الأناجيل الإزائيّة توازيات واختلافات.

 

الأناجيل الإزائيّة

توازيات واختلافات

حين نقرأ أناجيل متّى ومرقس ولوقا، التي تُسمّى في اللغة العلميّة الأناجيل الإزائيّة، نلاحظ أنّنا نستطيع أن نضع نصّ متّى مثلاً تجاه نصّ مرقس ولوقا. إنّنا نقدر أن نقابل نصوصًا ثلاثة على مستوى المعنى لأنّها تصدر عن شخص واحد هو يسوع المسيح. ومع ذلك، حين نقابل بالتفصيل بين نصّ وآخر، قلّما نجد التوازي الكامل في التفاصيل، وهذا ما جعل القرّاء يتساءلون: إن كان المصدر الإنجيليّ هو هو، فلماذا لا تكون كلماته هي هي في الأناجيل الثلاثة المسمّاة إزائيّة؟ بل في الأناجيل الأربعة، إذا أضفنا إلى متّى ومرقس ولوقا، إنجيلَ يوحنّا؟ هذا ما نحاول أن نجيب عليه في ثلاثة أقسام: نصوص متوازية. اختلافات في التفاصيل. غنى هذه الاختلافات.

1- نصوص متوازية

نبدأ فنقول أوّلاً إنّ الفنّ الأدبيّ المسمّى »إنجيل« هو خاصّ بالمسيحيّة. واللفظ يعني الخبر الطيّب والسعيد. وقد عنى في البداية، إعلان تعليم وبلاغًا أساسه يسوع المسيح. وبعد ذلك، صار الإنجيل كتابًا ووثيقة من الوثائق المسيحيّة. في هذا المجال، نستطيع أن نقرأ بداية مرقس: »بدء إنجيل يسوع، المسيح، وابن الله« (1: 1). يُروى لنا ما فعله الله بابنه يسوع المسيح، فأُعلن إلى جميع الأمم (13: 10). أمّا المضمون فهو ملكوت الله الحاضر في يسوع الذي يغفر الخطايا، يشفي المرضى، يُشبع الجياع، يقيم الموتى، يهدئ العاصفة. هذه الأخبار تعلَن في التعاليم وفي الأمثال.

نحن نمتلك أربعة أناجيل تُدعى قانونيّة. لأنّ الكنيسة تعتبرها قانون حياتها وقاعدة إيمانها وأخلاقيّاتها وعقيدتها. لن نتكلّم هنا عن نصوص تسمّت »كذبًا« أناجيل، فانتحلت صفة الإلهام، وما هي ملهمة. لهذا دُعيت »منحولة«. ودُعيت أيضًا »مكتومة«، لأنّها لم تُعلن لجميع البشر بل لفئة صغيرة اعتبرت نفسها مميّزة عن سائر البشر، بل عن سائر المؤمنين. أمّا الأناجيل الأربعة فتتوجّه إلى جميع الأمم (متّى 28: 19)، حيث قال يسوع لتلاميذه: »إذهبوا في العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلّها« (مر 16: 15).

ونتوقّف بشكل خاصّ عند الأناجيل الإزائيّة، فنرى كيف أنّ نصوص متّى ومرقس ولوقا تتوازى في رواية الخبر الواحد، والمعجزة الواحدة، والأمثال عينها. ونعطي بعض الأمثلة على ذلك.

منذ بداية إنجيل مرقس نتعرّف إلى يوحنّا المعمدان الذي يكرز بالتوبة، ويدعو شعبه لكي يتقبّلوا عماد الماء تعبيرًا عن رجوع إلى الربّ. »صوت صارخ في البريّة: أعدّوا طريق الربّ، واجعلوا سبله قويمة«. هذا ما يقوله مرقس (1: 1-4). ويعلن متّى في الإطار عينه: »توبوا، فإنّ ملكوت السماوات قريب«. وسوف يذكر هذا الإنجيليّ الأماكن التي جاء منها الناس لكي يعتمدوا على يد يوحنّا: أورشليم، كلّ اليهوديّة، بقعة الأردنّ (3: 1-5). وربط لوقا بداية حمل البشارة على يد يوحنّا، ثمّ على يد يسوع بملك طيباريوس قيصر، ملك رومة، وببنطيوس بيلاطس الوالي على اليهوديّة. ويذكر حنّان وقيافا في رئاسة الكهنوت.

ومن البداية إلى النهاية، مع خبر الحاش والآلام الذي يمتدّ من النزاع في بستان الزيتون حتّى الموت على الصليب والوضع في القبر. خبر واحد ينطلق فيه يسوع من الجليل، من الناصرة موطنه، وكفرناحوم، المحطّة الأساسيّة، ليصل إلى أورشليم حيث تنتهي رسالته، فيموت. ولكنّه سيقوم ويرسل تلاميذه لكي يتابعوا الرسالة التي بدأ بها.

وتَشارك الإنجيليّون الثلاثة في إيراد عدد من المعجزات: شفاء الأبرص في متّى (8: 1-4) ومرقس (1: 40-45) ولوقا (5: 12-16). وشفاء خادم قائد المئة (متّى 8: 5-13؛ لو 7: 1-10). وشفاء حماة بطرس (مر 1: 29-34؛ متّى 8: 14-15؛ لو 4: 38-41). ونذكر تهدئة العاصفة وطرد الشياطين من لجيون، ذاك الإنسان المجنون، وشفاء الكسيح أو المخلّع، وإحياء ابنة يائيرُس وشفاء نازفة الدم...

ونقرأ في الأناجيل الإزائيّة عددًا من الأمثال: مثَل الزارع وتفسيره، مثل الكرّامين القتلة، مثل وليمة الملك...

كلّ هذا يدلّ على أنّ هذه الأناجيل الثلاثة ارتبطت بما فعله وعلّمه يسوع، كما يقول بطرس في خطبته في بيت كورنيليوس: »سار في كلّ مكان يعمل الخير ويشفي جميع الذين استولى عليهم إبليس، لأنّ الله كان معه، ونحن شهود« (أع 10: 38-39)

2- اختلافات في التفاصيل

التوازيات عديدة بين نصوص الأناجيل الثلاثة الأولى. ولكن الاختلافات عديدة أيضًا على مستوى النصوص. فقلّما نجد مقابلة لا تخلو من اختلاف، وتشبيهًا لا يخلو من ابتعاد. وها نحن نعطي بعض الأمثلة التي تبيّن هذه الاختلافات. ونبدأ بنصّ قصير: شفاء حماة بطرس.

متى 8: 14-15

14ولمّا جاء يسوع إلى بيت بطرس رأى حماته مطروحة ومحمومة

15فلمس يدها فتركتها الحمّى فقامت وخدمته.

مر 1: 29-31

29وللوقت من المجمع خرجوا. جاؤوا إلى بيت سمعان وأندراوس مع يعقوب يوحنّا.

30وكانت حماة سمعان مضطجعة محمومة. فللوقت أخبروه عنها. فتقدّم أقامها ماسكًا اليد فتركتها الحمّى وخدمتهم.

لو 4: 38-39

38 لما قام من المجمع دخل إلى بيت سمعان وكانت حماة سمعان أخذتها حمّى شديدة فسألوه من أجلها.

39فوقف فوقها انتهر الحمّى فتركتها وللوقت قامت تخدمهم.

حين نقرأ هذا النصّ المثلّث، نرى أنّ الخبر هو هو. ولكن قدّمه كلّ إنجيل بحسب طريقته. فالإنجيل ليس تقريرًا عمّا حدث، كما نقرأ في الصحف والمجلاّت. وليس رواية مثل سائر الروايات التي نقرأها أو نسمعها، ثمّ ننساها. الإنجيل شهادة. متّى هو الشهادة التي حملتها كنيسة عاشت في فلسطين ولبنان وسورية وصولاً إلى أنطاكية. ومرقس هو شهادة كنيسة رومة، التي انطلقت جذورها من فلسطين. ولوقا هو شهادة قُدّمت للمثقّفين في العالم اليونانيّ. وأرادت كلّ كنيسة (وكلّ إنجيليّ) أن تشدّد على وجهة من عمل يسوع.

أوّل ما نلاحظ في خبر شفاء حماة بطرس، هو أنّ نصّ متّى قصير. لماذا؟ لأنّه ترك كلّ التفاصيل، لكي يجعل المريضة وحدها تجاه يسوع. هو يناديها وهي تلبّي نداءه، وفي النهاية تقوم بخدمته هو. إنّها صورة عن الكنيسة التي تقوم بخدمة ربّها. يسوع يرى قبل أن يخبره أيّ واحد، فيفعل. وفعلته لمسة حنان ومحبّة. وما إن شُفيت حتّى قامت كمن يقوم من الموت، عندئذٍ بدأت خدمتها الرسوليّة بعد قيامة ربّها.

أمّا مرقس فيقدّم عددًا من التفاصيل. بدأ وذكر الرسل الأربعة الذين دعاهم يسوع على بحيرة طبريّة: سمعان وأندراوس، يعقوب ويوحنّا. هؤلاء يتدخّلون هنا فيخبرون الربّ بأمرها. وسوف يتدخّلون حين يحملون المخلّع فيعبّرون عن إيمانهم أجمل تعبير. ولمّا شُفيت الحماة، أخذت تخدم »الضيوف« في معنى أوّل، بانتظار خدمة من نوع آخر على مثال النسوة اللواتي ذكرهنّ بولس الرسول في نهاية الرسالة إلى رومة.

ولوقا أخرجَنا من المجمع، حيث يلتئم اليهود للصلاة، إلى البيت، بيت سمعان في معنى أوّل، والكنيسة في معنى ثانٍ حيث يتحلّق الرسل حول يسوع. أجل، مع لوقا تنتقل الرسالة من العالم اليهوديّ إلى العالم الوثنيّ. فالكنيسة في أيّامه، أي سنة 85، تتألّف بأكثريّتها من هؤلاء الذين يشبهون الابن الضالّ، الابن الأصغر، الذي عاد إلى البيت الوالديّ، فاستُقبل أطيب استقبال.

3- غنى هذه الاختلافات

أعطينا مثلاً بسيطًا فرأينا عددًا من الاختلافات. أتُرى هذه الاختلافات تؤثر على أساس إيماننا، وكلام الإنجيل هو كلام الله؟ هكذا ظنّ البعض، ولا سيّما الأقدمين منهم الذين أرادوا أن يكون للكنيسة نصّ واحد لا غير بحيث نعرف ما يجب أن نحفظ غيبًا ولا نبدّل شيئًا. لهذا، بدأوا يشدّدون على التوافق رغم الاختلافات. بل راح بعضهم، مثل تاتيان، فجعل الأناجيل الأربعة في إنجيل واحد، دعاها الإنجيل الرباعيّ أو الدياتسارون. ولكنّ الكنيسة رفضت هذا الدمج بحيث يكون لنا إنجيل واحد فيخسر كلّ من متّى ومرقس ولوقا أصالته. فدمّر الأسقف ربّولا جميع نسخ الإنجيل الذي قدّم صورة مشوّهة عن الأناجيل وما تحمل من غنى. وهكذا لم تبق، في السريانيّة، نسخة واحدة من الدياتسارون. ومثله فعل تيودوريه القورشيّ بالنسبة إلى العالم اليونانيّ. ولكن حفظت لنا العربيّة مخطوطًا واحدًا نرى فيه النصوص الإنجيليّة تؤخذ من هنا وهناك، ويقف بعضها بجانب بعضٍ، دون أن تكون لنا شهادة متناسقة من كنيسة من الكنائس حول شخص يسوع وحياته وأقواله وأعماله.

وها نحن نكتشف غنى هذه الاختلافات من خلال نصّ شفاء الكسيح أو المخلّع. لن أضع النصوص الواحد تجاه الآخر، ولكن أكتفي بأن أكشف الغنى الذي نقرأه في متّى (9: 1-8) ومرقس (8: 1-12) ولوقا (5: 17-26).

إنجيل متّى هو إنجيل اللقاء بين المؤمن ويسوع. إذن، لا مجال للتفاصيل العديدة من جموع غفيرة وسطح يُنقب. رأى يسوع إيمان الحاملين، فقال للمخلّع: »ثق، يا بُنيّ، مغفورة خطاياك«. نلاحظ لغة الحنان والرحمة لدى من أورد مرّتين كلام هوشع النبيّ: »أريد رحمة لا ذبيحة«. وترافق هذه اللغة لفظة: ثق، لا تخف. أنت ستنال رحمة فوق رحمة، وغفرانًا يتبعه شفاء. ثمّ إنّ إنجيل متّى هو إنجيل الكنيسة. ونحن نكتشف في هذا الخبر ما كانت تمارسه الكنيسة في نهاية القرن الأوّل المسيحيّ من غفران خطايا. قال الإنجيليّ: الجموع »مجّدوا الله الذي أعطى الناس سلطانًا مثل هذا«. أعطاهم سلطان الحلّ من الخطايا وتقدمة الغفران للتائبين. في الأصل، يسوع هو الذي غفر خطايا المخلّع. وهنا، نفهم أنّ الكنيسة، بواسطة الأسقف والكاهن، تعمل ما عمله يسوع.

لا نجد هذه الفكرة عند لوقا الذي شدّد على تمجيد الله. فقال مرّة أولى إنّ المخلّع مضى إلى بيته وهو يمجّد الله. ومرّة ثانية ، قال إنّ الجموع مجّدت الله. فمنذ بداية الإنجيل الثالث، أنشدت الملائكة المجد لله في العلى. وكلّ عمل من أعمال يسوع جعل الناس يرفعون آيات المجد فيتجاوب كلامهم مع نشيد الملائكة.

أمّا مرقس فقدّم لنا التفاصيل كما اعتاد أن يفعل. وأرانا التلاميذ الأربعة الذين يحملون إلى يسوع هذا المخلّع الذي هو رمز إلى عالم مريض وخاطئ. إيمانهم هو الذي نال نعمة الشفاء والغفران. فكما كانوا قرب حماة بطرس، ها هم قرب هذا المريض. وفي النهاية، بُهت الناس فقط. تعجّبوا، ولكنّهم لم يصلوا بعد إلى الإيمان، إلى الخطوة الأخيرة. فمسيرة الناس مع المسيح طويلة. والتلاميذ أنفسهم لن يفهموا مرارًا، بل يكون إيمانهم محتاجًا إلى تقوية، ولا سيّما في وقت الشدّة.

خاتمة

تلك نظرة إلى الأناجيل الإزائيّة الثلاثة، أي متّى ومرقس ولوقا. أخبار متوازية، وعبارات مختلفة. فلو كانت النصوص الثلاثة هي هي لرأينا تكرارًا لا حاجة إليه، ولقُلنا نَقل الواحد عن الآخر. ولكنّ عظمة كلّ إنجيل هو أنّه شاهدٌ على يسوع من وجهة من وجهات الكنائس. فيسوع أغنى من أن يستوعبه كتاب واحد، مهما كان ساميًا. وقال يوحنّا: كُتبُ العالم كلّه لا تكفي. ومع ذلك، احتفظت الكنيسة بأربعة أناجيل، كرمز إلى شموليّة البشارة التي وصلت إلى أقطار الكون الأربعة. يبقى أن تُكتب هذه الأناجيل في حياة الكنيسة وفي حياة كلّ واحد منّا، بحيث نصبح أناجيل يقرأها الناس. فيسوع اللامحدود في شخصه وحياته وكلامه، يحتاج إلى كلّ واحد منّا لكي يكون كلمة الله الحيّة التي هي كسَيف ذي حدّين. ولكن يبقى الينبوع الذي نغتذي منه هو تلك الوثائق التي تركها متّى ومرقس ولوقا، بل يوحنّا وبولس الرسول وسائر كتابات العهد الجديد. فيا ليتنا نغرف من غناها ولا نتوقّف عند حرفيّة الكلام بل نصل إلى ذاك الذي هو الإنجيل الحاضر في الكنيسة، عنيتُ به يسوع المسيح.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM