الأمانة للربّ.

 

الأمانة للربّ

إلى من نذهب، يا ربّ؟ فعندك كلام الحياة الأبديّة.

انتهت خطبة خبز الحياة. وقدَّم يسوع إعلانًا بعد إعلان، فأحدث فراغًا حوله. تركه اليهود. بل تركه أيضًا عددٌ كبير من التلاميذ وتراجعوا عن السير معه. هذا كلام صعب، فمن يقدر على احتماله؟ لا نستطيع أن نسمع له بعد اليوم. وجاءت الساعة لكي يتَّخذ الاثنا عشر قرارهم. قال لهم يسوع: »هل تريدون أن تذهبوا أنتم أيضًا«؟ وجاء الوقت الذي يُعلنون فيه إيمانهم: »إلى من نذهب يا ربّ؟« هذه هي ذروة الفصل السادس في إنجيل يوحنّا.

بعد الجموع التي تبحث واليهود الذين يتذمَّرون، جاء الوقت ليتشكِّك التلاميذ: لا يمكن قبول كلمة يسوع لأنَّها تعلن لهم موته، وهو الذي كادوا ينادون به ملكًا. كان يسوع تحدَّث مرارًا عن نزوله من السماء. وها هو يتحدَّث عن صعوده. إن كان نزل إلى الأرض، فليس ليبقى فيها ولو كان سيموت. فالموت ليس الكلمة الأخيرة في حياته. وجسدُ المائت لا ينفع في شيء من حيث إنه جسد. لا معنى له إلاّ بوحدته في الروح. فكلمة يسوع هي قدرة حياة. إذًا، لماذا لم يستطيعوا أن يؤمنوا؟ الإيمان هو عطيّة من الله. ونحن نختار المسيح بحرّيّة تامّة.

الإيمان هو قرار. فالذين ذهبوا، ذهبوا بحرّيّة تامَّة. وقال يسوع لرسله: »هل تريدون أن تذهبوا«؟ إنَّ الحزن في الصوت لا يمنع حرّيَّة الخيار في شيء. وتكلَّم بطرس باسم الاثني عشر. نحن نجد هنا اعتراف قيصريّة فيلبُّس (مت 16: 16). وهو يجد مكانه بعد تكثير الأرغفة: اختلف يوحنّا عن الإزائيّين، حيث عبارة »قدُّوس الله« تُستعمل بفم الشياطين الذين قالوا الحقيقة، ولكنَّهم ظلُّوا بعيدين عن الواقع. فالعبارة تعني بشكل عامّ: المكرَّس لله كالنذير (أو المنذور) في العهد القديم. هي لا تدلُّ بشكل مباشر على المسيح وعلى ابن الله.

يمكن إلاَّ يكون بطرس على مستوى الحالة، رغم جمال كلامه. قال: »إلى من نذهب«؟ قد يعني هذا الكلام: لم نجد أفضل. كلَّمهم يسوع عن حياة دائمة، فهو يستحقُّ أن نَسمع له. إنَّ خطبة يسوع لفتت نظر بطرس وأصدقائه، رغم تحفُظاتهم، وهذا أمر لا بأس به. ثمَّ إنَّ بطرس تحدَّث في صيغة المتكلِّم الجمع (نحن)، فاتَّخذ كلامُه شكلَ إعلان إيمانيّ.

كلُّ نهاية هذه الخطبة هي تعليميّة وثالوثيّة. هكذا أرادها يوحنّا، وهي تقول لنا إنَّ الحياة ليست في الأشياء، ولو كانت الخبز والجسد. إنَّها في كلمات تنقلها وقلوب موحَّدة. هنا تجسُّد ضروريّ لله في تاريخنا. وفهمَ التلاميذُ أن لا حياة إلاّ إذا كانت موضوع مشاركة.

واختار التلاميذ طريقة الأمانة. وفي الآية 70 أعلن يسوع أنَّه هو الذي اختارهم. ولكنَّه خاطر حين تركهم »أحرارًا«. لاشكَّ في أنَّ كلامه صعب وقاس. إلاَّ أنَّ الناس اكتشفوا وجهة جديدة من شخصيَّته. ولهذا عليهم أن يحدِّدوا موقعهم من جديد بالنسبة إليه. في العهد القديم، كان على الشعب أن يُعلن إيمانه بطريقة منتظمة (الاحتفال السنويّ بالعهد، يش 24: 1-18). هكذا يفعل الزوجان اللذان يختاران معًا وبكلِّ حرّيَّة »النير الواحد«، المهمَّة الواحدة.

إنَّ رفقة يسوع تفترض خيارًا نتَّخذه كلَّ يوم، حتّى حين يكون كلامه صعبًا. هذا هو الوضع الذي عرفه التلاميذ حين قدَّم لهم نفسه طعامًا، وحين أعلن لهم أنَّه يقدِّم لهم موته، يقدِّم لهم جسده ودمه.

* * *

سأل يسوع: »أهذا يصدمكم«؟ هو يعرف كلَّ المعرفة أنَّ بعض أقواله »غير مقبولة«. هي لا تُحتَمل في منطق العقل البشريّ. هي تحدٍّ لعقلنا المفكِّر. هناك ما يُسمّى »المسيحيّة الشعبيّة«. أي إنَّ يسوع كان منفتحًا على الجميع، متنبِّهًا للمحرومين والمرذولين. وهكذا اجتذبت إليه فعلاتُ الشفاء جموعًا مندفعة. لاشكَّ في أنَّ في رسالة يسوع وجهة شعبيّة ولكن...

ولكن يجب أن نُقرَّ أنَّ جزءًا كبيرًا من تعليمه الهادف إلى فتح البشر على الحقائق المتعالية، كان يمرُّ »فوق رأس« السامعين (لم يكونوا يفهمونه). وحتّى أقرب تلاميذه لم يفهموا شيئًا من هذه المسيرة الفصحيّة، مسيرة الموت والقيامة. وفي النهاية، نقول بصراحة: إنَّ يسوع خيَّب آمال »الشعب«. هو لم يُماشِهم في انتظارهم. وعند الصليب، أين هي جموع المقعدين والعرج والعميان والمرضى؟ أين هم أولئك الذين شبعوا خبزًا؟ بعد هذا، لا نستطيع أن نقول إنَّ المسيحيّة ديانة »شعبيّة«! بل هي ديانة متطلِّبة.

ثمَّ، إذا كان يسوع تألَّم حين لاحظ أنَّ »عددًا كبيرًا من تلاميذه تركه وما عاد يسير معه«، فقد أقرَّ أنَّ المدلول العميق لأقواله وفعلاته، لا يُفهَم من دون نور داخليّ يُرسله الروح.

»الروح هو الذي يُحيي. أمّا الجسد فلا نفع منه. والكلام الذي كلَّمتكم به هو روح وحياة«. هذا واضح. فالروح وحده الذي ألهم يسوع ويُقيم في القلب، يستطيع أن يرفعنا على مستوى يسوع وكلماته. إنَّه ينبوع فعل إيماننا الذي يجعلنا نَثِق بيسوع دون أن نفهم كلَّ ما يوحي لنا عن سرِّ الله والإنسان.

نقبلُ بالواقع دون أن نعتبر نفوسنا مخطئين. فنحن لا نستطيع أن نستوعب كلَّ مضمون المسيحيّة دفعة واحدة. إيماننا هو نموٌّ ديناميكيّ وتاريخيّ (أي: ينمو مع التاريخ)، يُدخل في ذاته شيئًا فشيئًا كلَّ معطيات الوحي التي وصلت إلينا في يسوع المسيح.

لي ثقافتي وإحساسي ومسيرتي الشخصيّة. في هذا الإطار، هناك أسئلة عن الكنيسة وتقليدها، عن بعض كلمات الإنجيل التي أرفضها أو لا أفهمها أو أجعلها في قاعة الانتظار، دون أن أخاطر بإيماني. قال يسوع: »أتريدون أن تذهبوا أنتم أيضًا«؟ وفي عمق تساؤلنا وشكِّنا، يتمتم الروح فينا: »إلى من نذهب يا ربّ؟ فعندك كلام الحياة الأبديّة«. وبالرغم من أسئلتي التي لا جواب لها، أنت يا ربّ، تحمل إليَّ نورًا فيَّاضًا وتماسكًا في حياتي اليوميّة.

ثمَّ إنَّ السلام والفرح اللذين يقيمان فيَّ حين أقبل بأن أتبعك، هما العلامة بأنَّني لم أخطئ الاتِّجاه، بأنَّني أسير إلى الحقّ. ماذا يكون مصير الإيمان إن لم يتضمَّن اختيارًا مؤسَّسًا على حبٍّ واثق بالله؟ »أمّا نحن فقد آمنّا وعرفنا أنَّك القدُّوس، قدُّوس الله«.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM