كلمة الله.

 

كلمة الله

1- والكلمة صار بشرًا وسكن بيننا

لكلِّ إنجيل طريقته في الحديث عن يسوع، في تحديد بداية يسوع. في نظر مرقس، تشكِّل المعموديّة بداية كرازة يسوع وانطلاقة الحركة التي دشَّنها يسوع. بدايته هي البداية التي اختارتها الجماعةُ الأولى حين كرزت بيسوع »منذ عماد يوحنّا إلى اليوم الذي فيه ارتفع يسوع« (أع 1: 22). في نظر متّى ولوقا، تدلُّ ولادة يسوع على مجيء المسيح وسط البشر.

أمّا بالنسبة إلى يوحنّا، فموقع البداية هو قبل بداية الخليقة. حين كتب إنجيله، بحث عن مقدِّمة. فوجد بين صلوات المسيحيّين نشيدًا تنشده الجماعة لمجد الكلمة، ابن الله، الذي جاء ليقيم وسط البشر. أخذه وكيَّفه ليطابق مشروعه في كتابة إنجيل ينشد يسوع الذي هو المسيح وابن الله (20: 31).

2- في البدء كان الكلمة

بصيغة الفعل يشدِّد يوحنّا على أنَّ الكلمة وُجد قبل الخلق وأنَّه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالله. هو مشدود إلى الله وهو في الوقت عينه الله بالذات. وهكذا جاء تأمُّل الإنجيليّ في امتداد الفكر اليهوديّ حول الحكمة التي هي واقع وُجد قبل الخلق، والتي بدت شخصًا حيٌّا لا فكرة مجرَّدة. كان الكلمة يعمل في الخلق منذ البدء، لأنَّه أنار كلَّ إنسان جاء إلى العالم. وهذا النور يشرق الآن أيضًا في العالم، فينير كلَّ إنسان حتّى ولو كان غريبًا عن الوحي.

هذا الكلمة الذي تجلّى لجميع البشر، وبصورة مميَّزة لجماعة إسرائيل، عزم على أن يزرع خيمته وسط البشر. »صار الكلمة بشرًا«. ما توقَّف يوحنّا فتحدَّث عن مولد يسوع العجيب، ولا ذكر أسماء الأشخاص والأمكنة، بل ذهب إلى الجوهر فشدَّد على العبور التاريخيّ الذي صار فيه الكلمة الأزليّ بشرًا، أخذ جسدًا. ومنذ اللحظة التي فيها لُفظت مفردة »بشر«، اختفت مفردة »الكلمة« بشكل نهائيّ. بعد ذلك الوقت، لن نرى إلاّ »اللحم والدمّ« في ضعفه بل في ضيقه (يسوع عطش، جاع، اضطرب، تشوَّه). إستعمل يوحنّا مرارًا كلمة »إنسان« فتفوَّق على سائر الإنجيليّين. فالتجسُّد في نظره ليس »تظاهرًا« بل حقيقة وواقع. لاشكَّ في أنَّ الكلمة لم يُلغَ في الإنسان، ولكن على البشر أن يروا في سمائه البشريّة مجدَ الله. شهدت جماعة المسيحيّين الأوَّلين أنَّها قد رأت »مجده«.

وينتهي مطلع إنجيل يوحنّا كما بدأ: جاء الكلمة من عند الله وهو »في حضن الله«. إذن يستطيع وحده أن يجعل البشر يعرفون الله.

هناك مقطعان (آ6-7، 15) يتحدَّثان عن يوحنّا المعمدان، وقد يبدوان بشكل قطعتين أُقحمتا في مطلع يرتكز كلُّه على الكلمة، زيدا ليجعلا يوحنّا المعمدان في موقعه الحقيقيّ. لم يكن النور (عكس ما كان يقوله تبّاع المعمدان)، بل كان شاهدًا في دعوى يُدعى إليها كلُّ إنسان. فعلى مثال العالم الذي شعَّ فيه النور، وعلى مثال الشعب اليهوديّ الذي إليه جاء، كلٌّ منّا مدعو ليقوم بخيار شخصيّ تجاه الكلمة التي صار بشرًا. هل نرفضه كما فعل العالم وأهل بيته؟ أم نكون من المؤمنين به؟

في البدء كان الكلمة، كلمة الله. وكان الكلمةُ الله... والكلمة صار بشرًا وسكن بيننا، وأقام عندنا. هذا ما نكتشفه بصورة خاصّة في عيد الميلاد. أما يصدمنا مثل هذا الكلام؟ ابن الله صار إنسانًا! إن كان لا، فهذا يعني أنّنا خسرنا معنى لفظة الله، أو لفظة الجسد. حاوِلوا، إذهبوا إلى سرير طفل وقولوا: الله!

أمام هذا الوجه الضعيف والسريع العطب، حيث يتَّخذ النور غير المخلوق شكل عينين صغيرتين لامعتين، حيث يتحوَّل الحنان الخلاّق إلى فم يبتسم، حيث القدرة الإلهيّة تصير ذراعًا ممدودة... حينئذٍ تتبدَّل نظرتنا إلى الله، وإلى الإنسان. إله وطفل. هذا هو »الدوار« الذي يسبِّبه سرُّ التجسُّد. يصاب عقلنا بالجنون! ويغشى قلبَنا الدهش.

3- الميلاد هو سرُّ إيمان

والروح وحده يستطيع أن يجعلنا نتأمَّل في الله الذي يزورنا وهو على ركبة صبيّة يهوديّة اسمها مريم. الميلاد هو موضوع اللقاء بين الأزل والزمن، بين الإله والبشر، بين الحياة الأبديّة والإنسان المائت، وهذا ما لم نكن نتوقَّعه. اليوم، صار المستحيل أمرًا واقعًا. وتجسَّد انتظار البشر منذ أجيال وأجيال.

اليوم تفجَّر أفق تاريخنا. اليوم تحوَّل مصيرنا وبدَّل وجهته. فالأرضُ، هذه الحبّة من الرمل وسط المجرّات الواسعة، صارت مسكنَ الله. وفي قلب إنسان من الناس يدقُّ قلب الله.

تواضعٌ مدهش لدى إله يختفي ويكشف عن نفسه في قسمات وجه طفل. هل من براءة ونقاوة تفوق ما في نظرة الطفل؟ ففي نظرة الطفل يستطيع كلُّ إنسان مهما سيطر الشرّ عليه، أن يرى لمعان الرجاء في عالم من الحبِّ والسلام. وحين يأتي الله ليخلِّص الإنسان المدجَّج بالسلاح، فهو يتَّخذ نظرة طفل لكي ينظر إلينا. سلطته الوحيدة هي سلطة الحبّ. وحبُّه يكفي لأن يجعلنا نرى سلامنا!

ويضيف يوحنّا في عبارة موجزة، وفي الوقت عينه مليئة بخبرة يسوع في آلامه: »جاء إلى خاصَّته وخاصَّته لم تقبله«. هذه هي المأساة الدائمة في عالمنا. فالإنسان لا يستطيع أن يولد من جديد، أن يلد عالمًا جديدًا إلاّ إذا تقبَّل حبٌّا وتواضعًا وسلامًا من هذا الإله الذي لم يتعوَّد عليه بعد.

لهذا السبب لا يزال الحبُّ يولد على أرضنا. وكلَّ مرّة أنظر إلى وجه إنسان أكتشف فيه قسمات وجه الله، في ذلك الوقت يولد يسوع، يكون عيد الميلاد.

الخلاصة

يدعونا الربُّ لكي نتجاوز دائرتنا الصغيرة الضيِّقة. يدعونا لكي نتقبَّل النور الذي أرسل إلى جميع الناس. صار الله إنسانًا، صار طفلاً في عالم البشر. فكيف نشكُّ بعد اليوم ونرتاب بمستقبل العالم؟ هذا الكلمة الذي وُجد قبل العالم هو علامة حبِّ الله للعالم. إله يسوع هو إله أولى الخطوات في الخلق والتاريخ. فلا يبقى علينا إلاّ أن ندخل في مشروعه هذا العظيم.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM