الفصل الثاني والعشرون: بين هاجر وسارة.

 

الفصل الثاني والعشرون

بين هاجر وسارة أو من العبوديَّة

إلى الحرّيَّة

مضى بولس إلى غلاطية، في وسط بلاد تركيّا الحاليَّة، حول أنقرة، وبشَّر أهل غلاطية الآتين من العالم الوثنيّ، من بلاد غالية، أي فرنسا. اعتادوا على ممارسات وثنيَّة تصل بالرجل إلى أن يخصي نفسه كرامة الإله قيباليس، فحرَّرهم بولس منها. وما إن تركهم الرسول، حتّى عادوا إلى عبوديَّة أخرى، هي عبوديَّة الشريعة. وهذا ما جعل بولس يتوجَّه إليهم بكلام قاسٍ رغم محبَّته لهم وعطفهم عليه ولاسيَّما في مرضه الذي أقعده فما استطاع أن يتابع الرسالة كما سبق له وخطَّط. ولكنَّ طرق الربِّ ليست طرقنا، وبولس اعتاد أن يسلِّم أمره لعمل الروح كما نقرأ في سفر الأعمال (16: 6-10).

ترك الغلاطيّون الحرّيَّة التي لهم في المسيح، وطلبوا العبوديَّة. فأرسل بولس رسالة إلى الذين سمّاهم أبناءه، بعد أن توجَّع فيهم كما تتوجَّع الأم بابن تلده (غل 4: 19). حيَّروه بتصرُّفهم (آ20)، فدلُّوا على غبائهم (3: 1)، بعد أن نسوا صورة المصلوب المرسومة أمامهم، ونسوا الرسول الذي حمل إليهم البشارة.

1- الموضوع الأساسيّ

حين بشَّر بولس الغلاطيّين، لم يطلب منهم الختان، بل ربطهم بإبراهيم، الذي آمن بالله فبرَّره الله لإيمانه. ولكن جاء بعده اليهود، الذين يقومون بدعاوة فيها الدين والسياسة، لاسيَّما وأنّنا نقترب من الثورة اليهوديَّة الأولى التي ستجد ذروتها سنة 68-70، والتي ستنتهي في دمار أورشليم. وإن لم يكن هؤلاء الدعاة يهودًا، فهم متهوِّدون: صاروا مسيحيّين وما زالوا متعلِّقين بالممارسات اليهوديَّة من ختان وامتناع عن بعض الأطعمة. بل هم أرادوا أن يفرضوا هذه الفرائض على المؤمنين في غلاطية. فاستمالوا الناس وعادوا بهم إلى اليهوديَّة. فقال لهم بولس: »من سحَرَ عقولَكم؟!« (3: 1).

إذن، لا بدَّ من إقناع من انتهوا بالجسد بعد أن بدأوا بالروح (3: 3). ماذا قال هؤلاء المعلِّمون الجدد الذين يقدِّمون »إنجيلاً آخر« يقطع المؤمنين عن النعمة، فيستحقُّون الحرم والقطع من الجماعة (1: 6-9)؟ يكفي أن نكون من نسل إبراهيم لكي نخلص، لكي نرث الموعد. فأجاب بولس: هذا لا يكفي. وقدَّم شخصين، إسماعيل ابن هاجر، وإسحق ابن سارة. كلاهما كانا من نسل إبراهيم، واحد بواسطة الأمة المصريَّة، وآخر بواسطة الأميرة (هذا هو معنى سارة) الحرَّة. وهكذا تميَّز واحدٌ عن آخر. وقال الخصوم: أورشليم هي مدينتنا، وإليها اراد أن يحجَّ الغلاطيّون بعد أن أخذوا بالتعاليم اليهوديَّة ليعطوا التعاليم المسيحيَّة »وهجًا« لا تمتلكه من احتفالات مهيبة وهيكل هو قبلة الأنظار، وكهنة بالمئات. ثمَّ إنَّ الديانة اليهوديَّة نظامٌ تعترف به رومة. فأيُّ مستقبل لمسيحيَّة سوف تنتقل بعد فترة إلى الدياميس، إلى قبور تحت الأرض، لكي تمارس إيمانها؟

فكان جواب بولس أنَّ أورشليم هي المدينة التي اختارها الربُّ ليقيم فيها اسمه، وهي الموضع الذي تحجُّ إليه جميع الأمم لسماع كلام الله (أش 2: 2-4). فهل أورشليم هي مدينة مبنيَّة من حجر، أم هي رمز لجماعة الله التي يمثِّلها المسيحيّون المتطلِّعون إلى أورشليم السماويَّة؟

2- ماذا يقول الكتاب

انطلق بولس من الكتاب المقدَّس الذي يعتبر أنَّ إسماعيل عبدٌ لأنَّه وُلد من أمة، وأنَّ إسحق حرٌّ لأنَّه وُلد من حرَّة. وانتقل إلى التطبيق: على مستوى العبوديَّة، نجد هاجر وإسماعيل؛ هي ولادة بحسب الجسد ترتبط بسيناء وعهد العبوديَّة. مثل هذا العهد استُبعد، وحلَّ محلَّه عهدُ الحرّيَّة الذي نظر إلى الموعد وارتبط بأورشليم العليا.

يروي سفر التكوين (16: 3-4) أنَّ سارة لم يكن لها أبناء. ففعلت ما اعتاد الشرعُ أن يفعل: قدَّمت هاجر لزوجها. والولد الذي يُولد للأمة تتبنّاه المرأة فيكون ابنها. وهكذا تحفظ نفسها من الطلاق، لأنَّ النسل كان الهدف الأساسيّ، الذي لأجله يضحّي الرجل بامرأته. وفي الواقع، حبلت هاجر، فاستهانت بسيِّدتها. فأذَلَّتها هذه وجعلتها تهرب. ولكنَّ ملاك الربِّ أمرها بالعودة، ووعدها بنسل يشبه نسل سارة، ويقيم في الصحراء. وفي ف 21 من سفر التكوين، نعرف أنَّ إسماعيل الذي وُلد لهاجر خُتن كما خُتن إبراهيم وأهل بيته (تك 15: 23-25). ولكنه أخذ يهدِّد إسحق، ابن سارة، أو هكذا اعتبرت الأمّ، فقالت لإبراهيم: »أطرد هذه الجارية وابنها! فابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحق« (تك 21: 10). يجب هنا أن نفهم نصَّ الكتاب الذي هو تأمُّل في وضع حاضر أمام المؤمن الذي يتوقَّف عند كلام الله ليستخلص منه العبرة لحياته اليوم. وهكذا أقام إسحق قرب أبيه، في بئر سبع. وعاش إسماعيل في الصحراء، فكان جدَّ القبائل الإسماعيليَّة، كما سيكون إسحقُ جدَّ القبائل التي تجد جذورها في يعقوب.

3- وماذا يقول التقليد

عرف بولس الكتاب، وعرف التقليد الذي يتوسَّع في الكتاب، فانطلق منه ليقدِّم برهانه إلى أُناس تمرَّسوا في الشريعة اليهوديَّة وتعاليمها. قال: »قولوا لي، أنتم الذين يريدون أن يكونوا في حكم الشريعة: أما تسمعون الشريعة؟« (غل 4: 21). نلاحظ هنا أنَّ الرسول يستعمل لفظ »شريعة« (»نوموس« في اليونانيَّة أعطت الناموس في العربيَّة، وما اعتاد الناس أن يفعلوا لكي يعيشوا في الجماعة) في معنيّين: يكون الإنسان في حكم الشريعة، يخضع لها، ويعمل بفرائضها؛ ذاك هو المعنى الأوَّل. وفي الثاني، تدلُّ الشريعة على نتيجة الوحي، على الكتاب المقدَّس الذي يعلن مخطَّط الله من أجل شعبه وجميع شعوب الأرض. وهنا بدأ بولس يميِّز بين شريعة وشريعة، بين فرائض تستعبدنا فتسلب لنا حرِّيَّتنا في المسيح، وحقيقة تنكشف لنا فنسير على نورها الذي يوصلنا في النهاية إلى المسيح الذي يكمِّل بشخصه الشريعة والأنبياء، أي العهد القديم كلّه.

وبعد أن ميَّز بولس بين نظرة اليهوديّ الذي يتوقَّف عند حرف الشريعة القاتل، ونظرة المسيحيّ الذي يتوقَّف عند الروح فيجد الحياة (رج 2كور 3: 6)، قدَّم مثَل امرأتين، هاجر وسارة، اللتين تدلاّن على شعبين، وتوقَّف عند طرق التفسير اليهوديّ. تساءل المعلِّمون أوَّلاً: ما الذي دفع إبراهيم لكي يطرد هاجر؟ أجاب ترجوم نيوفيتي حول تك 21: 9: تعبَّد للأصنام وكاد يُفسد إسحق. وقال رابّي إسماعيل (135 ب.م.): كان ضاربًا بالسهام (رج تك 21: 20) فعرَّض حياة أخيه للخطر. لهذا حاولت سارة أن تُبعد عن ابنها خطر الموت. أمّا فيلون، فيلسوف الإسكندريَّة في القرن الأوَّل المسيحيّ، الذي رأى في حياة الآباء صورة عن مسيرة البشر إلى الله، فاعتبر هاجر ممثِّلة العلوم في مصر، وسارة ممثِّلة الحكمة الحقيقيَّة. مع هاجر هي العلوم الابتدائيَّة، ويجب أن يتجاوزها إبراهيم فيصل إلى الحكمة الحقيقيَّة مع سارة.

انطلق بولس ممّا يقوله التاريخ، ولكنَّه لم يتخلَّ عن التعارض بين العلوم الابتدائيَّة والحكمة. ودليلنا إلى ذلك استعمال لفظ »أليغوريا« التي ترجمت »استعارة«، »رمز«، »تشبيه«، »مقابلة«. في الواقع، يقدِّم بولس مثلاً من الأمثال كما اعتاد الكتاب المقدَّس أن يفعل: حين يكون الإنسان ابن إبراهيم حسب الجسد، حسب اللحم والدم، كما كان الوضع بالنسبة إلى ابن هاجر، فهو يبقى في العبوديَّة التي تميِّز العهد القديم. وحين يكون ابن إبراهيم حسب الروح، كما كان إسحق، فهو يكون حرٌّا، ويُتاح له أن يدخل إلى أورشليم الآتية من العلاء، إلى الملكوت الذي وُعدنا به، على ما سبق بولس وقال في 3: 29: »فإذا كنتم للمسيح، فأنتم، إذًا، نسل إبراهيم، ولكم الميراث حسب الوعد«.

في هذا الإطار، قابلت الرسالة المعارفَ الأولى، العناصر الأولى التي نجدها في التوراة، مع ملء حقيقة الإنجيل. ذكرت »ستويخايا« (غل 4: 3)، التي تدلُّ على القوى الكونيَّة التي يخضع لها الإنسان، والمتطلِّبات الطقسيَّة التي تفرض نفسها علينا. وهكذا نكون في عبوديَّة تجاه العالم اليهوديّ لا تفترق عن عبوديَّة تجاه العالم الوثنيّ. عندئذٍ طرح بولس على الغلاطيّين سؤالاً: »أمّا الآن، بعدما عرفتم الله، بل عرفكم الله، فكيف تعودون إلى عبادة قوى الكون الأوَّليَّة (»ستويخايا«) الضغيفة الحقيرة، وتريدون أن تعودوا عبيدًا لها كما كنتم من قبل؟!« (غل 4: 9). وهكذا ينتقل هؤلاء الذين تركوا إنجيل بولس، من عبوديَّة إلى عبوديَّة. فيقول لهم الرسول: »فالمسيح حرَّرنا لنكون أحرارًا. فاثبتوا، إذًا، ولا تعودوا إلى نير العبوديَّة« (5: 1).

4- برهان بولس

بعد كلِّ هذا، كيف قدَّم بولس برهانه، بين سارة وهاجر، بين إسحق وإسماعيل؟ قام بمقابلة بين هاجر وأورشليم الحاليَّة، قبل أن تُهدَم سنة 70. كانت هاجر أُمَّ إسماعيل الذي منه وُلد العرب في جزيرة سيناء (تك 35: 12-18)، فارتبطوا بهذا الجبل وبالعهد الذي قُطع هناك. نجد أنَّ الرمزيَّة اليهوديَّة التي اعتادت أن تجعل جبلاً مكان جبل، أحلَّت جبل صهيون محلَّ جبل سيناء. وهكذا صار جبل صهيون جبل الشريعة، وصار أبناء أورشليم الحاليَّة خاضعين لنير الشريعة (غل 4: 5). وبما أنَّ هاجر ارتبطت بسيناء، شاركها بنو إسرائيل في وضعها، وضع العبوديَّة. كانوا يعتبرون نفوسهم أحرارًا، فإذا هم عبيد. كانوا يحسبون أنَّهم ملوك، فأحدرهم بولس إلى مستوى الأمَة. فهل يريد الغلاطيُّون أن يكونوا مع أبناء الأمة أم مع أبناء الحرَّة؟ فليختاروا.

أمّا العلاقة بين سارة وأورشليم العليا، فتستند أوَّل ما تستند إلى أشعيا الثاني الذي شبَّه المدينة المقدَّسة بامرأة حزينة حُرمت من أولادها. فأنبأها بنسل كبير جدٌّا: »رنِّمي، يا أورشليم، يا أيَّتها العاقر التي لا ولد لها. أجيدي الترنيم واهتفي، أيَّتُها التي ما عرفت أوجاع الولادة. فبنو المهجورة التي لا زوج لها أكثر من بني التي لها زوج« (أش 54: 1). توجَّه الربُّ إلى مدينته التي هي صورة عن سارة، كما نقرأ في أش 51: 1-2: »انظروا إلى الصخر الذي نُحتُّم منه، وإلى المقلع الذي منه اقتُلعتم! أنظروا إلى إبراهيم أبيكم، وإلى سارة التي ولدتكم«. اعتادت ليتورجيَّة المجمع أن تربط خبر سارة التي لبثت عاقرًا مدَّة طويلة، كما في تك 16، بخبر أورشليم التي ستصبح أمَّ أبناء عديدين بعد أن صارت عروس الربّ.

وفي هذا الإطار قرئ مز 87 الذي يُنشد أمومة صهيون بلغة تدلُّ على الشمول. فيقول النصُّ اليونانيّ: »يقال لصهيون: يا أمّ. فكلُّ إنسان وُلد فيها«. إنَّ لهذا المزمور تفسيرين: تفسير يهوديّ يجعل المسيحيّين الآتين من العالم اليهوديّ يسيطرون على الآتين من العالم الوثنيّ. ذاك هو موقف الذين جاءوا بعد بولس، وقدَّموا إنجيلاً آخر. هم في الواقع يريدون أن يستعبدوا المؤمنين. أمّا التفسير المسيحيّ الذي يعلنه بولس، فينطلق من معارضة عرفها الأدب الجليانيّ، بين أورشليم الأرضيَّة، وأورشليم السماويَّة التي ستنزل على الأرض في زمن الخلاص. قالت رؤيا باروك: إنَّ أورشليم السماويَّة خُلقت منذ البدء، وقد رآها آدم قبل خطيئته، وكُشفت لإبراهيم حين قدَّم ذبيحة العهد (تك 15)، وتجلَّت لموسى على جبل سيناء. في هذا الإطار قالت الرسالة إلى العبرانيّين: »اقتربتم من جبل صهيون، من مدينة الله الحيّ، من أورشليم السماويَّة« (12: 22). وقال يوحنّا في سفر الرؤيا: »وأنا يوحنّا رأيت المدينة المقدَّسة، أورشليم الجديدة، نازلة من السماء من عند الله، كعروس تزيَّنت واستعدَّت للقاء عريسها« (21: 2).

أجل، أورشليم السماويَّة قد هُيِّئت منذ البدء، حيث يملك الربُّ يسوع، كما تقول الرسالة إلى فيلبّي: »أمّا نحن، فوطنُّنا في السماء، ومنها ننتظر بشوقٍ مجيء مخلِّصنا الربِّ يسوع المسيح« (3: 20). أورشليم هذه هي عروسٌ ومدينة معًا. هي أمّ جميع المؤمنين، فتدلُّ على الكنيسة التي تلد أبناءها في حوض العماد. وهكذا اهتمَّ بولس أن يبيِّن أنَّ المسيحيّين ينتمون إلى الخلاص النهائيّ، فلماذا يعودون إلى ما هو موقَّت؟ إنَّهم ينعمون بحرِّيَّة أبناء الله، فلماذا يرجعون إلى عبوديَّة الشريعة؟ وتنتهي الصورة المجازيَّة فجأة كما انتهى الخبر في سفر التكوين. قالت سارة لإبراهيم: »أطرد الجارية مع ابنها«. فهذا الابن يضطهد ابن الحرَّة. ونسل إسماعيل هم اليهود الذين يضطهدون بولس. فماذا ينتظر الغلاطيّون ليطردوهم؟!

خاتمة

جعل بولس أورشليم في مثلَّث: هاجر، سيناء، أورشليم. وعارضه منذ الآن بأورشليم السماويَّة، عاصمة الملكوت المسيحانيّ. غير أنَّ بولس حوَّل هذه الإيديولوجيّا، فأكَّد أنَّ أورشليم العليا لا تحلُّ محلَّ أورشليم السفلى، كمثال يحلُّ محلَّ الرسمة الأولى. فأورشليم العليا تعارض كلَّ المعارضة تلك التي سبقتها. وأكَّد بولس أيضًا أنَّ أورشليم السماويَّة هي حرَّة، بحرِّيَّة لا تشبه ما طلبه اليهود من تحرُّر من نير الرومان، بل بحرٍّيَّة بالنسبة إلى الشريعة. وأخيرًا أكَّد بولس أنَّ أورشليم هذه هي أمُّنا، التي لا تلد عبيدًا، وبنين خاضعين للشريعة. فكيف يتجاسر الغلاطيّون أن يتنكَّروا لأمِّهم بعد أن خطبها المسيح لنفسه »كنيسة مجيدة لا عيب فيها ولا تجعُّد ولا ما أشبه ذلك، بل مقدَّسة لا عيب فيها« (أف 5: 27)؟!

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM