ملكوت الله سلام وفرح.

 

ملكوت الله سلام وفرح

في جماعة رومة التي كتب إليها القدّيس بولس سنة 56-57 وُجدت فئتان: تلك الآتية من العالم اليهوديّ، وتلك الآتية من العالم الوثنيّ. هذه تنعم بحرّيّة نادى بها بولس، تجاه الطعام والشراب، فقالت: لا شيء نجس. فكلُّ ما خلقه الله هو حسن. ويمكن أن يكون لاستعمال المؤمن. والآتون من العالم اليهوديّ، تجنَّبوا بعض الأطعمة. بل خافوا أن يأكلوا من لحم قد يكون منجَّسًا لأنَّه في يد غير يهوديّة. لهذا اكتفوا بالبقول. هم لم يعرفوا بعدُ الحرّيّة التي في المسيح، بل لبثوا مقيَّدين بعادات وفرائض وممنوعات تعود إلى الماضي السحيق ولا تمتّ إلى الإيمان بصلة. هؤلاء هم الضعفاء ولا بدّ من احترامهم. والآتون من العالم الوثنيّ صاروا الأقوياء، لا بقوّة الطعام، بل بقوّة المسيح. فهموا أنَّ ملكوت الله ليس أكلاً ولا شربًا، بل هو برٌّ وسلام وفرح في الروح القدس.

ونقرأ النصّ الكتابيّ:

فلا يحكم بعضنا على بعض، بل الأولى بكم أن تحكموا بأن لا يكون أحدٌ حجر عثرة أو عائقًا لأخيه. وأنا عالم ومتيقِّن في الربّ يسوع أنَّ لا شيء نجس في حدِّ ذاته، ولكنَّه يكون نجسًا لمن يعتبره نجسًا. فإذا أسأتَ إلى أخيك بما تأكله، فأنت لا تسلك في طريق المحبّة. فلا تجعل من طعامك سببًا لهلاك من مات المسيح لأجله، ولا تعرِّض ما هو خير لكلام السوء. فما ملكوت الله طعام وشراب، بل عدل وسلام وفرح في الروح القدس. فمن خدم المسيح مثل هذه الخدمة نال رضى الله وقبول الناس. فلنطلب ما فيه السلام والبنيان المشترك ( روم 14: 13-19).

1- حجر عثرة

هي صورة مأخوذة من الحياة اليوميّة: نضع حجرًا في طريق الأعمى، نتصرَّف أمام الضعيف بحيث يسقط، بحيث يعثر. فقد حدَّثَنا يسوعُ عن عضو من أعضائنا يمكن أن يجعلنا نعثر: إذا جعلتك عينُك اليمنى تعثر، فاقلعها وألقها عنك... وإذا جعلتك يدك اليمنى تعثر. فاقطعها وألقها عنك (مت 5: 29-30). إذن نستعدُّ لأن نفقد عضوًا، ولا نفقد جسدنا كلَّه. بل لا نعرِّض نفسنا للهلاك في جهنَّم. وتحدَّث الربُّ في خطبة موجَّهة إلى الجماعة المسيحيّة فقال:

»مَن جعل أحد إخوتي هؤلاء الصغار المؤمنين بي يعثر فيسقط في الخطيئة، فخيرٌ له أن يعلَّق في عنقه رحى الحمار ويُرمى في أعماق البحر« (مت 18: 6). فما هي الأمور التي تجعل أخانا يعثر؟ الطعام والشراب.

هذا يصوم ويدين من لا يصوم. ذاك يأكل ويدين من لا يأكل. منعنا الربُّ من الدينونة. منعنا من أن نحكم بعضنا على بعض. إن صُمنا لا نظهر بوجه معبَّس لكي يرى الناس أنّنا صائمون. وإن أكلنا نتصرَّف بدراية وسرّيّة بحيث لا نشكِّك الذين حولنا. فماذا يحدث في الواقع؟ التقيّ الورع الذي يصوم، يدين الذي يأكل. وهكذا يدلُّ على ضعفه. إن صام فلربِّه يصوم، وإن أكل فلربِّه يأكل وربَّه يشكر. ولكن على من يعتبر نفسه »قويٌّا« أن لا يشكِّك ذلك الضعيف بتصرُّفاته، وخصوصًا بأقواله التي يمكن أن تدلَّ على احتقار أو شفقة. ما يجب أن يسيطر على عملنا، ليس حرّيّة لا حدود لها، بل حرّيّة ترافقها المحبّة. فحين تسيطر المحبّة في الجماعة، يزول كلُّ ما يمكن أن يشكِّك أخي. وقد قال بولس في معرض كلامه عن لحم يذبح في الهياكل الوثنيّة: أنا مستعدٌّ أن لا آكل اللحم في حياتي، إن كان أكلي عثارًا لأخي. أأُهلك بطعامي من مات المسيح من أجله؟ كلاّ.

2- لا شيء نجس في ذاته

حين خلق الله الكون، رأى جميع ما خلقه فإذا هو حسن جدٌّا. ويعدِّد سفر التكوين المخلوقات من نبات وحيوان. كلُّه حسن لأنَّه خرج من يد الخالق. كلُّه مقدَّس بعد أن نظر الله إليه. وغير هذا لا يمكن أن يكون كلامٌ لدى المؤمن. لماذا آكل النبات ولا آكل لحم الحيوان مع أنَّ الربّ قال لنوح: »كلُّ حيٍّ يدبُّ فهو لكم طعامًا كالبقول من النبات. أعطيكم كلَّ شيء« (تك 9: 3). فلماذا يخاف المؤمن من أكل هذا الطعام أو ذاك. لأنَّه يعتبر أنَّه ينجِّسه؟ وقد قال لنا بولس: »كلوا ممّا يقدَّم لكم«. تلك هي المشاركة الحقّة حين نُدعى للطعام، وإلاّ كانت الحواجز بين جماعة وجماعة. هناك شعوب لا تأكل ممّا تحت الأرض. لا تأكل البطاطا والفجل واللفت. بل تأكل ما يتساقط من الشجر. وفئات لا تأكل اللحم ولا تشرب الخمر، بل حتّى لا تمارس الزواج وتمتنع عن كلِّ لذّة، لأنَّها تعتبر الجسد شيئًا نحتقره لكي نقوّي النفس. هي تفصل بين الاثنين، وهذا خطأ كبير. فالإنسان إنسان، وجسده للربّ كما أنَّ الربَّ للجسد. من أجل أجسادنا، من أجلنا مات يسوع. وهو سيُقيم أجسادنا المائتة. فلماذا لا نكرِم الجسد الذي هو مسكن الروح القدس؟ والمسيح نفسه رفض »بحثًا عن طهارة« في أمور خارجيّة. إن لم نغسل أيدينا قبل الطعام نخطأ. وإن أكلنا من طعام معيَّن نخطأ. فيسوع اعتبر جميع الأطعمة طاهرة. وقال: »ما يخرج من الإنسان هو الذي ينجِّس الإنسان«. أمّا »ما يدخل الإنسان من الخارج، من طعام أو شراب، فلا ينجِّسه«. فالطعام لا يدخل إلى القلب بل إلى الجوف، ثمَّ يخرج من الجسد. أمّا الشرُّ فيخرج من الداخل، من قلوب الناس (مر 7: 15-23).

كلاَّ لا شيء نجس في ذاته، بل يكون نجسًا لمن يعتبره نجسًا. إذن، نظرةُ الإنسان هي التي تحوِّل القداسة إلى نجاسة، وما خلقه الله، إلى حاجز يفصل بين الإنسان وأخيه. فلا تأكل فئة مع فئة. وما يأكله أشخاص لا يأكله آخرون. أهذه هي المائدة المشتركة التي يدعو الله إليها جميع البشر؟ ومتى نطهِّر قلوبنا ونوايانا من كلِّ هذه العادات التي تقيِّدنا، تجعلنا عبيدًا، تمنعنا من أن نكون أحرارًا لكي نلتقي بجميع البشر؟ فالطعام هو لخدمة الإنسان والشراب كذلك. ونحن نستعمل كلَّ شيء بالشكر بحيث تصبح ولائمُنا ولائمَ المحبّة.

3- السلام والبنيان المشترك

هذا ما يبحث عنه المؤمن. السلام مع الجميع. فكلُّ حاجز يلغي السلام الذي لا يرفض العداوة فقط، بل يحمل كلَّ خير وبركة. فإلهنا هو إله السلام بعد أن بشَّرنا به الملائكة يوم ولادة المخلِّص. والسلام يحمل الفرح ويعلِّم المؤمن الانفتاح على الآخرين، لا الانغلاق على ذاته، في برجه العاجيّ، معتبرًا جميع البشر خطأة لأنَّهم لا يفكِّرون مثله، لا يعملون مثله، لا يقرأون ما يقرأ، لا يأكلون ما يأكل. هو صار المعيار الذي يدلّ على »القداسة«. هو وحده يخلُص. والباقون ذاهبون إلى الهلاك. مسكين مثل هذا الإنسان الذي يشبه الفرّيسيّ الذي حسب نفسه تقيٌّا، فإذا الله قد رذله. أتى لكي يصلّي في الهيكل فرفض الله صلاته لأنَّها ما عرفت التواضع. فضَّل أن لا يلتقي بأخيه العشّار الآتي ليطلب الرحمة، فإذا هو وحده من دون الله. أمّا الخاطئ فعاد إلى بيته مبرَّرًا.

والبنيان الذي يتحدَّث عنه الرسول ليس فقط المثل الصالح الذي يمكن أن يؤثِّر على الفرد كما على الجماعة. بل هو عمل بناء الكنيسة جسد المسيح. فحين يختلف الإخوة حول الطعام والشراب، تنقسم الجماعة. أما هذا الذي حدث في بداية الكنيسة، حين رفض اليهوديّ (الذي صار مسيحيٌّا)، أن يأكل مع الوثنيّ (الذي صار مسيحيٌّا)؟ رفض أن يأكل من طعامه. رفض أن يسلِّم عليه لئلاّ يتنجَّس. مثل هذه الكنيسة بدأت تتفكَّك بحيث انفصل بولس عن بطرس وبرنابا في أنطاكية، فعادت الجماعة إلى وثنيّة العادات والتقاليد، وتركت السلام والبنيان المشترك.

ذاك هو هدف الطعام: البنيان. وإن نحن صُمنا فمن أجل البنيان. وإن امتنعنا عن أكل بعض الأطعمة فمن أجل البنيان. أنا لا أصوم من أجل الصوم، ولا أمتنع عن طعام لأنَّ هذا الطعام نجس. بل أقمع جسدي وأستعبده لئلاّ أرذَل أنا بعد أن بشَّرتُ كثيرين. فالهدف أبعد من الطعام. هو سيطرة على ذاتي وعلى كلِّ شيء حولي لكي أكون حرٌّا كلَّ الحرّيّة مع المسيح. إن أكلت لا أُزاد قداسة. وإن لم آكل لا أنقص. فلا الطعام يقدِّس ولا عدمه ينجِّس. بل السير في طريق المسيح الذي بدأ رسالته في تجرُّد تامّ، حين صام في البرّيّة أربعين يومًا. من أجل هذا يصوم المؤمن، وهو لا يحاول أن يتسعيد هنا ما تخلّى عنه هناك. وإن كان غنيٌّا. ما اكتفى بأن يوفِّر »طعامًا وشرابًا«، بل حمل ما وفَّره إلى من ليس له طعام وشراب. حينئذٍ يشارك الشبعانُ الجائعَ في صومه، ويشارك الجائع الشبعان حين يأكل ويشرب، ويسقط الحاجز الذي فصل بين لعازر والغنيّ، فصار في الآخرة هوّة سحيقة »لا يقدر أحد أن يجتازها« (لو 16: 26).

خاتمة

المسيحيّ حرٌّ كلُّ الحرّيّة في المسيح. فإن أكل شارك المسيح الذي بدوره شارك الذين حوله في طعامهم وشرابهم، فكثَّر لهم الأرغفة والسمك. وحوَّل لهم الماء خمرًا من أجل سعادة أعراس هي صورة عن أعراس السماء حيث لا يأكل الناس ولا يشربون، لا يزوِّجون ولا يتزوَّجون، بل يكونون مثل ملائكة الله.

والمسيحيّ إن صام فهو يسير في خطى المسيح. في تجرُّد عن كلِّ ما يتعلَّق به الناس، لكي يشدَّ نظره إلى عيد الفصح والقيامة. فالصوم نوع من موت عن عاداتنا وشهواتنا وميولنا. هكذا نرافق يسوع في صعوده إلى أورشليم، فندخل معه في الباب الضيِّق الذي يفتح أمامنا الآفاق الرحبة، الواسعة. عند ذلك نفهم حقٌّا ما هو ملكوت الله وما يحمله من برٍّ وسلام وفرح. عندئذٍ يكون كلُّ ما نقوم به من ممارسة من أجل السلام والبنيان المشترك.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM