متُّم وقمتم مع المسيح.

 

متُّم وقمتم مع المسيح

حين كان المؤمن يتقبَّل العماد، كان ينزل بدرجات إلى جرن العماد، يخلع ثيابه ويغطس في الماء، علامة الموت. ثمّ يخرج من الماء ويلبس الثياب البيضاء، علامة الانتصار والطهارة، علامة القيامة. هو في هذا العمل السرّيّ مات مع المسيح كي يقوم في المسيح. لا شكَّ في أنَّ الموت الحقيقيّ لم يحصل له بعد، ولا القيامة. فما دام على الأرض هو في الجسد. لهذا يتقبَّل العماد حقٌّا حين يموت، فيكون موته باب الدخول إلى السماء. نحن نرى موته ولكنّنا نؤمن أنَّه قام. فنحن نعرف ما قال الرسول لأهل كورنتوس: إن كان المسيح قام، فنحن نقوم أيضًا.

هذا ما تشرحه الرسالة إلى كولوسّي فتقول:

فإن كنتم متُّم مع المسيح، وتخلَّصتم من قوى الكون الأوَّليّة، فكيف تعيشون كأنَّكم تنتمون إلى هذا العالم؟... وإن كنتم قمتم مع المسيح، فاسعوا إلى الأمور التي في السماء حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتمّوا بالأمور التي في السماء، لا بالأمور التي في الأرض، لأنّكم مُتُّم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله. فمتى ظهر المسيح الذي هو حياتكم، تظهرون أنتم أيضًا معه في مجده. أميتوا، إذًا، ما هو أرضيّ فيكم كالزنى والفسق والهوى والشهوة الرديئة والفجور (كو 2: 20- 3: 5).

1- متُّم مع المسيح

في الشهادة المسيحيّة الأولى، كان الإعلان الرسوليّ: »المسيح مات من أجل خطايانا، كما جاء في الكتب« (1كور 15: 3). هذا الموت تحدَّث عنه الإنجيليّون الأربعة، وأطالوا الحديث عن محاكمة يسوع أمام السلطات اليهوديّة، والسلطات الرومانيّة. وفي النهاية صُلب الذي سُمِّي »يسوع الناصريّ ملك اليهود« (يو 19: 19). هذه الكتابة قرأها من عرف الآراميّة واللاتينيّة واليونانيّة. يعني قرأها البشر في العالم المعروف آنذاك حول البحر المتوسِّط.

وحدَّثنا بولس الرسول أكثر من مرّة عن هذا الذي مات عن خطايانا. فهو إنسان كسائر الناس، لهذا كان مصيره مصير جميع البشر. أخذ ما لنا. أخذ الموت وأعطانا ما له. أعطانا الحياة. ومع أنّنا أشخاص ضعفاء، مائتون، فهو ما استحى بأن يدعونا إخوته. بسبب الخطيئة حلَّت اللعنة بالأرض، »غير أنَّ المسيح حرَّرنا من لعنة الشريعة، بأن صار لعنة من أجلنا« (غل 3: 13). وصار أيضًا ذبيحة خطيئة، مع أنَّه لم يعرف الخطيئة، لنصير به أبرارًا عند الله (2كور 5: 21).

مات المسيح، وبموته قهر الموت. لم يعد للموت سلطان عليه. وبالتالي أنقذنا من سلطان الموت، »فكان لنا به الفداء أي غفران الخطايا« (كو 1: 13-14). في هذه الحال، لم يعد الموت هو النهاية. ولا هو يسجُنُنا في الجحيم وعالم الموتى. فالقبر مفتوح لدى يسوع، وهو يضجُّ بالحياة، لا بالموت، بحيث لا نحتاج بعد إلى الطيوب لندهن به جسد يسوع، ونسكبه على جثمان الربّ (مر 16: 1). بعد اليوم لا نبحث عن الحيّ بين الأموات. لا نبحث عن يسوع، ولا نبحث عن الذين هم مع يسوع في القبور. في هذا المجال، نقرأ أيضًا بولس الرسول في أف 4: 14: »فإن كنّا نؤمن بأنَّ يسوع مات ثمَّ قام، فكذلك نؤمن أنَّ الذين رقدوا في يسوع ينقلهم الله إليه مع يسوع«.

حين يموت المعمَّد مع يسوع، يموت عن هذا العالم، يتخلَّص من قوى الكون الأزليّة، التي تحاول أن تستعبد الإنسان وتمنعه من أن يتحرَّر بالإيمان بيسوع المسيح. إنَّ الذي صار مع المسيح، لم يعد ينتمي إلى هذا العالم وما فيه من رفض ليسوع، وللإيمان بالربّ. لا شكَّ في أنّنا في العالم، ولكنَّنا لسنا من العالم، كما قال لنا يسوع (يو 15: 19). نحن لا ننتمي إلى العالم، كما أنَّ المسيح لا ينتمي إلى العالم (يو 17: 14-15). حين اعتمدنا تقدَّسنا، صرنا حصّة الله وخاصّته، ونحن نستعدُّ أن نقبله فنفترق عن العالم الذي لم يقبله، وعن خاصّته الذين رفضوه.

2- قمتم مع المسيح

ويواصل الرسول كلامه مستندًا إلى رتبة العماد مع حرف الجرّ »مع«. مُتنا مع المسيح. ما متنا وحدنا، في عزلة قاتلة. وفي الموت، لا نبدأ ونمضي للقاء الرب، بل هو يبادر ويأتي إلى لقائنا. فذلك الذي هو الحياة، يحمل الحياة إلى موتى القبور. وذاك الذي هو القيامة، لا يسمح أن يصل الفساد إلى أحبّائه، الذين تألَّموا معه وماتوا. فهم يقومون معه ويُمجَّدون.

فالمؤمن ليس ابن الموت، بل هو ابن القيامة. هذا يعني أنَّه منذ الآن مع أبيه. لا يقول الرسول هنا: نحن سوف نقوم. بل نحن قمنا منذ الآن. نحن في هذه الحياة أبناء القيامة، بحيث بدأ مجدُ الله يعمل فينا. إن تطلَّعنا بالأرض، التصقنا بالأرض، وما عرفنا بعد أن نتقدَّم، أن نرفع رؤوسنا إلى فوق، نُشبه حِنذاك أبناء الشعب العبرانيّ: تركوا مصر وعبوديّتها ولكنَّهم ما زالوا يحنّون إلى اللحم والسمك والبطّيخ الذي فيها. أو نشبه امرأة لوط، التي خرجت من سدوم، من أرض الخطيئة. نظرت إلى الوراء، فصارت صنمًا مثل الأصنام التي حنّت إليها. في هذا قال سفر المزامير: »مثل (الأصنام) يكون صانعوها وجميعُ المتَّكلين عليها« (115: 18).

تلك هي نظرة المؤمن الذي صار ابن القيامة. ومن هنا تنبع حياته وتصرُّفاته، بحيث لا تكون نظرته نظرة تشاؤم تُغرقه في مناخ الخطيئة. فهو ابن الخلاص منذ الآن. فما عليه إلاّ أن يتجاوب مع عطاء الله. منذ الآن، يسوع هو حياتنا. وحياتنا هي في حياته، فلماذا نخاف من الموت؟ لماذا نخاف من الذي يقتل الجسد ولا يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك؟ منذ الآن، نرافقه في الجسد، لأنَّه قام، وما عاد للموت عليه من سلطان (روم 6: 9). فهو بموته مات عن الخطيئة مرّة واحدة، وفي حياته يحيا لله. »فاحسبوا أنتم أيضًا أنَّكم أموات عن الخطيئة، أحياء لله في المسيح ربِّنا« (روم 6: 10).

3- أميتوا، إذًا

تلك هي النتيجة التي نصل إليه. في العماد، في الرمز، نحنُ متنا. ونحن في الواقع ما زال الموت يفعل فينا فعله. فالمؤمن هو ذاك الذي يموت شيئًا فشيئًا عن ذاته كي يحيا لله. لا شكَّ في أنّنا خُلِّصنا، ولكنَّ خلاصنا ليس بنهائيّ. فقوى الموت ما زالت تهدِّدنا، الخطيئة ما زالت رابضة عند بابنا، تستعدُّ لكي تثب علينا. وهذا الصراع أخبرنا عنه بولس حين قال: »الخير الذي أريده لا أعمله. والشرّ الذي لا أريده أعمله« (روم 7: 19). لا لم يمت الشرُّ فينا بعد. وما زال الإنسان العتيق حاضرًا. والخطيئة التي تسكن فيّ ما زالت فاعلة، بحيث لا أفهم ما أعمل. ذاك هو سرُّ الشرِّ في حياتنا وفي العالم.

لذلك يدعونا الرسول: »أميتوا ما هو أرضيّ«. ويشدِّد بشكل خاصّ على الخطيئة الكبرى التي عرفها العالم الوثنيّ بشكل واسع، فتحدَّث عنها بولس في الرسالة إلى رومة: هي الزنى، الفسق، الفجور... كلُّ هذا إنَّما هو عبادة أوثان. فحين يعبد المؤمن الأصنام، يخون الربّ، كما يخون الإنسان شريك حياته حين يزني. شرُّ هذا الزنى لا يمكن إلاّ أن يجلب »غضب الله على كفر البشر وشرِّهم« (روم 1: 18). فإن لم نخفظ نفوسنا خسرناها. وإن أردنا، سيطرنا على الشرِّ الذي يتربَّص بنا. قد يوقعنا كما أوقع قايين فقتل أخاه. ونسيطر عليه بعد أن وعدنا الربُّ بأنَّه ما من تجربة تتعدّى إمكانيّاتنا. فالربُّ يعطينا مع التجربة القوّة التي تعيننا على التغلُّب عليها. وهكذا نفهم أنَّ إماتة الشهوة والهوى الرديء، عملٌ يطول مدى الحياة. فما دمنا في هذا الجسد، نحن معرَّضون. لهذا نحذر أن نخسر »ثمرة أعمالنا« (2يو 8). ونبقى واثقين بالذي دعانا.

خاتمة

ذاك هو تعليم الرسول. إنَّه يتأسَّس على جوهر الحياة المسيحيّة: متنا مع المسيح، قمنا مع المسيح. فنحن من الآن أبناء الخلاص. فلماذا نخاف؟ نحن منذ الآن أبناء القيامة بعد أن نفحنا المسيحُ بنوره. فلماذا نعود إلى عالم الموت وكأنَّ المسيح ما مات من أجلنا؟ يبقى أن نكون منطقيّين مع نفوسنا: لا قيامة مع يسوع إلاّ بعد العبور في الموت. لهذا، يطلب منّا الرسول أن نميت فينا كلَّ ما يربطنا بعالم الأرض، ويمنعنا من الارتفاع إلى فوق. أن نميت الفسق والفجور وكلَّ شهوة. هكذا نكون حقٌّا الإنسان الجديد الذي يتجدَّد في المعرفة على صورة خالقه (كو 3: 10). هكذا نقتدي بالله كالأبناء الأحبّاء، فنلبس عواطف الحنان والرأفة والتواضع والوداعة والصبر، ونلبس فوق هذه كلِّها، المحبّة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM