نشيد الاناشيد
 

 

نشيد الاناشيد

تمهيد
ان "نشيد الاناشيد" من الاسفار الشعرية في العهد القديم. امّا صيغته المكوّنة من مضاف ومضاف اليه فهي اسلوب لشرقي ساميّ للدلالة على العظمة والرفعة والامتياز. يعني "النشيد الاعظم" كقولك "ملك الملوك" و"قاضي القضاة" و"ربّ الارباب" وغيرها. ويبدو لأول وهلة انّ "نشيد الاناشيد" لا يمتّ بأيّة صلة إلى الدين أو الله، وهذا العنصر جعل بعضهم يشكّون في قيمته الروحانية من جهة وضرورة ادراجه في قائمة الكتب المقدسة، من جهة اخرى. فقام رابي عقيبا (50- 135 م) على هذه النظريات واستشهد بالتقليد الذي قدسيّة هذا السفر الصغير. أمّا الكنيسة، فقد قبلت هذا الكتاب وشرحته شرحاً انسانياً وروحانياً، وقد عني بهذا الكتاب بشكل خصوصي كلّ من اوريجانيس والقديسين غريغوريوس النيصي وامبروسيوس وغريغوريوس الكبيير. وفي العصور الوسطى اولاه القديس برنردس مكانة كبيرة، بعد ان رأى في محبّة الحبيبين اشارة الى المحبّة الالهيّة التي تأخذ بمجامع القلوب، ولم يتردد القديس المذكور في أن يفسّر "الوصف" لخصال الحبيبة كظلّ لمكارم السيدة العذراء وفضائلها وجمالها.
بعد هذه المقدمة الموجزة، نبحث الآن في "القراءة المسيحيّة" لسفر "نشيد الاناشيد".
القراءة "المسيحيّة" للعهد القديم، بشكل عام
لا بدّ للقراءة "المسيحيّة" ان تتأسسّ على الواقع لا الاساطير والتحليلات الاصطناعيّة المختلقة المناقضة للمنطق أو للمعنى الذي قصده الكتّاب الملهمون. لذا، يجب ان تستند القراءة "المسيحيّة" إلى قراءة علميّة تاريخيّة لغويّة نزيهة، لا تشوّه فيها الحقائق ولا "تُلبس" الايات والمقاطع معانيَ ما كانت لتخطر للكتّاب المقدّسين على بال. والاّ اصبحت قراءة "محوّرة" "محوّلة" "مسخّرة" للمسيح والانجيل والكنيسة، والنصوص الملهمة مكرهة على ذلك. وسنتبع هذا المبدأ بشأن سفر "نشيد الاناشيد"، جاعلين من المعطيات التاريخيّة والعلمية والادبيّة ركناً للقراءة المسيحيّة وعاداً لها وأساساً ثابتاً. نتحلّى، مثل رسالة الانجيل نفسها، بقوّة الواقع ورصانة اليقين العلميّ، كما كان الانجيلي لوقا قد اوضح للمكرّم "تاوفيلوس" في أوّل انجيله وفي اعمال الرسل، "كي يتيقّن (المؤمن) صحّة ما تلقّى من تعليم" (لوقا 1: 1- 4؛ اعمال 1: 3، 2 بطرس 1: 16).
امّا "تطبيق" نصوص كثيرة من العهد القديم على السيد المسيح والكنيسة فقد ورد على لسان السيد نفسه اذ استشهد بعدد كبير من الايات التي كتبت في العهد القديم، مبيّناً انها تتكلم عنه، وهذا ما اثبته بنوع خصوصي لتلميذي عاوس اذ "بدأ (يسوع) من موسى وجميع الانبياء يفسّر لهما ما ورد في شأنه في جميع الكتب" (لوقا 24: 27)، وكان قلبهما متّقدا في صدريهما وهو يشرح لهما الكتب (لوقا 24: 32). واننا، نحن المسيحيّين، نقرأ "الكتب" لتكون لنا عبرة وتعليماً، كما قال بولس الرسول: "انّ كلّ ما كتب قبلاً انّما. كتب لتعليمنا حتّى نحصل على الرجاء، إذا ما حصلنا على ما أتت به الكتب من الصبر والعزاء" (رومية 15: 4).
القراءة المسيحيّة لنشيد الاناشيد
بناء على المباديء التي تقدّم ذكرها، تستند هذه القراءة إلى المعنى الحرفي الاول للكتاب وخلفيّته التاريخيّة وتطبيقه المشيحاني على سليمان وداود والمسيح المنتظر، ثمّ تطبيقه على المسيح يسوع والعذراء مريم والكنيسة.
1- المعنى الحرفيّ الاوّل لسفر "نشيد الاناشيد"
لايخفي على القاريء انّ "نشيد الاناشيد" انشودة حبّ بشريّ يجمع بين رجل وامرأة، يتوفّر فيه "الوصف" وهو عنصر ذو شأن في "الغزل" أو "النسيب". انّ كلاّ من الحبيبين يتغنّى بمحبوبه، وذلك عن طريق عبارات وكلمات قد تصدم الأعين السطحيّة. ولكن اذا امعنّا النظر، وجدنا انّ تفاصيل الوصف لا تحول بحدّ ذاتها حثّا على الشّرّ ولا على الخطيئة وليست سوى اشادة بمحاسن ومفاتن هي ثمرة الخلق الجميل. وكم يحلو للمرء ان يستشهد هنا بالفلاسفة الذين قالوا انّ المفاهيم السامية المتعالية هي الكيان والوحدة والحقّ والجودة والجمال. ومن الناحية الاخلاقيّة، يبقى جسد الانسان من مخلوقاته تعالى التي أكبرَها كاتبُ سفر التكوين إذ اعلن أن الله تعالى بعد أن ابدع الانسان "وجد ما صنع: فاذا هو حسن جدّا" (تكوين 1: 31). وأتى السيد المسيح ليسمو بالطبيعة فأعلن انّ الشّرّ ليس في خليقة الله بل في نوايا البشر: "سراج الجسد هو العين. فان كانت عينك سليمة، كان جسدك كلّه نيّرا..." (متّى 6: 22). وعلّم رسول الامم: "كلّ شيء طاهر للاطهار، وأمّا الانجاس والكفّار فما لهم من شيء طاهر، حتّى ان اذهانهم وضمائرهم نجسة" (طيطس 1: 15؛ راجع ايضا لوقا 11: 41).
نقدر ان ننطلق من "قصّة حبّ" بين شاب وفتاة إلى "الحبّ الاوّل" الذي ملأ قلب والدينا الاولين. وان اوّل "نشيد" في الكتاب المقدس هو ايضا "نشيد حبّ" لخّصه الرّجل الاوّل بقوله عندما رأى شريكته الشبيهة به، أم الاحياء: "ها هذه المرّة عظم من عظامي ولحم من لحمي" (تكوين 2: 23) وفي الاية الخامسة والعشرين من الفصل نفسه يلحظ الكاتب الملهم انهما "كانا كلاهما عريانين... وههـا لا يخجلان" الى ان اقتحمت الخطيئة حياتهما وفرّقت بينهما، فمالت البشريّة بسبب الانانية والاستكبار والتمرد الى الخجل من الجسد وتدنيسه واستغلاله فاصبح وسيلة للاستعباد والمتعة (تكوين 3: 8- 11، 16).
يذكّرنا "نشيد الاناشيد" منذ آياته الاولى بسفر التكوين اي بجمال الخلق وبقصّة البشريّة، بدأها الحب الاعظم وهو حبّ الله للانسان ثمّ الحب الخالد الذي يربط الرجل بالمرأة. ونجد في نشيد الاناشيد الجنّة اي البستان أو الفردوس، وكأنه يعود بنا الى الجنّة الاولى، جنّة عدن اي فردوس النعيم: "ليأتِ حبيي (وهو "آدم" جديد) الى جنّته وليأكل ثمره النفيس.- قد اتيت الى جنّتي يا اختي الروس (5: 1؛ 6: 1؛ راجع ايضا 4: 15). انّ قصّة "النشيد" اعادة لرواية الحبّ والجاذبية والوئام التي تقرّب "المرء" من "المرأة" التي له "ضلع" في كيانها كما ان لها "ضلعا" في كيانه (تكوين 2: 21). ويورد كاتب النشيد عناصر الطبيعة، من نبات وحيوان، بعد ان ذكر الاودية والتلال والانهار والبحار، ليرسم لوحة خلاّبة، تكون بمثابة اطار لقصّة الحب: وهكذا يستعرض في كتابه الصغير واحدا وعشرين نوعا من النبات وخمسة عشر نوعا من الحيوان.
انّها القصة الالهيّة الانسانية الخالدة، قصّة الحب او المحبّة التي هي "قويّة كالموت" والغيرة التي هي "قاسية كالجحيم، لهيبها لهيب نار ولظى الرب" (8: 6). ولا تخلو هذه "الحرارة" من "حمّى" لا يتوانى صاحب "نشيد الاناشيد" عن أن يصفها بأنّها في القلب علّة ولوعة، وذلك على لسان العروس: "لقد اسقمني الحبّ" (2: 5). ومن المؤثّر ان نستشهد ببعض الابيات والمؤلّفات التي وصفت لوعة الحبّ وحنين المحبّ ونار الفراق، مكتفين بكلمات الشاعر العربيّ الذي يقول: "يعرّض قلب المحبّ فيصاب" واعلان شاعر آخر لسرّ كان يكتمه وهو انه "مشتاق وعنده لوعة".
أراد الله منذ القدم ان يتوّج بعقد او رباط مقدّس محبّة الرجل والمرأة. وهنا في النشيد نجد ان الحبيبة "عروس" ستدخل بيت الزواج بعهد يشهد الله عليه والناس. وانّ هذا العنصر يعيدنا ايضا إلى سفر التكوين حيث نجد اسس الزواج الذي قدّسه الله: "يترك الرجل اباه وأمّه ويلزم امرأته، فيصيران جسدا واحدا" (تكوين 2: 24). من البديهي اذن ان نعدّ "نشيد الاناشيد" اشادة بالحب الزوجيّ. وقد ذهب بعض الكتّاب ومنهم ثيوذوروس المبسويستي (+ 438) الى انّ "النشيد" جموعة من أغاني الزفاف، في الاصل. وهذا الرأي صحيح الا انه غير كامل لانّ هناك عناصر اخرى يحويها "النشيد" ويشير اليها وسنتطرق اليها في الاقسام الاتية.
الحبّ البشريّ غير غريب عن المحبة الالهية، وانه حقيقة سامية ترتبط بها الحياة والنسل. وان الله يقدّس الحبّ الانساني الذي هو انعكاس له.
2- الخلفيّة التاريخيّة لنشيد الاناشيد
أ- العنوان
"نشيد الاناشيد لسليمان": في هذا العنوان نلحظ حرف "اللام" في "لسليمان". واجمع المفسّرون انّ اللام هنا لا تشير الى الؤلّف بل الى الموضوع (قابل مع مزمور 72: لسليمان). ان اسم ذلك الملك الحكيم، ابن داود، يرد سبع مرّات في "النشيد"، كما انّ الكاتب يذكر سبع مرّات كلاّ من "بنات اورشليم" ولبنان والخمر والمرّ والظباء. ويجد القاريء نفسه في جوّ ملكيّ، وسط حاشية العاهل واجواق المنشدات. امّا التقليد القديم فقد نسب "نشيد الاناشيد" الى سليمان. غير انّ علوم النقد واللغة والبيئة التاريخية بيّنت انّ "النشيد" يرتقي الى القرن الرابع قبل الميلاد، وهي فترة " البيت الثاني" اي الهيكل الثاني.
لجأ الكاتب الملهم الى شخصيّة سليمان والى الاطار الملكيّ لغاية محدّدة في نفسه، وسنحاول أن نقف عليها. ومن الثابت أنّ "النشيد" يروي قصّة حبّ زوجيّ انطلقت من واقع تاريخيّ ووُضعت في اطار سليمانيّ ملكيّ لانّ تلك القصّة صورة تمثّل بألفاظ المحبّة العاطفيّة شوق المدينة المقدسة أورشليم الى المسيح الملك المنتظر، سليمان الجديد وداود الجديد.
ب- الحدث التاريخي من وراء النشيد: زواج سلمان الملك بأميرة فرعونيّة
نقرأ في سفر الملوك الاول 3: 1 ان سليمان تزوّج اميرة مصريّة، ولعلّها كانت ابنة سيامون او ابنة ابسوسنيس الثاني، وهما ملكان من السلالة الحادية والعشرين. وقدّم الفرعون، حمو سليمان، مدينة جازر مهراً لابنته (الملوك الاول 9: 16). ويورد الكتاب المقدس ايضاً انّ ابنة فرعون زوجة سليمان كانت تسكن قصراً خاصّا بها (الملوك الاول 7: 8) كان سليمان قد بناه لها، "وحينئذ بنى ملّو" (الملوك الاول 9: 24).
ارتأى الكاتب ثيوذوروس المبسويستيّ انّ سفر "نشيد الاناشيد" هو اشادة بذلك الزّفاف الملكيّ، واستدلّ من الايتين الرابعة والخامسة من الفصل الاول ("انا سوداء لكنّني جميلة يا بنات اورشليم"، "لا تلتفتن الى كوني سوداء...") على انّ النّصّ يتكلّم عن زوجة سليمان الفرعونيّة التي تميل بشرتها الى السواد وقد لفحتها شمس بلادها الحارقة. وعدّ ثيوذوروس المبسويستيّ نشيد الاناشيد ردّاً من سليمان الملك على تهكّم العبرانيّات بزوجته المصريّة ووصفاً منه لمفاتنها.
يمكننا ان نقول بأنّ "نشيد الاناشيد" مليء بالتلميحات والتأثيرات الفرعونيّة ولعلّ اعظمها شأنا العناصر الاتية:
- تلميحات فرعونيّة: فرس في عجلات فرعون (1: 8)، السّموط والخرز معروفة في العالم المصريّ القديم وفي الشعر الغنائي (1: 9- 10 و4: 4) وزينة الشّفاه مأخوذة ايضاً من المصريين (4: 3).
- عناصر من اناشيد الحبّ الفرعونيّة: الانتظار عند الابواب المغلقة والجنّات والعطور. ومن ميّزات هذا "الوصف" الفرعوني للحبيبة الاشارة اليها بلفظة "اخت"، كما نرى في النشيد: "يا اختي العروس" (5: 1 ب). وهناك "أوصاف" فرعونيّة لجسد المحبوب وهي مستوحاة من التماثيل والنصب المصريّة القديمة (راجع 5: 14- 15)، وفي وصف الحبيبة عناصر مأخوذة من الشر الغنائيّ الفرعونيّ (7: 2) ولعلّ في هذا الاصل القديم تعليلا لوجود هذه العبارات التي قد تصدم بعض القرّاء.
- مزايا الادب الفرعونيّ والبيئة المصريّة: يذكر الكاتب ريحي الشّمال والجنوب (4: 16) وهما الغالبتان في الهبوب على وادي النّيل، بخلاف ما يحدث في فلسطين.
- الفاظ عبريّة مصدرها فرعونيّ: "شوشاناة" (سوسنة) (2: 1، 2؛ 6: 1- 2)، يبدو ان الكلمة آتية من اللفظة الفرعونيّة "سششن" أو "سشن" وهو النبات المعروف باسم "عرائس النّيل" أو البشنين او الجلجلان ويدعوه الاعاجم "لوطس". وكانت الكلمةُ تستخدم كاسم علم للاناث عند المصريّين وليس من المستبعد ان زوجة سليمان الفرعونيّة كانت تدعى هكذا...
ولفظة "كيتم" العبرية (التي تعني "الابريز") مصريّة الاصل (5: 11).
وكذلك كلمة "ختم" (بالربية: خاتم) مأخوذة من اللغة الفرعونيّة (8: 6)، وانّ اللفظة العبريّة الاخرى التي تعني خاتم هي "طبعات" (من الثلاثي: طبع) الذي يبدو انّه مستمدّ من الفرعونيّة حيث نجد لفظة "دبعات".
-شبه كبير مع أوصاف مصريّة: "أنفك كبرج لبنان... رأسك عليك مثل الكرمل" (7: 4- 5): يدعى الكرمل "رأسا مقدّسا" (والرأس هو المكان المرتفع أيضاً): كشفت الحفريات هذه العبارة في حوليّات الفرعون توتمسيس الثالث. وفي احدى النقوشات المصريّة نقرأ ان سلسلة الكرمل تشبّه بأنف الغزال.
ج- الحدث الثاني الذي يشير اليه "النشيد" من حياة سليمان: حلم جبعون
في سفر الملوك الاول، في الفصل الثالث (آية 1)، لا يكاد الكاتب الملهم يسرد ان "سليمان صاهر فرعون مصر... وأتى بابنته إلى مدينة داود..." حتّى يروي ان الرب "تجلّى في جبعون لسليمان في الحلم، ليلا" (آية 5 ى). وكان سفر الملوك المذكور قد أخبرنا ان سليمان "أتمّ بناء بيته وبيت الرب وسور اورشليم المحيط بها" (الملوك الاول 3: 1). ويرى الاب تورنيه، عالِم الكتاب المقدس، من الاباء الدومنكان، انّ هناك صلة بين ما رواه سفر الملوك والمزمور السابع والعشرين بعد المئة: فعنوان هذا المزمور: "نشيد المراقي، لسليمان" (أي انه يتكم عن هذا الملك). ويعتقد الاب تورنيه انّ في الاية الثانية من ذلك المزمور اشارة إلى "حبيب الله" سليمان الذي يرزقه تعالى وهو نائم- اي عندما كان يحم حب جبعون، وان في الاية الاولى من المزمور نفسه تلميحا الى باني الهيكل، الذي يعرفه العبرانيون باسم "البيت". امّا كون سليمان محبوب الله فالفكرة مستمدّة من الاسم الذى اعطيه "يديديا" اي "حبيب الرب" (سفر صموئيل الثاني 12: 25).
يصل الاب تورنيه إلى النتيجة الآتية: ان الحبيب النائم الذي ورد ذكره في نشيد الاناشيد (2: 7؛ 3: 5؛ 8: 4) هو سليمان الملك، حبيب الرب الذي نام في جبعون ورأى حلما اثّر على حياته. وقد يعترض بعضهم على هذا التأويل مستندين إلى الاصل العبريّ حيث يقرأ المرء ما معناه: "لا توقظوا "المحبّة" (بالعبريّة: "اهاباه") حتّى تشاء"، ومنطلقين من صيغة المؤنث اللفظة "اهاباه" ليستنتجوا انّ الكلام هنا عن الحبيبة لا عن الحبيب. الاّ انّ فحصا دقيقا للايات المذكورة (التي تتكرر كلازمة) تبيّن انّ الحبيبة هي المتكلّمة، لذا تبقى صيغة الغائب للحبيب. ومن جهة اخرى، يبدو انّ كلمة "اهاباه" المجرّدة قد تشير إلى أيّ من الطّرفين، ولعلّ في اللفظة الانكليزيّة "لاف" والفرنسيّة "امور" (وما يقابلها في اللغات الرومانيّة الاخرى) امثلة على كلمة مجرّدة اصبحت تستخدم للدلالة على المحبوب والمحبوبة، على حدّ سواء.
اذا قبلنا هذه الخلفيّة وهذا التّفسير السّليمانيّ لنوم المحبوب، فسنكتشف، مع الاب تورنيه، انّ لهذه التّلميحات ابعادا مشيحانيّة سنبحثها في القسم التالي.
3- المعنى المشيحاني لنشيد الاناشيد: الحبيب صورة المسيح المنتظر: سليمان الجديد وداود الجديد
انّ تحليلا عميقا لعبارات "نشيد الاناشيد" وخلفيّتها في الكتاب المقدّس يقود القارئ الى نتيجة قد يستغربها بعضهم لأوّل وهلة، وهي انّ الحبيب العريس في "النشيد" صورة لسليمان الجديد وداود الجديد أي صورة المسيح المنتظر. وهكذا تفسّر نداءات الحبيبة كصرخات حارّة من الشّعب المؤمن الذي ضاق ذرعا وكاد ييأس لتأخر "المسيح" في المجيء. انّ الشعب يبحث عن المحبوب ولا يجده. وليس هذا التفسير غريباً عن التقليد العبريّ القديم في شرح الكتب المقدّسة، فقد ميّز علماؤهم معاني ثلاثة للايات: المعنى البسيط ("بشاط") والمعنى المجتهد ("دراش") والمعنى الخفيّ السّرّيّ ("سود").
أ- الحبيبة وسليمان
اسمه "على جسمه" اي انه يطابق حقيقته: اسمه "سليمان" بالعبريّة "شلومو" وكان بالفعل سلاميّا، ملكا للسلام، وصورة للمسيح الاتي، "امير السلام". ولعلّ الاية الثانية (من الفصل الاول) من النشيد تشير الى انّ الحبيب سليمان "مسيح": "ادهانك طيّبة العرف، واسمك دهن مهراق". ومن المعروف ان اسم "مسيح" من "مسح" (بالعبرية "مشيح" وفعل "مشح") أي مسح بالزيت او الدهن (راجع ايضا مزمور 45: 8- ويعدّ المزمور المذكور موازياً لعدّة مقطوعات من "النشيد"). امّا المزمور 72 الذي عنوانه "لسليمان" فانّه يبيّن "الملك" ملك سلام دائم وشامل، وصورة للمسيح الملك السلاميّ الآتي. نقرأ في الايات 3 و7 و17 عن هذه الفكرة التي كرّرها الانبياء عن استتباب السلام لدى مجيء المسيح (راجع اشعيا 9: 3- 5؛ زكريا 9: 9- 10؛ ابن سيراخ 47: 16 الخ).
لا حاجة ان نعيد ما قيل في شأن سليمان ومكانته في "نشيد الاناشيد". ونزيد على العناصر التي سبق ذكرها تلميحات اخرى الى ذلك الملك الكبير: الموكب الملكيّ المهيب الّذي يرافق الحبيبة: "هوذا سرير سليمان حوله ستّون جبارا... جيعهم قابضون على السّيوف... الملك سليمان صنع لنفسه تختا من خشب لبنان، صنع عمده فضّة ومتكأه ذهبا ومقعده ارجوانا ووسطه مرصّع بالمحبّة لاجل بنات اورشليم" (3: 7- 11) والحبيبة "طالعة من القفر كعمود من بخور معطّرة بالمرّ واللّبان وبجميع أذرّة التّاجر" (الاية 6). ويشير "النشيد" إلى اورشليم ثماني مرّات: انها "مدينة السلام" التي يجب ان يملك عليها سليمان؛ مليك السلام، صورة المسيح امير السلام.
امّا الحبيبة نفسها فانها تحمل اسم سليمان: هو بالعبرية "شلومو" وهي "شولميت" ("الشّولميّة") (7: 1) وتصف ذاتها بأنّها تلك التي "وجدت سلاما في عينيه" أي حظوة وطمائينة (8: 10)، وجدت السّلام بعد بحثها المضني عن المحبوب. فسليمان هو "يديديا"، حبيب الرّبّ وهو محبوب العروس ("دود" في 1: 3).
ب- الحبيبة ترمز إلى "اورشليم" المنتظرة "سليمان"، مسيح السلام والفدء
"شولميت" تمثّل "اورشليم"، المدينة التي تئِنّ شوقا الى مسيحها الحبيب، وهي تجسّد آمال الشّعب الذي عاد من المنفى بفضل الملك الفارسيّ كورش. ويبدو انّ كاتب نشيد الأناشيد يعدّ الحبيبة "شولميت" والمدينة المقدّسة "اورشليم" كيانا واحدا في 8: 9- 10: "ان كانت (اختنا) سورا بنينا عليه صرحا من فضّة وان كانت مصراعا شددناه بألواح من ارز... أنا سور..." ولا عجب في ذلك لانّ التقاليد الشرقيّة القديمة كانت غالباً تتحدّث عن مدينة حديثها عن فتاة او عذراء، وان الكتاب المقدس يشير مرارا الى اورشليم بالعبارات "ابنة صهيون"، "بنت اورشليم"، "العذراء ابنة صهيون" (اشعيا 49: 14؛ 54: 5 والفصلين الخمسين والستين الخ).
ويلحظ الاب تورنيه، انّنا نقدر ان نقابل "نشيد الاناشيد" في المقاطع التي تورد ذكر "اورشليم" والسلام مع الفصل السادس والستين من نبوءة اشعيا الاية العاشرة وتابع:
"افرحوا مع اورشليم وابتهجوا بها يا جميع محبّيها، تهلّلوا معها تهلّلا يا جيع النائحين عليها لكي ترضعوا وتشبعوا من ثدي تعازيها (راجع نشيد 1: 2 و3 في المحبّة؛ 6: 3: "انت حسناء كأورشليم"؛ 4: 5؛ 7: 3 و7)... لانه هكذا قال الرب: هائذا اميل اليها السلام كالنهر ومجد الامم كالوادي (راجع نشيد 2: 1) فترضعون وفي الحضن تحملون وعلى الركبتين تدلّلون (راجع نشيد 8: 1)..."
نستنتج انّ شخصيّة سليمان صورة للمسيح المنتطر، ولكن في عالم المجاز حرّيّة ومرونة، فها انّ النشيد، على ما يبدو، يقدّم "الحبيب" في ملامح داود ثان، هو ايضا رمز للمسيح الاتي...
ج- الحبيب في "النشيد" يمثّل ايضا داود الملك والنبي، صورة المسيح المنتظر
يذكر كاتب "النشيد" مرّة واحدة فقط داود الملك غير انّه قد يشير اليه في مواضع عديدة. نقرأ في 4: 4: "عنقك (في المؤنّث) كبرج داود المبنيّ للسّلاح...". ويعتقد بعض الباحثين انّ النشيد يلمح إلى داود لانّ "الحبيب" في العبريّة هي كلمة "دود" التي تكتب تماما مثل داود ("دود"، كا ترد في المزامير وأسفار صموئيل والملوك، ما خلا الملوك الاول 3: 14؛ 11: 4)، وقد وردت في النشيد لفظة "دود" 33 مرة. واننا نتساءل: هل قصد الكاتب الملهم ان يشير الى السنوات الثلاث والثلاثين اتتي ملك فيها داود؟
ومن الاسباب التي حملت بعض العلماء على ان يروا عبر "الحبيب" وجه داود (الذي هو بدوره رمز للمسيح ملك البرّ وني التقوى) انّ "الحبيب" في النشيد ملك (1: 3 و11): "قد أدخلني الملك أخاديره... اذ كان الملك في متكاه افاح نارديني عرفه". ويبدو انّ الملك المقصود هنا داود، دون سليمان، لانّ المحبوب يوصف كمليك راع، كما كان داود. لنقرأ 1: 6: "أخبرني يا من تحبّه نفسي أين ترعى وأين تربض عند الظهيرة. لماذا أكون كمن يغشى عليه في اثر قطعان اصحابك؟ "وهو الحبيب "الذي يرعى بين السّوسن" (2: 16).
ويظنّ بعض المفسّرين انّ في 5: 16 تلميحا الى داود الملك عن طريق كلمتين في العبريّة: هوذا حبيي ("دودي"- وقد تكون اشارة الى "داود"، كما أسلفنا) وهذا خليلي. اللفظة العبريّة التي عرّبت بكلمة "خليل" هي "رعية" الصادرة عن فعل "رعاه" اي "رعى" وهي لذلك شبيهة بلفظة "روعيه" اي راع. فالمحبوب الراعي هو داود الخليل.
وهكذا ندرك انّ داود وسليمان، على علاتهما، اصبحا رمزين للمسيح الاتي: انهما ابواه، لانه سيكون "ابن داود" عن طريق سليمان، سيكون "حكمة الله" كما كان سليمان حكما وسيكون نبيّا مثل داود، مسيحا اي ممسوحا بالزيت، "بروح القدس والقدرة"، سيكون ملك الوداعة والسلام.
4- نشيد الاناشيد من العهد القديم الى الجديد: اشاوات الى المسيح والعذراء والكنيسة والنفس التّقيّة
انّ السيد المسيح الّذي تكلّمت في شأنه الكتب يفتح عيوننا لنبصر ظلّه في العهد القديم. لذا نتساءل: هل من معنى "مسيحيّ" لنشيد الاناشيد؟ والرّدَ هو التالي: يجوز لنا أن "نفحص الكتب" لنكتشف بعد حين انّها تتحدث عن المخلّص الفادي المليك الحبيب المحبّ، وان كان المعنى الحرفيّ الاوّل يرسم لنا لوحة بشريّة من محبّة عاطفيّة محسوسة بين امرأة ورجل. وهكذا يبقى التفسير المسيحي اجتهادا لا يلزم أحداً من الناحية العلمية ولا التاريخية الاّ انّه غنيّ بالافكار وخصب بالدفء الذي يصبغ علاقاتنا بالسيد المسيح بصبغة المودّة والحنان. وهذه بعض التفاصيل الّتي قد تفيد حياتنا الروحانيّة، انطلاقا من "نشيد الاناشيد":
أ- المسيح يسوع: الحبيب المليك وعريس الكنيسة
لقبه "مسيح". فسح بالزيت (1: 2) لانّه الني والملك والكاهن. وحبّه "أطيب من الخمر" (1: 1 و3). ورد ذكر الخمر سبع مرّات في النشيد، ويمكننا أن نربط السيد المسيح بالخمر التي قدّمها لرسله ذكرا له، وان تلك الخمر هي "العهد الجديد بدمه الذي يهراق عنهم وعن الكثيرين لمغفرة الخطايا" (متّى 26: 28). انّها خمر الابتهاج لتعزية المحزونين بعد ارتفاعه عنهم، كما انّها اوّل علامة لقدرته العجائبيّة: انّه الريس الروحانيّ الذي "فرّح قلب" العروسين وأهلَهما في قانا الجليل محوّلا الماء الى خمر (يوحنّا 2) بناء على طلب والدته الحبيبة الجميلة عروس الروح.
يسوع المسيح هو العريس المحبّ. في العهد القديم كان الله تعالى يوسف كعريس أي زوج للشعب المؤمن (هوشع 2: 25). ويكتب بولس الرسول ان المسيح عريس الكنيسة التي افتداها بدمه (أفسس 5). ينعت يسوع نفسه بالعريس، امّا المعمدان فهو صديق العريس (يوحنّا 3: 29)، وتلاميذ يسوع هم اهل العرس (متّى 9: 15؛ مرقس3: 19؛ لوقا 5: 34). وفي مثل المدعوّين الى العرس يبيّن يسوع انه هو العريس ابن الملك وانه المسيح (متّى 22: 1 وتابع) وهو نفسه العريس في مثل العذارى العشر (متّى 25: 1ي). راجع أيضاً: الثانية إلى أهل قورنثس 11: 2 حيث يعلن رسول الأمم للمؤمنين أنه "خطبهم لزوج واحد هو المسيح، ليزفّهم إليه زفّة عذراء طاهرة" (ايضا افسس 5: 25- 27) ويكرّر سفر الرّؤيا ان يسوع المسيح هو العريس (19: 7 ثم 21: 2 ي).
قرأنا في النشيد ان "المحبّة قويّة كالموت والغيرة قاسية كالجحيم" (8: 6). ومحبّة المسيح للناس- للكنيسة عروسه- اقوى من الموت. اجتاز اختبار الوت، "الموت على الصليب" (فيليي 2: 8) وهبط الى الجحيم لينقذ المحبوسين (1 بطرس 3: 19). وقد اثبت المسيح يسوع باستشهاده من اجل الاحبّة ان "ليس لاحد حبّ اعظم من أن يبذل نفسه في سبيل احبّائه" (يوحنّا 15: 13). وهكذا يمكننا ان نعدّ اقتران الحبيبين في النشيد اشارة الى اتّحاد المسيح بالكنيسة الذي هو مثال لكلّ الازواج (أفسس 5: 25- 33).
انّ محبّة يسوع للكنيسة جعلته يقطع معها بدمه المهراق على الصليب عهد محبّة جديدا ابديّا، وقد يكون هناك شبه بين عبارة المحبّة: "انا لحبيي وحبيي لي" (3: 16؛ 6: 3؛ 7: 11) وعبارة العهد بين الله وشعبه: "تكونون لي شعباً وأكون لكم الها". وربّما كانت "جبال باتر" (من فعل "بز" او "قطع") تلميحا الى العهد الذي "بتره" اي قطعه الله مع شعبه في العهد القديم والمسيح يسوع مع كنيسته في "العهد الجديد" (3: 17).
ب- السيدة مريم العذراء: الحبيبة الاميرة والعروس الجميلة
ننتقل هنا الى مستوى آخر حيث "تجذبنا الى العلى المرأة الخالدة"، كما كتب الشاعر الالماني "غوته" لنكتشف في وجه الحبيبة في النشيد محيّا سيدتنا مريم العذراء البهيّ. وكما انّ ابنها المليك "اجل بني البشر" (مزمور 45 (44): 3) فهي ابرع السيدات والعذارى جالا، وقد "انسكب على شفتيها الحسن والسحر" مثل ابنها. وهنا يسمح لنا المنطق والايمان بأن نقول ما يلي: انّ "الوصف" الخلاّب الذي وصف به الحبيب في نشيد الاناشيد حبيبته مبالغ فيه، وان الاشادة بمحاسن العروس في اناشيد الزفاف التي نجدها في هذا السفر بلغت من المغالاة مبلغا كبيرا، غير انّ هذه الصفات والمحاسن توجد حقّا وفعلا في السيدة مريم العذراء، "بنت داود"، الاميرة ووالدة المليك. وهذه بعض الاوصاف التي تناسب السيدة العذراء، ولا تناسب في الواقع الاّ اياها:
- مريم امّ المسيح هي "السوسنة بين الشوك" (3: 3)
ومن تستطيع سواها ان تتلقى هذا المديح بحقّ: أليست هي "المباركة في النساء، الممتلئة نعمة؟" (لوقا 1: 28) انّ ما يجعلها زنبقة وسط بنات حوّاء عفاف كامل شامل وبراءة دائمة منذ المهد الى اللحد وسلامة من خطيئة الابوين الاولين.
- مريم العذراء هي "الجنّة المقفلة" (4: 12)
هي حوّاء الجديدة التي لم يتسرّب اليها الشّرّ منذ الحبل بها، وهي السيدة التي "جعل الله عداوة بينها وبين الحيّة وبين نسلها ونسلها" "ويسحق نسل مريم رأس الحيّة وهي ترصد عقبه" (راجع تكوين 3: 15).
- مريم العذراء "وحيدة" فريدة (6: 8 و9)
كثيرات يضاهين "عروس النشيد" أو "الشولمية" جالا، امّا مريم فلا مثيل لها: هي كاملة وحيدة، رأتها البنات فغبطنها" (2: 8). وهذا ما قالته بتواضع في نفسها: "لان القدير عطف على امته الوضيعة، فها منذ الان تطوّبني جميع الاجيال" (لوقا 1: 48). وقد اشارت احدى الانتيفونات في طقوس عيد الميلاد المجيد الى السيدة مريم العذراء بكلمات مؤثّرة: "ولدت الوالدة مليكاً أزليَّ الاسم ابديَّ الوجود، وانشرح صدرها بأفراح الامومة مع احتفاظها بشرف البتوليّة. لا، ما كان لها قطّ من شبيهة ولن يكون".
- مريم العذراء هي السيدة "التي لا عيب فيها، كلّها جيلة" (4: 7)
ومن غير "المباركة بين النساء" تستطيع ان تدّعي الخلوّ من أيّ عيب أو نقص أو ميل إلى الشّرّ؟
- مريم العذراء هي "الجميلة في النّساء" (5: 9 و17)
والجمال ليس جمال المظهر فحسب بل هو أولا جمال الاخلاق. ولا يتردّد المسيحيّون في أن يحوّلوا مديح صاحب "النشيد" الى السيدة العذراء، كما يحوّلون اليها كلمات سفر الامثال: "انّ بنات كثيرات قد انشأن لهنّ فضلا، امّا انت ففقت عليهنّ جميعا. الحسن غرور والجمال باطل والمرأة المتقية للرب هي التي تُمدَح. اعطوها من ثمر يديها ولتمدحها في الابواب اعمالها" (امثال 31: 29- 31). انّ ثمر يدي مريم وتربيتها هو السيد المسيح الملك المخلّص المحبّ المحبوب، ومن اجلّ اعمالها انها كانت "تفكّر في كلّ الامور (التي جرت لابنها) وتحفظها في قلبها" (راجع لوقا 2: 19).
ج- نشيد الاناشيد صورة للمحبّة السامية التي تسمو الى الله بنفوس العابدين
رأى القديس برنردوس في "عروس النشيد" اشارة الى العذراء مريم، من جهة، وإلى النفس التي تهيم بمحبّة الله، من جهة اخرى: تبحث بلا كلل عن المحبوب الالهيّ الذي يظهر احيانا وكأنّه نائم (كما نام المسيح في السفينة التي تقاذفتها الامواج). ويُنعم الله على النفس التقيّة بأن تجده، ولو بعد جهد ودموع، وبعد ان جابهت تحدّيات هذا الدهر وتهكّماته.
الخاتمة: "نشيد الاناشيد" في عيون الايمان
دوّن الكاتبُ قصةَ حبّ ونَقلَ اناشيدَ زفاف. الاّ انّ ابصار الشعب في العهد القديم رأت في كتيّب "نشيد الاناشيد" قمّة الاغنية وتعرّفت من خلال بعض العبارات على آثار الوحي والالهام. ولولا هذه النظرة الروحانية للمحبّة البشرية العاطفية المحسومة التي تجمع قلوب الاحبة وتربط افئدة الازواج لما اضحى ذلك السفر الصغير مقبولاً في لائحة الكتب المقدسة. وراح اهل العلم والتقوى يقلّبون صحيفات الكتتب فذهلوا لما اكتشفوا في طيّاتها من تلميحات تاريخيّة واشارات تعبّر عن الشّوق الى المسيح في صورة داود المليك الني وابنه سليمان الحكيم ملك السلام.
لذا يجدر بالمؤمنين أن يسيروا في هدي هذا الدليل المتواضع العذب الذي اختار اقصر الطرق الى القلوب: وهو كلام المحبّة والمودّة الذي ينبع رأسا من الفؤاد ليبلغ الفؤاد. وكم يحلو للمسيحيّ ان يطالع هذه الصحيفات التي دوّنها صاحب "نشيد الاناشيد" ليرى في المحبّ رمزا ضعيفا وظلاً خافتا للمحبّة التي خصّه الله تعالى بها وتجلّت للنّاس بحنانها وبمودّتها الخلاصيّين (راجع طيطس 3: 4)، وكأنّي بالطبيعة الالهيّة التي ما ضنّت "بالابن الوحيد" بل قدّمته ليحيا بموته العالم (يوحنّا 3: 16؛ رومية 8: 32) تهتف بكلّ واحد منّا: "انّي احببتك حبّا ابديّا، لذلك اجتذبتك برحمة" (ارميا 31: 3)، لان "الله محبّة" (1 يوحنّا 4: 8 و16). ونحيا في ظلّ هذه المحبّة الالهيّة الخالدة وفي امل الخلاص والسلامة والحياة الابديّة، ولسان حالنا كلمات صاحب الرؤيا: "يقول الروح وتقول العروس (أي الكنيسة): تعال، ومن سمع فليقل: تعال" (رؤيا 22: 17).
أ. بيتر حنّا مدروس

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM