الأناجيل وخصوصيّة الكاتب.

 

الأناجيل

وخصوصيّة الكاتب

مراحل أربع في تكوين الإنجيل، الأولى نقطة الإنطلاق: ما عاشه يسوع وعمِله وعلَّمه، والمرحلة الثانية: كلُّ هذا على ضوء القيامة، هناك كلمات عديدة لم يفهمها الرسل إلاَّ بعد أن قام الربُّ من بين الأموات. ثمَّ عادت الكنيسة والجماعات المسيحيَّة المتفرِّقة هنا وهناك - في مرحلة ثالثة - إلى حياة يسوع فتذكَّرت بقدرة الروح القدس أعمال يسوع وأقواله وواجهتْها بالواقع الذي تعايشه، وطرحت السؤالات العديدة، مستنيرة بمسيرة الربِّ على الأرض. وفي النهاية، جاء كاتب فدوَّن، في قلب جماعة محدَّدة، التذكُّرات حول الربّ يسوع، وقد توخّى أن يكون كتابه، قبل كلِّ شيء، شهادة عن المسيح، على ما قال يوحنّا: »هناك أمور عديدة عملها يسوع. نحن لم نكتبها كلَّها، أمَّا هذه فكُتِبَتْ لتؤمنوا بأنَّ يسوع المسيح هو ابن الله، وإذا آمنتم كانت لكم الحياة باسمه«. فما هي خصوصيَّة الكاتب في كلِّ إنجيل من الأناجيل؟ أمَّا نحن فنتوقَّف الآن عند الأناجيل الإزائيَّة الثلاثة، أي متّى ومرقس ولوقا، فنكشف ثقافة الكاتب ومحيطه والمسائل التي طُرحَت عليه.

إنجيل مرقس والمحيط الرومانيّ

الإنجيل المكتوب هو رسالة إلى كنيسة معيَّنة، يتوجَّه إليها قبل أن يتوجَّه إلى الكنيسة الجامعة. أمَّا مرقس، فكتب إلى جماعة رومة، وجماعة رومة طلبت من مرقس أن يكتب ما أوصله بطرس، ذاك الشاهد العَيان، إلى المؤمنين فكتب. ما هو المحيط الذي عاش فيه مرقس؟

أول ما يلفت نظرَنا هو الاضطهاد. إذا كان إنجيل مرقس قد دُوِّن سنة 69-70، فهذا يعني أنَّ موادَّه تجمَّعت في الستينيات يوم كان الاضطهاد على أشدِّه، وفيه مات بطرس وبولس، عمودا الكنيسة. كما مات الكثيرون غيرهم. في هذا الإطار نفهم كلام يسوع للجموع ولتلاميذه، لا للتلاميذ فقط: »مَن أراد أن يتبعني، فلينكر نفسَه ويحمل صليبَه ويتبعني، لأنَّ الذي يريد أن يخلِّص حياته يخسرُها، ولكن الذي يخسر حياته في سبيلي وفي سبيل البشارة يُخلِّصُها«. كان التحدِّي كبيرًا، والموت بارزًا في حياة مؤمنين، يعيشون في الدياميس لكي يمارسوا شعائر دينهم. قبِلوا أن يخسروا كلَّ شيء من أجل المسيح، فأفهمهم الإنجيل أنَّهم عند ذلك يربحون كلَّ شيء، وأنَّ طريق الخلاص تمرُّ في نكران الذات وحمل الصليب.

كلُّ هذا نلاحظه في جواب يسوع إلى بطرس. قال الرسول: »تركنا كلَّ شيء وتبعناك«. فكانت مواعيد يسوع: مَن ترك بيتًا، كانت له البيوت. ومَن ترك أمٌّا، كانت له الأمّهات. وفي الآخرة الحياة الأبديَّة. ولكن بين هذه المواعيد وما تحمل من خير وسعادة، جاءت عبارة قصيرة: »مع الإضطهادات« أجل، وعد يسوع كنيسته بالاضطهادات. إذا هي أرادت أن تكون أمينة لربِّها، فلا مهرب لها من المضايقات. وإن غابت المضايقات، فهذا يعني أنَّها تُساوِم على الإنجيل، وتجعل الإنجيل بلا ملح يُمَلِّح الطعام. ولا يعود الإنجيل يخمِّر العجين كلَّه، أي يخمِّر المجتمع كلَّه.

وكتب مرقس إلى العالم الوثنيَّ الذي بشّره مع بولس في بداية المرحلة الرسوليّة الأولى في قبرص. لا شكَّ في أنَّه تراجع أمام صعوبات الطريق، وهو شابٌّ طريّ العود. ولكنَّنا سوف نجده بقرب بولس في سجنه في رومة، وبقرب بطرس. لهذا السبب جاءت قمَّة إنجيله مع قائد المئة الذي كان عند الصليب ساعة كان اليهود يهزأون بيسوع: »يا هادِم الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام«. في ذلك الوقت، هتف ذلك الضابط الوثنيُّ بعد أن انشقّ الحجاب وصار قدس الأقداس مفتوحًا: »في الحقيقة كان هذا الرجل ابن الله«.

إنجيل متّى والعالم اليهوديّ

الإنسان ابن بيئته. هذا ما كانه متّى الذي كتب بيده أو بيد تلميذٍ من تلاميذه. عَرَف الكتابَ المقدَّس فأورد نصوصَه مرَّاتٍ عديدة، فما جاراه إنجيل آخر. منذ البداية، قال: لكي يتمَّ ما قيل بالنبيِّ أشعيا، بالنبيِّ إرميا. وذكر المقاطع العديدة من العهد القديم. في نظر متَّى، جاء يسوع يكمِّل الكتب، وهذه الكتب تحمل مشيئة الله.

متّى ابن العالم اليهوديِّ مع الشخص الذي يُشرف على كلِّ تعليم في ذاك العالم - نعني به موسى. عِظاته خمسٌ، لأنَّ أسفار موسى هي خمس. وانطلاقة العظة الأولى كانت شريعة موسى. ذكر موسى في ما يُسمَّى عظة الجبل الوصايا الأساسيَّة: لا تقتل، لا تزْنِ، لا تشهد شهادة زور. ثمَّ ذكر بعض الشريعة: سن بسن وعين بعين، أو: أحبب قريبك مثل نفسك، كما هو وارد في سفر اللاويّين (الأحبار).

وتأثَّر متّى بالعالَم اليهوديِّ في ما يخصُّ الزواج مثلاً، فجعل هذا الاستثناء الذي لا نجده في سائر الأناجيل. قال مرقس بوضوح: »مَن طلَّق امرأته وتزوَّج غيرها زنى عليها. وإن طلقت امرأة زوجها وتزوَّجت غيره زنت«. أمَّا متّى فقال: »مَن طلّق امرأته إلاَّ في حالة الزنى يجعلها تزني، ومن تزوج مطلقة زنى«. هذا الاستثناء »إلاَّ في حالة الزنى« لا يُفهم إلاَّ في إطار العالم اليهوديّ. فمتّى يتوجَّه في كلامه إلى جماعة معيَّنة. وهي لا تقدر أن تخرج كلِّيٌّا من المحيط الذي وُلدَتْ فيه.

واعتبر متّى في وقت من الأوقات أنَّ البشارة تتوجَّه إلى الشعب اليهوديِّ فقط. فمنذ الآية الأولى، نفهم أنَّ يسوع ينتسب إلى داود وإلى إبراهيم. وهذا الرسول فهم تعليم يسوع أنَّه يتوجَّه إلى الخراف الضالّة من بني إسرائيل، فقال بفم يسوع: »لا تقصدوا أرضًا وثنيَّة، ولا تدخلوا مدينة سامريَّة«. قد تكون هناك أولوّية. يهتدي الشعب اليهوديّ، فيحمل بدوره البشارة مع يسوع إلى الهراطقة، أو السامريِّين، وإلى »الكلاب« أي الغرباء عن الدار أو الوثنيّين. هذا ما سيقوله »يسوع« للمرأة الكنعانيَّة: »ما أرسلني الله إلاَّ إلى الخراف الضالّة من بني إسرائيل«.

ولكن متّى لن يبقى في محيطه، بل يخرج منه لكي يصل إلى العالم الوثنيِّ بل إلى البشريَّة كلِّها: »إذهبوا وتلمِذوا جميع الأمم«. ولقد كانت هذه المرأة الكنعانيَّة باكورَتَهم. حسب متّى إنَّ اليهوديَّ هو مَن يُختن فيكون ابن إبراهيم وبالتالي ابن الخلاص. ولكنَّه فهم مع هذه المرأة أنَّ الإيمان يُدخل الإنسان، كلَّ إنسان، إلى بيت الله، فيأكل ما يأكله البنون. وقد يصبح البنون »كلابًا« إن هم خرجوا من البيت. في هذا المجال قال بولس الرسول عن الجماعة اليهوديَّة المرتبطة بالختان وكأنَّه خشبة خلاص: »إحذروا الكلاب، إحذروا عمّال السوء، إحذروا أولئك الذين يشوِّهون الجسد«. ففي نظر متّى كما في نظر بولس: إنْ خُتن الإنسان لا يَربح. وإن لم يُختَن لا يَخسَر.

أمّا تعليمه عن الزواج، فوصل به إلى جذريَّة مسيحيَّة خالصة. بدأ فانتقد اليهود الذين يُطلِّقون نساءَهم لأجل كلِّ علَّة. قالوا له: موسى أوصانا بأن يُعطي الرجل امرأته كتاب طلاق فتطلَّق. فأجابهم يسوع: لقساوة قلوبكم. وهكذا عاد الإنجيل الأوَّل إلى طريقة الأنبياء في الكلام، ولاسيَّما حزقيال. قساوة القلوب جعلت الإنجيل »يتراجع« في فهم القلب البشريّ. وحنان الكنيسة التي هي أمٌّ وجدت »مخرجًا« لحالات بشريَّة، يبدو فيها الإنجيل صعبًا جدٌّا. وهذا ما جعل التلاميذ يقولون: »إذا كانت هذه حال الرجل مع المرأة، فخيرٌ له أن لا يتزوَّج«. وهكذا فهم السامعون أنَّنا أمام استثناء لمن لم يلامسه بعد تعليم الإنجيل. وراح متّى أبعد من ذلك فتحدَّث عن البتوليَّة: »هناك من لا يتزوَّجون من أجل ملكوت السماوات«. وفي النهاية، سواء كنَّا أمام الزواج أو أمام البتوليَّة، كلام الإنجيل قاطع: فمن يقدر أن يقبل فليقبل.

ومتّى لم يتوقَّف عند كلام موسى، وما له من إجلال في عين اليهود. لا شكَّ أنَّ من يعمل على وفق الشريعة ينال التهنئة. ولكن هل نبقى على مستوى: »لا تقتل« ولا نذهب أبعد من ذلك إلى الغضب والكلام القاسي على إخوتنا؟ هل نكتفي بعبارة »لا تزْنِ« ولا نذهب إلى أبعد متطلِّباتها وما فيها من جذريَّة؟ »فإذا جعلَتْك عينُك اليمنى تخطأ، فاقلعها وألقِها عنك، لأنَّه خير لك أن تفقد عُضوًا من أعضائك ولا يُلقى جسدُك كلُّه في جَهنم«.

إنجيل لوقا والعالم اليونانيُّ المثقَّف

منذ البداية يخبرنا لوقا، كاتب الإنجيل الثالث، أنَّه بَحَثَ ودقَّقَ ورتَّبَ لكي يَعرف محبُّ الله (تيوفيل) صِحَّة التعليم الذي تلقّاه. هكذا يفعل المؤرِّخ الذي يحترم نفسه. إنطلق لوقا من شهود عيان، من خدّام الكلمة. رجع إلى الجذور، وهو الآتي من العالم الوثنيّ، فرأى أنَّ الإنجيل يتوجَّه إلى أهل اليونان، كما إلى اليهود. فما إن انطلقت البشارة في أورشليم، كما يروي سفر الأعمال، حتَّى برز العنصر اليونانيّ، فقدَّم له الرسل الخدّام السبعة الذين كان منهم إسطفان وفيليب.

نكتشف في أعمال الرسل كيف أنَّ بولس يبدأ الرسالة في الجماعة اليهوديّة، قبل أن يتوجَّه إلى الوثنيِّين. وقد أراد أن يبيِّن، من الكتب المقدَّسة، أنَّ اليونانيِّين هم في النهاية موضوع البشارة. وهذا واضح منذ بداية الإنجيل. ويُورد لوقا نبوءة أشعيا ولا يتوقَّف إلى أن يصل إلى العبارة التالية: فيرى كلُّ بشر خلاص الله. في أيِّ حال، الإنجيل الثالث ينطلق مع أوغسطس قيصر، فيَصِلَ إلى طيباريوس. العالم الوثنيُ هو إطاره، فلا يترك مناسبة إلاَّ ويبيّن هذا البعد الشامل. وبما أنَّ عالم اليونان لم يعرف الكتاب المقدَّس الذي هو الرباط بين الله والبشر، كانت العلاقة على مستوى الرحمة. فساعة قال متى: كونوا كاملين كما أنَّ أباكم السماويَّ كامل هو، قال لوقا: كونوا رحماء، كما أنَّ أباكم السماويَّ رحيم هو. إنجيل لوقا هو إنجيل الرحمة لكلِّ الضعفاء في المجتمع.

رحمة بالنسبة إلى المرأة وإلى الطفل، رحمة بالنسبة إلى الخطأة والمرضى، رحمة بالنسبة إلى العالم الوثنيّ الذي يمثّله الابن الأصغر، ساعة الابن الأكبر يرمز إلى العالم اليهوديّ. فهذا الابن الأصغر الذي يستقبله والده باللباس والخاتم والوليمة، هو الآتي إلى الإيمان فينال أسرار التنشئة، أي المعموديَّة والتثبيت والإفخارستيَّا. ولكنَّه في الواقع، لم يكن غريبًا ونظر الله يرعاه. هو كان في البيت ومضى إلى البعيد، وها هو يعود إلى البيت. هؤلاء هم الذين يكتب إليهم لوقا. فالفلسفة اليونانيَّة بحثت عن الله، وتركت الأوثان مع سقراط، وعرفت عالم المثُل مع أفلاطون، واكتشفت المحرِّكَ الأوَّل مع أرسطو. كلُّ هذا كان حجارة انتظار، بها ستَبني الكنيسة إنجيلاً يتوجَّه إلى عالم اليونان.

ونلاحظ في إنجيل لوقا وجه الأسرة الجديدة في خطِّ بولس الرسول. لم تعد المرأة تلك التي لا تُحسب بين الأشخاص الموجودين، وكأنَّ شأنها شأن الأطفال. لذلك لما تكلَّم الإنجيل عن الآكلين من الأرغفة التي كسرها، قال متّى مثلاً: خمسة آلاف ما عدا النساء والأولاد. مثل هذا الكلام لا يمكن أن يقوله لوقا وهو الذي يكتب إلى طبقة المثقَّفين حيث تلعب المرأة دورًا كبيرًا. فزكريّا بارّ وإليصابات بارَّة مثله. أمَّا مريم فقمَّة البرارة ولا يضاهيها أحد في الأناجيل. وهناك صورة مرتا ومريم وكأنَّنا في أوَّل »دير للراهبات« حيث يكون التكرُّس للصلاة وسماع كلمة الله من جهة، وعمل الخدمة ولاسيَّما في استقبال الغرباء من جهة ثانية. وإن تكلّم لوقا عن الرجل الذي يصلّي فيلحُّ في صلاته، فهو لا ينسى المرأة في شخص الأرملة التي ذهبت إلى القاضي الظالم، وإن تكلّم عن رجل يبحث عن خروف ضلّ، فلا ينسى امرأة تبحث عن درهم ضاع، والأب في مَثَل الابن الضالّ هو أب وأمٌّ معًا. هو أبٌ يقسم ماله بين الفئتين، بين اليهود والوثنيِّين، وهو أمّ تتحرَّك أحشاؤها حين يطلُّ ابنها في البعيد.

خاتمة

تلك هي نظرات سريعة إلى الأناجيل الإزائيّة الثلاثة، وخصوصيَّة كلٍّ منها. فالإنجيل يتوجَّه إلى كنيسة معيَّنة، قبل أن يتوجَّه إلى الكنائس كلِّها. لهذا، فله خصوصيَّته التي ننطلق منها لكي نفهم التفاصيل فيه. هذا يعني أنَّنا لا نمزج إنجيلاً بإنجيل. فكلُّ إنجيل هو لوحة فنيَّة، نتأمَّل فيها وحدها. لا شكَّ في أنَّنا نستطيع أن نقابل، ولكن لا نخلط الأخبارَ، بعضَها ببعض، لئلاَّ يضيع الرونق. نقابل لكي نكتشف غِنى كلِّ إنجيل. وكم أنصح الذين أعرفهم أن يقرأوا إنجيلاً واحدًا على التوالي ويتأمَّلوا في نصوصه، قبل أن ينتقلوا إلى إنجيل آخر. فحين نقرأ متّى، نفهم هذا الاختبار العميق الذي نقله من العالم اليهوديِّ المتزمِّت إلى البشريَّة كلِّها. وحين نقرأ مرقس، نفهم الصعوبات التي تعترض الكنيسة في حجِّها إلى المسيح. وحين نقرأ لوقا، نكشف وجه الآب الحنون لِعالَمٍ بَحث عنه وغرَق في عبادة الآلهة الوثنيَّة، قبل أن يعرف أن ذاك الذي وُلد في مذود هو وحده الربُّ والمخلِّص.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM