الأناجيل بين التاريخ المدنيّ وتاريخ الخلاص.

 

الأناجيل بين التاريخ المدنيّ وتاريخ الخلاص

حين نقرأ الأناجيل، نكتشف أوَّلاً أنَّ يسوع المسيح كان إنسانًا من الناس. وُلد في تاريخ معيَّن على أيَّام ملوك معروفين. والبلد الذي عاش فيه هو فلسطين التي سيطر عليها آنذاك الحكم الرومانيّ. والسلطة الدينيَّة ترأَّسها قيافا وكهنته. وكانت جماعاتُ الفرّيسيِّين والصادوقيِّين والغيورين، وكلُّ فئة لها ميزتها. فأين موقع الأناجيل في كلِّ هذا؟ وهل يكتفي الإنجيل بأن يكون صدى لأمور مدنيَّة، أم هو قبل كلِّ شيء تاريخ خلاص؟

نتوقّف هنا عند ثلاثة خطوط: العلاقة بالسلطة الرومانيَّة. العلاقة بالسلطة الحاكمة في البلاد. الأناجيل والقوى الفاعلة.

الأناجيل والسلطة الرومانيَّة

وُلد يسوع في أيام أوغسطس قيصر، كما نقرأ في إنجيل لوقا. ويقول الإنجيل عينه إنَّ رسالته بدأت في زمن طيباريوس قيصر مع الوالي بيلاطس الذي كان من البنطس على شاطئ البحر الأسود. وكان هناك حكَّام محلِّيُّون، جعلتهم رومة على أقسام إداريَّة سوف يمرّ فيها يسوع: الجليل، المدن العشر، صور وصيدا.

أمرَ أوغسطس قيصر بأن تُكتتب المسكونة كلُّها. فأطاع يوسف ومريم، ومضيا من الناصرة، في الجليل، إلى بيت لحم في اليهوديَّة. ولكنَّ للرب مخطَّطه الذي ينفِّذه عِبر البشر. فيسوع هو ابن داود، وبالتالي سيولد في بيت لحم كما قيل بالنبيِّ ميخا: »وأنتِ يا بيت لحم لستِ الصغيرة في مدن يهوذا، فمنكِ يخرج رئيس يرعى شعبي«. والمسكونة التي تحدَّث عنها القرار الإمبراطوريُّ هي حوض البحر المتوسِّط فقط. أمَّا المسكونة فأوسع من المملكة الرومانيَّة. فهناك ما وراء الفرات في الشرق، وما وراء الدانوب في أوروبّا. وهكذا تجاوز أوغسطس حدوده. لكنَّ هذا الطفل الصغير الذي وُلد في مذود، فجاءه رعاة فقراء، هو حقٌّا ملك المسكونة، بل ملك السماء والأرض بعد أن جاء الملائكة من السماء وأنشدوا: »المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر«. بل إنَّ الملاك سيقول للرعاة، وبالتالي للبشريَّة: »وُلد لكم مخلِّص وهو المسيح الربّ«. لا، فإن إمبراطور رومة لم يحمل السلام إلاَّ على جثث القتلى؛ وكانوا يقولون عنده: إن شئتَ السلام، فاستعدَّ للحرب. أمّا مُلك يسوع المسيح فحَمل السلام بصليبه، وجمع بين البعيدين والقريبين، فصار لنا به القرب من الله.

الأناجيل والسلطة في البلاد

عاش يسوع بشكل خاصّ في منطقة الجليل حيث كان هيرودس. هذا الملك هدّد يسوع، فزرع حوله الاتِّهامات لكي يخيفه. وفي الواقع جاء من يقول للربّ: »إنَّ هيرودس يطلب قتلك«. ماذا كان جواب يسوع: »قولوا لهذا الثعلب: ها أنا أطرد الشياطين وأشفي المرضى اليوم وغدًا وفي اليوم الثالث أتمّم«. أي يكون انتهى كلُّ شيء، فيصل يسوع إلى هدف رسالته مع اليوم الثالث الذي هو يوم القيامة ونهاية مخطَّط الله الذي جاء يسوع ليعمله. فيسوع يتابع رسالته رغم الظروف البشريَّة التي تحيط به. فهو ما خاف ولا هرب، مع أن الفرّيسيين نبَّهوه أنَّ الخطر يداهمه. وقد توخُّوا من ذلك أن يُوقفوا عمله في الجليل. لهذا قال لهم: »يجب أن أسير اليوم وغدًا وبعد غدٍ«. نحن هنا أمام إشارة خفيّة إلى سنوات البشارة الثلاث التي عمل فيها يسوع طاعةً لمشيئة الآب. هذا ما يعنيه فعل »يجب«. من يطيع يسوع: الملك الأرضيّ أم الآب السماويّ ؟ لا شكَّ في الجواب، وهو الذي علَّم بطرس فقال أمام المجلس اليهوديّ: »الطاعة لله قبل الطاعة للإنسان«.

وسيكون ليسوع لقاء آخر مع هيرودس، خلال آلامه. أراد بيلاطس أن يتخلَّص من يسوع، فأرسله إلى هيرودس الذي يتعلّق به يسوع ككلِّ أهل الجليل. كان في إمكان ذاك المحكوم عليه أن يمالق هيرودس، أن ينظر إليه، أن يحاول استعطافه، أن يُجري له معجزة يصفِّق لها الملك والحضور. لكنَّ يسوع ليس من هذا العالم ليتصرَّف تصرُّف أهل العالم. قال لتلاميذه: »لو كنتم من العالم لأحبَّكم العالم. ولكن بما أنَّكم لستم من العالم، أبغضكم العالم كما أبغضني«. من أجل هذا حسب هيرودسُ يسوعَ مجنونًا، لأنَّه لم يقل شيئًا ولم يعمل شيئًا. أجل، العالم المجنون الذي يسير وراء شهوة الجسد وشهوة العين ومجد الحياة، حَسِب أنَّ يسوع أضاع رُشدَه. لكنَّ يسوع يحمل رسالة، وهو يواصلها في الصمت، ساعةَ يفعل الصمتُ فعلَه، ويواصلها بالكلام في وقته وفي غير وقته، ساعةَ تكون الحاجة إلى الكلام. أمّا نتيجة هذا اللقاء الأخير مع هيرودس، فهو أنَّ هذا الملك تصالح مع الوالي بيلاطس بعد أن كان الاثنان متخاصمَين. أجل، في دم يسوع تزول الخصومات، وفي موته وقيامته يكون الخلاص.

الأناجيل والقوى الفاعلة

كانت القوى الفاعلة في زمن الأناجيل ثلاثًا: الغيورون وطلبهم العنف، الفرّيسيُّون وسيطرتهم على الشعب بتقواهم، والصادوقيُّون وتسلُّطهم على الهيكل والتعامل مع السلطة للمحافظة على مركزهم. أمَّا الغيورون، فرفضوا السلطة الرومانيَّة الحاكمة وكلَّ مَن يتعامل معها. لهذا توسّلوا طريقَ العنف، ورفضوا دفع الجزية وأهملوا متوجِّبات الدولة عليهم. أمَّا يسوع كما نكتشفه في الأناجيل، فرفض هذا الموقف. جاءه مرّة جباة الدرهمين، جباة ضريبة الهيكل. ما كلَّموه مباشرة، بل كلَّموا بطرس: »أما يوفي معلِّمكم ضريبة الهيكل؟« ماذا كان جواب يسوع؟ »لا نشكك الناس، لا نحرجهم«. فيسوع يخضع لأصحاب السلطة، لأنَّ همَّه ليس ملكًا في الأرض، بل ملكوت السماء. وحين سألوه عن دفع الجزية لقيصر، جعلهم يفهمون أنَّ الله هو الأوَّل والأخير، وأنَّ قيصر له حدود معروفة، لا يمكن أن يتجاوزها فيفرض نفسه على الضمائر. تلك هي الحرِّيَّة التي تعلِّمنا إيَّاها الأناجيل حين ترينا يسوع يتعامل مع كلِّ سلطة مدنيَّة ودينيَّة.

والفريسيُّون اشتهروا بتقواهم ومحافظتهم على الشريعة محافظة دقيقة، فقد صوَّرهم الإنجيل بأنَّهم »يصفُّون البعوضة« بل هم طلبوا من الناس أن يحفظوا جميع الوصايا وما يتعلَّق بها وكان عددها 613 فريضة. فماذا يقدر الشعب الضعيف أن يفعل بعد أن جعلوا عليه ثقل هذا النير؟ أمّا جواب يسوع فقال: »نيري ليّن وحملي خفيف«. الفريسيُّون جعلوا الأحمال على أكتاف الناس، وهم ما أرادوا أن يحرِّكوها بإحدى أصابعهم. أمَّا يسوع فمضى إلى الضعفاء والمرضى، لا إلى الأصحاء، ومضى إلى الخطأة، لا إلى الأبرار أو الذين يعتبرون نفوسهم أبرارًا وقدّيسين »لأنَّهم يصومون مرَّتين في الأسبوع ويعشِّرون كلَّ مالهم«. ومضى إلى الفقراء، لا إلى الأغنياء الذين يصعب عليهم دخول الملكوت، وذهب إلى المهمَّشين، وإلى المخلَّع الذي لبث 38 سنة ينتظر من يحمله إلى بركة الغنم حين يتحرّك الماء. ولكنَّ يسوع حين جاء شفاه وطلب منه أن يحمل فراشه ويمشي ولا ينتظر، ولو كان ذلك اليوم يوم سبت.

أمّا الصادّوقيُّون فقد اشتهروا مع الفريسيِّين بحبِّ المال وحبِّ السلطة. »يحبّون صدور المجالس في المجامع والتحيّات في الأسواق«. »يسرقون« الأرامل بعِلّة تطويل صلواتهم. ودينونتهم قريبة. تعلَّق الصادوقيُّون بالهيكل وبما حوله، أمّا يسوع، فسوف تنتهي حياته في أورشليم التي يقدِّسها الهيكل. لا نلاحظ أنَّ يسوع شارك في الذبائح كما كان اليهود يفعلون، بل هو كان في الهيكل لكي يعلِّم ويردَّ على أسئلة المتسائلين. هو ما جاء من أجل منفعة مادِّيَّة، مع أنَّه »لم يكن له حجر يُسنِد إليه رأسه«، بل من أجل كلمة الخلاص للذين يؤمنون. في هذا المعنى نفهم حوار يسوع مع بيلاطس، الوالي الرومانيّ. جاء يسوع يكلِّمه عن الحقّ. فطرح سؤاله وما انتظر جوابًا. بيلاطس هو السيِّد ويقدر أن يُطلق سراح يسوع أو يُبقيه سجينًا. ولكنَّ يسوع كان واضحًا: سلطة بيلاطس هي من فوق، من عند الله. إذن، يُطلب منه أن يمارسَها بحسب مشيئة الله، وإلاَّ تكون دينونته كبيرة. وفي إنجيل يوحنَّا، أجلس بيلاطس يسوع على كرسي القضاء ليهزأ منه. ولكنَّه لم يفهم من خلال هذا العمل الهازئ أنَّ الربَّ وحده هو الديان الذي يجازي كلَّ إنسان بحسب أعماله. عملُ يسوع لا يتوقَّف على الأرض. مملكته ليست من هذا العالم. أمَّا ملكوته فيتألَّف من المساكين والودعاء ومحبّي السلام والمضطهَدين.

خاتمة

هذا ما تحمله إلينا الأناجيل التي هي صورةٌ عن حياة يسوع الأرضيّة ورسالته وموته وقيامته، وتَطلُّعٌ إلى ما يجب أن يعيشه المؤمنون. يسوع هو في العالم، وقد عاش عيش الناس، فأكل وشرب معهم، وشاركهم في أفراحهم كما فعل في عرس قانا الجليل، كما شاركهم في أحزانهم، ولاسيّما مع أرملة نائين التي خسرت وحيدها، ومع مرتا ومريم اللتَين فقدتا أخاهما. عاش يسوع في فلسطين، في القرن الأوَّل المسيحيّ، فما تميَّز بشيء من الخارج. وما أراد أن يكون ملكًا، مع أنَّهم أرادوا له ذلك بعد تكثير الخبز. هرب من هذه المحاولة، فعملُه روحيّ قبل أن يكون عملاً زمنيٌّا، وهدفه الخلاص الذي جاء يحمله.

فقد قال عن نفسه: ابن الإنسان جاء ليخلِّص ما قد هلك. وهذا ما فهمته الكنيسة في خطِّ معلِّمها: »ما من اسم غير اسم يسوع به نخلص« (أع4 : 12). كلُّ هذا يدعونا إلى قراءة الأناجيل قراءة جديدة. لا نتوقَّف عند الخبر وما فيه من تشويق، بل عند العِبرة الروحيَّة التي يحملها. ولا نتوقَّف عند ما نريد نحن أن نكتشف فيه من أجل حياتنا الدنيويَّة، بل ما يقدِّمه هو لنا من تعليم يقودنا في تاريخ الخلاص. تلك هي الطريق التي فتحها يسوع لنا. هل نأخذها فتكون لنا الحياة؟ أم نأخذ طريق الناس، فنبقى على مستوى ممالك الناس ولا نبلغ الملكوت؟

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM