رسائل يوحنّا الثلاث.

 

رسائل يوحنّا الثلاث

أقام يوحنّا في أفسس كما قال التقليد. ومن أفسس انطلق الإنجيل الرابع، كما انطلق سفر الرؤيا والرسائل الثلاث. هناك وُلدت ما تُسمّى المدرسة اليوحنّاويّة، أي الفكر الدينيّ الذي انطلق مع شاهد عيان (هو يوحنّا) عرفت الكنيسة أنَّ شهادته صادقة (يو 21: 24).

هذه الجماعة أرسلت إنجيل يوحنّا إلى جماعات أقامت مثلاً في سميرنة (إزمير الحاليّة) وبرغامس وتياثيرة، وسائر مدن تركيّا التي ارتبطت بأفسس. قرأت الكنائسُ إنجيل يوحنّا، فوُجد تيّاران. تيّار أوَّل قرأ النصّ في خطّ الإيمان المستقيم. فامتُدحوا، لأنَّهم يحافظون على التقليد الذي تسلّموه من الرسل. وخطّ ثانٍ، حاد عن التقليد الرسوليّ. لهذا أرسلت رسالةٌ أولى إلى كنائس تدور في فلك كنيسة أفسس.

1- الرسالة الأولى

»الذي كان من البدء، الذي سمعناه ورأيناه بعيوننا« (1: 1) نبشِّركم به. هو تعليم. بل هو شخص. فهناك الكلمة التي نتسلَّمها. هناك يسوع الذي هو الكلمة الحاضر لدى الله الآب.

أ- تنبيه من الضلال

بدأت الرسالة فنبَّهت إلى الضلال. اعتبر بعضهم أنَّ لا خطيئة عنده، وأنَّه بارّ، وبالتالي لا يحتاج إلى الخلاص في المسيح (1: 8). فجاء الجواب: »إذا قلنا إنّنا بلا خطيئة، خدعنا أنفسنا وما كان الحقّ فينا. أمّا إذا اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل« (1: 8-9). هو أمين فيُتمّ مواعيد الخلاص. وهو عادل (بارّ) لأنَّه يغفر لنا، في حبِّه، خطايانا. أجل، الله أحبَّنا فدعانا أبناءه. ما انكشف لنا بعدُ ماذا سنكون. ولكن حين يظهر المسيح نكون مثله، لأنَّنا سنراه كما هو (3: 1-2).

واعتبرت فئة أنَّها تستطيع أن تُحبّ الله، ولا تهتمّ لمحبّة القريب. فعلاقتنا بالله تكفي. فجاء جواب الرسالة قاطعًا: »إن قال أحد: »أنا أحبّ الله« وهو يكره (لا يحبّ) أخاه، كان كاذبًا، لأنّ الذي لا يحبّ أخاه وهو يراه، لا يقدر أن يحبَّ الله وهو لا يراه«. منطق بسيط جدٌّا. ومحبّة الله التي هي الينبوع الذي نغرف منه، تُعلِّمنا كيف نحبُّ القريب. فمحبّة القريب هي الثمرة. فإن غابت الثمرة، كانت الشجرة عقيمة. وإذا غابت محبَّتنا للقريب، دللنا على أنَّ محبّة الله ليست في قلبنا. وطُرح المبدأ: »من أحبَّ الله أحبَّ أخاه أيضًا« (4: 21).

وتوسَّعت الرسالة في هذا الموضوع، فحذّرت القرّاء من الضلال (3: 7). انطلقت من كلام يسوع: الشجرة الصالحة تثمر ثمرًا صالحًا. والشجرة الرديئة تثمر ثمرًا رديئًا. وطبَّقت ذاك الكلام على الوضع الذي تعيشه الكنائس في نهاية القرن الأوَّل: مَن كان من الله لا يقدر أن يعمل الخطيئة. ولكن إن عمل الخطيئة فهو من إبليس. مثلُ هذا الإنسان، أعماله أعمال إبليس، لا أعمال الله. وهكذا نميِّز أبناء الله حين يحبّون بعضهم بعضًا. نميِّزهم عن أبناء إبليس الذين يشبَّهون بقايين الذي قتل أخاه (3: 12).

ب- تعليم الشيخ إلى الكنائس

هكذا سمّى يوحنّا نفسه حين كتب إلى الكنيسة التي سمّاها السيِّدة المختارة. وأعلن للمؤمنين: الله نور (1: 5)، فعاد إلى الإنجيل الرابع: المسيح هو النور الحقيقيّ الذي ينير كلَّ إنسان في العالم. وإذا كان الله النور، فهو يريدنا أن نستضيء بنوره لنكون نورًا للآخرين. ويحذِّرنا: لا يكون النور الذي فيكم ظلامًا. فإن كانت أعمالنا شرّيرة، لم تكن نورًا، بل ظلمة. وأعمال الظلمة معروفة. لهذا قالت الرسالة: »إذا قلنا: ''نحن متَّحدون مع الله'' ونسلك في الظلام، كنّا كاذبين، ولا نعمل للحقّ« (1: 6). فيبقى علينا أن نسير في النور. هنا نتذكَّر الرسالة إلى أفسس (5: 9): »ثمر النور يكون في كلِّ صلاح وتقوى وحقّ. فتعلَّموا ما يرضي الربّ، ولا تشاركوا في أعمال الظلام«.

وأعلنت الرسالة للمؤمنين: »الله محبّة« (4: 8-16). هذا هو تحديده. فالمحبّة هي عطيّة الذات ومشاركة مع الآخرين. وفي الله، المحبّة تضمُّ الآب إلى الابن والابن إلى الآب، فيصبح أن مَن يرى الابن يرى الآب. غير أنَّ هذا الحبّ لا يبقى في السماء، بل هو يكشف عن نفسه، يتجسَّد. هذا الحبّ الذي ينبع من قلب الله (4: 7)، قد عرفناه في شخص يسوع المسيح. فالإبن ضحّى بنفسه لأجلنا، وهو يطلب منّا أن نضحّي بنفوسنا من أجل إخوتنا (3: 16). وأعطت الرسالة مثلاً ملموسًا: »من كانت له خيرات العالم، ورأى أخاه محتاجًا فأغلق قلبه عنه، فكيف تثبت محبّةُ الله فيه« (3: 17). ما هي هذه المحبّة التي لا تساعد؟ هي كاذبة. ما هي هذه المحبّة التي تلقي الخطابات ولا تفعل شيئًا؟ تشبه موقف الفرّيسيّين الذين يقولون ولا يفعلون. لهذا، قال يوحنّا كلامًا نردِّده مرارًا، ويا ليتنا نفقه معناه: »لا تكن محبَّتنا بالكلام أو باللسان، بل بالعمل والحقّ« (3: 18). مثل هذه المحبّة الملموسة تدلّ وحدها أنّنا في الحقّ، أنّنا في الله.

2- الرسالتان الثانية والثالثة

توجَّهت رسالة يوحنّا الثانية إلى الذين يسيرون في الحقّ، أي الذين أخذوا الإنجيل كلَّه ولم يختاروا أمورًا ليتركوا أمورًا أخرى لا تروق لهم. هذا ما نسمّيه الهرطقة. أنتقي حقيقة على قياسي، وأنسى حقيقة الله. فالمسيح إله وإنسان. فإن قلت إنَّ المسيح إله فقط وليس بإنسان، إن قلت إنَّه لم يأتِ في الجسد (آ7)، بل تظاهر كذلك، كنت في هرطقة. كنت في ضلال. هي بدعة تسمّى الظاهرية، أي تظاهر الابن بأنَّه إنسان، ولكنَّه لم يكن كذلك. شُبِّه لنا أنَّه إنسان ولكنَّه كان خيالاً. فإذا كان المسيح لم يصر إنسانًا، فكيف يخلِّص الإنسان. وإن كان ليس إلهًا، فهل يقدر الإنسان أن يخلِّص الإنسان؟ كلاّ ثمّ كلاّ. إذن نحافظ على الطبيعتين: المسيح إله وإنسان معًا. طبيعتان في أقنوم واحد، في شخص واحد كما نقول في قانون الإيمان. هذا ما قاله يوحنّا (الشيخ) إلى كنيسة يسمّيها السيِّدة المختارة.

ورسالة يوحنّا الثالثة تدلُّ على أنَّ »المسؤول« في إحدى الكنائس انقطع عن التقليد الرسوليّ. ما عاد يقبل بالرسول (آ10)، ويرفض استقبال المرسلين. كأنّي به يريد أن ينشقّ عن جسم الكنيسة، ويؤسِّس كنيسة لنفسه. بل هو يطرد المؤمنين الحقيقيّين من الكنيسة (آ10). وكان الكلام واضحًا: »مَن يعمل الخير فهو من الله. ومَن يعمل الشرّ فما رأى الله« (آ11).

رسائل ثلاث ارتبطت باسم يوحنّا، وقد طلبت من المؤمنين أن يسيروا في خطّ الإنجيل، مهما كانت متطلِّباته قاسية. وإلاّ كانوا من العالم الذي يرفض الله، لأنَّهم يجارون العالم في تفكيره. أمّا المؤمنون فهم في الحقّ. فإنَّ واجهتهم الصعوبات، فقد واجهت يسوع قبلهم. وإن لقوا الاضطهاد، فيسوع عرف الاضطهاد قبلهم. في النهاية، ليس تلميذ أفضل من معلِّمه، ولا عبد من سيِّده. فهل نريد أن يكون مصيرُنا مختلفًا عن مصير يسوع؟ هنا تقول لنا الرسالة الأولى: »مَن له الابن فله الحياة، ومَن ليس له الابن فلا حياة له« (5: 12).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM