موضوع "الفحص" (3 ج و8)، ويذكر المكافأة النهائية "للقداسة" (10 أ)، وضرورة الدفاع عن الذات من خلال الأعال (10 ب). لكن هذا القسم هو أيضاً مقدمة لمديح الحكمة. إذا كانت هذه الأخيرة لم تذكر سوى مرة واحدة (9 ب)، فإن النص يحوّل القارئ إلى عقائدها. من ناحية ثانية، الأسلوب هو أسلوب تحريض حكمي، وشخص سليمان يحتل الآن واجهة المسرح. موضوع القسم الثاني (12-21) هو "الرغبة في الحكمة" (الذى بدأ في الآية 11). يرمي المؤلّف إلى التأكيد بأن انفتاحاً صادقاً على قيم الديانة يضع الوثنيين أيضاً على طريق الخلاص. يذكر أولاً جاذبية الحكمة الساطعة، وسهولةً إيجادها (12). أكثر من ذلك، تسبق فتعَرّف بنفسها إلى طالبيها، وتلّبي رغبات ومبادرات البشر، إذ "في كل خاطر يخطر لهم تأتي لملاقاتهم" (13-16). بعدئذ يبيّن الكاتب كيف أن الركبة الصادقة في الحكمة تقود الانسان، من خلال سلسلة من الجهود المترابطة، إلى عدم الموت. في الوقت ذاته، يصوّر صعوداً روحياً ينتهي بالدخول في جماعة الله، وبالاشتراك في ملكه (17-20). بالنسبة للنقطة الأخيرة، فهي ترتبط بالآية 11، وبالفاتحة في الآية 1: هناك سبب جوهري للانفتاح على الحكمة: (يا ملوك الشعوب، أكرموا الحكمة لكي تملكوا إلى الأبدأ (21).
يُلاحظ أن النص يبدأ وينتهي بكلمة "ملوك" (6/1 و21) الذين إليهم يُوَجّه الحديث. ومن الكلمات الهامّة أيضاً: "المتسلّطون" (2) و"المقتدرون" (8)؛ "سيفحص"و "يستقصي" و"تحقيق" (3 و8)؛ تحريض على سماع "كلماتي" (9 و11)؛ "يلتمسون" الحكمة (12)؛ "الرغبة" (17 و20).
ب- طبيعة الحكمة (6/22- 11/1)
في هذا القسم يجعل المؤلف نفسه وسليمان واحداً. يمدح الحكمة ويصف كيف سعى في طلبها. بعد مقدمة صغيرة (6/22-25) يصف فيها سليمان الحكمة، يأتي حديث الملك العظيم (7/1-8/21) موزّعاً على سبعة مقاطع منسَّقَة بطريقة مركزية مع وصف الحكمة في المقطع الوسيط (7/22 ب-8/1). في النهاية، وخارج هذه التركيبة، نجد صلاة سليمان (9)، والقسمَ الانتقالي (10/1- 11/1) الذي يقود القارئ إلى الجزء الثاني من السفر.
مقدمة (6/22-25)
يعلن المؤلّف عن مضمون الفصول 7-10 وعن رغبته في مقاسمة الآخرين له أسرار الحكمة.
قد يكون في ذهن الكاتب تساؤل حول "منشأ" الحكمة (7/22؛ راجع أم وأي، حول أصل الحكمة)، لكن انتباهه الآن سيتركّز على مفاعيل الحكمة، خاصة في حياة سليمان. معرفة "أسرار" الحكمة تساوي معرفتها هي بالذات، أي حقيقتها، وطبيعتها، وأصلها، وخصائصها، وعملها (إقرأ دا 2/28 و29 و47؛ سي 4/18). لكن ليسى مستبعداً أن تدل "الأسرار" هنا على الأسرار اليونانية، إذ يلمح المؤلّف إلى السّر المحفوظ بعناية والذي لا "يُباح به إلاّ إلى المتدرجين. هي عقيدة حياة، عقيدة موحاة تذكّر بالمتطلبات الخُلُقية للاله الواحد الذي سيجازي على الخير وعلى الشر، ليس استناداً إلى المعارف المكتسبة، بل استناداً إلى حياة قداسة وبرارة. أخيراً إذا كانت "أسرار" الحكمة مكشوفة "للجميع"، وليس فقط لليهود، فهذا انسجاماً مع التوجّه الشمولي للمؤلفات الحكمية السابقة.
1) حديث سليمان (7/1-8/21)
- سليمان إنسان كسائر الناس (7/1-6):
لم يكن سليمان مُعداً بالولادة لأن يكون حكيماً؛ فهو ذو أصل بشري وطبيعي كسائر الناس. فبقوله "أنا أيضاً" (7/1)، يضع سليمان ذاته في الواجهة ليؤكد وبقوة أنه يشاطر الناس أساساً ما هو بشري. يهدف هذا الموقف المتواضع إلى الأعداد لما سيقوله في الآية 7، بأنه صار حكيماً بفضل الصلاة. وبالمنحى ذاته، تعني عبارة "قابل للموت" (7/ 1) تشديداً إضافياً على ما هو بشرى عند مَن كان يُعتَبر نصف إله أو ظل إله. كذلك عبارة "مساو للجميع" تدلّ أيضاً على المساواة الجوهرية في الطبيعة البشرية مع كل الناس، لأن الملك أيضاً متحدّر من آدم الذي جُبل من التراب (7/1). ويكمل سلمان الكلام عمّا هو مشترك بينه وبين سائر البشر، من الحبل به مدة عشرة أشهر (القمرية)، وتكوينه من زرع رجل في الدم، وتنفسّه الهواء المشترك، وسقوط رأسه إلى الأرض، وصراخه الأول، وتربيته بالقُمُط، الخ (7/2-4). من هنا يمكن الكلام عن "ديمقراطية" أصلية في الوجود البشري الذي يساوى فيه الجميع دون أي تمييز.
- نال سليمان الحكمة بالصلاة وفضّلها على كل شيء (7/7-12)
يبدأ النص بكلمة "لذلك" التي بها يعلّل الكاتب صلاة سليمان، مبيّناً أنه عاجز بالطبيعة أن يكون حكيماً (هناك أسباب أخرى في 8/21 و9/5-9).
الصلاة التي يجري الحديث عنها (7/7)، هي صلاة سليمان المذكورة في مل 3/5-9 و2 اخ 1/8-10 التي استجابها الله (راجع 1 مل 3/11-12؛ 5/9). في المعنى ذاته يُستعمل الفعل "دعوت" (7/7) دون أن يعني الصلاة بإلحاح أو التضرّع حصراً. لقاء صلاته ودعوته، نال سليمان "الفطنة" و"روح الحكمة".
لقد فضّل سليمان الحكمة على كل شيء: السلطة، والغنى، والصحة، والجمال، والنور، فجاءته وجلبت معها كل الخيرات والغنى الكثير، وهذا ما أمّن له فرحاً عظيماً (7/8-12). يعترف سليمان بأنه كان يجهل (7/12 ب) أن الحكمة هي أم كل الخيرات؛ فعندما طلب الحكمة وتخلّى من أجلها عن كل ما عداها، لم يكن يعرف أنها هي التي تجلب كل الخيرات معها؟ كما أنه كان يجهل، بعد أن حصلت له على كل هذه الخيور، أن الحكمة هي سببها و"أم جيعها".
بما أن سليمان مساو لجميع البشر، وبما أنه نال الحكمة بفضل الصلاة والدعاء، وبما أنه بالتالي يتنازل ليكون مع سائر الناس، فإنه سيُشرك الآخرين في ما تعلّمه. ولن يكتم غنى الحكمة عنهم، أي أنه لن يحتفظ به لنفسه. مرات عدة ترد كلمة "غنى" في النص (8 ب، 11 ب، 13 ب)؛ يريد الكاتب أن يشير إلى غنى الحكمة الداخلي، أي صفاتها وخصائصها، وإلى الخيرات التي تهب، خاصة الخيرات الروحية والعقلية. سيتكلم بولس لاحقاً عن "غنى" المسيح (أنظر أف 3/8 و16؛ و1/7؛ كو 27) والله (روم 2/4، 9/23، فل 4/19).
"صداقة الله" (7/14 ب) هي صداقة قد تحققت بالفعل، كا تقول الآية 27 د، ولكنها ليست من النّد إلى النّد. نجد الكلمة ذاتها في 8/18 أ. أنطلاقاً من امتياز خاص به، يدعو سليمان جيع الناس إلى تحقيق ذات الصداقة مع الله، والحصول بالتالي على ذات الأنوار التي تهبها الحكمة.
يتكلم النص أخيراً عن "خيرات" (14 ج) مصدرها "التأديب" الناتج عن تقبّل تعاليم الحكمة (راجع 6/17-18 أ) التصاعدي، ووضعها موضع التنفيذ، أي ممارسة الفضائل.
- سليمان يطلب العون الالهي كي يتكلم عن الحكمة (7/15-22 أ)
يعود سليمان إلى الكلام عن الحكمة، كما سبق ووعد فى 6/22 وفي 7/13، ويشعر لذلك بالحاجة إلى أن يدعو الله كي يساعده مّن أجل تحقيق غايته، ومن أجل القيام بهذه المهمة حسب رغبة الله (15 أ). إن ذكر ما ناله من مواهب (15 ب) يتوافق مع الإطار الذي يذكر فيه سليمان اختباره الفريد. يتكلم النص عن العطايا السابقة للطلبة، ويختصر كل الخيرات العقلية الموهوبة لسليمان، أي المعارف المذكورة في 7/17-21، والأنوار المتعلّقة بالحكمة بالذات.
- طبيعة الحكمة (7/22-8/1)
يؤكد المؤلف ان في الحكمة "روحاً" (22 أ)، معتبراً إياها كشخص. فككل كائن حيّ، وخاصة على مثال الله بالذات، للحكمة "روح"، هو مبدأ ديناميكي في جوهره، يبرر أكثر فأكثر شخصيتها الحيّة والفاعلة. يستعين المؤلف بعقيدة الروح لإبراز طبيعة الحكمة ونشاطها، فتصبح خصائص الروح هي ذاتها للحكمة.
هناك إحدى وعشرون صفة للروح (22-23)، يسعى الكاتب من خلالها الى إبراز طبيعة الروح السامية، وطريقة عمله العلوية، دون ان يحدد حصراً نشاطه في عالم البشر. لا شك ان للروح اليونانية ولتنظيراتها الفلسفية تأثيراً واضحاً في موضوع "الروح" ونعوته التالية: "فطناً"، "قدوساً"، "وحيداً" و"متشعّباً"، "لطيفاً"، "متحرّكاً"، و"ثاقباً"، "طاهراً"، "واضحاً"، "سليماً"، "محباً للخير"، "حاداً" "حراً"، "محسناً" و"محباً للبشر"، "ثابتاً" "يقدر على كل شيء"، "يراقب كل شيء"، "ينفذ إلى جميع الأرواح"، "الفَهِمَة منها".
- سليمان يسعى في إثر الحكمة مصدر المعرفة (8/2-8)
يعود سليمان إلى موضوع طلب الحكمة، وكأنها عروسته. هي "صديقة الله" ومعاونته، تعطي الغنى، والذكاء، تعلّم الفضائل وتساعد على فهم اقوال الحكماء.
يذكر النص (7 ج د) الفضائل الرئيسية التي تحققها الحكمة، وهذا التعداد فريد من نوعه في البيبليا. تعمل الحكمة (7 ب) داخل الانسان (راجع 7/27 ج و28) من أجل تحريك جهود هذا الأخير ودعمها (راجع 3/15؛ 6/17-18؛ 7/14 ج)، وترسيخ الفضائل "التي لا شيء أنفع منها للناس في الحياة" (7).
- باتحادة بالحكمة، سيحقق سليمان وظيفته كملك على أفضل وجه (8/9-16)
من خلال مشورة الحكمة، سيكون لسليمان مجد في الحياة، وسيذكر في مماته، لأنه سيكون حكيماً، وملكاً حكيماً ونبيلاً، كما أنه سيَنعم بحياة صافية وهانئة.
يريد سليمان أن يتزوّج الحكمة لكي تكون دائماً قربه (8/9 أ)؛ في 3 أ كانت تشاطر الله حياته، أما هنا فإنها تشاطر سليمان حياته. ستعمل في حياة الملك العامة والخاصة، فتكون "مشيرة له للخير" (9 ب؛ راجع 2 اخ 22/3؛ 2 مك 7/25). يُقصد "بالخير" الخيرات الأدبية، والعقلية، والمادية، التي تعدّدها الآيات 10-15، والتي ستكون لصالح سليمان وشعبه. بالإضافة إلى مشورتها ستهب الحكمة التعزية للملك "وستشدده في الهموم والغم" (9 خ).
بفضل الحكمة سيقوم الملك بواحدة من مهامّه المتعددة، وهي "إجراء الحكم" "بفكر ثاقب" (11 أ؛ راجع 7/22)؛ فالملك هو القاضي الأعظم في مملكته، وقد وهب الله لمليكه نعمة 9 التمييز" (1 مل 3/9 و11)، وهذا ما نتأكده من الحكم الذي أصدره (راجع 1 مل 3/16-28).
تؤمّن الحكمة لسليمان أيضاً "السرور والفرح". تعبّر هاتان الكلمتان عن واقع روحي سيملأ نفس سليمان بفضل الحكمة وبفضل سكن الله في نفسه. الله وحده يعرف الفرح الحقيقي، لكن في حياة الصدّيق أيضاً يسيطر هذا الفرح الذي يملأ كل جوانب النفس، كون الصدّيق هو قريب من الله.
- سليمان يلتمس بالصلاة الحكمة التي هي عطية من الله (8/17-21)
تركّز الآية 17 ج على "قربى الحكمة". فعندما تصبح هذه الأخيرة عروساً لسليمان، تهبه القربى منها، وبالتالي تؤمّن له "الخلود" أي دوام الذكر بين الناس كما في الآية 13. كل ذلك هو عطية من الله، تتحقق بالصلاة.
يبدأ سليمان بالبحث عن الحكمة، طالباً كيف يتخذها لنفسه (18؛ راجع 6/16 أ). لقد شغف سليمان بالحكمة إلى حدّ أنه أراد أن يتزوّجها وأن كون مشيرته في كل شيء. لذلك سيتوجّه إلى الله ليطلبها منه (21)، وسيتحقق له ما شاء إذ إن الحكمة ستعطيه كل ما كان يتوق اليه، وستكون ينبوعاً فياضاً للمعرفة، والنور، والفرح.
2) صلاة سليمان لينال الحكمة (9/1-18)
تستلهم الصلاة في حك 9 الصلاة التي في 1 مل 3/6-9 و2 اخ 1/8-10، والوارد ذكرها في حك 7/7-10. تأخذ هنا صيغةً جديدة وفريدة تتناسب مع الوضع الموصوف في حك 8 والموجه نحو طلب الحكمة الإلهية، ومع أفكار وهموم الوسط اليهودي المتأثر بالهلينية. بإدخاله صلاة كهذه في مؤلف حكمي، يتبع الكاتب تطوّر نوع أدبي نجده في أم 8/12-31 القريب من النشيد، وأم 30/7-9 الذي يتضمن صلاة أجور، وابن سيراخ الذي يؤلف صلاة جماعية (36/1-17) وصلاة فردية للشكران (51/1-12)؛ بالإضافة إلى ذلك، قد تكون كل المزامير التي من القرنين الثاني والأول ق. م. من عمل "الحكماء" الذين كانوا يَنشدون هدفاً تعليمياً. ويتبيّن التدقيق في صلاة حك 9 أنها تقسم إلى ثلاثة أجزاء: الأول (1-6) يخضع لترتيب مُتّبع عادة في التقليد اليهودي؛ الثاني (7-12) هو تطبيق شخصي على سليمان؛ الثالث (13-18) يبتعد عن إطار النص، مع اعتبارات عامة حول عجز الانسان الطبيعي وحدود معرفته العملية. يستقطب الاهتمام معنى المهمّة الموكلة الى الانسان من قِبَل الله، وضرورة العون من العُلى من اجل بلوغ الكمال الانساني الحق، ومعرفة الإرادة الالهية.
تقسيم صلاة سليمان هو مركزي، وذلك استناداً إلى ذكر "عطية" او "إرسال" الحكمة ثلاث مرات (4، 10، 17)؛ والنقطة الرئيسية فيها هي الطلب في الآية 10.
في اول جزء (1-6)، يذكّر المؤلّف بعمل الخلق، وبواجب الانسان الذي برأه الله بحكمته بأن يمارس سلطانه على الكون. يوضّح الجزء الثاني (7-12) دور الحكمة في عمل الخلق المذكور، ثم يضع هذا الدور بموازاة الدور الذي على الحكمة ان تلعبه تجاه الملك؟ فهي تعرف ما يرضي الله، وتعلّمه للملك. يؤكد آخر الجزء الثالث (13-18) انه بعون الحكمة هذا وجد الناس الخلاص، لأنهم تعلّموا ما هو مرضي لدى الله.
يطلب سليمان الحكمة في صلاته، ولكن دون ان ينغلق على ذاته، فيوسّع حقل تفكيره، واضعاً ذاته في إطار أوسع. فالمقطع الاول (9/1-6) يضعه بين كل البشر؟ إنه يعرف الدعوة التي يعطيهم الله إياها، ويشاركهم هو المحدودية ذاتها. في المقطع الثالث (13-18)، يمتزج الملك بالبشرية (لاحظ استعمال ضمير المتكلم الجمع في 9/14 و16). المقطع الوسيط (7-12) يحصر الكلام فقط بالملك الذي يصلي، وبالحكمة موضوع صلاته.
لنتوقف عند دور ومكان الحكمة في كل هذه المجموعة. الاستنتاج الاول يأتينا من الموازاة بين 9/2 أ: "بحكمتك خَلَقتَ الانسان" و9/18 ج: و"بالحكمة خُلِّصَ (الناس)".
تتدخّل الحكمة لدى الله، ولدى الانسان. هكذا نرانا امام قطبَي الخلق والخلاص في التفكير اللاهوتي. يتأمل سليمان تاريخ الخلاص ثم يكتب أو يصلّي. إذا كان هذان القطبان، اي الخلق والخلاص، يكمل الواحد الآخر في دائرة الوجود البشري، فإن المؤلف يدعو إلى التأمل أولاً في دور الحكمة لدى الله، في الآيات 1-3 و9. تشارك الحكمة حقيقة في الخلق، وتستحق الانتباه في هذا المجال، الموازاة بين 9/9 ب "كانت حاضرة حين صنعت العالم"، وبين 9/10 ج "حتى إذا ما كانت حاضرة إلى جانبي تجدّ معي". إذ كان على الحكمة ان تجدّ مع الانسان، فهذا يعني ان لها دوراً فعّالاً.
هذه هي الحكمة التي يطلبها سليمان. إنه لا يصلي كي يهبه الله "قلباً" كي يفهم (1 مل 3)، ولا "حكمةً وفهماً" (2 اخ 1)، بل يطلب من الرب "حكمته هو". لا يمكن للانسان ان ينال الحكمة إلا كهبةٍ مجّانية ومشتهاة، بالتالي على الانسان ان يصلّي كي ينال الحكمة، وإذا لم يُستَجَب، فهذا يعني انه مرذول من عداد ابناء الله (9/4 ب). هذا التفكير يتردّد في 9/17 كصدىً لـِ 9/4 و9/10، كما لِـ 9/6 ب ايضاً. الحكمة إذاً بالنسبة للانسان هي في آن معاً ضرورية ولكن صعبة المنال بالقوى البشرية الذاتية، لذلك يبقى له ان يتقبّلها كعطيّة.
ليس الدور الذي على الحكمة ان تلعبه لدى الانسان مستقبلياً، كون موهبة الحكمة قد تحققت للناس. تشكّل الآية 9/18 صدىً لِـ 9/10 ج-11: "كي اعلم ما المرضيّ في عينيك"، "تعلّم النّاس ما يُرضيك". ندرك من هنا كيف ولماذا يرفض المؤلّف ان يعزل سليمان عن باقي البشر. السبب يجد جوابه في رؤية التاريخ المقدس الذي يبقى غير قابل للشرح دون الحكمة، وفي هذا التاريخ تسمح الحكمة للملك بأن يدخل.
تبيّن المقارنة مع 1 مل 3 و2 اخ 1 كل ما للتفكير حول الحكمة من فرادة: ليس لدورها لدى الله ولدورها الذي ستقوم به لدى الملك (9/9 و 9/10 ج-11) أي سابق في النصوص التاريخية التي تلهم المؤلّف. ستتّضح أهمية هذا الدور الذي تلعبه الحكمة بالنسبة للانسان إذا ما حدّدنا مكان الانسان بالذات، حسب حك 9.
في الآيات الأولى من الصلاة، اي في 9/1-3، يذكر المؤلّف الخَلق ويحاول ان يحدد دعوة الانسان. فهذا الاخير يمارس مُلكاً على الكون، كون دعوته مَلَكيّة؛ وهنا يرد ذكر دعوة سليمان الملك (9/7-8). لقد نجح تصميم الله (9/1-3) إذاً، لأن "سُبُل الذين على الارض قوّمت. وتعلّم الناس ما يرضيك، وبالحكمة نالوا الخلاص" (9/18). هكذا يُبرز إطار الصلاة رؤيةً تفاؤليّة لتاريخ البشرية ويبعث على الثقة؛ إن ما يشتهيه سليمان هو الدخول في تيار النفوس العظيمة هذه التي استجابت لدعوتها.
لقد خلق الله الانسان بحكمته (9/2)، وبذات الحكمة خُلّص الانسان (9/18). بدونها يستحيل على الانسان ان يجيب على الدعوة الالهية (9/4 و6؛ 9/17). يعي المؤلّف جيداً ان الانسان ضعيف، ويرى بؤس الانسان من منظارَين مختلفَين: في التاريخ الحقيقي اولاً (9/5): سليمان هو إنسان ضعيف، لا خبرة لديه في الحكم. وتتعمّق وجهة النظر هذه في المقلب الثاني من الصلاة بتفكير فلسفي (9/13-17): من يعرف إرادة الله؟ (9/13 و16 ج-17 أ)، فإن تفكيرنا ضعيف "وأرضي" (9/14 و16 أب)، وهذا ما تفسّره جسدانيتنا (9/15). اخيراً، إن ثقل جسدنا البشري هو الذي يبيّن بؤسنا (وفق التفكير الافلاطوفي). لا يُقال شيء هنا عن مكان الخطيئة. وجهتا النظر هاتان، التاريخية والتأملية، توازيان، ولكن بطريقة متعاكسة، الجزء الأول من السفر (1-8: موضوع الحكمة)، والجزء الثاني منه (10-19: موضوع التاريخ).
لن يتكلّم المقطع الوسيط (9/7-12) بعد الآن عن البشرية، بل سيتكلم فيه سليمان عن ذاته وحده وعن الحكمة التي يطلبها من الله. في مجموعتين من الأبيات التي تتجاوب، يذكّر المؤلف بدعوة الملك (9/7-8)، وبتحقيقها المستقبلي (9/12)، بفضل موهبة الحكمة. ثلاث مهمّات لسليمان تُعدَّد هنا: هو ملك، وقاض، وعليه ان يبني الهيكل والمذبح. قد تشير كلمة "اعمالي" (9/12) إلى الهيكل والمذبح (9/8)؛ لكنها قد تشير ايضاً إلى ما خلقه الله، بالاستناد إلى ذات الكلمة في 9/9 "اعمالك". بهذه الطريقة يجعل المؤلف علاقة بين اعمال الملك وبين اعمال الله، بين تشييد الهيكل وبين الخَلق.
تتعارض هذه الرسالة إذاً مع ضعف الانسان وجهله، وهذا ما يثبته التعارض بين 9/5-6 و7-8؛ وبين 9/12، و13-17. لكن وحدها الحكمة، إذا أدّت الدور الذي لها لدى الله، تساعده على تحقيق رسالته جيداً (9/12). افعال 9/12 هي في صيغة المستقبل، اما افعال 9/18 فهي في صيغة الماضي. تشكّل هاتان الآيتان خاتمة المقطعين الثاني والثالث، وتتكلّمان عن النجاح في تحقيق دعوةٍ ما، دعوة كل إنسان (9/18 9/1-3)، ودعوة الملك (9/12/ /9/7-8)، بفضل موهبة حكمة الله. في هذه الصلاة، يطلب الملك ان يكون في مسار اولئك الذين حققوا تصميم الله، وان يجعله مستقبلُه في امتداد ماضي آبائه (9/1).
3) قسم انتقالي: الحكمة تخلّص خاصتها (10/1- 11/1)
يرتبط الفعل العاشر ارتباطاً وثيقاً بما سبقه؛ فالحكمة تبقى في الواجهة، وتدخلّها الخلاصي في التاريخ، المذكور في 7/27 ج، قد أعِدَّ له باعتباراتٍ وردت في حك 9 حول الوضع البشري، وأُعلن عنه في 9/17-18. ففي حين ان حك 7 كان يشدّد على نشاطها الكوني الشامل ويعتبرها واحدة مع العناية الالهية (راجع 8/1)، وحك 8 يُبرز إشعاعها في كل مجالات الحياة الفردية، فإنها تبدو الآن وهي تعمل في التاريخ القديم. يتتبّع المؤلف "خطواتها" (6/22 ج)، مرتكزاً على قصص سفري التكوين والخروج، مضمّناً التاريخ في الادب الحكمي. وإذا كان ابن سيراخ (44- 50) قد سبقه في هذا المضمار، فإن الفرق بين الاثنين عميق؛ ففي سفر ابن سيراخ، يكتفي المؤلف بالتذكير بأمثلة الماضي الكبيرة، تاركاً الوقائع ذاتها تتكلم، والارتباط بالحكمة غير بارز، وبالتالي فالربط هو خارجي وحسب. أما هنا فالحكمة الالهية هي التي توجّه الاحداث، ويبقى المؤلف على بعدٍ من المعطيات البيبلية ويفسّرها غالباً بطريقة شخصية.
بسبب طابعه التاريخي، يشكّل الفصل 10 مقدّمة للقسم الثاني من السفر، يذكر فيها المؤلف بالتتابع: آدم وخطيئته (1-2)، مقتل هابيل (3)، الطوفان ونوح (4)، برج بابل واختيار ابراهيم (5 أ)، إيمان هذا الاخير وذبيحة اسحق (5 ب ج)، لوط وعقاب المدن العشرة (6-8)، محن يعقوب واختباراته الروحية (9-12)، بيع يوسف على يد إخوته وإعادة الاعتبار إليه (13-14)، أخيراً موسى والخروج وعبور البحر الاحمر (15-19/ 1).
2- امانة الله لشعبه من خلال الخروج من مصر (11/2-19/22)
في إطار صلاة شكران مرفوعة إلى إله اسرائيل، الاله الحقيقي وحده، من اجل عمله الانقاذي الفصحي الكبير، يتأمل المؤلف بمعنى احداث الخروج: تستخرَج من الاحداث جدلية تتعلّق بطرق العناية الآلهية، وترتبط بالصفات الالهية، ليس فقط من اجل تسليط ضوء على الماضي، ولكن ايضاً من اجل إعطاء صورة مسبقة عن المستقبل. هناك استطرادات طويلة (12/2-22؛ 13-15) في القسم الثاني من السفر، تتخلل النصوص المنسّقة بموازاة متتابعة (راجع 11/6؛ 16/2 و9/10 و20؛ 18/3 و8؛ 19/5) يبلغ عددها سبعة، فتضع، بطريقة متوازية (11/5 و16)، العجائب المحققة لصالح اسرائيل من جهة، وضربات مصر من جهة ثانية. يتجذّر كل هذا في العمق في الفكر اليهودي من خلال شريعة المجازاة (راجع 11/5) من جهة، ومن خلال المنحى المدراشي للتفسير الكتابي والقناعة بأن هناك مصيراً مميّزاً لاسرائيل من جهة ثانية.
موجز عقيدة سفر الحكمة
في الوقت الذي كان فيه سفر الحكمة يرى النور، كانت العقائد التي تعالج موضوع الخلاص تتكاثر، باحثةً عنه في الاسرار، وفى الغنوصية، وغيرهما. في حك 1/1 يدعو سليمان المنتحل الى التفتيش عن الله، وهذا ما يتحقق باتخاذ الحكمة الالهية عروساً (8/2)؛ فبالاتحاد بها يتنشّأ الانسان على الاسرار الالهية (8/4)، ويحظى بالخلود (8/13).
لا يمكن الحصول على الحكمة بواسطة قوى الانسان الذاتية؛ فامتلاكها (8/21) هو نعمة ينبغي ان تطلب من الله (8/19-21). لذلك يجب أن يكون البّر أولاً هبة منه، قبل ان يصبح فضيلة بشرية.
لكن ما هي الحكمة؟ إنها الله بالذات واصلاً ذاته بالخليقة الروحية. إنها نفح من قدرة الله، وفيض من مجد القدير (7/25)، تُفاض في النفوس القديسة، فتجعل اصحابها اصدقاء الله (7/27) إذ تقودهم إلى خدمته وإلى الحياة الأبدية معه (6/9- 21؛ 10).
يشدد المؤلف على الخلود قرب الله، الذي تضمنه الحكمة للأبرار (2/23؛ 3/1 و15؛ 6/19). فكرة الخلود جديدة بتعبيرها الصريح إذ تظهر كلمة الخلود لأول مرة هنا في العهد القديم. لقد استعار الكاتب مصطلحات الفلسفة اليونانية للتعبير عن الاعتقاد بالخلود؛ مع هذا لم ترد فكرة قيامة الاجساد، علماً ان اسرائيل كان قد وعى هذه الحقيقة وآمن بها في ايام المكابيين (دا 12/2-3؛ 3 مك 7)؛ فهل كان واضع سفر الحكمة يرغب في ان يتحاشى من خلال صمته عن هذا الموضوع ان يصدم اليونانيين (راجع اع 17/32)؟
في الجزء الأخير من السفر (10-19) يجد اليهود المؤمنون تاريخ الآباء والخروج من مصر، بلباس جديد يرمي الى جذب العقول التي تغريها الفلسفة اليونانية، وإلى الحثّ على اقتفاء آثار الآباء في الايمان.
القسم الثاني: سفر الحكمة والعهد الجديد
يشكل سفر الحكمة جزءاً من الأسفار المقدسة القانونية، علماً أنه لم يكن كذلك قبل المجمع التريدنتيني في بعض الأوساط الكنسية التي كانت تصّنفه في درجة ثانية، أو تنكر عليه أي طابع مقدس، كما هو الحال بالنسبة لباقي الاسفار القانونية الثانية؛ أما الكنائس البروتستاتنية فإنها تصّنفه بين أسفار العهد القديم المنحولة.
سفر الحكمة في العهد الجديد:
قد يبدو صعباً البرهان على استعمال العهد الجديد لسفر الحكمة، مقابل وجود شيء من التقارب العميق في بعض النقاط بين هذا السفر والوحي الجديد، خاصة في رسائل بولس وانجيل يوحنا.
أ- سفر الحكمة ورسائل بولس:
يرى البحّاثة في مقاطع عدّة من كتابات بولس تأثير التيار الحكمي على طريقة إبرازه للمسيح، مثل 1 كور 1-2، وكو 1/15-20.
اً) 1 كور 1-2
يمدح بولس لغة الصليب التي هي مقابل حكمة اللغة. يقوده تحليله إلى الكلام عن المسيح "حكمتنا" (1/30)؛ لكن بأيّ معنى المسيح هو "حكمة"؟
تشكل 1 كور 1/17 رابطاً بين الآيات 14-16 من جهة، والآيات 18- 31 من جهة ثانية، حيث يمكننا اكتشاف جزءين:
- في الأول (18-25)، المقصود هو لغة الصليب؛
- على الثاني (26- 31) يرتكز وضع المؤمنين المشابه لوضع المسيح.
في 18-20 ذات الطابع السلي يُضرَب الحكماء بالجهل، لأن الله يقلب القِيَم السائدة. أما في 21-25 ذات الطابع الايجابي، فان جهل الله هو أحكم من الناس. الحكماء (حسب العالم) هنا هم اليهود، وهنا التناقض، لأن حكمتهم يجب أن تأتي من الله وليس من العالم. اليونانيون أيضاً، أي الوثنيون، هم جزء من هؤلاء الحكماء. نعم أن اليهود كانوا يميّزون اسرائيل عن باقي العالم الذي يمثّل الوثنيين. يبيّن بولس ان اليهود هم في ذات الوضع كباقي الأمم، أي أنهم ضُربوا بالجهل. جهّال العالم هم المؤمنون، يهوداً ويونانيين، الذين يقبلون لغة الصليب، وبين الاثنين ليس حاجز يفصل.
في 26-29 الطابع سلبي؛ يستعيد المؤمنون المدعوّون التناقض الذي هو تناقض المسيح المصلوب؛ فما هو ضعيف في عيون العالم يبرز قوّة الله، كما يبرز المسيح المصلوب قوة الله. أما طابع 30- 31 فهو ايجابي إذ يُفَسّر وضع المؤمنين من خلال علاقتهم بالمسيح (آية 30).
ما هي علاقة الحكمة بالمسيح؟
يجمع بولس في هذا المقطع (1 كو 1/17- 31) مواضيع مختلفة مثل الحكمة/ الجهل (راجع ام 1-9)، أو عجز الناس عن معرفة حكمة الله (1كو 1/19-21؛ 2/7-8؛ با 3/9-4/4). نجد الشيء ذاته بالنسبة لموضوع الشقاء والموت المشؤوم اللذين لا يمكنهما أن يكونا نصيب البار (راجع المزامير الحكمية: 1؛ 25/12-13؛ 34/2-22؛ 37؛ 49؛ 73؛ 119؛ دا 13؛ الخ).
يتبع كلمة "حكمة" مرات عدة مُضاف: حكمة الله (1/21 و24؛ 2/7)، حكمة الحكماء (1/19)، حكمة العالم 1/20)، حكمة الناس (2/5). هناك الحكمة البشرية (1/21 و22؛ 2/1 و4)، والحكمة المطبّقة على المسيح (1/30) ذات الطابع الخلاصي. صليب المسيح هو اختصار للحكمة الالهية التي تربط بين الله والناس، ولا سيما المؤمنون. تأتي المبادرة من الله في هذه العلاقة (1/30)، وهي بالتالي عطية منه لمن قَبِلَها.
في 1 كور 1/24 و30، يصف بولس المسيح بأنه حكمة الله أو حكمة. فعمل المسيح مشابه لعمل الحكمة: "إننا نكرز بالمسيح مصلوباً، شكاً لليهود، وجهالة للأمم، أما للمدعوّين، اليهود واليونانيين، فالمسيح قوة الله وحكمة ا لله" (23-24).
عبارة "حكمة الله" هي موازية لعبارة "قوة الله"، والاثنتان تتعارضان مع كلمتَي "شك" و"جهالة" في 1 كور 1/23. فالتشديد ليس إذاً على اعتبار المسيح حكمةَ الله الأزلية.
في الآية 30، التوحيد بين الحكمة والمسيح ليس مُطلقاً: "وبالله انتم في المسيح يسوع الذي صار لنا حكمةً من الله، وبرّا، وقداسة، وفداء" (30).
في غل 3/13، "صار المسيح لعنة لنا".
القول أن المسيح قد صار لنا حكمة، يعني الإقرار أن المؤمنين لا يمكنهم أن يتكلموا بعد الآن عن حكمة الله الخلاصية دون الكلام عن المسيح المصلوب الذي فيه تنحصر إرادة الخلاص هذه. ليس المسيح إذاً الحكمة.
لا يدعى الروح في 1 كور 1-2 "حكمة" لكنه على علاقة بها لأن الله أوحاها لنا به (2/10). "الروح" مساوٍ لِـ" قوّة" كما في 1/24، والاثنان متعارضان مع حكمة البشر في 2/4 و13. الروح يفحص حتى الأعماق الالهية (2/10؛ راجع حك 9/9 و11)، ويكشف حكمة الله (راجع سي 4/18؛ حك 6/13؛ 7/21؛ ام 8؛ سي 24).
إذا كان المسيح قد أصبح لنا حكمة الله، وإذا كان الروح هو الذي به تكشف الحكمة الالهية، فإن هذه الحكمة لا تنضب بهذه العلاقات. تبيّن 1 كور 1/25-28 أن وضع المسيحيين يعبّر عمّا جاء في تناقض المصلوب (ما هو جهل الله هو أحكم من الناس)، وعن الحكمة الالهية المرتبطة بصورة المصلوب.
2ً) كو 1/15-20:
يستعمل نشيد الشكران في كولسي كلمات تعود إلى التقليد الحكمي، من أجل وصف دور المسيح في الكون.
هناك علاقة بين المسيح وكل الكائنات في نص كو 1/15-20، تهدف إلى إبراز ارتباط هذه الأخيرة الشامل بالمسيح، وحتى الكائنات السماوية أيضاً. المسيح هو الوسيط الوحيد للخليقة وسابق لكل الكائنات المبروءة. نجد أفكاراً مشابهة تتعلّق بالحكمة المشخّصة في العهد القديم. الحكمة هي سابقة لكل ما هو مخلوق (راجع أم 8/22- 31). هي وسيطة الخليقة (أم 8/30 في السبعينية؛ أم 3/19-20؛ حك 9/1-2). تبرز بعض النصوص كرامة الحكمة وعظمتها (أم 1-9؛ سي 24؛ اي 28؛ حك بكامله). لقد كانت وحدة الوسيط أحد المواضيع الرئيسية في تفكير الحكماء.
ويطرَح السؤال الآن إذا كان نص كو 1/15-20 قد وحّد بين المسيح والحكمة المشخّصة. للإجابة على هذا السؤال، لا بُدّ من إلقاء نظرة على المفردات المستعمَلَة أيضاً:
- "صورة الله غير المنظور" (كو 1/15 أ): نجد كلمة "صورة"، حسب المعنى الذي لها في تك 1/27، في سي 17/3 وحك 2/23. أن كو 1/15 لا تُبرز فكرة الانسان المخلوق على صورة الله، لأن الابن ليس صورة بفضل الميزات التي، كعدم الفساد، تجعله شبيهاً بالله، بل بفضل اشتراكه الفاعل بعمل الخلق، وكونه وسيط الخليقة (آية 16). لذلك تندرج كو 1/15 في خطّ المؤلفات الحكمية حيث "صورة" مرتبطة بالوظيفة الكونية للحكمة (راجع مثلاً حك 7/21-26). المسيح هو صورة كما الحكمة في الاسفار الحكمية، بعمله الخالق وسموّه.
- "مبدأ" (كو 1/18 ب): تُدعى الحكمة "مبدأ" في أم 8/22.
- "بكر خليقة" (كو 1/15): البكر هو الوارث الرئيسي لأبيه، ويتمتع بنوع من السلطة على إخوته (تث 21/15-17؛ 2 اخ 21/3). كذلك يدعى اسرائيل "البكر" (خر 4/22؛ ار 31/9؛ سي 36/11)، ولكن هنا بمعنى تفضيل اسرائيل على باقي الشعوب. واستعمل اللقب ذاته لاحقاً للملك. ممثّل اسرائيل (مز 89/28)، مع طابع مسيحاني، بعد المنفى. هناك إذاً تطوّر في معنى كملة "بكر" نحو "المفَضّل"، ثم "المحبوب". فإذا كان المسيح "بكراً" فذلك لأجل وساطته (كو 1/16-17). ولكن بمعنى أدقّ، قد يقصد بولس أن المسيح هو "سيّد كل الخليقة"، على قدر وساطته في الأساس، دون إغفال فكرتي "الأسبقية" الزمنية والوساطة الخالقة (راجع الآيتَين 16-17). لكن هل من علاقة بين كلمة "بكر" وبين الحكمة؟ الأكيد أن الحكمة لا تُدعى قط "البكر" في التقليد الكتابي واليهودي.
العمق الحكمي في كو 1/15-20 هو إذاً أكيد، وذلك انطلاقاً من تلاقي الأفكار المعبَّر عنها (أسبقية الوسيط، ووساطته الخالقة، ووحدانيته)، ومن الدلائل المستنتجة من المفردات ("صورة"، و"مبدأ"). والتركيز على كرامة وعظمة الوسيط هو أيضاً حكمي تماماً. من هنا نستنتج أن المسيح يوصف بميزات حكمية، لكن هل هناك توحيد بين الحكمة والمسيح؟ بالطبع المسيح هو أسمى من الحكمة لأن كل شيء خُلِق "لأجله". لذلك لا يمكن اعتبار الحكمة مساوية له، كما أن بولس لم يكن يرمي من خلال كتاباته إلى اعتبار المسيح والحكمة بذات المستوى.
3ً) إنا جموعة الأسلحة في حك 5/17-19 هي لذ الذي يقاضي، أما في أف 6/13-17 فهي للمسيحي؛ هناك بعض الفروقات في التفاصيل، علماً أن الاستيحاء من اش 59/17 (و11/5) هو بَيّن في الحالتَين.
4ً) قضية عبادة الأصنام الوثنية: يعالج سفر الحكمة (13/1-9) بطريقة فريدة اللوم الذي يوجَّه إلى "العلماء" لأنهم لم يعلموا كيف يتعرّفون إلى الاله الأحد والخالق انطلاقاً من أعماله، من المرجّح ان بولس قد استوحى في روم 1/19-22 مما تقدّم؛ فالآية 20 هي نوع من الاختصار لِـ حك 13/1، 4، 5؛ ويبدو أن بولس قد أوجز حك 13/1-9 وأعطاه بعداً مختلفاً، إذ يتكلم عن الديانة الطبيعية والبدائية، دون أن يفكّر في عبادة الكواكب والعناصر، منتقلاً مباشرةً إلى عابدي الأصنام المصنوعة، وهؤلاء بنظره "لا عذر لهم" (الآية 20). يأتي تعداد الآفات التي هي عقاب على عبادة الأصنام (روم 1/24 و26؛ حك 14/ 12 ب و22 ت)، في الحالتين، بعد انتقاد هذه العبادة، لكن نقاط التقارب غير ظاهرة؛ فمؤلّف سفر الحكمة يشدّد على الأخطاء الناتجة عن عبادة الأصنام، في حين أن بولس يركّز على الأخطاء ضد الطبيعة، التي تُحْدِر الانسان إلى ما دون الحيوان، مستعملاً بعد ذلك لائحة معروفة من الآفات. باستعادته مقارنة فخار الخزّاف (روم 9/21)، يلتقي بولس مباشرة مع مضمون نصوص مثل اش 29/16؛ 45/9؛ ار 18/6، حيث توحي الصورة بسلطان الله المطلق؛ أما مؤلّف الحكمة، فإنه يبرز سلطان الخزاف ليبيّن بطلان الأصنام (حك 15/7 ت). النقطة الوحيدة المشتركة هي الاستعمالات المختلِفة للأدوات التي يصنعها الخزّاف (روم 9/21؛ حك 15/7).
المهمّ هو أن بولس قد تعرّف جيداً إلى سفر الحكمة، وحفظ منه الأفكار الرئيسية. يكفي تذكر تشخيص الموت وكأنه قوّة كونية سابقة للطبيعة، والعمق الهليّني في بعض النصوص للطباق "حياة/موت"، ودخول الموت إلى العالم بسبب الخطيئة (راجع روم 5/12 وحك 2/24)، وتسمية خطيئة آدم وكأنها "زلّة" (راجع روم 5/15 و17؛ حك 10/1)، ودعوة المؤمنين "لمشاركة القديسين نصيبهم في النور"، (كو 1/12؛ حك 5/5 ب)، بالإضافة إلى عدد من الكلمات والتعابير المشابهة. من ناحية ثانية، إذا كانت بعض النقاط الكريستولوجية عند بولس ترتكز على الحكمة البيبلية، فإننا نفكّر بنوع خاص بالنقاط المتّشحة بهذه الأخيرة بصيغتها الهلينية. ترتبط كريستولوجية بولس بقوة بالأسفار الحكمية، الأمر الذي يثبّت فكرة استعماله لسفر الحكمة. هكذا نجد ترابطاً بين 1 كور 10/1-2 وحك 19/7 و10/17-18، بين 1 كور 10/4 وحك 10/1 ت؛ يبدو أكيداً أن المسيح، الصخرة الروحية التي رافقت العبرانيين في الصحراء، ليس سوى الحكمة التي تدخّلت في تاريخ الخلاص. كذلك مجد الرب، الذي كان موسى قد تأمله وعَكَسَه، "يتأمّله المسيحيون أيضاً كما في مرآة" (2 كور 3/18) ويصبحون أكثر فأكثر شبيهين بهذا المجد من خلال تحوّل تصاعدي تحت عمل الروح القدس؛ هكذا يصبح المسيح بالنسبة إليهم "مرآة". ان الصورة ذاتها مستعملة للكلام عن الحكمة الالهية في حك 7/26 بالإضافة إلى ذلك، نجد في 2 كور 4/4 و6 تعابير أخرى من حك 7/25- 26 ("متلألئ، صورة ومجد"). أخيراً، في 1 كور 6/2 ("أما تعلمون أن القديسين سيدينون العالم؟")، يستوحي بولس حك 3/8 أ.
ب- سفر الحكمة وإنجيل يوحنا
هناك الكثير من النقاط المتشابهة بين انجيل يوحنا وسفر الحكمة، في المدخل، كما في باقي الانجيل.
كل محاولات التقريب هذه بين السفرَين تبقى من باب الاجتهاد، خاصة مقارنة المسيح بالحكمة في مدخل الأنجيل. لكن توجد مواضيع مشتركة بين السفرَين أعمق من التي ذكرت اعلاه، تتلخّص بثلاثة:
- موضوع "الآيات" أو العجائب
- موضوع "الحياة"
- موضوع "الايمان".
يُرَدّ سبب هذا التقارب حول المواضيع الثلاثة هذه، إلى كون الكاتبينْ قد نهلا من تفسير مشترك لعجائب الخروج من مصر، ذات الطابع الحكمي. فلقد اختار يوحنا بعضاً من عجائب يسوع، ونسّقها وفق ترتيب مقصود، هو أقرب إلى تسلسل عجائب سفر الحكمة منه إلى سفر الخروج. فلكي يضع مقابل الإنعامات التي يهبها الله لشعبه، القصاص الذي ينزله بالأعداء، يتبع سفر الحكمة بشكل عام تتابع الضربات في سفر الخروج وليس العجائب. بالإضافة إلى ذلك، لا تتبع عجائب يسوع في يوحنا وعجائب سفر الحكمة ذات الترتيب التصاعد (1ً) إرواء العطش: حك 11/4-14 ويو 2/1- 11؛ (2ً) سدّ الجوع: حك 16/20-26 و16/2 ويو 6/1-13؛ (3ً) الانقاذ من الموت بعلامة خلاص؛ حك 16/5-13 ويو 3/14 و4/43-54 و5/1-9 أ؛ (4ً) عطاء المنّ وتكثير الخبز: حك 16/20-26 ويو 6/1-13؛ (5ً) النور وشفاء المولود أعمى: حك 18/1 ويو 9/1-41؛ (6ً) الكلمة التي تنقذ من الموت؛ حك 18/22 ويو 11/1-44)، بل ئلاحظ أيضاً وبانتظام الانتقال من المستوى التاريخي أو الحسّي إلى مستوى القِيم الروحية والدائمة، ونسبة العجائب دائماً إلى الحكمة الالهية أو إلى الكلمة في سفر الحكمة، وإلى المسيح الكلمة في الانجيل؛ المسيح في يوحنا هو خبز الحياة، والنور، والحياة والقيامة. بالنتيجة، من أجل تفسير نقاط التوافق ونقاط الاختلاف بين يوحنا وحكمة في معالجتهما لموضوع "الآيات"، نحن مدعوون لأن نفترض أن حك 11-19 يستثمر أحداث الخروج، استناداً إلى المرجع الذي استعمله يوحنا كأنموذج، كذلك هو الأمر بالنسبة لموضوع الحياة والموت، حيث المفردات تبقى مختلفة بين الاثنين، علماً أن هناك سلسلة من التشابهات العميقة بينهما.
في الواقع، قد نجد أفكار يوحنا في حك 1/15 أ؛ 15/3؛ 1/11-16؛ 2/23-24؛ 6/18؛ 16/22 و36، شرط القبول أن واضع سفر الحكمة لا يأخذ بعين الاعتبار الموت الجسدي، ويرمي إلى الكلام فقط عن الموت والحياة الروحيين. بالنتيجة، تتكوّن لدينا النقاط المشتركة التالية: الحياة والموت الأسكتولوجيّان هما الآن؛ الحياة الحقّة هي الحياة مع الله، الموت الحقيقي هو رذل الحياة الأبدية؟ تضمَن هذه الأخيرة بواسطة الإيمان بكلام الحكمة أو بكلام يسوع، لقد دخل الوت إلى العالم بواسطة إبليس، مع هذا يبقى الانسان حرّاً في أن يختار بين الحياة والموت، يقف أبناء الله في وجه أولئك الذين ينتمون إلى إبليس، وبالتالي إلى "الموت".
في ما يتعلق بموضوع الإيمان، ينبغي المقارنة بين مفردات المؤلَّفين: يستعمل يوحنا كثيراً فعل "آمن" بالإضافة إلى الأفعال التي تعني "عرف"، وبالمضمون ذاته نجد كلمة "آمن" عدة مرات في سفر الحكمة، لكن موضوع معرفة الله الحقيقية يعود باستمرار أيضاً. المعضلة الأساسية لمؤلّف سفر الحكمة هي مسألة الايمان الحقّ، اي قبولاً لِوحي الله، ومعنىً لسرّ الطرق الالهية التي وراء المظاهر، واستسلام واثق لئه، وخضوعاً حيويّاً لكل متطلّباته. لا يحتاج الايمان إلى "الآيات" أو عليه أن يتخطّى هذه الأخيرة ليسم ذاته للرب (12/2 ج)؛ يُرغَم الأشرار على "معرفة الرب" (12/27)، لكنه إيمان مؤسَّس فقط على الآيات (18/13)، وبالتالي ضعيف الى حدّ أنه يعجز عن تغيير تصرّفهم، وحتى عن تبديل حالهم النفسية. بالاضافة إلى ذلك، "يصعب تفسير" (17/1) طرق الله في التاريخ؛ لهذا يستمّر الأشرار في اتّباع طريقهم الشريرة (12/2؛ 19/3)، ويستقرّ غضب الله عليهم (19/1). أما الصديق، فلأنه يمتلك "معرفة الله" (2/13) فإنه لا يدع ذاته العوبةً بيد الشك الذي تسبّبه الأحداث أو الأضطهادات؛ إيمانه ليس بحاجة إلى أن تثبّته العجائب، ويموت دون أن يأتي الله لتخليصه (2/12-20). لكنه يؤمن بوعود الله، و"رجاؤه مملوء خلوداً" (2/22؛ ¾؛ 15/3). يتكلّم الانجيل الرابع عن فكرة الايمان المشابهة، يطلب يسوع الإيمان بأقواله (4/48 ت)؛ إذا كانت العجائب، في بعض الحالات، تستطيع أن تساعد على الإيمان (يو 2/11 و23؛ 3/2؛ 4/53 ت؛ 20/30 ت)، فليست هي الحاسمة، كون اعتناق الايمان هو أمر حرّ وسرّي (يو 12/39؛ راجع حك 19/4). ويتكلم يوحنا، هو أيضاً، عن إيمان ناشئ، مبنيّ على الآيات، ولكنه لا يصل إلى نتيجة لدى الكثيرين (12/37). ومثل حكمة، يربط يوحنا الايمان "برؤية" أسمى، أو يراه ينبع من نور فائق الطبيعة؟ بالمقابل، لا يبصر المؤمنون أو هم عميان بسبب شرّهم (راجع 12/45 و46؛ 14/9؛ 8/39 الخ). أخيراً يوصل الايمان الحقيقي إلى الخلود (حك 15/3؛ 6/18)، ويملّك منذ الآن الحياة الأبدية (يو 6/47؛ 3/14 ت، 16، 18، 36؛ ألخ). وعلى تلاميذ يسوع، كما "البار" في حكمة، أن يؤسّسوا حياتهم على الإيمان بالكلمة، دون الحاجة إلى ضمانات إضافية (يو 20/29).
من الملفت للنظر أن المسيح في يوحنا يذكر مواضيع من العهد القديم، وقد سبقه إلى ذلك سفر الحكمة، مثل الحيّة النحاسية (حك 16/6-7 و10 و12)، المنّ (16/20- 21 و25-26).
ج- سفر الحكمة وأسفار العهد الجديد الأخرى
في كتابات يوحنا الأخرى، يلاحَظ وجود بعض الشَبَه بين 1 يو 2/11 ("لأن الظلمة قد أعمت عينيه") وحك 2/21 ب ("لأنّ شرّهم أعماهم"). في سفر الرؤيا نجد تقارباً بين حك 6/5 ورؤ 2/16 من حيث وصف الدينونة الالهية، من خلال ثلاث كلمات: "سريعاً"، "قاتل"، "سيف"، ثم بين حك 3/14 ورؤ 3/12 ("في هيكل الرب")، وبين حك 16/9 ورؤ 16/6 ("إنهم مستحقّون")، وبين حك 3/5 ورؤ 3/4 في ما يتعلّق بالمكافأة.
قد تستمد الرسالة إلى العبرانيين بعض الشيء من سفر الحكمة، لكن نقاط الالتقاء بين الاثنين. قليلة: "موضعاً للتوبة" (عب 12/17) أو "مهلة للتوبة" (حك 12/10)؛ "الارتداد عن الله" (عب 3/12؛ حك 3/10)؛ الخ.
في رسالة يعقوب، نجد تقارباً مع سفر الحكمة، لكن المعاني مختلفة؟ هناك في المقابل تقارب أكبر مع سفر ابن سيراخ.
في رسالة بطرس الأولى نجد المثل الأقوى على العلاقة بين سفر الحكمة ومقطع من العهد الجديد، أي بين 1 بط 1/6-7 وحك 3/5-6 حول الامتحان المطهِّر.
هناك نصّان من انجيل متّى ملفتان للانتباه:
- يعود سبب استهزاء أعداء المسيح به وهو على الصليب (مت 27/39-43)، إلى ادّعائه أنه "ابن الله" (27/43)، نجد هذه النقطة في حك 2/13-18 وفي إطار مماثل: "يسمّي نفسه ابن الرب..." (2/13) ويتباهى بأن الله أبوه..." (2/16) "فإن كان البار ابن الله فهو ينصره..." (2/18)
- اعتراف قائد المئة الذي يقول: "كان هذا ابن الله" (مت 27/54 راجع مر 15/39) هو الاعتراف ذاته الذي تبنّته الكنيسة الأولى، وهذا أيضاً قريب من حك 2/18؛ فكون المضطهد في حك 2/12 ت هو في آن معاً "ابن الله" و"البار" فإنّ ما يدوّنه متى ولوقا هو شبيه جداً بهذين اللقبين المستعملين معاً. عندما يدعى يسوع "البار" فقد يكون هذا استيحاءً مما جاء في حك 2/12 ت وفي نشيد عبد يهوه في اش 53/11.
لقد كان لوقا على معرفة بسفر الحكمة، وهذا ما يفسّر صدى هذا الأخير في كتاباته. في سفر أعمال الرسل، تربية إلهية واحدة تعمل في التاريخ، فتنقذ المؤمنين بطريقة عجائبية، او تنشّئهم، في حين ان المضطهِدين والاشرار ينالون عقاباً يناسب جريمتهم؟ فالحملة التي يشنّها بولس في بعض خطبه على عبادة الاصنام، تستوحي الكثير من حك 13- 15 (راجع رسل 14/15-17؛ 17/24-25 و29)، هناك أيضاً مقطع من خطاب بولس في أثينا (رسل 17/26-28) يشكل صدىً لرسالة سفر الحكمة، إذ يؤكد أن ذات المبدأ الالهي، المتسامي والداني في آن معاً، قد عمل في الكون وفي كل التاريخ البشري. بالإضافة إلى هذه المشابهات العامّة، توجد مشابهات خاصة تتعلق بالأفكار وبالاسلوب. من بين الأكثر تعبيراً، هناك ذكر الوثنيين "الذين يبحثون عن الإله وكأنهم يتلمّسونه، ليبلغوا إليه إذا أمكن ويجدوه" (رسل 17/17؛ راجع حك 13/6 ج)، والتوبة المقتَرَحة على الجميع (رسل 17/30، راجع حك 11/23)، والنفس التي "تُطلب" من الذي لم يهتم سوى بالخيرات الدنيوية (لو 12/20؛ راجع حك 15/8 د)، والندم العقيم الذي يبديه الرجل الغني المعذب في النار، في حين أن لعازر الفقير يتنعّم في حضن ابراهيم (لو 16/19-31؛ راجع حك 4/20 ت).د
خاتمة
لا يبدو استعمال العهد الجديد لسفر الحكمة أمراً مثبتاً، كما أن استشهاد الأول بالثاني ليس حَرفياً، بل هناك تلميحات عامة. نجد التقاءً من حيث الدلائل الأدبية، في كتابات بولس، والتقارب الفكري الأعمق في انجيل يوحنا. سفر الحكمة ليس بعيداً عن مفردات العهد الجديد، وأفكاره، ومؤلفاته، وعقيدته.
الاب ايوب شهوان