بالميلاد نحن أبناء الله.

 

بالميلاد نحن أبناء الله

حين جاء بولس الرسول يبشِّر الناس في حوض البحر الأبيض المتوسِّط، دعاهم إلى ترك حياتهم السابقة ليأخذوا بالحياة التي حملها إليهم يسوع. إلى ترك الإنسان العتيق وشهواته ليسيروا بحسب الإنسان الجديد. إلى ترك حياة من العبوديّة والأخذ بحياة من الحرّيّة. هذا ما سيقوله لكنائس غلاطية التي تقابل اليوم المنطقة المحيطة بأنقرة، عاصمة تركّيا. هؤلاء المؤمنون سمعوا بشارة بولس وأحبّوه. بل استعدّوا أن يقلعوا عيونهم ويعطوه إيّاها. ولكن جاءهم مبشِّرون جدد فتبعوهم بسرعة، فجاء كلام الرسول قاسيًا: »أيُّها الغلاطيّون الأغبياء!« أنتم أحرار، فلماذا تبحثون عن العبوديّة؟ بعد أن دعاكم المسيح وكان جوابكم رائعًا، لماذا تتراجعون عن الذي دعاكم؟ ونقرأ نصّ الكتاب:

أتابع كلامي فأقول: إنَّ الوارث لا فرق بينه وبين العبد ما دام قاصرًا، مع أنَّه صاحب المال كلِّه. لكنَّه يبقى في حكم الأوصياء والوكلاء إلى الوقت الذي حدَّده أبوه. وهكذا كانت حالنا: نحن كنّا قاصرين، كنّا عبيدًا لقوى الكون الأوّليّة. فلمّا تمّ الزمان، أرسل الله إبنه مولودًا لامرأة، وعاش في حكم الشريعة، ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة، حتّى نصير نحن أبناء الله. والدليل على أنَّكم أبناؤه هو أنَّه أرسل روح ابنه إلى قلوبنا هاتفًا: »أبّا، أيُّها الآب«! فما أنت بعد الآن عبد، بل ابن. وإذا كنـت ابنًـا فأنـت وارث بفضـل اللـه« (غل 1: 4-7).

1- كنّا قاصرين

إذا كنّا الآن أبناء، فهذا يعني أنّنا كنّا عبيدًا. وإذا كنّا الآن بالغين، فهذا يعني أنّنا كنّا قاصرين. وإن صرنا ورثة الآن، فهذا يعني أنَّ وضعنا كأطفال لم يفصلنا عن وضع العبيد. العبد لا يمتلك شيئًا والطفل لا يمتلك شيئًا إلاّ حين يقرِّر الأب أن ينقل إليه الميراث.

من يحدِّد الوقت الذي فيه نبلغ إلى حيث يريدنا الربّ أن نكون؟ الآب وحده. فالمبادرة كلُّها من عنده. لا شكَّ في أنَّه كان تطوُّر في العالم الوثنيّ. حين وصل أفلاطون إلى عالم المُثُل الذي يربط السماء بالأرض. وحين وصل أرسطو في أبحاثه إلى المحرِّك الأوَّل. وهو لا يتحرَّك. هو الثابت وما عداه متقلِّب. لا شكَّ في أنَّ عالم الكتاب المقدَّس انطلق من العالم الوثنيّ بآلهته المتعدِّدة، فتحدَّث عن إلهه الذي هو أقوى من سائر الآلهة. وفي النهاية فهم أنَّ سائر الآلهة هي أصنام، هي خشب وحجر مرصَّعة بالفضّة والذهب. ولكن حتّى مجيء المسيح، ظلَّ الكون مستعبَدًا. اليهود مستعبَدون للشريعة مع فرائضها 613. من يقدر أن يحفظها كلَّها غيبًا؟ من يقدر أن يعمل بكلِّ ما تطلبه من المؤمن؟ وقد قال المعلِّمون: »من سقط في فريضة واحدة، كان وكأنَّه سقط فيها كلِّها«. وهكذا وصل الأمر مع عدد من اليهود أن يعيشوا عيش الوثنيّين ويطلبوا من الوثنيّين أن يعيشوا عيش اليهود. بل إنَّ هؤلاء اليهود صاروا أسرى نفوسهم فاعتبروا نفوسهم أتقياء لا يمكن أن يجتمعوا مع الآخرين على مائدة واحدة.

والوثنيّون استُعبدوا لعناصر الكون الأوَّليّة. هي »قوى«. ويسمّيها بولس في غل 9: 4: »الضعيفة، الحقيرة«. ويقول عنها في كو 2: 8 إنّها تسلب العقول وتسير بالإنسان إلى الغرور، بل إلى الخطيئة والفساد الخلقيّ. فكيف نستند إليها، ولا نستند إلى المسيح؟ ويطرح السؤال بولس أيضًا: »فإن كنتم متُّم مع المسيح وتخلَّصتم من قوى الكون الأوّليّة، فكيف تعيشون كأنَّكم تنتمون إلى العالم؟ (كو 2: 20). هذه القوى تستعبد الإنسان. والمسيح وحده يخلِّصنا منها. لا ربّ لنا سوى الربّ. لا معلِّم لنا سوى الربّ ومن ينتدبه الربّ. لا سيِّد علينا إلاّ خالقنا الذي هو في الوقت عينه أبونا. ولكن متى كان للبشريّة هذه النعمة الفريدة التي فيها نستطيع أن نقول لله: »أبّا، أيّها الآب«؟ حين تجسَّد الإبن، حين صار بشرًا وسكن بيننا.

 

2- أرسل الله ابنه

تمَّ هذا حين أرسل الله إبنه. يتحدَّث بولس عن ملء الزمن. هناك فراغ منذ بداية الكون. وسيظلّ هذا الفراغ حاضرًا حتّى يأتي المسيح فيملأه بحضوره. ومن قرَّر الساعة التي تكون ملء الزمن؟ الله. من يجعل الزمن يتمّ؟ الربّ وحده. فالمبادرة كلُّها هي منه. هو الذي أحبَّ العالم فأرسل ابنه الوحيد فلا يهلك كلُّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة (يو 3: 16).

جاء يسوع. وُلد في مذود. لا شيء يميِّزه عن سائر الأطفال الفقراء. ومع ذلك، اكتشفه الرعاة الذين يمثِّلون العالم اليهوديّ. انتظروا المخلِّص، وها هو قد أتى. انتظروا المسيح، أي المَلك الذي يمسحه الربُّ ويرسله من أجل خلاص شعبه، وها هو هنا. تمَّ الزمان وأتى ملكوت السماوات في شخص يسوع. انتظروا الربَّ الذي يأتي بنفسه: يشقُّ السماوات وينزل فتميد الجبال من وجهه (أش 3: 19). ونزل الربُّ على سحاب السماء. هكذا بشَّر به الملاكئة: »وُلد لكم اليوم، في مدينة داود، مخلِّصٌ هو المسيح الربّ« (لو 2: 11). وكيف تعرَّفوا إليه؟ »تجدون طفلاً مقمّطًا مضجعًا في مذود« (آ12). ومن تحلّى بالإيمان يسمع نشيد الملائكة: »المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام« (آ14).

والوثنيّون أتوا إليه في شخص المجوس. تأمَّلوا في الكواكب والنجوم، فاكتشفوا نجمة خاصّة، تكلَّم عنها النبيّ الوثنيّ بلعام: »يطلع كوكب، يقوم صولجان« (عد 24: 17). هذا الذي هو نور العالم. هذا الذي قاد هؤلاء الباحثين إليه، هو ويسوع، أي مخلِّص العالم من خطاياهم. هو عمانوئيل، إلهنا معنا (مت 1: 21-23).

ولكن هذا الذي هو إبن الله، وُلد طفلاً مثل أطفالنا. وُلد من امرأة كما يُولَدُ كلُّ إنسان. وُلد في أرض معيَّنة هي فلسطين. وفي موضع محدَّد هو بيت لحم. وسوف يعيش حياته في الناصرة حتّى انطلاقه في عمل الرسالة. وُلد على زمن الإمبراطور الرومانيّ أوغسطس قيصر. وفي أيّام هيرودس الكبير الذي عرف بشراسته وحبِّه للدماء وخوفه على سلطته.

من أجل هذا، خضع يسوع للشريعة اليهوديّة. خُتن في اليوم الثامن (لو 2: 21). وخضع للتطهير وهو ابن أربعين يومًا (لو 2: 22-24). وفي عامه الثاني عشر، دلَّ على معرفته بالكتب المقدَّسة، وشرائع الآباء. غير أنَّ هذا الذي وُلد من امرأة، وسَّع الحلقة إلى أبعد من أمِّه وإخوته (أي أبناء عشيرته)، فقال: »أمّي وإخوتي هم الذين يعملون بمشيئة الله« (مر 3: 34-35). وهذا الذي وُلد في محيط يهوديّ، يخرج من هذا المحيط وينطلق إلى العالم الفينيقيّ من الغرب وإلى المدن العشر الوثنيّة من الشرق. كان بإمكان يسوع أن يُولد في مصر أو في بلاد الرافدين أو تركيّا. ولكنَّه وُلد في فلسطين. وهكذا ارتبط بالعالم من خلال منطقة لم تكن أكثر غنى من غيرها، ولا أكثر ازدهارًا. لماذا؟ هذا يبقى سرَّ الله. وكان يُنتظر من الشعب الذي استقبل يسوع في مغارة ومذود حقير، أن يؤمن به. ولكن فئة قليلة آمنت، والأكثريّة جعلت نفسها خارج البشارة الجديدة، واعتبرت أنَّ الله خلف بوعده. كلاّ يقول بولس الرسول. فأبناء الجسد المرتبطون بإبراهيم ليسوا جميعًا أبناءَ الوعد، أبناءَ الله. من أجل هذا قال يوحنّا الإنجيليّ: »جاء إلى خاصّته، إلى بني قومه، فما قبلوه. أمّا الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أبناء الله« (يو 1: 12).

 

3- أبناء مع الابن

افتدانا يسوع، خلَّص الذين تحت الشريعة من حكم الشريعة. وبرَّر الأمم حين آمنوا به (روم 9: 30). عندئذٍ صار جميعُ البشر أبناء الله. فيسوع هو الابن الوحيد. ولكنَّه في الوقت عينه بكر إخوة كثيرين. وسوف تقول عنه الرسالة إلى العبرانيّين: »ما استحى أن يدعوهم إخوته«. وهكذا كبرت عيلةُ الله. وكما نادى يسوع الله »أبّا« ولاسيّما في بستان الزيتون (مر 14: 26)، هكذا يستطيع المؤمنون أن ينادوا الله. فيصلّوا إليه: أبانا الذي في السماوات.

ما الذي يبرهن لنا أنَّنا نستطيع أن نتوجَّه إلى الله بروح البنوَّة هذه؟ هو أنّنا نكلِّمه بدالة الأبناء الأحبّاء، وهو يفرح بنا فيسير معنا في طرقات الحياة، ويرسل ابنه يسوع كي يحمل صليبنا معنا. في الماضي، كان المؤمن يخاف أن ينظر إلى الله لئلاّ يموت. فالله نار آكلة. لذا غطّى إيليّا وجهه لئلاّ يرى الله. وموسى ما استطاع أن يرى الله إلاّ بعد أن مرَّ. أمّا نحن فنرى الآب من خلال يسوع: من رآني رأى الآب. والبرهان الثاني هو أنَّ الروح يعمل فينا. يصلّي فينا، يهتف فينا: أبّا، أيُّها الآب. فإذا كان الله أبانا، فيجب أن لا نتصرَّف معه تصرُّف العبيد بل تصرُّف الأبناء. هناك خوف من العقاب. أمّا نحن فنتحلّى بالمخافة التي تميِّز علاقة الحبيب بالحبيب. هو يخاف أن يغيظ محبوبه. تلك هي مخافتنا في علاقتنا مع الله. وحبُّنا هو من العمق، بحيث نعتبرأيَّة خطيئة ذنبًا تجاه من أحبَّنا وبذل نفسه من أجلنا. هو أحبَّنا إلى الغاية. ونحن نحبُّه إلى الغاية بقلبنا البشريّ.

أنا ابن مع الابن. أنا وارث مع الوارث. أراد العاملون في الكرم أن يقتلوا الوارث لكي يكون الميراث كلُّه لهم. فكانت النتيجة عقابًا لهم وتسليم الكرم إلى كرّامين آخرين يعطون الثمر في حينه (مت 21: 38-41). أمّا نحن فنريد أن نرث مع الوارث. نشاركه، نتَّحد به. وكلُّ هذا بدأ منذ تجسَّد يسوع في حشا أمِّه. منذ وُلد في مذود، منذ عاش طفلاً، صبيٌّا، شابٌّا، فيما بيننا. سار في أسواقنا. أكل وشرب معنا. رأيناه، سمعناه، لمسناه. ازدحمنا حوله. نلنا منه نعمة الشفاء. وعطيّة الغفران. جاء إلينا. أخذ ما لنا. أخذ بشريَّتنا وضعفنا وخوفنا من الموت، وأعطانا ما له. أعطانا أن نشاركه في الطبيعة الإلهيّة. صرنا معه ملوكًا وكهنة وشعبًا مقدَّسًا. جلسنا معه على عرشه لندين أسباط إسرائيل الاثني عشر. ذاك هو الميراث العظيم الذي حصلنا عليه.

إن عدنا إلى الوراء كما فعل الغلاطيّون، دللنا أنّنا قاصرون، وشابهنا العبد الذي لا ميراث له. إن خضعنا لقوى الكون الأوَّليّة، خسرنا الحرّيّة التي نالها لنا المسيح. فلم نرتبط بالله، بل ببشر لا يقدرون أن يخلِّصوا نفوسهم، فكيف يقدرون أن يخلِّصونا. هذا عدا ربط حياتنا ومصيرنا بالسحر والشعوذة والبحث عن الأبراج وما تمنحنا الكواكب من حظّ وقدر. إن كنّا على هذا المستوى، فنحن مساكين، سُحِرت عقولنا فمارسنا الغباوة إلى حدٍّ بعيد. بدأنا بالروح. تركنا الروح يقودنا إلى حيث يقيم أبناء الله. وها نحن نعود إلى الجسد وما فيه من ضعف، وإلى العالم وما فيه من شهوات.

 

خاتمة

ذاك هو معنى عيد الميلاد. ذاك هو معنى تجسُّد الابن في حشا مريم العذراء. ومولده في مذود حقير. هو في الخارج طفل من الأطفال. ولكنَّه في العمق الإله الذي سبقته الملائكة لتهيّئ مجيئه. ورافقت ولادته في بيت لحم لتنشر هذه الولادة التي انتظرتها البشريّةُ كلُّها. بداية سلام في عالم تملأه الحروب والمنازعات. ذاك الذي هو إنسان من الناس، هو في الوقت عينه إبن الله المساويّ لأبيه في الجوهر. وإذ سكن بيننا، حمل إلى الأرض مجد السماء. فلا يبقى لنا سوى أن تكون حياتنا وأعمالنا نورًا يشاهده الناس ويمجِّدون الآب الذي في السماوات. هكذا يُولد المسيح في حياتنا وفي مجتمعنا. هكذا يتمُّ الزمان بالنسبة إلى الكنيسة والعالم. والخلاص الذي نناله يصل إلى الخليقة التي تريد أن »تشارك أبناء الله في حرِّيّتهم ومجدهم« (روم 8: 21).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM