يشوع بن سيراخ

يشوع بن سيراخ
1- المقدمة
يرتبط سفر يشوع بن سيراخ بأسفار الحكمة، ولكنّه جاء متأخراً عنها فاتخذ طابعاً خاصاً. دوِّن في العبرية ولكن اليهود لم يقبلوه في اللائحة القانونية. أما المسيحية فقبلته وسمته الكتاب الكنسي لأنها تعودت ان تستعمله في تعليم الموعوظين الذين يتهيأون للعماد والدخول إلى الكنيسة. ضاع النص الأصلي أجيالاً عديدة، ثم اكتُشف في نهاية القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين. إنتشر الكتاب في الترجمات السريانية واليونانية واللاتينية، وكان لكل من هذه الترجمات تاريخها.
في الترجمة اليونانية يقع ابن سيراخ في آخر الاسفار الحكمية اي بعد الامثال والجامعة ونشيد الاناشيد وايوب وحكمة سليمان. وتتبع اللاتينية الترتيب عينه الا انها تجعل ايوب قبل المزامير. وفي السريانية يأتي ابن سيراخ بعد الحكمة العظيمة، وقد سقطت منه المقدمة.
اسمه حكمة يشوع بن سيراخ تمييزاً له عن حكمة سليمان. قدَّره الربانيون حق قدره، ولكنهم لم يقبلوه في قانونهم فجعلوه بين الاسفار المنحولة. ترددت الكنيسة في بادئ الأمر ولكنها في النهاية وضعته في لائحتها القانونية في المجمع التريدنتيني. اما البروتستانت فجعلوا سفر يشوع بن سيراخ بين الكتب المنحولة راجعين بذلك إلى الموقف اليهودي الفلسطيني.
2- من كتب ابن سيراخ؟
إذا وضعنا جانباً الاسفار النبوية، يكون ابن سيراخ هو السفر الوحيد الذي نعرف أسم كاتبه بصورة دقيقة. لقد فعل على مثال الهلينيين فوقَّع كتابه بيده (51: 30) واورد اسمه على هذه الصورة: يشوع بن سيراخ بن اليعازر الاورشليمي (50: 27). ثم أن حفيده يذكره في المقدمة (آ 5): جدي يشوع. فمن هو هذا الكاتب؟
ينتمي ابن سيراخ الى طبقة ميسورة، وهذا ما أتاح له ان ينكَّب على درس الحكمة. أقبل إليها في عمر مبكر بالصلاة والتأمل وحياة توافق الشريعة. وقَبِل متطلبات التأديب وأدخل عنقه في عقد الحكمة وأحنى رقبته تحت نيرها (6: 24-25) فقطف ثمارها. وكبر طموحها بنجاحه. تاق إلى أن يكون تلميذاً، فنمت فيه الرغبة بأن يكون بدوره معلماً. لم يطلب إلا ان يَسقي بستانه، فاذا قناته صارت نهراً ونهره صار بحراً. فوضع نصب عينيه ان يجعل تعليمه يضيء في البعيد فيبقى ذخراً للأجيال الآتية (24: 31-33). ولهذا أخذ على عاتقه الواجبات المرتبطة بتربية معلم الحكمة. اجتهد في أن يفكر في شريعة العلي وطلب الحكمة من القدماء وكرَّس اوقات فراغه للنبوءات. حفظ احاديث البشر المعروفين وولج في خفايا اقوالهم. طلب المعنى الخفي للامثال وتبحَّر في الغاز الاحاجي (39: 1-3). تثقف بالكتاب وتثقف أيضاً باتصاله بالبشر ومعاشرة الرؤساء والعظماء ومعرفة البلدان. سافر، طاف ورأى في مطافه اموراً كثيرة وما فهمه يتجاوز ما يقدر أن يعبر عنه (34: 11). ولم تكن أسفاره نُزهة مسلية، بل عرف المضايقات واحتمل التعيير واحس بالموت قريباً منه (51: 3-7). وهذه الاختبارات نشّطت نفسه، وفتحت عقله، واعطت لكلامه سلطة الذين رأوا وغامروا وتألموا.
ولكن هذا الانتقال في البلدان وهذه الاتصالات بمحيطات حياتية وفكرية تختلف عن محيطه لم تبدّل شيئاً من ايمانه. لقد وجد لنفسه في الحكمة راحة (51: 27) وتذوَّق سعادة الحكيم (14: 20- 15: 10). فالعالَم الواسع لم يسلبه يقينه. وفي بيت التعليم (أي المدرسة) الذي افتتحه، قطف تلاميذُه تعليماً أميناً للتقليد. اجل، لقد ظل ابناً لشعب اسرائيل، ظل أميناً وثابتاً على التعليم القويم. فلم تؤثر فيه انتقادات ايوب والجامعة ضد التعليم في المجازاة، ولا شكوك العصر، ولا تسرّبات الهلينية التي ستدفع الكثيرين الى السقوط في مهاويها. بل، إنه اعتبر أن الحكمة محصورة في اسرائيل، هذه الحكمة التي هي الشريعة. فلماذا نذهب إلى البعيد ونطلب العلم، ولماذا اضاعة الوقت في ابحاث لا طائل منها؟ تعمق في كل تاريخ شعبه وآدابه، فامتدح الآباء مديحاً عاطراً. لقد ظل يهودياً بكل كيانه، بل احتفظ بمواقف انعزالية شأنه شأن ابناء عصره تجاه السامريين والفلسطيين (50: 25-26).
ولكن هذا المحافظ في أمور الديانة ليس فكراً متحجراً. رأى وسمع كثيراً، ففتح قلبه على العالم. وهكذا تحدّث عن فوائد السفر، وأعلن بطلان الأحلام، وبرَّر اللجوء إلى الطبيب. واستعاد مسألة المجازاة، وفكَّر في الخطيئة وفي الحرية وفي مصير الانسان. نفسه نفس نقية، ولقد شدّد على ضرورة مخافة الله. انه يحب الصلاة (51: 13) ويعرف قوتها (35: 16- 17؛ 23: 1- 6؛ 36: 1- 17؛ 39: 5- 6؛ 51: 1- 13). انه مملوء اعجاباً بالكون ويعتبر اعمال الله جيلة وصالحة (39: 16، 33). هذا ما نكتشفه في نشيده عن عظمة الله في خلقه (42: 15- 43: 33).
ونكتشف تقواه في شعائر العبادة. حين يمتدح الآباء يكرس خمس آيات (45: 1- 5) لموسى ولكنه يخصص لهارون 17 آية (45: 6- 22) اما داود فيجمع في نفسه مجد المحارب ومجد الشاعر الديني الذي ينظم الاحتفالات. ويعجب بصورة خاصة بسمعان بن اونيا الكاهن الأعظم، فيصوّره في عيد التكفير محاطاً بإخوته (50: 5- 21). من أجل هذا يجب على المؤمن أن يشارك في شعائر العبادة وأن يقوم بواجبه تجاه ما تطلبه منه الشريعة. لهذا قال: لا تحضر أمام الرب فارغ اليدين. مَجِّد الرب بسخاء ولا تكن بخيلاً حين تقدم البواكير (35: 4- 7). لا يرذل ابن سيراخ أياً من العناصر التي يفرضها الدستور الذبائحي، ولكنه يعلن أن الذبائح لا تَفعل بطريقة آلية. الرب لا يقبل إلاَّ التي نقدمها بالاستعدادات اللازمة التي تحدث عنها الانبياء مراراً. ولقد قال ابن سيراخ: من يذبح من مال اقتناه بالظلم يقدم ذبيحة الهزء، وعطايا الأثمة غير مرضية (34: 18). من قدم ذبيحة من مال المساكين فهو كمن يذبح الابن امام ابيه (34: 20). لا تُقبل ذبيحة الا ذبيحة البار (35: 16). ولا يكون الانسان باراً ان لم يمارس تجاه القريب العدالة والمحبة.
وهذا الكاتب يحب الحياة ويريد التمتع بالسعادة التىِ تمنحه اياها. وهو يعطي تلاميذه نصائح تعبر عن شخصيته: لا تحرم نفسك من يوم ضاع، ولا تفلت منك رغبة شهية (14: 14). فنحن نكتشف ما يحب هذا الحكيم: يحب اخضرار الحقول والازهار، والبساتين التي تسيل فيها المياه، والولائم والخمر. الصداقة عزيزة على قلبه وفيها يقول: الصَديق القويم سَند قوي، من وجده وجد كنزاً. الصديق الأمين لا يعادله شيء وصلاحه لا موازٍ له. الصديق الامين دواء الحياة والذين يخافون الله يجدونه (6: 14-16). قالوا عن ابن سيراخ إنه يكره النساء، وهذا صحيح (25: 13- 24؛ 42: 13- 14)، ولكنه انتبه إلى الجمال (36: 22) والنعمة (36: 13، 15) ولقد قال: الشمس الشارقة في عُلى الرب كجمال المرأة الصالحة في عالم بيتها. السراج المضيء على المنارة المقدسة كجمال وجه على قامة رزينة. العواميد من ذهب تقوم على قواعد من فضة، هاتان هما الساقان الجميلتان على اخمصين ثابتين (26: 16- 18).
هذا هو ابن سيراخ، رجل علم وخبرة، يهودي امين يحافظ على وصايا الشريعة، ويعتز بماضي آبائه ويفتخر بامتيازات بني اسرائيل شعب العهد والحكمة.
3- تأليف ابن سيراخ
هناك معلومات تساعدنا على القول ان ابن سيراخ عاش حوالي السنة 200 ق. م. في اورشليم وان كتابه دوِّن حوالي السنة 180. فحفيده المترجم اليوناني يقول لنا في المقدمة انه بدأ عمله بعد السنة الثامنة والثلاثين للملك أوَرَجتيس الذي هو بطليموس السابع (170-116). اذا ترجم كتابه بعد سنة 132 ق. م. فإذا افترضنا ان الجد كبر حفيده بخمسين سنة يكون الكتاب دون حوالي السنة 180.
ثم ان ابن سيراخ يشير الى ذكريات خاصة في النشيد الحماسي الذي يخصصه لسمعان الكاهن الأعظم (50: 1- 24) الذي كان يقوم بوظيفته حين احتل انطيوخس الثالث اورشليم سنة 198. وبما اننا لا نجد في الكتاب اي تلميح الى الوضع المأساوي الذي سيقوم بعد عزل اونيا الثالث ابن سمعان سنة 174، واضطهاد انطيوخس ابيفانيوس (175-164)، فنقدر ان نجعل تأليف ابن سيراخ بين هذا الاحتلال الغريب وثورة المكابيين سنة 167.
ظلت فلسطين سحابة قرن ونيف (بعد سنة 301 ق. م.) تحت حكم بطالسة مصر ثم انتقلت الى سلطان السلوقيين في سوريا سنة 198. رضي انطيوخس الثالث (223-187) وسلوقس الرابع (187-175) عن اليهود، ومنحاهم امتيازات، وساعداهم على اعادة بناء الهيكل وتنظيم شعائر العبادة (2 مك 3: 3). وهكذا، ان ما يصوره سي 50: 1- 4 يجد مكانه في هذا الاطار.
كانت فتوحات الاسكندر قد عرّفت العالم إلى شكل من الحضارة سميت الحضارة الهلينية، فأسرع الكثيرون واخذوا بهذه الحياة الجديدة. ولكن بسبب اللغة اليونانية المفروضة والتلفيق الديني وتمجيد قوى الطبيعة، قامت المجابهة بين الحضارة اليهودية والحضارة الهلينية. وعى ابن سيراخ الخطر الذي تشكله حركة الافكار والاخلاق هذه على الديانة (2: 12- 14). من أجل هذا كتب ليدافع عن ارث اليهودية الديني والحضاري، عن نظرته إلى الله والعالم واختيار الله لشعبه. وحاول ابن سيراخ أن يقنع أبناء دينه أن شعب اسرائيل يمتلك الحكمة الحقيقية الموجودة في الشريعة الموحاة، وأنهم بالتالي لا يحتاجون الى مكتسبات الفكر والحضارة اليونانية التي هي اكيدة ولكنها ملتبسة. وهكذا دوَّن كتابه فجاء يجمع في خبرته المعمَّقة الديانة التقليدية وحكمة الناس، ويقدم دستوراً أخلاقياً عملياً لليهودي الذي يريد أن يبقى اميناً لديانته. وترجم الحفيد ما كتبه الجد، فمد تأثير هذا الكتاب الى الذين يعيشون في الخارج ويريدون أن يتعلموا أو يتأدبوا ويعيشوا بحسب اقوال الشريعة. لقد تبدّل العالم بسبب الضغط الوثني المتمثل بالحضارة اليونانية، فجاء سفر ابن سيراخ يعم اليهودي كيف يقف بوجه الشر والفساد ويبقى أميناً لديانة الآباء.
دوّن ابن سيراخ كتابه في العبرية، ونقله حفيده إلى اليونانية. وأخذت الكنيسة النص اليوناني فقرأته وفسرته للمؤمنين. أما الأصل العبراني الذي عرفه ايرونيموس (مترجم الشعبية اللاتينية) والربانيون اليهود، فقد ضاع منذ القرن الثاني عشر. وفي سنة 1896 اكتشف بول كالي في مخبأ (غنيزه او كنز) القاهرة مقاطع مهمة من الكتاب تعود الى القرنين الحادي عشر والثاني عشر. ثم وجدت مقاطع اخرى سنة 1958 وسنة 1960. وفي سنة 1964 وجد العلماء في السور الشرقي لحصن مصعدة اربعة فصول تعود الى القرن الأول ق. م. وهي 39: 27- 43: 30. وهكذا تيقّن الجميع ان النص الأصلي لسفر يشوع بن سيراخ هو النص العبري. ترجه حفيد الكاتب وهو عالم بالصعوبات التي تجابهه. ومهما يكن من أمر، فالنص المعتمد رسمياً هو النص اليوناني. ولا يرجع المترجون الى النص العبري إلاَّ إذا أشكل عليهم فهم النص اليوناني.
واذا اردنا ان نتوقف عند بنية الكتاب وعناصره نكتشف ان ابن سيراخ دوّن كلامه شعراً شأنه شأن سائر الاسفار الحكمية (ما عدا الجامعة). يتألف كتابه من دستيكات (بيتان متكاملان) تخضع لقاعدة الموازاة. فالبيتان يعبران عن المعنى الواحد (1: 17) او يقدم الواحد فكرة معاكسة للآخر (4: 21) او يفسر البيت الثاني ما قاله البيت الأول (1: 20؛ 2: 3). واذا توقفنا عند المعاني نكتشف الملاحظة العابرة (13: 23) والتنبيه (6: 4؛ 10: 3) والحقيقة الدينية (1: 1، 3: 30).
أما الكتاب فيتألف كله من جموعة اقوال وامثال تتوالى مرة بدون رابط بينها، او تجمع حول موضوع واحد. فهناك مثلاً نصائح متنوعة (7: 1- 22) أو حكم متنوعة (20: 18- 31). وهناك الامثال المجموعة. نشير هنا الى ان النص العبري نص متواصل لا عناوين فيه (ما عدا 44: 1 مديح الآباء). ولكننا نجد في النص اليوناني عناوين تدل على مضمون هذه المجموعة أو تلك. ففي 2: 1 نقرأ: الثبات. وفي 18: 30: ضبط النفس. وفي 20: 27: اقوال حكمية. وفي 23: 7: تأديب الفم.
4- تصميم ابن سيراخ
لا يتفق الشراح على تصميم لسفر يشوع بن سيراخ. جمع ملاحظاته ووضعها في شكل تعليمي، ثم دوَّنها كما وردت مع استطرادات عديدة فلم تحمل بنية محددة. على كل حال نستطيع ان نجد قسمين (ف 1- 23 وف 24- 50) يبدأ كل منهما بمديح للحكمة. وتضمن ف 51 ملحقين: نشيد شكر وقصيدة تعالج طلب الحكمة. وهناك من يميز قسماً اول (1: 1-42: 14) يجمع اقوالاً مختلفة حول مدائح متصلة بالحكمة، وقسماً ثانياً هو تأمل في الخلق وفي التاريخ (43: 15- 50: 29).
وها نحن نقدم تصميماً موسعاً يساعد القارئ على قراءة الكتاب.
القسم الاول (1: 1- 16: 23): الحكمة، الفطنة واقوال متنوعة، طابع الحكمة السري، مخافة الله ينبوع الحكمة، الغضب والصبر، التقوى والتواضع ومخافة الله، الثبات في المحنة والاتكال على الله. الواجبات نحو الأهل، التواضع، تجنب البحث الذي لا طائل تحته. الكبرياء، الصدقة ومساعدة الفقراء، الحكمة المربية والفطنة والبر، طمائينة كاذبة للغني والخاطئ، تجنب اللسانين والكبرياء، الصداقة الصادقة والصداقة الكاذبة، تعلم الحكمة. نصائح متنوعة (7: 1-22). الاباء والبنون، واجبات نحو الكهنة، واجبات نحو الفقراء والمساكين، الفطنة في العلاقات مع النساء ومع الرجال والحكام. ويعود الى الكبرياء، ويتحدث عن اصحاب الكرامة والهوان، عن التواضع والحقيقة فلا نثق بالظواهر. ويكلمنا ابن سيراخ عن الفطنة والرزانة، عن الثقة بالله وحده، وعن الحذر من الشرير. لا تعطِ الا الاخيار وتجنَّب الأعداء ومن هو اغنى واقوى منك. وتأتي اقوال عن سعادة البار، وضد البخل وعن التمتع بالحياة وسعادة الحكيم وحرية الانسان امام الخطيئة، والاولاد الاشرار ومعاقبة الخاطئين.
القسم الثاني (16: 24- 23: 27): الله والخلق واليك مواضيعه: عمل الله في الخلق، خلق الانسان، العهد، عدالة الله ورحمته، النداء الى التوبة، عظمة الله ورحمته. تعلَّم العطاء، تعلم الفطنة، لا تُرضِ رغباتك وتجنَّب الثرثرة ولا تحكم على احد قبل أن تعاتبه. الحكمة الحقيقة والحكمة الكاذبة، تعم ان تتكلم وان تصمت، مناقضات وحكم متنوعة (20: 18- 31). اهرب من الخطيئة، الحكيم والسفيه، الكسلان، الاولاد الاشرار، كيف تقف تجاه الجاهل، رجل المقاصد، الصداقة، السهر، الصلاة، القَسم، السهر على ما نقول وخطايا الزنى.
القسم الثالث (24: 17- 33: 19): الحكمة والشريعة: الحكمة تمدح نفسها، الدعوة الى الحكمة، الحكمة والشريعة، مقصد الكاتب، ما نحبه وما نكرهه، اكليل الشيوخ، امور بهيجة، المرأة الشريرة، المرأة الفاضلة والمرأة العاهرة، ما يُحزن الحكيم، اخطار التجارة، الكلمة تمتحن الانسان، البحث عن البر، محادثة السفهاء، الحشرية تقتل الصداقة، الخبث يُعاقب الانسان حيث يخطأ، الحقود والخصومات وشر اللسان. الإقراض والكفالة، التهرب من الضيافة المذلة، تربية الأولاد، الصحة، فرح القلب، اخطار الغنى ومنفعته، الولائم، منافع الخمر واخطاره، ترؤس الولائم والتحدث فيها، مخافة الرب الذي هو سيد ايام البشر وظروفهم. قصد الكاتب.
القسم الرابع (33: 20- 42: 14). نصائح متعددة في الحياة: قد تورث خيراتك قبل موتك، كيف تعامل العبيد، بطلان الاحلام وفائدة الاسفار، الرب يحمي خائفيه، العبادة التي يرضى عنها الله، قوة الصلاة (35: 16- 18) عقاب الامم، صلاة من اجل شعب اسرائيل، الفطنة، كيف تختار امرأة، الصديق الصادق والصديق الكاذب، العفة، الالتجاء إلى الطبيب، الحزن، الصناع والكتبة، نشيد الى حكمة الله في تدبيره للكون (39: 12- 35). شقاء الانسان، خيرات حقيقية وخيرات كاذبة، التسول، الموت، عقاب الافرار، السمعة الحسنة، الخجل الحقيقي والخجل الكاذب، همُّ البنت، الحذر من النساء.
القسم الخامس (42: 15- 50: 24): مجد الله في الطبيعة وفي التاريخ. مجد الله في الخليقة، مديح الآباء، نوح، ابراهيم، اسحق، يعقوب، موسى، هارون، فنحاس، يشوع بن نون... ويختتم الكاتب هذا القسم بنشيد شكر وصلاة.
القسم السادس (50: 25- 51: 30): الخاتمة ومقصد الكاتب، نشيد شكر. كيف اقتنى الكاتب الحكمة، وكيف نفعل نحن لنقتنيها؟
5- تعليم ابن سيراخ
يعلمنا المترجم في المقدمة ان جده يشوع كتب عن مواضيع التعليم والحكمة لكي ينكب عليها اصحاب العالم ويتقدموا في حياة توافق الشريعة. اذاً هدف ابن سيراخ ان يعلمنا الحكمة، اي كيف نوجه حياتنا بحسب شريعة الله فننال السعادة في هذه الدنيا.
وها نحن نقدم مواضيع تعليمه: الحكمة، مسألة المجازاة، وجهات من الديانة، وجهات من الحياة، الحياة الاقتصادية والحياة السياسية.
أ‌- الحكمة
الحمة هي الخير الاسمى وهي تمنح الحياة لتلميذها. من أحبها احب الحياة (4: 12) الغنية والمملوءة بكل خير، لأن لا شيء ينقص لخائف الرب (40: 26). أما ثمار الحكمة التي بها تُسكر احباءها (1: 16) فهي البهجة وسحر القلب والفرح والسرور. وتحمل الحكمة أيضاً الكرامة والاحترام والنجاح والطمائينة (34: 14) والقوة (50: 28) والصحة (1: 18) والحياة الطويلة (1: 12، 20) واسماً يدوم من جيل الى جيل (15: 6، 39: 9). والحكمة تمنح طلابها السعادة. الرجل الحكيم يمتلئ بركة ويغبطه كل من يراه (37: 24). وتتردد عبارة: هنيئاً للرجل الذي لم يخطأ بفمه (14: 1)، الذي يأملفي الحكمة (14: 20)، الذي يخاف الرب (34: 15).ويشبه الكاتب الحكمة بحلاوة العسل وثياب المجد وحلية الذهب واكليل البهجة (4: 11- 15: 10).
ولكن كيف نقتني الحكمة التي هي ينبوع كل هذه البركات؟ إنها أولاً عطية من الله يهبها للذين يخافونه أي للذين يحبونه ويتعبّدون له. رأس الحكمة مخافة الله (1: 14) وكذلك تاج الحكمة (1: 18) واصلها (1: 20). فكل حكمة تأتي من الرب (1: 1) ومخافة الرب تكتمل في الحكمة (43: 33). ولكن مخافة الرب التي تمنحنا الحكمة ترافقها ممارسة الشريعة. ويشدد ابن شيراخ على هذه الحقيقة فيقول: هل ترغب في الحكمة؟ اذن احفظ الوصايا فيمنحك الله إياها (1: 26). فالذين يحبون الرب يشبعون من الشريعة (2: 16) لأن ممارسة الشريعة هي في كل حكمة (19: 20). فعلى الحكيم أن يخاف من الخطيئة بكل أشكالها ويتجنّب الكبرياء والزنى لأن الخطأة لا يرون الحكمة ابداً (15: 7).
الله يحب الحكمة، والانسان يكتسبها. هذا ما قاله معلموا الحكمة فتتبع خطاهم ابن سيراخ. يجب أن نسمع الاب والمعلم. وتتردد كلمة "اسمع" 3: 1؛ 6: 23؛ 16: 24، 23: 7، 31: 22). إذا احببت أن تسمع فتعلم (6: 33) وأحبب أن تسمع كل كلام إلهي (6: 35). لهذا يبحث الانسان عن المحادثة مع الحكماء (6: 34) والفهماء (6: 36) والشيوخ (25: 4- 6) الذين تعلموا من ابائهم. منهم نتعم الفطنة (8: 9) ونأخذ عِبَر الاجيال القديمة (3: 10). ثم إننا نضع هذه الأقوال في قلبنا (5: 28) ونتأملها (8: 8) ونعود إليها.
ثم لا بد من التتلمذ للحكمة. لهذا افتتح ابن سيراخ مدرسة وربَّى تلاميذ عديدين وسلَّم اليهم ثمر تعليمه (4: 17- 19؛ 6: 18- 37؛ 14: 20- 15: 10). ان الحكمة لا تُوجد من دون جهد. فالذي يريد أن يكتسبها يخضع لمتطلباتها، يحمل نيرها، يقبل قيودها. والويل للذي لا يثابر على طلبها، فهي تتخلى عنه. أما التلميذ الأمين الذي يقبل بأن يسير معها فهي تجازيه على ثباته وتفتح له اسرارهـا وتملأه بهجة وسروراً.
من هم اصدقاء الحكمة؟ الحكماء والفهماء واصحاب الفطنة، وبينهم نجد الابرار والاتقياء. أما اعداء الحكمة فهم الجهال والبلهاء والسفهاء، وبينهم نجد الأشرار والكفّار والخطأة وأصحاب السوء والذين لا شريعة لهم.
ونتوقّف أخيراً عند الحكمة التي ينظر اليها ابن سيراخ كأنها شخص حي. انها تدعو تلاميذها: تعالوا الي أيها الراغبون فيّ واشبعوا من ثماري (24: 19)، تدعوهم وتربيهم (4: 11- 19). وهي تفتخر بأنها خُلقت قبل كل شيء (1: 4)، خُلقت قبل الأجيال، منذ البدء (24: 9)، وخَرجت من فم العلي (24: 3). رآها الله وأحصاها وأفاضها على جميع مصنوعاته (1: 9). طلبَتْ عند البشر مكان راحة (24: 7)، فأمرها الرب ان تنصب خيمتها في يعقوب، في اسرائيل (24: 8). وهكذا اقامت في الخيمة المقدسة، في صهيون (24: 10). وهكذا صارت حصة اسرائيل، حصة شعب الوعد والشريعة.
حين يتحدث ابن سيراخ عن الحكمة يعود الى سفر الأمثال، ولكنه يزيد عليه بعض الشيء. فالحكمة متحدة إتحاداً حميماً بالله. فهو لم يخلقها فقط، بل هي خرجت من فمه (24: 3). وهذه العبارة سيستعيدها حك 7: 25 فيقول: هي دفق قدرة الله وفيض مجد القدير. ثم إن الحكمة كانت مُلك جميع البشر فصارت حصة بني اسرائيل. وهكذا ضاق الافق وانحصر في شعب اسرائيل. واخيراً تصبح الحكمة الشريعة.
ب- مسألة المجازاة
قال ابن سيراخ، كما قال اسلافه، إن كل الأعمال البشرية تفرض المجازاة. لا يمكن أن نتجنب المجازاة. نقرأ في 16: 11: لو وجد واحد قاسي الرقبة لكان من العجب ان يُصفح عنه. لأن الرحمة في الرب وفيه ايضاً الغضب. هو رب العفو وهو ساكب الغضب. والمجازاة فردية، والرب يدين كل إنسان حسب اعماله (16: 12، 14). والجازاة تتم على الأرض. فليس من آخرة تُمارس فيها العدالة، والشيول (مثوى الأموات) يجمع ظلالاً لا يهمهم الله ولا يهتم بهم الله. فمن يمدح العلي في الجحيم إن لم يمجده الاحياء؟ فالمديح معدوم لدى الموتى لأنهم لم يعودوا في الوجود. فالذي يملك الحياة والصحة يمجد الرب (17: 27- 28).
وتتم هذه المجازاة بشكل يكاد يكون آلياً: من صنع الشر انقلب عليه الشر ولا يعرف من أين وقع عليه (27: 27). ولكن في الواقع، كل شيء يرتبط بالله الذي يقرر كل شيء كالسيد المطلق: الخير والشر، الحياة والوت، الفقر والغنى من عند الرب (11: 14). فالبار يعيش في مأمن من كل شر وينعم بكل خير، أما الشرير فتضربه الشرور هو وابناؤه. "منذ البدء خلقت الخيور للأخيار والشرور للأشرار" (39: 25). كل هذا، أي الماء والنار والملح والعسل واللبن... يكون خيراً للأخيار ويتحول شراً للخطأة (39: 27).
هذه الأقوال المعروفة في الادب الحكمي هي نشيد الايمان بالله العادل الذي يجازي اعمال البشر. ولكن الحكماء لاحظوا أنها لا تتوافق ومعطيات الاختبار اليومي. ولقد خاف ابن سيراخ من هذه الفوضى التي تهدّد التعليم عن المجازاة فقال: لا تجعل نفسك بين جماعة الخطأة (7: 16)، لا تغَرْ من مجد الخاطئ (9: 11). وحاولَ ان يُهدئ الافكار القلقة، فأعلن بقوة أن المجازاة آتية لامحالة (12: 6، 17: 23). ويتذكر تدخلات الله المفاجئة والحاسمة (5: 7)، ويشدد على اهمية اليوم الاخير فيقول: في يوم السعادة لا تتذكر الشرور، وفي يوم الشقاء تنسى السعادة. فانه من السهل على الرب ان يجازي الانسال حسب اعماله. شرُّ ساعة يُنسي اللذات، وفي وفاة الانسان تنكشف اعماله. لا تغبط احدا قبل موته، لأن الرجل يُعرف في نهايته (11: 25- 28). بما تقوم هذه الساعة التي تنسي الانسان سعادة حياته؟ هذا ما لا يقوله الكاتب لأنه لا يعرفه.
ولكن هناك مقاطع تدعونا الى أن نفكر في المجازاة بعد الموت. يقول إن الموت هو هبوط جديد في التراب والرماد (17: 32؛ 40: 11) وإن الانسان الذي يموت يرث الافاعى والوحوش والدود (10: 11). ونقرأ في اماكن اخرى ان الشيول يكون خيراً للبعض ومعاديا للبعض الآخر. الذي يخاف الرب يطيب نفساً وينال حظوة عند وفاته (1: 13). إتضِعْ إتضاعاً عميقاً لأن عقاب الخاطئ نار ودود (7: 17). حين يقرأ المسيحي هذه العبارات فهو يفكر بعذاب جهنم، ونقدر ان نقول ان في هذا النص بداية التفكير في هذه العقيدة.
وهناك ايضاً سبب قلق وشك لدى النفوس التقية هو الشقاء الذي يصيب الابرار. فهذا ما لا يجهله ابن سيراخ وهو الذي أصابته شرور كثيرة (51: 3، 10). ولكنّه تعلّم من الذين سبقوه ان الله لا يتخلّى ابداً عن احبائه، وإن اخضع للذل والآلام فلكي يمتحنهم ويجعلهم احسن مما كانوا عليه، قال: يا بني ان اقبلت إلى خدمة الرب فهيء نفسك للمحنة. اجعل لنفسك قلباً مستقيماً وثابتاً ولا تقلق في زمن الشقاء. كل ما يحدث لك فاقبله وكن صابراً على صروف اتضاعك، فان الذهب يمحّص في النار والناص المرضيين يُمحصون في اتون الاتضاع (2: 1- 5). وهكذا على المؤمن ان يمارس الصبر ويثبت حتى البطولة. جاهد عن الحق الى الموت، والرب الاله يقاتل عنك (4: 28).
ج- وجهات من الديانة
يتحدث ابن سيراخ عن الله. إنه الواحد والأزلي وخالق كل شيء ولا سيما الانسان الذي جعله على صورته. إنه العناية الشاملة والسيد المطلق للمصائر والممالك والاحداث. يعرف كل شيء ويقدر على كل شيء. إنَّه العادل وحده والحكيم وينبوع كل حكمة والرحوم والرؤوف. هو رب الكون وهو إله العهد الذي منح شعبه المختار شريعة حياة وأسكن الحكمة عنده. وكما ان الله يفيف مجده في مدهشات الكون، كذلك يكشف عن مجده في تاريخ شعب اسرائيل الذي يتذكره الكاتب في مديح الآباء.
ويتكلم ابن سيراخ عن العبادة. فالوجهة الذبائحية تحتل مكانة هامة في فكر ابن سيراخ. وهو يعتبر الكهنوت وينصح المؤمنين بان لا يتخلوا عن خدام الرب (7: 30). يجب ان نخاف الرب ونكرم الكاهن ونعطيه حصته كما هو مفروض (7: 31). يجب ان نقدم بدقة الذبائح والتقادم التي تفرضها الشريعة وان نكون أسخياء في عطائنا (35: 7- 9). ولكن هذه الأعمال العبادية لا تستنفد واجباتنا نحو الله. وإنه لمن الخطأ أن نحسب نفوسنا بريئين من كل دَين إذا تصرفنا هكذا. فالله لا يقبل الذبائح إلا إذا قُدمت باستعدادات توافق الشريعة ولاسيما العدالة والرحمة والمحبة. في هذا المجال يبدو تعليم ابن سيراخ صدى لمتطلبات الانبياء ولاسيما عاموس وهوشع وميخا واشعيا وارميا. والمقطع المعنون "العبادة التي يقبلها العلي" (34: 18-35: 15) هو من اجل ما تركه لنا العهد القديم.
وفكرة الموت تحاصر ابن سيراخ. فالتنبيه "اذكر آخرتك" يعود كردة تتكرر (7: 36؛ 8: 7؛ 14: 12؛ 28: 6؛ 38: 20). نحن لا نستطيع ان نتجنب الموت لأن الانسان ليس خالداً (17: 30). فمنذ حواء وبسببها (25: 24) أعلنت الشريعة الازلية: موتاً تموت (14: 17)، ولا رجوع عن هذا الاعلان. وفكرة الموت القريب والمحتوم تملأ قلب البشر رعباً (40: 2). ولكن لا يجب أن نتمرد على هذا الحكم القاسي. لا تخف حكم الموت، تذكر الذين سبقوك والذين لحقوك. هذا هو الحكم الذي اصدره الله لكل بشر. فلماذا تتهرب من ارادة الله (41: 3- 4). فاولى بالانسان ان يستخلص نتائج وضعه ككائن مائت: احفظ الوصايا ولا تخطأ (7: 36، 8: 7)، لا تسلّم نفسك إلى الحزن واستفد من كل الملذات المسموح بها. أذكر أن الموت لا يبطئ وأنه لم يُكشف لك العهد مع الجحيم. لا تحرم نفسك من يوم صالح ولا يَفُتْك حظُ خير شهي. أعط وخذ وانسَ همومك فلا سبيل الى التماس الفرح في الجحيم (14: 11- 16).
والخطيئة كالموت تحتل مكانة هامة في فكر ابن سيراخ. فنحن كلنا تحت الحكم (8: 5) ومن لا يعذبه حزن الخطايا (14: 1). عاد ابن سيراخ الى خبر السقوط فذكرنا ان الخطيئة بدأت بامرأة (25: 24). ولكن اذا كانت هذه الخطيئة سبب موت للجنس البشري، فهي لا تنتقل بالوراثة. وان الانسان لا يقدر ان يتهم الله كأنه مسؤول عن خطاياه. لا تقل: سقطت بسبب الرب. فما يكرهه الله لا يفعله. ولا تقل: هو اضلني لأن الله لا يحتاج إلى انسان خاطئ (15: 11- 12). هذا الكلام يمنعنا من تفسير بعضى النصوص بمعنى مصير مسبق قرره الله منذ الأزل لفئتين من الناس: الابرار والاشرار، الانقياء والكافرون (39: 24- 27؛ 41: 9- 10). ولا تقل ان الله يفعل ما يشاء ليجازيهم حسب ما يرتئي (33: 13).
والإنسان يبقى حراً أمام الخطيئة: الرب صنع الانسان في البدء وتركه يختار. إذا أردتَ، حفظت الوصايا وأتممت مرضاته بأمانة. وضع أمامك النار والماء فتمد يدك الى ما تشاء. جعل الحياة والموت امام الانسان، فما اعجب الانسانَ يُعطى له... لم يوصّ أحداً ان يكون منافقاً ولا أذِن لأحد أن يخطأ (15: 14- 30) لا شك في ان اللحم والدم يميلان الى الخطيئة، ولكننا نَستطيع ان نتغلب عليهما بمخافة الرب (1: 21)... بتأديب الحكمة (23: 2)، بممارسة الشريعة. من حفظ الشريعة ساد على ميله، ومخافةُ الرب تَكمُل في الحكمة (21: 11).
إذاً، يستطيع الانسان أن يتجنّب الخطيئة. ولكن عليه ان يحذرها (18: 27)، أن يبتعد عنها (8: 5)، ان يهرب منها كما يهرب من امام الحية (21: 2). وإن اخطأ الانسان فلا يكرر (7: 8) فيزيد خطيئة على خطيئة (3: 27؛ 5: 5)، ولا يتمرغ في الخطايا (23: 12). فليترك خطاياه (17: 25) ولا يستح ان يقرَّ بها (4: 26) ويعود الى العلي (17: 25- 26) وينقّي قلبه من كل خطيئة (38: 10). وليتصدق، لأن الصدقة تكفّر عن الخطايا (3: 30)، وليصلّ الى الله (21: 1) وليتوسل إليه من أجل خطاياه (39: 5). فالله رحوم وهو يعرف حالتنا التعيسة، لذلك يَغفر لنا (18: 12) ويصفح عن ذنوبنا (2: 11) شرط أن نصفح عن ذنوب الآخرين (28: 2- 5).
د- وجهات من الحياة
أول وجهة يتوقف عندها الكاتب هي التمتع بالحياة. فمخافة الرب وممارسة الشريعة وطلب الحكمة تؤمن السعادة. ولكن بما أن ابن سيراخ لا يعرف الحياة الأخرى، وبما ان الحياة قصيرة والنهاية قريبة، فيجب ان نتمتع بالخيرات التي تمنحنا اياها الخليقة وتسمح بها الشريعة. قال ابن سيراخ: لا تحرم نفسك من نهار صالح. وهذه السعادة نحفظها ونغنيها ونطيلها ما استطعنا. من هنا ترد النصائح: حافظ على صحتك وهي أثمن الخيرات (30: 14- 17) ولا تضرَّها بالطعام الكثير والشراب الكثير. مارس العفة واعرف ان تشبع. وإذا احتجت فاستشر الطبيب (38: 1- 15).
ولكن فوق كل شيء احفظ قلبك سعيدا (30: 25) وامنع عنه ما يقلقه ويجعله تعيساً. فالحسد والغضب يُقصِّران أيام الانسان، والهموم تجعله يشيخ وهو في شرخ الشباب (30: 24). أما اكبر عدو فهو الحزن. فلا تستسلم الى الحزن ولا تكتئب في افكارك. ففرح القلب هو حياة الانسان وبهجة الانسان تطيل ايامه (30: 21 ي). ولا يجب ان تُطيل ايام الحداد بل ان تقصرها، لأن حزن القلب يضعف القوة (38: 18)، ولانك لا تقدر ان تصنع للميت شيئاً. لا تنس، فانه لا رجوع من هناك، ولست تنفعه ولكنك تضر بنفسك. حين يرتاح الميت أترك ذكره يرتاح وتعزَّ عنه عند خروج روحه (38: 21- 23). ولماذا نلقي الغم على حياتنا فنفكر في شقاء الانسان (40: 1- 11) وحكم الموت الذي يصيبه. خير لك ان تنعم بالسلام والسعادة ولا تحرم نفسك من الملذات التي يمنحها العلي (41: 4).
وندافع عن هذه السعادة ضد اعدائها ونكون ساهرين عليها نحيطها بسلسلة من الاحتياطات. أولاً: نمارس الفطنة في سلوكنا فنعمل كل شيء في وقته. ونمارس الفطنة في اختيار علاقاتنا، أكانوا اصدقاء أو مستشارين، ونمارس الفطنة في تدبير اموالنا. ثانياً: نحذر أعداءنا، نحذر الشرير والغريب والخاطئ، نحذر المرأة، بل نحذر اصدقاءنا واولادنا.
ويحدّثنا ابن سيراخ عن العيلة فيشير إلى فرحة الاب الذي ربى إبنه بالقضبان (30: 1) فيقدر أ، يرقد بسلام لأنه ترك شخصاً يشبهه. ولكن الكاتب لا يذكر بناته إلاّ ليتحدث عن الهم الذي تشكلّه له كل واحدة منهن (42: 9- 10). وهناك قول يتعلق بالأولاد الذين لا فائدة منهم وبالابناء الاشرار (16: 1). حين كان الخصب علامة بركة من الله (مز 113: 9) والعقم عاراً وعقاباً (تك 30: 23، هو 9: 11)، اعتبر ابن سيراخ ان الموت من دون ولد خير من ان يكون لنا اولاد اشرار (16: 3). وستعود حكمة سليمان (حك 4: 1) إلى هذا القول وتتوسع فيه.
وحين نتكم عن العيلة نذكر المرأة. لا شكَّ في ان احكام ابن سيراخ قاسية على المرأة. فهي التي أدخلت الخطيئة الى العالم (25: 24). ويضع أمامنا صورة الزانية والثرثارة والسكيرة والغيورة والفاجرة. ويقول: لا غضب شر من غضب المرأة. مساكنة الاسد والتنين خير عندي من مساكنة المرأة الشريرة (25: 15 ي). وسيقول: شر الرجل خير من صلاح المرأة (42: 14). هذا هو الوجه السلبي ولكن هناك الوجه الايجابي وقد عرف ابن سيراخ المرأة الوديعة والذكية والجميلة والمحتشمة والصامتة والقوية. عرف الزوجات الحكيمات والصالحات وامتدح فيهن الجمال والنعمة والفتنة. وشدَّد على دورهن في حياة الانسان. قال: جمال المرأة يُبهج الوجه ويفوق كل ركبة في الانسان. إن كان في لسانها رحمة ووداعة فليس رجلها كسائر بني البشر. من حاز امرأة فهي له رأس الغنى وعون بازائه وعمود يستريح إليه. حيث لا سياج يُنتهب الملك، وحيث لا امرأة ينوح الانسان ويروح تائهاً. من يأمن اللص الهائم من مدينة الى مدينة؟ هكذا حال الرجل الذي لا وكر له فيأوي إليه حين يأتي المساء (36: 22- 27).
ويكلمنا ابن سيراخ عن الكبرياء والتواضع (2: 17؛ 3: 20؛ 15: 8؛ 16: 8) عن الغضب والغضوبين (10: 18؛ 27: 30؛ 28: 3)، عن الخصومة والخلاف (28: 8؛ 40: 4، 9) وعن شرور اللسان (5: 13؛ 9: 17؛ 19: 7- 13) وأولها الكذب (20: 24- 26)، وعن الكسل (22: 1- 2) وعن الخمر (19: 2، 31: 29- 31).
هـ- الحياة، الاقتصادية والحياة السياسية
ويحدثنا ابن سيراخ عن الغنى والفقر. فالغنى له محاسن. الغنى صالح إذا كان بلا خطيئة (13: 24) وهو يمنح الانسان السلطان والثقة بالنفس (40: 25- 26). ويقابل ابن سيراخ الغني مع الفقير. الغني يظلم ويصخب، والفقير يُظلَم ويتضرع (13: 3). إذا تزعزع الغني ثبَّته اصدقاؤه، وإذا سقط المتواضع طرده اصدقاؤه. يزلّ الغني فيعينه كثيرون، يقول قول الجهل فيبررونه. يزلّ المتواضع فيوبخونه، ينطق بعقل فلا يجعلون لكلامه موضعاً. يتكلم الغني فينصت الجميع ويرفعون مقالته الى السحاب. يتكلم الفقير فيقولون: من هذا؟ وإن عثر يصرعونه (13: 21- 23). وللغنى مخاطره ايضاً لاسيما إذا ربحناه بسرعة وبالظلم، ومن أخطار الغنى انه يفقدنا النوم والصحة. وأكبر خطر هو أننا نجعل ثقتنا فيه وهو سريع العطب. لا تستند الى مال الظم لأنه لا ينفعك في يوم الشقاء (5: 8). مال الظالمين يجف كالسيل وكقصف الرعد وسط الشتاء (40: 13). فكيف نتخلص من نحاطر المال؟ حين نوزعه على الفقراء والمساكين، حين نمارس الصدقة.
وينبهنا ابن سيراخ الى أهمية الزراعة في الحياة الاقتصادية (7: 15، 22)، الى الموازين والمكاييل العادلة (26: 29- 27: 2)، إلى القرض والكفالة (29: 17- 18) وإلى العمل اليدوي فيقابل بين الصنّاع والكتبة (38: 24- 39: 11).
وإذ ينتقل الى الحياة السياسية، يتكلم عن الملك والرؤساء أكانوا عظماء أو قضاة او مستشارين. ونعيش مع الجماعة في المدينة، أكانت جماعة تناقش اموراً اجتماعية او جماعة تصلي في لقائها الاسبوعي في المجمع.
6- أهمية ابن سيراخ
ابن سيراخ هو شاهد على عصر اخذت تتحول فيه الديانة اليهودية بوجهها المتعدد قبل أن تأخذ الوجه الفريسي الذي عرفناه في العهد الجديد وبعد دمار أورشليم سنة 70 ب. م. وواجه ابن سيرأخ الحركة الهلينية فأخذ منها ما أخذ بمقدار، وحذَّر المؤمنين من تأثيرها.
ويشهد ابن سيراخ أيضاً على تنظيم لائحة بالاسفار المقدسة. فالمقدمة تذكار التقسيم المثلث: التوراة، الأنبياء، الكتب (رج 39: 1- 3) ويشير الكتاب الى اسفار البنتاتوكس ويشوع وصموئيل والملوك والأخبار وايوب واشعيا وارميا والأثني عشر (لاسيما ملاخي، وحجاي) ونحميا. وهو ينسب المزامير إلى داود والامثال الى سليمان.
لهذا سيكون ابن سيراخ من الكتَّاب المفضلين لدى اليهود. فالتلمود يورد اقواله، بل يوردها العلمون حتى القرون الوسطى ويقابلون بينه وبين "اقوال الآباء". وقد اثر ابن سيراخ ايضاً على نصوص مهمة في الليتورجيا اليهودية مثل عيد الغفران (كيبور) وصلاة البركات الثماني عشرة.
ولقد حظي ابن سيراخ باعتبار كبير لدى المسيحيين الأولين فسموه الكتاب الكنسي واستلهم يعقوب بعض مقاطعه وادخلوه في لائحة الاسفار القانونية رغم تحفظ اليهود ولاسيما التيار الفريسي الذي اعتبر افكاره لا توافق النظرة الرسمية التي تركزت في العالم اليهودي بعد سنة 70.
الخوري بولس الفغالي

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM