الفصل الثالث والعشرون
قتل العداوة بصليبه
العداوة كلمة نادرة في العهد الجديد. إنّها تعبّر عن العداوة تجاه الله، عن ثورة الإنسان وتمرُّدِه على الله (روم 8: 7؛ يع 4: 4). وتشير إلى العداوة بين شخصَين، بين هيرودس وبيلاطس (لو 23: 12)، كما إلى العداوات بصورة عامّة (غل 5: 20). وترد اللفظة مرّتين في نصّ أساسيّ من الرسالة إلى الأفسسيّين (2: 14-18).
نتأمّل في هذا النصّ يوم الجمعة العظيمة. نتطلَّع إلى العداوة التي سادت العالم، ونتطلَّع إلى الوقت الذي فيه أزالها المسيح بصليبه.
1- هدم بجسده الحاجز: العداوة (أف 2: 14)
أيّة عداوة يعني القدّيس بولس؟ عنى التعارض بين اليهود والوثنيّين، الذي لا يستطيع بشر أن يحوِّله. فالجدار الذي هو العداوة، جعلته الشريعة حاجزًا يفصل بين الفئتين.
إنّ الحاجز يمثِّل الشريعة اليهوديّة. فهي من جهة تحفظ شعب إسرائيل وتحميه من الذَوبان في العالم. ومن جهة ثانية تمنع الوثنيّين من الدخول في شعب الله. هذا الحاجز هو سبب العداوة لأنَّه يجعل من إسرائيل شعبًا معزولاً وموضوع حذر الوثنيّين واحتقارهم، ولأنّه يحمل إسرائيل على احتقار الوثنيّين.
أ- حاجز الشريعة
كانت الشريعة سبب العداوة. وبما أنّ موت المسيح ألغى الشريعة، فلم يعد لجماعة اليهود وجماعة الوثنيّين أن تتحاسدا ولا أن تتعايرا. لم يعد من جهةٍ أهلُ الشريعة، ومن الجهة الأخرى أولئك الذين لا شريعة لهم. دُمِّرت العداوة بصورة غير مباشرة وبطريقة الاستتباع. فالشيء الذي صفّاه المسيح هو الشريعة. وتقول الآية التالية: »ألغى الشريعة ووصاياها وما فيها من أحكام« (أف 2: 15). وهذه الأحكام جعلت كلَّ علاقة مستحيلة بين اليهود والوثنيّين، ولا سيّما في مشاركة الفئتين في مائدة واحدة. وقال النصّ: »في جسده«. هذا يعني موته على الصليب. فبموت يسوع على الصليب أُلغيت الشريعة. وحين مات يسوع كضحيّة للشريعة، قتل الشريعة.
فالمسيح حُكم عليه بالإعدام باسم الشريعة. قال اليهود: »إنّ لنا شريعةً، وحسب هذه الشريعة يجب أن يموت، لأنّه زعم أنَّه ابن الله« (يو 19: 7). قُتل كمجدِّف باسم الشريعة. قال سفر اللاويّين (24: 16): »من جدَّف على اسم الربّ يُقتل«. وهكذا حرَّرنا الربّ من الشريعة. أخذ على عاتقه اللعنة. فلم نعد خاضعين للشريعة. قالوا: »إنّ دعاة العمل بأحكام الشرعة لُعنوا جميعًا« (غل 3: 10). لنتوقَّف عند هذه النقطة. فإن فهمنا فهمًا أفضل كيف حرَّرنا يسوع من الشريعة، رأينا بصورة أفضل كيف أنّ إلغاء الشريعة جرَّ وراءه نهاية العداوة.
ب- من الشريعة إلى الإيمان
لا يكفي بأن نقول إنّ الشريعة تعدّاها الزمن، استنفدت قواها حين قتلت البريء الذي هو يسوع المسيح. فالشريعة لا تسقط بذاتها. بل إنّ المسيح هو الذي دمَّرها، فكان موته إيذانًا بمجيء الإيمان وبنهاية الشريعة. إنّ الجديد في الإيمان يجعل الشريعة في مرحلة تعدّاها الزمن. ونزيد: لم يكتفِ المسيح بأن يلغي الشريعة، بل حرَّرنا منها، كما قال القدّيس بولس.
نجد في هجومٍ بولس على العالم اليهوديّ، كيف أنّ الشريعة صارت إحدى هذه القوى الشرّيرة التي تضغط على البشر، تضايقهم، تتسلَّط عليهم. صاروا في حكم الشريعة، خاضعين للشريعة (غل 4: 4). صاروا تحت الشريعة بعد أن تغلَّبت عليهم. عرف بولس أنّ الشريعة هي، من جهة المبدأ، وعدُ الحياة بحسب ما قيل في سفر اللاويّين (18: 5): »من عمل بهذه الوصايا يحيا بها« (غل 3: 12). ولكنّه عرف، على أثر خبرة شخصيّة، أنّها فسدت فصارت قوّة شرّيرة.
فماذا تعرض الشريعة؟ تعرض الشريعة مثالاً لا يمكن البلوغ إليه، مثال الكمال في البرّ. إنّها تلعب دورًا يشبه دور الشيطان في سفر أيّوب. في سفر أيّوب اتّهم الشيطان المؤمنين، وهمّه أن يطالب بحفظ متطلِّبات البرارة حفظًا تامٌّا. وهنا تعرض الشريعة هذا المثال، وتذكِّر الإنسان بمتطلِّبات البرارة التامّة. إنّها تندِّد بأقلّ زلقة، ولا تكون راضية إلاّ في الممارسة التامّة لأصغر الوصايا. تجاه هذا الطلب لكمال يستحيل علينا، تجعل في الإنسان الذي تسود عليه، وعيًا قاطعًا لحدوده وزلاّته.
لا يستطيع الإنسان أن يجعل الشريعة ديّانًا له دون أن يصبح هو ديّانًا لنفسه وللآخرين. فالشريعة تجهل الرحمة. والإنسان الخاضع للشريعة لا يكون رحيمًا لنفسه ولا لغيره. وهنا تستعيد لفظة العداوة كلَّ معناها: بغض الذات وبغض الآخرين... هذه هذه الثمار الفاسدة في نظام الشريعة بما فيه من شرّ ودمار. فالإنسان المتعلِّق بكماله الخاصّ، هو في الوقت عينه ضحيّة وشريك. ووسواس الكمال لا يمكنه إلاّ أن يولِّد العداوة، يولِّد البغض.
وهناك شرّ أكبر. فالشريعة تجرُّ الله في تيّار الفساد فيصبح إلهُ الشريعة الإلهَ الذي يَلعن. فالملعون هو موضوع عداوة الله وبغضه. فما عدتُ أنتظر منه إلاّ غضبه. إنّ الخدمة التي يستطيع البشر أن يؤدّوها لله، هي أن يجعلوا المتجاوزين للشريعة بين الملعونين. وتظنّ هذه العداوةُ القاتلة أنّها تستلهم متطلّبات الله، تستلهم إلهَ الشريعة، الإلهَ الذي يلعن ويُحلّ غضبه على البشر.
ج- إله الحنان
بيَّنت لنا الرسالةُ إلى الغلاطيّين كيف أنّ المسيح جُعل في صفّ »الملعونين«. أوردت سفرَ التثنية (27: 26) فقالت: »افتدانا المسيح من لعنة الشريعة فصار لعنةً لأجلنا، فقد ورد في الكتاب: ملعونٌ من علِّق على خشبة« (غل 3: 13). ولكنّ الإله الذي يرتبط به المسيح في آلامه هو إلهٌ يغمره بحياته الخاصّة. إنّه إله الحبّ. مات إلهُ الشريعة في موت يسوع وقيامته. حينئذٍ تفجّر نظامُ الشريعة الفاسد، وكشفت الشريعةُ عن وجهها الحقيقيّ في موت يسوع. وما كانت للمسيح، كانت لجميع البشر: ينبوعَ بُغضٍ وعداوةٍ وموت. وحين مات يسوع، مات بالشريعة. ولكن في الإيمان، قتل الشريعة وألغى مناخ العداوة. لم يعد هناك من ملعونين: »الخارجون« عن الشريعة لم يعودوا مرذولين ومُبغَضين من قبل أهل الشريعة. لم يعد من حاجز يفصل أولئك عن هؤلاء. ألغيَت الشريعة فأُلغيَ الحاجزُ والجدارُ الفاصل ودُمِّرت العداوة.
حين ننظر إلى الأمور من هذه الزاوية، لم تعد الشريعة حاجزًا يفصل بين اليهود والوثنيّين ويمنع كلَّ اتّصال بينهما. ولم تعد العداوة نتيجةً غيرَ مباشرة للشريعة. فالشريعة هي في ذاتها مولّدة العداوة وتظهر كذلك كلّ مرّة نعيشها في شكل فاسد يندِّد به القدّيس بولس. ويُطرح السؤال: هل الشريعة اليهوديّة وحدها تعرف مثل هذا الفساد، مثل الوثنيّين الذين هم »شريعة لأنفسهم«؟ فقد تعرف شريعةُ الضمير الانحرافات عينها التي تعرفها الشريعة الموسويّة. فكلتاهما تنحطّان فتصبحان نظامًا يعطينا الشعور بالذنب والبغضاء. وتكون لكلتيهما النتائج القاتلة عينُها. والإله الذي تُرجعنا إليه يتّخذ الوجهَ الواحد، وجهَ العداوة والغضب.
يستطيع اليهود والوثنيّون أن يتلاقَوا في المسيح، لأنّ العلاقات أعيدت بينهما. أفلتا من العداوة، فدخلا في الإيمان والحبّ، بعد أن كانا محجوزَين وراء جدار العداوة.
2- قتل في شخصه العداوة (أف 2: 16)
عبارة كثيفةٌ وموجَزة إلى آخر حدود الإيجاز، وهي قاطعةٌ مثل العبارة الأولى التي قرأناها. هدمَ بجسده حاجز العداوة. حدّثنا القدّيس بولس عن »دمار« أو تصفية العداوة وإلغائها. أمّا هنا فيقول لنا إنّ العداوة ستُقتل. غير أنّ النصّ يؤكِّد الأمر ولا يقول كيف يتمّ. إنّه يدلّ فقط على موضع انتصار المسيح على العنف القاتل. وهذا الموضع هو الصليب.
نحن نعرف أنَّ على الصليب قُتل إنسان. هو المسيح نفسه. كان ضحيّة بغض اليهود والرومان وعداوتهم. وهذا الالتقاء في عداوة مشتركة، سجَّل بداية مصالحة بين الفئتين. »هيرودس (اليهوديّ) وبيلاطس (الوثنيّ) تصادقا (تصافيا، تصالحا) في ذلك اليوم. كانا قبلاً متعاديَيْن« (لو 23: 12).
ولكن عداوتهما المتبادلة وجدت لها مكانًا تصبّ فيه. انصبّت على يسوع. فهو سيموت ضحيّة عنفهما القاتل. وسيكون صليبه ملتقى كلّ العداوات. والعاملون سيكونون أمناء لأنفسهم فيلعب كلُّ واحد منهم وحده. وهذا الانقسام الداخليّ للعنف بين صورة اليهوديّ وصورة الوثنيّ، سيعلّمنا الشيء الكثير عن العداوة (البغض) التي هي واحدة ومتعدِّدة.
وتجد عداوة اليهوديّ جوابًا لها في عداوة الوثنيّ. وكان لكلّ عداوة أسلوبُها الخاصُّ بها. وهكذا كشف كلٌّ من اليهوديّ والوثنيّ عن موقفه تجاه يسوع. ونجد أفضل تعبير عن هذا في هيرودس اليهوديّ وبيلاطس الوثنيّ. ماذا قال قيافا؟ قال: »إنّ لنا شريعة، وبحسب هذه الشريعة يجب أن يموت لأنّه زعم أنَّه ابن الله« (يو 19: 7). إعلانٌ عامٌّ يهدف إلى وضع القلق في قلب الفريق الآخر. ولكن حين جلس قيافا بين أخصّائه قال كلامًا آخر: اعتبر يسوع مهدِّدًا لسلامة الأمة: »خيرٌ لكم أن يموت رجلٌ واحدٌ عن الشعب كلِّه« (يو 18:14). يجب أن لا يدمِّر الرومان »المكان المقدَّس وأمّتنا«.
وفي الجانب الآخر الوثنيّ، نجد بيلاطس. كلامه واضح. يعلن سلطانه المطلق باسم نظام عامّ لا بدّ من حمايته: »ألا تعلم أنّ لي سلطانًا على أن أخليَ سبيلك، وسلطانًا على أن أصلبك؟« (يو 19: 10)
ومهما يكن من أمر، لا بدّ من إزالة يسوع. تلاقت الأفكار وإن كانت مختلفة كلَّ الاختلاف. إمّحى شخصا بيلاطس وقيافا الضعيفان. ولكن إن أخذنا أقوالهما على حرفيّتها، نرى أنّهما صورتان واضحتان لليهوديّ والوثنيّ. نحن لا نتحدَّث هنا عن انتماء عرقيّ أو وطنيّ. هذان الوجهان ينتميان إلى الأنماط التاريخيّة. ونحن لا نستطيع أن نضعهما جانبًا حين نحاول أن نفكّر في سرّ التاريخ، كما لا نستطيع أن نلغي التقابل بين الرجل والمرأة، السيّد والعبد... سننطلق من هذين الوجهين لنكتشف عمق العداوة التي لم تزل سرٌّا بالنسبة إلينا.
أ- اليهوديّ
من هو اليهوديّ؟ لماذا يحاول أن يلغي المسيح وكيف يفعل؟ ولماذا يكشف في الوقت عينه العداوة (البغض) التي يضمرها للوثنيّ؟ إذا أردنا أن نفهم هذا الوضع، يكفي أن نتوسَّع في الإشارات الموجزة التي نجدها في إنجيل يوحنّا. من هو قيافا؟ نحن لن نتوقَّف عند مولده ولا عند وظيفته كرئيس كهنة. فحين تكلّم، كشف عن بُعدٍ خفيّ نجده في كلِّ إنسان، فدلَّ على أنَّه نموذجٌ واسعٌ وُسع البشريّة.
ما هي مركّبات هذا البعد؟ ما هو هذا العنف الذي يسير بالإنسان حتّى الجنون فالقتل؟ قيافا هو رجل الشريعة. الشريعة مكتوبة. إنَّها العدل والصواب. وهي تقود إلى برودة الأعصاب في التفكير والحساب. حرفُ الشريعة يحدِّد هذه الحقوق. فعلى الأمّة أن تحافظ على امتيازاتها بعد أن حصلت عليها. حين تحسّ بالخطر، تحسّ أنَّه لا بدَّ من الدفاع عن التضامن، عن الأمن الوطنيّ مهما كان الثمن. على الشعب أن يكون صفٌّا واحدًا، كتلة واحدة، أن يلتحم برباط الشريعة المكتوبة. فكلُّ من يهدِّد التماسك الضروريّ، يجب أن يُرذل باسم الوحدة الوطنيّة، بل يُرذل باسم الله نفسه.
لا مجال هنا لنزوة سلطة بشريّة. فهذه السلطة تسلَّمت شرعتها من العلاء. فالأمّة والشريعة والسلطة كلّها تجد أصلها في الله. إنّها من الله ولهذا فالقضيّة مقدَّسة. ودوام الأمّة وكمال الشريعة ونظام الوظائف الكهنوتيّة هي الشرط الضروريّ الذي يؤمِّن مستقبل الله في هذا العالم.
لماذا تحدَّثنا عن هذا الجنون الذي ينتهي بالقتل؟ لأن العنف يتمّ هنا بدون ضجّة تلفت النظر. إنَّه يرتبط بحسابات هادئة بسيطة. كلّ من يهدّد التوازن الذي اعتبرناه مقدَّسًا، يُلغى ويُرذل. فعنف الحقّ يصفّي حساب مَن بلبل النظام القائم، لأنّ النظام القائم هو نظام من قِبَل الله نجعله حقٌّا من حقوقنا. ونطالب به بسهولة أكثر حين ننتمي إلى العالم الدينيّ. فالحقّ الأسمى هو أن يكون الله معنا. ولكن حين يكون الله موضوع جدال، لن يبقى مكان للمساومة. فالله مطلق، وهذا المطلق يتطلّب المطلق الوحيد الممكن على المستوى البشريّ، يتطلَّب الموت.
لنحاول أن ندرك السِّمات الظاهرة في هذا الوجه: عنف نمارسه بأعصاب باردة. عنفٌ يعتبره عينَ الصواب أهلُ الشريعة، أهلُ الحقّ، أهلُ الحقوق المكتسبة والمعترفِ بها. عنفٌ لا هوادَة فيه ولا رحمة، حين تصبح قضيّةُ الله قضيّتنا. ويتوافق عالم الدين مع عالم السياسة. هذا هو اليهوديّ القابع في كلِّ واحد منّا.
وسيتيح لنا الوثنيّ بأن نكتشف وجهًا آخر. سيدلُّنا بيلاطس إلى ما نحن عليه بصورة خفيّة، إن لم تكن ظاهرة.
ب- الوثنيّ
الوثنيّ رجلٌ لا شريعة له، لا إله له.
بما أنّ لا شريعة له، فهو لا يستطيع أن يستفيد من حقوق مكرَّسة ومعترفٍ بها. هو لا يستطيع إلاّ أن يلجأ إلى القوّة، والقوّة الاعتباطيّة. ففي يده سلطانُ الحياة والموت. وقد أعطته هذه القوّة أن يحتلّ هذه الأرض. يحتفظ بهذه القوّة بالتخويف والترهيب. ولكن إن برز أناسٌ أحرار حقٌّا، أناسٌ تحرَّروا من خوف الموت، يظهر فشلُ النظام الموقَّت الذي فُرض. »الوثنيّ« لا يحتمل الإنسان الحرّ. يجب أن يزيله. تهديدٌ يأتي من »تحت«، من الشعب. ولكنَّ أسوأ تهديد يأتيه من فوق. فالقويّ عرضةٌ لمن هو أقوى منه. إنّ تعسُّف بيلاطس يخضع لتعسُّف قيصر. لسنا في عالم يسيطر فيه الحقّ، بل تتجاذبه القوى المتصارعة.
ويفعل العنف فعلَه دون أن يبحث عن تبرير فيصدر عن إرادة القوّة. فالعبد المتحرِّر يعرف ماذا ينتظره. لا مكان في هذه »اللعبة« لاعتبارات أخلاقيّة أو دينيّة. فالوثنيّ يعتبر أنّ الله غائب، غيرُ موجود. فليس هناك قضيّة مقدَّسة، ولا شخصٌ مقدَّس، مخلوقٌ على صورة الله ومثاله وصاحبُ حقوق وواجبات.
هذان هما العنفان اللذان يتقاطعان قبل أن يتلاقيا في خبر الآلام، كما نقرأه في إنجيل يوحنّا. عنفٌ باردٌ وصوابيٌّ عند يهوديّ يدافع عن حقوقه المكتسبة والمعترف بها بعد أن ختمت عليها شريعةُ الله. عنفٌ تعسُّفيّ عند وثنيّ يدلّ على قوّته فيزيل كلّ مقاومة لسلطانه. في نظر قيافا، يسوع هو مجدِّف تطاله الشريعة. وفي نظر بيلاطس إنّه مقلق (أو هو يستطيع أن يقلق)، فيجب إزالته. إذن، سنجد أساسًا لوفاق ممكن عند هذا وذاك.
ج- عداوة متبادلة
وفاقٌ بصورة مفارقة، لأنّه محكوم على هذين العنفَين أن يتواجها بدون نهاية، وذلك بطبيعتَيهما. فـ»اليهوديّ« و»الوثنيّ« يقيمان في عداوة مستمرّة. المُمسكون بالحقّ يهدّدون ويرذلون هؤلاء الذين لا يعترف أحدٌ بحقوقهم أو الذين يهدِّدون حقوقهم المكتسبة. إنّهم دومًا معرَّضون لعنف ثورتهم. أمّا الذين لا يُعتَرف بحقوقهم، فلا يستطيعون إلاّ أن يروِّجوا للقوّة ويلجأوا إلى العنف. وفي كلِّ صراع، يبرز هذان الخصمان، ولكنّ الأدوار ليست ثابتة. فخلال الصراع يتبادل الخصمان سلاحهما: واحدٌ يستند إلى القانون والآخر إلى الإرهاب، والعكس بالعكس. الواحد يكون تارة »يهوديٌّا« وتارة »وثنيٌّا«. وهو يتوجّه إلى خصمه، مرّة على مستوى الضمير، ومرّة أخرى على مستوى الخوف. حُكم على »قيافا« و»بيلاطس« أن يدمِّر الواحد الآخر أو أن يحتمل الواحدُ الآخر بعد سلسلة من المساومات. ولكنَّ التعايش السلميّ ليس نهاية العداوة.
وهكذا تنتصب العداوة ضدّ المسيح عند ملتقى كلِّ عنف. هناك قتل العداوة. ولكنّه بدأ فكشف مدلولها الأخير.
د- في ينابيع العداوة
كلُّنا يعرف عبارة استعملها القدّيس بولس في الرسالة إلى الفليبيّين: »هو الذي كان صورة (انعكاس محض) الله لم يعتبر المرتبة التي تساويه بالله غنيمةً يحتفظ بها بعناية قصوى« (أو غنيمة يستولي عليها) (2: 6). يحتفظ بها أو يستولي عليها: الترجمتان ممكنتان وهما تدلاّن إلى الموقفَين اللذين صوّرناهما. ولكنّ هذا النصّ يُلقي في الوقت عينه ضوءًا ساطعًا على الهدف الحقيقيّ لكلِّ عنف، على المحرِّك الخفيّ لكلِّ عنف.
فالإنسان الدينيّ والذي يعتبر نفسه صاحب الحقّ، يتعلَّق فقط بامتيازات تفرُّده عن سائر الناس. فيتكمَّش بحقوقه وهو عارف أنّ الله اختاره واصطفاه. وإذا دافع عن نفسه فلأنّه يخاف أن يخسر مرتبته. لا شكّ في أنّ هذه المرتبة لا تساويه بالله، ولكنَّها على الأقلّ تقرّبه منه، أو هي تضعه في الطريق التي توصله إليه. هناك حلمٌ خفيّ يدغدغه وطموح لا يجسر على البوح به: هو يحلم بأن يتجاوز وضعه البشريّ، هو يحلم حلم آدم: »تصيرون مثل آلهة«.
والحلم نفسه والحنين نفسه يدغدغ »الوثنيّ«. لم يحتفظ من إله يجهله إلاّ بصورة خاطئة، إلاّ بصنمٍ، صنمِ الثورة والسيادة والتسلُّط. فإن جاء إنسان يعتبر نفسه ابن الله ويقدِّم نفسه على أنَّه ابن الملك، لا تسمح له هذه الفئة ولا تلك أن يعبِّر بصوت عالْ عن الرغبة التي تعمل في الداخل. فهدف الصراع هو الاستيلاء على مرتبة تساوينا بالله أو الاحتفاظ بها. ولكنّه هدفٌ خفيٌّ وسرٌّ لا يُعلن عنه. لهذا يجب أن يُقفل الفم الذي أعلنه، يجب أن يُقفل إلى الأبد.
غير أنّ يسوع في هذا النصّ لم يفعل شيئًا ليجعل نفسه مساويًا لله. إنَّه حقٌّا مساوٍ لله. ولكنّ »اليهوديّ« و»الوثنيّ« لا يفهمان إلاّ لغة الاحتفاظ والأخذ، لغة الدفاع والاستيلاء. أمّا يسوع ففجَّر هذه المقولات. وهو لا يتكلَّم إلاّ عن العطاء والقبول. فالذي يموت بسبب اليهود والرومان ليس طامحًا بمنصب وليس مطالبًا بعرش. هو لا يطمح إلى البنوّة ولا إلى الحرّيّة السامية، إنّه يتقبَّل نفسه كلَّها من الله في ملء حرّيّته البنويّة. وهو يقدِّم لنا إمكانيّة المشاركة فيها. وهذا سيكون نعمة، أي عطاء مجّانيٌّا ولن يتحوَّل يومًا إلى حقٍّ نطالب به أو ندّعي أنّه ملكٌ لنا.
هـ - نهاية العداوة
إنّ التعارض بين هذين الموقفين يغذّي العداوة (البغض) بعد أن كان نبعه. أمّا في يسوع فكلُّ شيء نعمة، حنان، رحمة. ففي عالم العطاء والقبول الذي يدشِّنه يسوع في موته وقيامته، لم يعد باستطاعة أيِّ شيء أن يغذّي العداوة ويشعلها. لقد انطفأت وماتت، لقد قُتلت.
وتمكَّن من قتلها بعد أن تحقَّقت عند الصليب ذروةُ العنف القاتل. هاجم الرومان يهوديٌّا قال عن نفسه إنّه ملك، وهاجم اليهود إنسانًا قدَّم نفسه على أنّه ابن الله. وهكذا هاجموا حلمَهم الخاصّ. فحكموا فيه على الادّعاءات التي يحملونها في ذواتهم: أن يكون الواحدُ مختارَ الله، أن ينعم بسلطة تشمل الكون. وهكذا قتلوا رغبتهم الخاصّة. قتلوا واقع رغبتهم. ولكن حيث رَسموا أحلامهم، وُجد واقعٌ آخر أعطاه، قدّمه، حبٌّ لا حدود له.
فالذين قتلوه لا يستطيع أن يدخل في لعبتهم. لم يكن له شيء يدافع عنه أو يطالب به. كان الابنَ الوحيد، ابن الله، وكان وحده في هذه المرتبة. عرَّض نفسه للموت لئلاّ ينتهي الأمر بالأخوَين العدوَّين إلى تدمير نفسَيهما في عداوتهما المتبادَلة. فالصليب هو الموضعُ الأوّل لمصالحتهما. وغضبُهما يتوجّه إلى شخص آخر يأخذ على عاتقه تيّارًا صار قويٌّا بعد أن التقى فيه عنفان اثنان. فلم يبقَ لهما اليوم عدوٌّ واحد وهو الذي ينسبان إليه خطيئتهما. لم يوجد إنسانٌ أُبغض إلى هذا الحدّ، استعداه الناسُ إلى هذا الحدّ.
فهل أجاب عن البغض بالبغض، وعن العداوة بالعداوة؟ نحن نجد في إنجيل القدّيس لوقا قراءةً عن موت المسيح عبر إحدى الكلمات التي تلفَّظ بها يسوع على الصليب. قال يسوع: »إغفر لهم، يا أبتِ، لأنّهم لا يعرفون ما يعملون« (23: 32). وحين تبع إسطفانُس الطريق عينها، جعل لوقا على شفتيه الصلاة عينها (أع 7: 60). لن نتساءل لماذا لم تورد سائر الأناجيل هذه العبارة. فحين نكون أمام تحديد الهويّة المسيحيّة، نعبِّر عن الاختلاف الجوهريّ في نصّ نجده عند متّى ولوقا. فمن صار مسيحيٌّا وجب عليه أن يغفر لأعدائه.
قال متّى (5: 43-48).
»سمعتم أنّه قيل: أحبب قريبك (ابن البلدة، والدين...) وأبغض (لا تهتمّ به، أتركه وشأنه) عدوَّك (أي كلّ من ليس قريبك. وهكذا يكون الغريبُ عدوٌّا). أمّا أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم، أحسنوا إلى من يبغضكم، صلّوا لأجل مضطهديكم فتكونوا بني أبيكم الذي في السماوات. فهو يطلع شمسه على الأشرار والأخيار، وينزل غيثَه على الأبرار والفجّار. فإن أحببتم من يحبُّكم فأيُّ أجر لكم؟ أوَليس العشّارون يفعلون ذلك؟ وإن سلَّمتم على إخوانكم وحدَهم، فأيَّ شيء غريب فعلتم؟ أوَليس الوثنيّون يفعلون ذلك؟ فكونوا أنتم كاملين، كما أنّ أباكم السماويّ كامل«.
وقال القدّيس لوقا (6: 27-32) بلسان يسوع:
»وأمّا أنتم أيّها السامعون فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم، وأحسنوا إلى مبغضيكم، وباركوا لاعنيكم (هم يلعنون طالبين الشرّ لكم، فباركوا طالبين لهم الخير)، وادعُوا للمفترين الكذب عليكم. من ضربك على خدِّك فاعرض له الآخر. ومن انتزع منك رداءَك فلا تمنعه ثوبك. ومن سألك فأعطه. ومن اغتصب مالك فلا تطالبه به. وافعلوا للناس ما أردتم أن يفعل الناس لكم«.
ثمّ إنّ النسخات الأربع عن العشاء الأخير تكشف المعنى الذي أراده يسوع لموته. ففي الليلة التي أسلمه فيها اليهود، أسلم هو نفسه. والذين أردوا موته أعطاهم الحياة. قدَّم ذاته ليُحييهم. وصار الصليب ختمَ الغفران، لا توقيعًا على العداوة والبغض. إنّ ذروة البغض والعداوة صارت ذروة المحبّة، والإفخارستيّا هي منذ الآن الموضع الذي فيه »قتل العداوة«.
وهكذا تحطَّمت الدائرة المغلقة. كانت شريعة الدم تطلب الدم. ولكنّ هذه الشريعة باءت هنا بالفشل. فهناك شخصٌ رفض أن يردّ على القتل بالقتل. فلا يَخَفِ القاتلون من ثأر أو انتقام. إنّهم محبوبون، إنّهم نالوا الغفران. كيف قتل يسوع العداوة؟ صار الجواب اليوم واضحًا: بكثرة حبّه. هذا ما يقوله لنا القدّيس يوحنّا في إنجيله. فموته كان العمل النهائيّ الذي لا يتجاوزه عمل. »تمَّ كلُّ شيء. بلغ كلُّ شيء إلى النهاية«. هذا هو معنى آخر كلمات يسوع على الصليب (يو 19: 30) التي هي جواب لآخر تعليم قدَّمه لتلاميذه: »أحبَّهم حتّى الغاية« (يو 13: 1). بهذه العبارة بدأ يوحنّا خبر الآلام، لأنّه يلقي الضوء على موت يسوع.
وحدَه الحبُّ يقدر أن يغلب العداوة. عبارةٌ جميلةٌ وسهلةٌ بل أكثر من سهلة. فإذا أردنا أن نعطيها معناها الصحيح، وجب علينا أن نحدِّد أنّ هذا الحبّ المنتصر هو حبّ الله. ولم يَظهر الله إلهًا بقدر ما ظهر في صليب المسيح وفي قيامته.
الله نفسه سلَّم ذاته إلى أيدينا في ابنه الذي أسلم ذاته إلينا. فالعداوة التي تغمر يسوع، هي في الواقع العداوة التي يكنُّها البشر لله. لو استطاع البشر أن يجعلوا الله يبغضهم، يستعديهم، لكانوا قتلوا الله. ولكنّ الله هو الله. وموضعُ البغض صار موضعَ الغفران. الله لا يستطيع أن يبغض. فاليهود والوثنيّون الذين شاركوا في الجريمة عينها، جُمعوا في الحبّ عينه، في النعمة عينها، في الحنان والرحمة. فعليهم أن يرفعوا آيات الشكر. فالمسيح »قتل العداوة« على الصليب، قتلها في حبّه اللامحدود.
3- والآن؟
والآن، هل قُتلت العداوة (البغض) حقٌّا؟ يبدو أنّها في صحّة جيّدة. فنحن نرى في كلِّ مكان مسلسل العنف والقتل. وحيث نحسبها هدأت واستكانت، فهي تُولد وتستيقظ. ففي كلّ مكان يتواجه »اليهوديّ« و»الوثنيّ«. بعد هذا، نستسلم إلى الشكّ والريبة: أيكون المسيح مات عبثًا؟
أ- الصراعات
فما هو هذا الينبوع الذي يتفجّر منه البغض (أو العداوة)؟ فمن أيّ جذر عميق تستقي شجرةٌ، ظننّاها قُطعت، قوّةً تجعلها تحمل ورقًا جديدًا؟ هل نعلن جهلنا ونقرّ بأنّ هذا الدفع الذي يجعل الناس يتقاتلون هو واقعٌ لا بدّ منه؟ لا شكّ في أنّ الصراعات كلَّها مبنيّةٌ حسب الرسم عينه. ففي المرحلة النهائيّة، نجد مواجهة بين الأخوَين العدوَّين كما صوّرناها. واحدٌ يدافع بكلِّ إمكاناته عن حقوقه ويردّ كلّ مطالبة وادّعاء يهدّدان امتيازاته. والآخر يحاول بكلِّ قواه أن يضع يده على ما يصبو إليه ويسحق كلَّ مقاومة. وهكذا يكون الواحد للآخر »يهوديٌّا« أو »وثنيٌّا«.
لكنّ هذه الشراسة في الدفاع والهجوم تدفعها رغبةٌ أساسيّة. فالاثنان يتّفقان على هدف مشترك وهما يتعلَّقان بالخيرات عينها. خيرات ضروريّة للإنسان، خيرات شرعيّة أقلّه في نقطة الانطلاق، وهي تشكِّل الشرط من أجل حياة إنسانيّة جديرة بهذا الاسم: وسائلُ مادّيّة تتجاوب وحاجاتِنا وتؤمّن حياتنا. غنًى عاطفيّ نُرضي به الرغبة بأن يعترف الآخرُ بنا. ظروفٌ لكي نؤكِّد على حرّيّتنا ونواجه مستقبلنا مواجهة مسؤولة. الحياة، الكرامة، الحرّيّة. فالإنسان الذي لا يعرف هذه الثلاثة، لا يستطيع أن يعيش.
وهذه الخيرات التي تقف على المستوى الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ، ليست خيرات نادرة. فالطموح إلى توزيعٍ قريبٍ من المساواة ليس من عالم الأحلام. ولكنّ التوازن سريعُ العطب واللامساواة تنتصر في العالم. وينحني رجال السياسة على مشاكل التفاوت الاجتماعيّ. ولكنّهم لا ينظرون إلى ما يكدِّسون. فأين تتغذّى هذه المزاحمة من أجل المُلك والكرامة والسلطة التي تولِّد عددًا من الصراعات؟ يهتمّ اليهوديّ والوثنيّ بهذه الثلاثة، كلٌّ بطريقته. وتدفعهم القوّة لأن يرتمي الواحد على الآخر.
ب- تصيرون مثل آلهة
الدافع الأوّل هو الذي أشرنا إليه أعلاه حين عدنا إلى النشيد الذي أورده القدّيس بولس في رسالته إلى الفليبّيّين: الرغبة في أن نزاحم الله. يريد الإنسان أن يصير الله، ولا شيءَ يعزّيه عن ذلك. لهذا فهو »يحقد« على الله ويظنّ أنّ الله »يحقد« عليه. هذه هي العداوة الأولى. فلن يتحرَّر اليهوديّ والوثنيّ من العداوة والبغض إلاّ بالاهتداء والتوبة. ونصُّ الرسالة إلى الأفسسيّين يجمع جمعًا وثيقًا بين هاتين المصالحتَينَ. فالعداوة لا تزول بصورة آليّة. فيبقى على اليهود والوثنيّين أن يلبّوا الدعوة الموجَّهة إليهم: تصالحوا مع الله، إفتحوا قلوبكم على المصالحة مع الله (1كو 5: 20). عليهم أن يرجعوا ويتوبوا، أن يصيروا مسيحيّين.
ماذا يعني هذا؟ لا يكفي أن نوجِّه أنظارنا إلى المسيح وأن نكتشف في الإنجيل تعليم المحبّة والسلام. فالمحبّة والمغفرة للأعداء تحتلاّن مكانة أساسيّة. ولكن حين نرى فيهما وصيّةً جديدة، نقع في خطر الملاحظة بأنّنا ضعفاء، بأنّنا أعجز من أن نحفظ هذه الشريعة الجديدة. أن نحبَّ »كما أحبّ المسيح«، لا يعني أنّ نرى فيه مثالاً وحسب، بل أن نعترف أنّ فيه وبروحه نجد ينبوع كلِّ إمكانيّة حبّ. ليس هو فقط مثالاً نقتدي به. إنّه السرُّ الذي يجب أن نحيا منه. ليس هو فقط قاعدةَ حياةٍ بشريّة حقّة. إنّه مسيحُ الله الذي به نجد مكانتنا الحقيقيّة أمام الله.
حينئذٍ تتبخَّرُ الصورُ الخاطئة التي نرسمها طوعًا عن الله، سواء كنّا يهودًا أم وثنيّين. صورٌ نعوِّض بها عن فقرنا، صورٌ يتعلَّق بها الإنسان الدينيّ والإنسان الذي يعتبر نفسه بعيدًا عن الإيمان. ففي نظر الاثنين تشير لفظة »الله«، قبل كلِّ شيء، إلى القدرة والمجد والغنى.
يقول الوثنيّ إنّه يضع الله جانبًا. ولكنّه يرى في هذه الأمور التي يتعلَّق بها ويلاحقها بكلِّ قواه، بهاء اللاهوت. فيصبح الغنى والكرامة والقدرة أوثانًا مقدَّسة. وهكذا يريد الوثنيّ أن يكون مساويًا لله، أن يحلَّ محلَّه. وبين تجارب يسوع في البرّيّة، نجد تجربة القوّة والعظمة (لو 4: 5-8): »أجعل لك هذا السلطان كلَّه ومجدَ هذه الممالك«. لا نتحدَّث عن الله، بل نُلغيه من أجل أركون (سلطان) هذا العالم، الذي يحلُّ محلَّ الله.
والإنسان الدينيّ لا ينسى الله. بل يقول إنّه يخصّ الله. وفي الواقع هو يمتلك الله، يُلحقه بنفسه ويُتبعه بمشاريعه. له حقوق على الله، وهو يدافع عن هذه الحقوق. فقضيّته قضيّة الله عينها. نحن هنا أمام التجربتَين الأخريَين اللتين صادفهما يسوع في البرّيّة: »بما أنّك ابن الله«... فعلى الله أن يؤمِّن لابنه الطعام والحماية (لو 4: 3-4، 9-12). إنّ الإنسان الدينيّ يجعل الله أسيرَ منافعه الخاصّة.
إنّ المسيح رفض مثل هذا الإله. إنّه ابنٌ، وبصفته ابنًا فهو لا يدخل في لعبة المزاحمة والحقوق التي يطالب بها. هو لا يعتبر الغنى وتأمين حماية الله حقٌّا مكتسَبًا له. فيه يكشف الله عن نفسه بدون قدرة، بدون غنى، بدون مجد. فالله يدلّ في المسيح إلى أنّه ذلك الذي يتجرَّد من ذاته. لا أثر فيه للحسد من الناس، لا أثر فيه للبحث والانغلاق. إنّه لا يزاحم الإنسان.
لا عداوةَ (ولا بغض) في الله. ولهذا صارت العداوة في الإنسان باطلة. كان الله في المسيح »مصالحًا للعالم« (2كور 5: 19). وهو يقدِّم لنا طريق المصالحة. إنّه يشفي هذا الجرح الخفيّ الذي يغذّي فينا الغضب والعنف. حين حلُمَ الإنسانُ بأنّه الله، لم يعد إنسانًا، بل وحشًا بشريٌّا. وحين صار اللهُ إنسانًا ذليلاً ومحتقرًا أعطى البشر أن يصيروا أخيرًا أناسًا بكلِّ معنى الكلمة، أعطاهم أن يعيشوا على صورة الله ومثاله.