الأناجيل وقراءتها للعهد القديم.

 

الأناجيل وقراءتها

للعهد القديم

منذ بداية الأناجيل، نتعرّف إلى »العهد القديم«، مع الأنبياء أشعيا وأرميا وميخا، وفي النهاية نرافق التلاميذ، الذين يشرح لهم يسوع التوراة أو العهد القديم في أقسامه الثلاثة: شريعة موسى، كتب الأنبياء، والمزامير. كانت بداية حياة يسوع عودة إلى الآباء منذ إبراهيم حتَّى داود وسبي بابل، وبرهانًا آتيًا من سفر أشعيا: »ها إنَّ العذراء تحبل وتلد ابنًا ويدعى اسمه عمانوئيل الذي يعني إلهنا معنا«. ونهاية حياة يسوع على الصليب، جاءت في عبارتين مأخوذتين من سفر المزامير: »إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟«. ذاك كان عمق الألم، حيث المؤمن يحسُّ نفسه وحده. ثمَّ: »في يديك أستودع روحي«. وهكذا أعلن يسوع أنَّه الابن الذي ينام في المساء على صدر الأب، ليستيقظ في الصباح. ذاك الذي مات مساء الجمعة، قام من الموت في صباح القيامة. كلُّ هذا يجعلنا نتوقف عند الأناجيل وقراءتها للعهد القديم.

أهمِّيّة كتاب الله

حين بدأ يسوع رسالته على الأرض، كان هناك كتاب مقدّس يتعلَّمه المؤمنون. بل إنَّ ابن الاثني عشر عامًا يُقدِّم فيه: »فحصًا« (امتحانًا). وهذا ما كان بالنسبة إلى يسوع الذي دلّ على نباهته كطالب عارف، فجعل الناس يدهشون منه. أمَّا التلاميذ، فحين تكلّموا عن الكتاب، اعتبروه الأساس من أجل التعليم والتهذيب والتأنيب، لكي يكون رجل الله كاملاً مكمَّلاً في كلِّ شيء. هذا الكتاب هو ملهَم، بمعنى أنَّ نعمة الربِّ رافقت الذين يردِّدونه في مسامع الشعب، قبل أن يكتبوه في كتاب تجمَّع في بداية القرن المسيحيِّ الأوَّل بعد أن تُرجم إلى الآراميَّة وإلى اليونانيَّة. وصار ابن الترجوم، الذي هو ترجمة حرَّة إلى اللغة الآراميَّة، وصار ابن السبعينيَّة بعد أن عمل ممثِّلون من القبائل الاثنتي عشرة سبعين يومًا قبل أن يقدِّموه إلى قرّاء اليونانيَّة.

أوردَ يسوع مرارًا نصوصَ العهد القديم. ففي عظة الجبل، مثلاً، عاد إلى شريعة موسى، ولا سيّما إلى الوصايا مع ما رافقها من تعليم المعلِّمين. قيل للأوَّلين: »لا تقتل«، »لا تزْنِ«، »لا تحلف«. قيل: »عين بعين وسنّ بسنّ«. الجميع يعرفون هذه الكلمات من الشريعة ويردِّدونها كما حملها موسى من جبل سيناء إلى الشعب العائش في البرِّيَّة، قبل أن يصل إلى أرض الموعد. عن هذه الشريعة قال يسوع: »لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الشريعة حتَّى يتمَّ كلُّ شيء. فمن خالف وصيّة من أصغر هذه الوصايا وعلَّم الناس أن يعملوا مثله، عُدَّ صغيرًا في ملكوت السماوات، وأمَّا مَن عمل بها وعلَّمها، فهو يُعدُّ عظيمًا في ملكوت السماوات.

وقدَّر يسوع العهد القديم، فأعلن في عظة الجبل أنَّه ما جاء ليُبطِل الشريعة وتعاليم الأنبياء. هذا ما كان يقرأه المؤمنون اليهود في المجمع، يوم السبت. فالعهد القديم، في نظر الجماعة المسيحيَّة الأولى، كلام الله، ويجب أن يكون كذلك في نظرنا نحن المؤمنين اليوم، برغم الظرف السياسيِّ الذي نعيش فيه. فإن كانت هناك دولة تستغلُّ كلام الله لأغراضها، فكلام الله أرفع من ذلك. هو يَحكم علينا، ونحن لا نحكم عليه. في أيِّ حالِّ، هناك مسيحيَّون عديدون يحوِّرون كلام الإنجيل من أجل منفعتهم أو نظرتهم الخاصَّة. هل هذا يغيِّر الإنجيل؟ كلاَّ ثمَّ كلاَّ. فهو يبقى التعبير الأمثل عن حياة يسوع وأقواله وأعماله. في هذا المجال، سيقول يسوع للسامعين، الجموع والتلاميذ: »معلِّمو الشريعة والفريسيُّون على كرسيّ موسى جالسون«. هم يقرأون عليكم العهد القديم ويشرحونه، »فافعلوا كلَّ ما يقولونه لكم واعملوا به«. أجل، واجب المؤمنين الأوَّلين، وجلّهم جاؤوا من العالم اليهوديّ، أن يسمعوا كلام الكتاب وما يطلبه منهم من أجل حياتهم.

نصوص »العهد القديم« في الأناجيل

منذ المقدِّمة شدَّدنا على أنَّ نصوص العهد القديم حاضرة في الأناجيل بخاصَة، وفي العهد الجديد بعامَّة. وذلك في الكلام عن يسوع أوّلاً: عن ميلاده وما رافق هذا الميلاد، من نصِّ أشعيا الذي ذكرناه، إلى نصِّ ميخا المتكلِّم عن مولد يسوع في بيت لحم، إلى نصِّ أرميا الذي يتكلَّم عن راحيل الباكية على بنيها، حين ترى أطفالَ بيت لحم المذبوحين بيد هيرودس الملك، وعن حياته الرسوليَّة بما فيها من مضايقات. أمَّا يسوع، فما ردّ على العنف بالعنف، بل أخذ طريق عبد الربِّ الذي تحدَّث عنه أشعيا في أربعة أناشيد. عبد الربِّ عند أشعيا هو: النبي المتألم والشعب المتألم في المنفى. يتألم النبيُّ لأنَّ شعبه لا يريد أن يسمعه، لأنَّه شعب بائس، ولأنَّه يحنُّ إلى عالم من الغنى ولو تنجَّس بعبادة الأصنام. والشعب يتألَّم في منفاه، ولكنَّه سيفهم أنَّ هذا الألم هو الطريق الوحيد للبلوغ إلى المجد، قال الربُّ يسوع لتلميذَي عماوس وهو معهما: »أما تعلمان أنَّه كان يجب على ابن الإنسان أن يمرَّ في هذه الآلام قبل أن يدخل في مجده؟« وأشعيا يقول: »ها هو فتاي الذي اخترته، حبيبي الذي به رضيتُ. سأفيض روحي عليه، فيُعلن للشعوب إرادتي. لا يخاصم ولا يصيح. وفي الشوارع لا يَسمع أحد صوته. قصبة مرضوضة لا يكسر وشعلة ذابلة لا يطفئ. يثابر حتَّى تنتصر إرادتي وعلى اسمه رجاء الشعوب«. أورد القدِّيس متى هذا المقطع من أشعيا، وأسبقه بفعل »ليتمّ«. أجل، حين يعيش يسوع بحسب إرادة الآب يتمُّ فيه قول الكتاب. فالكتاب يحمل إرادة الله، مشيئة الله. وحين يعمل الربُّ بما يقول الكتاب، فهو يعمل مشيئة الآب التي هي طعامه، كما قال لتلاميذه. وعلى الصليب نسمع الإنجيل يقول: »كي يتمَّ الكتاب، قال أنا عطشان«. وهكذا ذكر المزمور 69: »جعلوا في طعامي علقمًا، وفي عطشي سقوني خلاٌّ«. وهذا ما حدث في الواقع على الصليب. »وكان هناك وعاء مملوء بالخلّ، فغمسوا فيه إسفنجة ووضعوها على الزوفى ورفعوها إلى فمه«.

وتذكر الأناجيلُ العهدَ القديم حين لا يُفهم أمرٌ من الأمور. فتضيء بكلام الله ما تعايشه الجماعة المسيحيّة. كيف يمكن أن يُولد يسوع من أمٍّ عذراء، لم تعرف رجلاً؟ هذا ما يُعارض كلَّ الاختبار البشريّ. ولكنَّ النبيَّ سبق وتكلّم عن هذه المعجزة. أجل، كلُّ هذا هو في مخطَّط الله. إذن، نحتاج إلى الإيمان لكي نفهم. كيف يمكن أن يكون يهوذا، أحد الاثني عشر، الذي اختاره يسوع كما اختار رفاقه، فيكون معه مثلهم؟ أترى يسوع أخطأ في الاختيار؟ لا جوابَ بشريٌّا على هذه الصعوبة. لهذا عادت الأناجيل إلى الكتاب، كلاَّ، ليس يهوذا هو الذي يقرِّر موت يسوع، فيبدو في نظر الملحدين أنَّ يهوذا كان السبب في موت يسوع وفي الخلاص. أو هو أخذ صورة يسوع، لأنَّ يسوع لا يمكن أن يموت بل رفعه الله إليه. وهكذا يضيع الصليب والموت والفداء. قال لوقا: »ابن الإنسان سيموت كما هو مكتوب«. وعاد الإنجيل إلى المزمور 22 وإلى الفصل 53 من سفر أشعيا، ليؤكِّد أنَّ موت الربّ هو في مخطَّط الخلاص، ويبقى عمل يهوذا عملاً بشريٌّا. في هذا الإطار، نقرأ في إنجيل يوحنا كلام يسوع: »أنا أعرف الذين اخترتهم. ولكن ما جاء في الكتب المقدَّسة لا بدَّ له أن يتمَّ، وهو أنَّ الذي أكل خبزي تمرَّد عليَّ«، ذاك هو كلام المزمور 41 ويتابع الإنجيل: »أخبرتُكم بهذا قبل أن يحدث«.

كيف قرأ الإنجيل العهد القديم

الإنجيل ينقلنا من عالم قديم إلى عالم جديد، من بشر حملوا كلام الله، إلى من هو ابن الله، إلى مَن هو الكلمة. أعطانا الله إيَّاه، فلم يبقَ له شيء. فمع يسوع كان ملء الكلمة، ولا يمكن لأحد أن يضيف إليها. قد نفسِّرها، ونطبِّقها على حياة المؤمنين في وقت من الأوقات، فهذه هي وظيفة الكلمة التي يجب أن تبقى حيَّة، لأنَّ يسوع حيٌّ إلى الأبد. فالكلمة ليست حروفًا ميتة بل الروح يُحييها، ويجعلها حياةً في كلِّ المؤمنين.

من أجل هذا، حين قدَّم يسوع كلام العهد القديم، لم يورده كما هو، لم يكرِّره كما كان يفعل الكتبة والفريسيون، لم يَعُد به إلى الوراء كما فعل بعض المعلِّمين، فتركوا شريعة الزواج كما عبَّر عنها الكتاب: »يكون الاثنان جسدًا واحدًا«. كلاَّ ثمَّ كلاَّ، فيسوع، الذي عاد إلى هذا النصِّ من سفر التكوين، كمّله فمنع الطلاق كما منع تعدُّد الزوجات. وراح أبعد من ذلك، فتحدَّث عن البتوليَّة. جعل التلاميذ لا يفهمون. بل نحن لا نفهم متطلِّبات الإنجيل وما فيها من سموّ. لو أراد الإنجيل أن يبقى على مستوى البشر، لثبَّت أقوال البشر وعاداتهم. ولكنَّه أراد أن يرفع البشر إلى مستوى الله. فهم أبناء الله إن شاؤوا، وهم أولاد إبليس إن أرادوا.

ولمَّا أورد يسوع، في العظة على الجبل، الوصايا العشر، لم يوردها كما هي، بل قال: جئتُ لأكمِّل. لا شكَّ في أنَّ الربّ لم يرفض الوصايا، فـ »لا تقتل«، تبقى هي هي في الأناجيل، وكذلك »لا تزْنِ«. ولكن إن لبث المؤمن على هذا المستوى، لن يكون مؤمنًا حقيقيٌّا، ولن يكون له الخلاص. لهذا ورد في إنجيل متى: »إن كان برُّكم لا يفوق برَّ معلِّمي الشريعة والفريسيِّين، لن تدخلوا ملكوت السماوات«. وبيَّن لنا يسوع كيف كمَّل الشريعة القديمة التي تجد كمالها فيه. قالت الشريعة: »لا تقتل«. قد يظنّ الإنسانُ أنَّه بارٌّ إن لم يقتل، هذا في رأي الكتبة، لا في رأي الإنجيل. لهذا أضاف يسوع: »وأما أنا فأقول لكم، من غضب على أخيه استوجب حكم القاضي. ومن قال لأخيه: يا جاهل، استوجب حكم المجلس. ومن قال له: يا أحمق، استوجب نار جهنَّم«. والزِنَى لا يتوقف على عمل الفجور، بل يدعونا المسيح إلى أن نحذَر كلَّ نظرة تحمل الشهوة في القلب، مع جذريّة تتطلب أن »نقلع« عيننا إن هي قادتنا إلى الخطيئة.

وهكذا أخذ يسوع نصَّ العهد القديم ككلمة الله، فحمَّلها معنى عميقًا جدٌّا. لم تعد فقط كلمة واحدٍ من الأنبياء، بل تجاوزت هذا النبيَّ، واستعدَّت أن تحمل مفاهيم العهد الجديد، حين نقرأها في المسيح. فالقيامة مثلاً، لم تعد قيامة من الموت، فيها نعود إلى الحياة، كما من قبل، لنموت بعد ذلك. صارت القيامة في جسد ممجَّد على مثال يسوع. والمعجزة التي تحدَّث عنها أشعيا، حين وعد الملك آحاز بأنَّ الملكة ستحبل، وتلد ابنًا، بحيث يفهم المؤمنون أنَّ الله معنا، أنَّه عمانوئيل، صارت معجزة من نوع آخر. الصبيّة صارت بتولاً وعذراء، وعمانوئيل لم يعد فقط رمزًا إلى حضور الله مع شعبه، بل هو الله يقيم حقٌّا معنا. فهذا الذي يُولد في مذود هو ابن الله بالذات، هو المسيح الربّ، هو المخلِّص الذي ما بعده مخلِّص. فإذا أرادت كلمات »العهد القديم« أن تحمل الواقع الجديد الذي جاء به يسوع، وجب أن تتطوَّر، لتصبح جديدة هي أيضًا. عندئذٍ يستطيع المؤمن أن يقرأ العهد القديم بما فيه من غنى، ليصل إلى العهد الجديد.

خاتمة

العهد القديم هو صورة عن الإنسان في مسيرته إلى الله. الإنسان خاطئ. ونحن نحاول أن نكتشف قداسة الله، كي نعيش في القداسة، ولا تكون مسيرتُنا كاملة إلاَّ في يسوع المسيح. والإنسان ضعيف ويميل إلى الشرّ. وهو لا يجد قوَّته إلاَّ في الرب، الذي لم يكتفِ بأن يعطينا تعليمًا لم يسمع به أحد من قبل، بل أعطانا النعمة التي تحوِّل حياتنا وتقوِّينا، لنكون أمام الربِّ قدّيسين بلا عيب في المحبَّة. والإنسان يريد أن يتعلَّق بالأرض، فيجد جزاءه عليها. أمَّا الجزاء الذي تحمله الأناجيل، فهو من نوع آخر: »طوبى لكم إذا اضطهدوكم، لأنَّ أجركم عظيم في السماء«. العهد القديم هو البداية، والأناجيل هي النهاية.

العهد القديم هو الجذور التي نحتاج إليها كي لا تيبس الشجرة، والعهد الجديد هو الورق والزهر والثمر. لهذا، يقول المجمع الفاتيكانيُّ الثاني: »العهد الجديد يتجذَّر في العهد القديم«. فهو إذن ضروري، وهو جزء من كلام الله. ولكنَّ العهد القديم يجد ملء نوره في العهد الجديد. وهكذا نفهم ما قاله سِفر الرؤيا: »لا أحد يقدر أن يقرأ العهد القديم ويفهمه إلاَّ المسيح«. من أجل هذا، تنطلق قراءتنا للعهد القديم من العهد الجديد. فنحن نحتاج إلى من هو نور العالم، لكي تصبح كلمته سراجًا لحياتنا ونورًا لخطانا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM