الفصل الرابع والعشرون: بولس فـي سجن أفسس.

 

الفصل الرابع والعشرون

بولس فـي سجن أفسس

إذا أخذنا بالنظريّة القائلة »بثلاث« رسائل(1) في الرسالة إلى فيلبّي، جُمعت في ما بعد، حيث تكون الأولى (4: 1-20) بطاقة شكر لِما أَرسل أهلُ فيلبّي من معونة لرسولهم بواسطة أبفروديتس، وتكون الثانية(2) (1: 1-3: 1أ) كلامًا عن وضع بولس في السجن، وتكـون الثالثــة (3: 1-4: 1) هــجــومًـا عنيفًا على أصحاب الختان، فينعتهم بـ»الكلاب« (3: 2). إذا أخذنا بهذه النظريّة، تكون الأخبار عن وضع بولس، في قلب الرسالة إلى فيلبّي. وإذا اعتبرنا أنَّ بولس كان في سجن أفسس حين كتب هذه الرسالة، لا في رومة، كما نجد تلميحًا عن ذلك في الرسالة الأولى إلى كورنتوس، نفهم الوضع الذي يعيشه بولس. قال الرسول في معرض كلامه عن قيامة يسوع وقيامتنا: »إذا كان الموتى لا يقومون...، لماذا نتعرَّض نحن للخطر كلَّ حين...؟ وصارعتُ الوحوش في أفسس...« (1كو 15: 29-32)، بل كان صراع في قلب الرسول: يُخفي هويَّته كمواطن رومانيّ، فيُحكم عليه كما على كلِّ إنسان، بأن يُرمى للوحوش بدون محاكمة. أمَا هكذا فعل في فيلبّي، فما أعلن أنَّه مواطن رومانيّ (أع 16: 37) إلاّ بعد أن جُلد وأُلقيَ في السجن (آ23) هو ورفيقه سيلا (آ25)؟ أو يُظهر هويَّته على ما فعل في أورشليم: »مدَّدوه وربطوه ليجلدوه«، فإذا هو يقول للضابط الواقف بجانبه: »أيحقُّ لكم أن تجلدوا مواطنًا رومانيٌّا من غير أن تحاكموه؟« (أع 22: 25). هو صراع بين أن يمضي سريًعا إلى المسيح، لأنَّ »الموت ربح له«، وبين أن »أبقى بينكم جميعًا لأجل تقدُّمكم وفرحكم في الإيمان«، صراع انتهى بأن يواصل الرسالة. هذا ما نقرأه في الرسالة إلى فيلبّي 1: 12-26.

ونقسم النصّ ثلاثة أقسام(3): تقدُّم الإنـجـيـل (1: 12-20)، الخـيــار الـذي يأخذه الرسول (1: 21-24): هل يقبل الموت أم يواصل الرسالة؟ والقسم الثالث يشكِّل خاتمة فيها ينتظر الرسول أن يرى كنيسة فيلبّي مرّة أخرى (1: 25-26)(4).

1- تقدُّم الإنجيل (1: 12-20)

بدأ الرسول فأعطى الأخبار عن وضعه، ولكن بإيجاز؛ فالرسائل متواصلة بين بولس وجماعة فيلبّي، لأنَّ السَفَر بين أفسس وفيلبّي يستغرق أسبوعين فقط، ذهابًا وإيابًا. ولكنَّه ما اكتفى بسرد بعض حياته، بل أبرز المفهوم العميق للأحداث التي عاشها. هي تقدِّم تقدُّم الإنجيل. لهذا كانت آ18 الذروة: »ولكن ما همّي، ما دام التبشير بالمسيح يتمّ في كلِّ حال؟!«(5). يبقى أنَّ ما حصل كان يمكن أن يُقال في خبر شفهيّ. والأساس، مقصد الرسول في إبراز »المبشِّرين« بنواياهم السيِّئة، تجاه الكارزين الحقيقيّين.

أراد الخصوم من الرسول أن يُبقي أمره مخفيٌّا، وهكذا يمضي إلى الموت، فيكونون وحدهم في الواجهة؛ وحين رأوا أنَّه أعلن مواطنيَّته، اعتبروه خائنًا للرسالة، وخصوصًا خائنًا لأقواله السابقة بأن يكون سريعًا مع المسيح. لا، ما خسر الإنجيل، بل ربح (آ12)، في خارج الجماعة (آ13) كما في داخلها (آ14-18).

أ- أريد أن تعرفوا (آ12-14)

في قلب تضمين كبير مع لفظ هام prokoph في آ12 (تقدُّم الإنجيل) وفي آ25 (تقدُّمكم)، وصرخة الفرح، نتوقَّف عند ثلاث قطع، ونبدأ بالأولى، وفيها ما فيها من مفارقة: انتظرنا شيئًا، فإذا هو (= أنا بولس) شيء آخر. انتظرنا أن يوقف الرسالةَ سجنُ بولس، فإذا هو يُطلقها. من جهتي، يمكن أن أقول: الحالة تعيسة. أنا في القيود وأودُّ أن أنطلق. ولكن من جهة الإنجيل، الأمور تتقدَّم (آ12). وفي آ13، وجودي في السجن كان أكبر شهادة للإنجيل. الجميع عرفوا لماذا أنا هنا، بل السلطة السياسيّة نفسها: دار الحاكم. أمّا »قيودي« (آ14) فما أرعبت الإخوة، بل بالأحرى شجَّعتهم، وأعطتهم جرأة مضاعفة.

ta kai eme أموري، ما يخصُّني، ما يتعلَّق بي. هو السجن وأكثر من السجن: ظروف صعبة. ربَّما يُمنَع من رؤية أحد. ربّما ينتظر مع بعض »قلق« من قِبل الجماعة، المحاكمةَ التي تقوده إلى الموت أو تحفظه في الحياةِ وإن أعلن مواطنيَّته، »غضبت« الجماعة واعتبرت أنَّ بولس خائف. صعوبات عديدة، كان بإمكان الرسول أن يتوسَّع فيها، ولكنَّه اكتفى بعبارة سريعة: »هذا يخصُّني أنا«. ولا شكّ أنَّكم تعرفونه بما فيه من وجه سلبيّ. ولكنَّ الموضوع ليس هنا؛ فالنتيجة الإيجابيّة واضحة: تقدُّم الإنجيل، فلماذا البكاء!

بولس في السجن بسبب »إنجيل«. جاء الاسم بدون أل التعريف. لم يعد الإنجيل كتابًا؛ صار شخصًا حيٌّا؛ فالمسيحيّ لا يتعلَّق بالكتاب، بأيّ كتاب، وإن كان يفرح بقراءة الإنجيل وسائر الأسفار المقدَّسة، بل بالمسيح الحيّ الآن، وإن اعتبره اللامؤمنون في كلِّ زمان، أنَّه مات منذ زمان، فشابه سائر البشر. فإذا لم يكن ذلك الحيّ، فكيف يستطيع الرسول أن يقول: حياتي هي المسيح؟ فهل يعطي المائتُ الحياة؟ كان يسوع في العالم، ولكنَّه لم يكن من العالم، على ما نبَّه تلاميذه. لهذا، رفضه العالم. وبولس مسجون. هذا يعني أنَّ ما يعلنه »من فلسفة أو دين«يعارض موقف الدولة، ويعرِّض النظام للخطر. إذًا، يجب أن يصمت، أن لا يذكر بعدُ اسم يسوع، كما طُلب من الرسل (أع 5: 28). ولا بدَّ أن يكون جواب بولس مثل جوابهم: »هل نطيع الله أم الناس؟« لا نستطيع أن نسكت عمّا سمعنا ورأينا.

أعلن الرسول في آ13، أنَّ أسباب سجنه صارت معروفة لدى الجميع. لا هو قام بثورة، ولا بسلب أو نهب. السبب دينيّ فقط. ويرتبط بشكل مباشر بالبلاغ الذي يحمله، بالإنجيل. بسبب هذا السجن، سمع الجميعُ كلامًا عن المسيح. فالإنجيل لا ينفصل عن بولس: في المجمع، هو والإنجيل؛ في ساحة أثينة، هو والأنجيل، وفي السجن كذلك.

»سلاسلي ظاهرة في المسيح«؛ نحن نعرف أنَّ جراح المسيح كانت ظاهرة بعد القيامة. والآن: السلاسل. أهي سلاسل بولس أم سلاسل المسيح؟ الأمر واضح في أعمال الرسل: ما يحصل للرسول هو ما حصل ليسوع. اضطهاد يسوع ما زال حاضرًا في تلاميذه المضطَهَدين. يسوع في آلامنا، ونحن نشارك في آلامه من أجل جسده الذي هو الكنيسة(6). منذ الآن، نستطيع أن نقرأ 3: 10: »أعرف المسيح وأعرف القوَّة التي تجلَّت في قيامته، وأشاركه في آلامه، وأتشبَّه به في قيامته«.

بفضل هذه السلاسل، بفضل المحاكمة في دار الحاكم، تقدَّم الإنجيلُ لدى الوثنيّين. ويضيف الرسول في آ14: تقدَّم الإنجيل في الجماعة المحلّيّة. وترد كلمات: الشجاعة والثـقة peptoiqotaV، ثـمّ الجــرأة tolman، وأخيرًا غياب الخوف ajoboV. اقتنع الإخوة، لا بي، بل بالربّ؛ المثال الأخير هو يسوع المسيح. تعلَّق بولس به، ومثله فعل الإخوة. غاب هو، صار في السجن، فحلّوا محلَّه في الرسالة. نزلوا إلى المعركة. لا يمكن أن تبقى ساحة الإنجيل فارغة. وما ساعدهم على ذلك، صدى محاكمة الرسول حين أُعلن الإنجيل أمام السلطات؛ هكذا فعل مثلاً أمام الملك أغريباس الذي خاف بعد كلام بولس »أن يصير مسيحيٌّا« (أع 26: 28). هم »يقولون الكلمة«. في معنى أوَّل، هي الكرازة الإنجيليّة، وفي معنى آخر، يقدِّمون المسيح الذي هو كلمة الله.

ب- بعضهم... بعضهم (آ15-17)

جاء كلام الرسول بشكل تعاكس: أ، ب، ب ب، أأ.

أ- بعضهم يبشِّر حسدًا، منافسة (آ15) jqonon kai erin

ب- بـعـضـهــم بــنــيّـــة سـلـيــمـــة eudokian

ب ب- أصحاب النيّة السليمة يعملون عن محبّة agaphV (آ16). فواصلوا الدفاع عن الإنجيل الذي بدأت به.

أأ- الفئة الأولى تدلّ على التحزُّب والمزاحمة eriqeiaV (آ17)، وهدفهم مليء بالنيّة السيِّئة: تتكاثر المتاعب على الرسول في قلب السجن. أجل، الحسد والتنافس يلعبان دورًا مع بولس، أو ربَّما مع الذين يواصلون عمله بجرأة(7).

ما نلاحظ في آ15 هو الحسد والخصام بين المسيحيّين. في كنسة فيلبّي، كما في »كنيسة« غلاطية، حيث الخصام والتحزُّب والحسد (غل 5: 20-21). واللوحة ظاهرة في جماعة يُشرف عليها تيموتاوس، وقد تكون أفسس، بعد موت بولس: »المناقشات والمماحكات التي يصدر عنها الحسدُ والشقاق والشتائم والظنون السيِّئة« (1تم 6: 4).

فئتان وقفتا تجاه بولس: الأولى oi mhn تعـيــش الـمـحـبّــة (آ16). هــو موقف إيجابيّ يهمُّه الإنجيل، لا الأشخاص (يجب أن أزيح الآخر وآخذ محلَّه، استطعتُ أم لا). الثانية oi de، تحرِّكها الخصومة. موقف سلبيّ كلُّه. هم لا يطلبون الإنجيل، بل يطلبون أنفسهم. الأوّلون أحبّوا بولس وما يقدِّم من رسالة، وهو الذي قال في الرسالة الأولى إلى كورنتوس: »إقتدوا بي كما أقتدي أنا بالمسيح« (11: 1). والآخرون أخذتهم الأنانيّة. فأرادوا الإساءة إلى بولس، ومن خلاله الإساءة إلى الإنجيل، على ما نكتشف في كنيسة كورنتوس. أشخاص هاجموا بولس واعتبروه رسولاً من الدرجة الثانية، ولكنَّهم ما علموا أنَّهم حين هاجموا الرسل، إنَّما أصابوا الرسالة أيضًا. ولا شكّ في أنَّ الضعفاء تشكَّكوا. وما عرفت »الفئة الحاسدة« أنّها هي أيضًا تنال الخسارة الكبيرة، لأنَّ سندها يبقى الإنجيل وانتشاره.

كيف بدا عملُ الفئتين؟ الأوَّلون عـرفـوا eidoteV، والآخـــرون ظنّـــوا iomenoio أولئك عرفوا أنَّ بولس الذي يمثُل أمام القضاة سيقوم بواجب الدفاع (أبولوجيّا). هو يرافع، كما المحامي، عن قضيّة. والرسول، حين يدافع عن نفسه، إنَّما يدافع عن الإنجيل. والفئة الثانية تظنّ، هي لا تعرف، غير أنَّ ظنَّها ليس في مكانه؛ فالخلفيّة التي تُسندها تحمل التخيُّل والخوف: هكذا تزداد متاعب الرسول، إذ تحسّ السلطة ما يمكن أن يحمل الإنجيلُ من خطر.

ج- ما همّي (آ18-20)

لا همّ في قلب الرسول، ولا اضطراب. هو مسرور، فرح. لا ينظر إلى نفسه، بل يرى النتيجة التي هي انتشار الإنجيل وتقدُّمه. نلاحظ الكلمات في آ18: »فماذا؟«، ثمّ: »غير أنَّه؛ في كلِّ حال، إن بكذب، أو بحق«. كلُّ هذا لا يعني شيئًا بالنسبة إلى الرسول. ما يعنيه هو أنَّ المسيح يُبَشَّر به kataggelletai، وهذا ما يملأ قلب بولس فرحًا. غيره يطرح ألف سؤال وسؤال: من أخذ محلّي؟ ماذا يفعل؟ هل نجح فأَحزَن؟ هل فشل فأفرح وأشمت وأبيِّن أنّي وحدي قادر على القيام بالمهمّة؟ بعدي، لا أحد. ذاك كلام يصدر عن صغار العقول والقلوب. ما هي نيّة الذين »تسلَّموا« المشعل؟ هو لا يدين أحدًا، ولكنَّه يعرف، ويتخطّى هذه المعرفة.

هنا يبدو بولس مثالاً للتمييز الرسوليّ؛ حين ينظر إلى الأحداث، فهو يجعل الأمور الإيجابيّة والحسنة (أن يُعلَن الإنجيل) تسود على خلقيّة »المبشِّرين«. هذا لا يعني أنَّ بولس غير واعٍ للأمور، أو هو لا يهتمّ لمسبِّبات هؤلاء المبشِّرين، ولكنَّه متأكِّد أنَّ الله يعمل عمله بالرغم من الكذب والحيلة والطموحات البشريّة، بل من خلالها. هذا ما نعرفه في الكتاب المقدَّس: مشروع الله تواصل مع أنَّ إبراهيم باع امرأته مرّتين؛ قال إنَّها أخته، وهكذا نجا بحياته. ولكنَّ الربّ الذي دعاه، لم يتراجع؛ فما إن خرج من مصر ومعه »ثروة كبيرة« نعرف مصدرها، حتّى دعا باسم الربّ (تك 13: 4). ولا شكّ في أنَّ الربَّ أجابه بحماية أمَّنها له. ويعقوب احتال على أخيه عيسو؛ كذب على والده وسرق منه البركة. ثمَّ كان الصراع بينه وبين خاله لابان. وبالرغم من كلِّ هذا، لبث الربُّ معه وحوَّله في »مجاز يبّوق«. أفهمه أنَّه هو الذي يوجِّه حياته. هذا ما قرأه بولس في هؤلاء »المبشرِّين«. تكاثروا لأكثر من سبب! وكانت النتيجة إيحابيّة بالنسبة إلى الكرازة؛ فالله يُخرج من الشرِّ خيرًا، فلماذا نضع حدٌّا لقدرته؟

سُررتُ بذلك في الماضي، وأسرُّ الآن؛ فالفرح الذي يغمر قلب الرسول ليس ابن ساعته، ولا هو اندفع بعد أن سمع نصيحة من أحد الأصدقاء، ثمَّ تراجع فملأ الحزن قلبه، وربّما القرف: كلُّ ما عملت صار كلا شيء لدى بعض هؤلاء الناس. والواحد منّا لا يرى سوى البقعة السوداء، فينسى الحقول التي زُرعت وابيضَّت للحصاد. من يحكم على الرسالة؟ البشر؟ كلاّ ثمَّ كلاّ. وحده الله يعرف أنَّ الحبة التي تُبذَر في الأرض، تصبح عشبًا، ثمَّ سنبلاً. وفي النهاية ينضج القمح. »فالزرع ينبت وينمو، سواء نام الزارع أو قام« (مر 4: 27).

وعرف الرسول أيضًا أنَّ »تقدُّمَ« الإنجيل يتمّ في المحنة والاضطهاد. هذا ما اختبره بشكل خاصّ في تسالونيكي، كما اختبرته الجماعةُ التي أسَّسها هناك. قال: »فمع كلِّ ما لقيناه من العذاب والإهانة، كما تعرفون، كانت لنا الجرأة من إلهنا أن نكلِّمكم ببشارة الله في وجه معارضة شديدة« (ا تس 2: 2). وأهل تسالونيكي أصابهم الكثير »من أبناء أمَّتهم« (آ14). وكتب الرسول أيضًا إلى أهل كورنتوس: »الآب الرحيم وإله كلِّ عزاء، يعزّينا في جميع شدائدنا لنقدر نحن بالعزاء الذي نلناه من الله أن نعزّي سوانا في كلِّ شدَّة« (2كو 1: 3-4).

الآلام حاضرة، وهي جزء من الرسالة. وحبّةُ الحنطة يجب أن تقع في الأرض وتموت لكي تُعطي ثمرًا. والمرأة تتألَّم قبل أن يُولَد ولدُها. وهكذا يأتي الفرح بعد الحزن، والولادة بعد مرور في الموت. أَمَا هكذا ولد الرسولُ أبناءَ كورنتوس؟

انطلق بولس من وضعه الشخصيّ، فأنار بنور الإنجيل الماضي والحاضر، السجن والمزاحمات. وأنار أيضًا المستقبل، موته أو عودته إلى فيلبّي. هناك »خلاصي أنا« swthrian وهذا يتمّ بفضل »صلاتكم« dehsewV ولكن من يدافع عنّي؟ ومن يرافقني أمام المحكمة؟ روح يسوع المسيح. ماذا قال الربّ؟ حين تُقَدَّمون إلى المحاكم، لا تهتمّوا بماذا تتكلَّمون ولا تسألوا ماذا تقولون. لستم أنتم المتكلِّمين، بل روح أبيكم هو الذي يتكلَّم فيكم (لو 12: 11-12). جاءت هنا الكلمة epicorhgia. هي معونة في المحكمة، أو ربَّما في السجن. الروح، هو البارقليط، يقف بحانب المؤمن، عن يمينه. هذا الروح يرسله المسيح. وهكذا يستطيع الرسول أن يؤدّي الشهادة. هو روح المسيح الحيّ، والذي لا يزال الشاهد الأوَّل (رؤ 1: 9). يتكلَّم في فم بولس: كان يسوع وحده في المحاكمة، وها هو بولس. ما يحصل للمعلِّم يحصل للتلميذ: »'ليس عبد أفضل من سيِّده. ليس تلميذ أفضل من معلِّمه«.

ويعبِّر بولس في آ20 عن رجائه في شكلين متكاملين: في شكل سلبيّ، هو لن يخزى، لن يخجل apokaradokai(8)، وفــــي شـكــــل إيجابيّ، يتمجَّد المسيح في جسده. الآن، ربّما يُهان، يُرمَى للوحوش، وفي وقت قريب قد يموت. أو مقابل هذا تُعْلَنُ براءتُه فيكون حرٌّا في جسده لكي ينطلق إلى الرسالة من جديد. أمّا روحه، فكانت دومًا حرَّة، كما نقرأ في نهاية سفر الأعمال: هو في السجن، في رومة، مقيَّد بسلسلة مع جنديّ يحرسه، ومع ذلك كان »يبشِّر بملكوت الله، معلنًا بكلِّ جرأة وحرّيّة، تعليمه في الربِّ يسوع« (أع 28: 31).

لا مجال للخجل. هي وقفة تعلَّمها الرسول من المزامير: الشامتون بالأبرار يخزون، يخجلون. المتكبِّرون يلبسون العار والهوان (مز 35: 26). ونقرأ في مز 40: »الخزي والعار لمن يطلب هلاكي، والهزيمة والشرّ لمن يريد الشرّ لي«. أمّا المؤمن فينشرح صدره، يفرح، »يهتف كلَّ حين: ما أعظم الربّ« (آ17). فالخلاص الذي يناله الأبرياء، يساوي انتصار الربّ على الشرِّ والأشرار. وكذا نقول عن بولس: مرمى محنته ليس هو نفسه، ليس تحرُّره وإقرار براءته، بل انتصار الإنجيل. وبعبارة أخرى، يرى الرسول ظفره وحرّيّة الكلام الذي يُدلي به في المحكمة، وحيث لا نخجل، على أنَّه تمجيد للمسيح وتعظيم للإنجيل.

»في كلِّ جرأة«(9) parrhsia. هذا ما يعارض الحياء والخجل. لا مجال للخوف. كلام صريح يدلّ فيه الرسول على ثقته، مهما كانت الظروف صعبة. لا يحسّ بأنَّ شيئًا يُفرَض عليه. يستطيع أن يقول ما قاله ميخا بن يملة بعد أن علَّموه أن يتكلَّم كما الجميع لكي يُرضي الملك: »حيٌّ هو الربّ! ما يقوله لي الربّ، أقوله أنا« (1مل 22: 14). تلك كانت عاطفة بولس. وكلمتُه ستكون قويّة، لا لأنّها تصدر عنه، بل لأنَّها كلمة يسوع بالذات. فكيف لا تكون سيفًا ذا حدّين تَدخل مفرق النفس والجسد!

وفي أيِّ حال، من يهدِّد بولس؟ لا أحد. هو مستعدّ للموت وللحياة. في موته يتعظَّم الربّ، وفي حياته يتمجَّد الربّ. ويقول عن نفسه: »لا أعرف ماذا أختار«. إنَّه لا يبحث عن راحته، بل عن الطريقة التي بها يتمجَّد الربّ. والربّ وحده يقرِّر، أمّا الرسول فيكتفي بأن يجعل عينه على يد السيِّد، كما يقول المزمور. هذا يفهمنا أنَّ النهاية لا تبدو ذات أهميّة. ففي أيِّ حال، يتعظَّم المسيح. إن مات الرسول فمن أجل الإنجيل، وإن لبث حيٌّا يستطيع بعدُ أن يواصل الرسالة ويعرِّف الناس بالمسيح.

2- ماذا يختار الرسول؟ (1: 21-24)

جاءت هذه الآيات بشكل توازٍ بين اثنين:

أ (آ21) الحياة لي هي المسيح، وأن أموت ربحٌ

ب (آ22) وإذا أحيا في البشريّ، لي ثمر عمل

أأ (آ23ب) لي رغبة أن أرحل وأكون مع المسيح

ب ب (آ24) أن أبقى في البشريّ أكثر ضرورة.

ما قلنا »الجسد« الذي يقابل اليوناني swma، بل البشريّ، أو اللحم والدم sarx. في (أ) و(أأ) أعلن بولس ما هو الأفضل له: أن يموت لكي يكون أخيرًا مع المسيح. في (أ) هو الواقع. في (أأ) هي رغبة قويّة. ولكن في (ب) و(ب ب)، الحياة على الأرض مؤاتية للرسالة ولخير الجماعات. توازٍ ثمّ توازٍ. وبيّنت آ24 بوضوح أنّ رغبة بولس تبقى خاضعة لخير المؤمنين.

»لي« emoi. منذ البداية يعلن بولس يقينه، وبقوّة. في النهاية، الخيار هو لي، لا لأيِّ أحد من البشر: أيُّ خير يناله الفيلبيّون، وماذا سيحصل لبولس؟ أن يموت أو يبقى على قيد الحياة؟ هناك موقفان: الحياة هي المسيح. الموت أفضل لي. هذا يعني أن الموت يتيح لي اتِّحادًا (وبالتالي حياة) مليئًا، تامٌّا، مع المسيح.

أيّ حياة يعني بولس؟ هي الحياة الحاليّة، على المستوى البشريّ أوّلاً، ثمّ الحياة التي نتقبَّلها في الإيمان، الحياة الأبديّة التي لا نهاية لها، لأنَّها تكون حياة القائمين من الموت. بعد اليوم، صارت حياةُ بولس مركَّزة على المسيح الذي صار له المرجع الوحيد (رج 3: 7-12)؛ فـالحياة فــي نظر بـولس هي المسيح، لأنَّ حياته كمؤمن ورسول توجَّهت نحو المسيح وما عادت تنفصل عنه. فتكون طريقُ المسيح طريقَه، بل هو تماهى مع ربِّه(10).

ولكن يبقى المعنى الأساسيّ، الحياةُ في اللحم والدم، ثمّ الموت البشريّ. مثل هذا الموت ربح، إن كان لا يفصله عن المسيح. لا يقول بولس إنَّ لا معنى للحياة على الأرض؛ فلها معناها منذ الآن، لأنَّه انطبعت بالمسيح، سواء في الرسالة أو في مسيرة الإيمان. ولا يقول بولس إنَّه يريد أن يتخلَّص من الضيقات الحاضرة، لأنَّ هذه الضيقات تعمل من أجل تقدُّم الإنجيل وتعريف يسوع إلى العالم. نحن بعيدون جدٌّا عن رغبة في الهروب من أحداث الحياة. بل هو قرار شخصيّ، يدلّ فيه المؤمن أنَّه يفضِّل ملء الاتِّحاد مع الربّ. ويبقى الموت الشرط الضروريّ لكي يتمّ هذا الاتِّحاد.

»أمّا إذا« (آ22) ei de : أمّا إذا الحياة البشريّة عنت لي عملاً مثمرًا، حينئذٍ لا أعرف ماذا أختار.

ولكن إذا وجب عليّ أن أحيا في البشريّ،

فهذا يعني لي عملاً مثمرًا.

فماذا أختار؟ هذا ما لا أعرفه.

هكذا نستطيع أن نتوسَّع في هذه الآية. و»البشريّ« يعني الجسد الذاهب إلى الموت، والذي يميل إلى الخطيئة، مع وجهة الضعف، على مثال ما نقرأ في 2كو 4: 11: »وما دُمنا على قيد الحياة، فنحن نسلَّم للموت من أجل يسوع لتظهر في بشريَّتنا المائتة حياةُ يسوع«. وفي غل 6: 12 نقرأ: »هؤلاء الذين يريدون التفاخر بظاهر في (الجسد) البشريّ، هم الذين يفرضون عليكم الختان«. وشدَّدت 2كو 10: 3 على ما يرافق هذه الحياة المائتة من صعوبات: »نحن نسلك بحسب الجسد البشريّ، ولكنّنا لا نحارب بحسب الجسد البشريّ«. هنا نلتقي مع فل 1: 22-24.

لا شيء له قيمة مطلقة في نظر بولس، لا الجسد البشريّ، لا الحياة، لا الموت، ولا البشر. والحياة في البشريّ تصبح موقفًا نختاره، بالنسبة إلى الإنجيل الذي نعلن. إذًا، سبب الاختيار كرستولوجيّ. ولكن هنا يتوقَّف الرسول؛ فإذا كان السببُ المسيحُ، للموت كما للحياة، فما عاد يعرف ماذا يختار! أيموت ليكون مع المسيح؟ أيحيا لكي يبشِّر بالمسيح؟

وهكذا بدا الرسول ممزَّقًا (آ23)، محيَّرًا(11) (sunecomai). هــو بيـن اثنيـن. وكلُّ واحد يشدُّه إلى جهته، بحيث يخضع الرسول لقوّتين متعارضتين، فلا يقدر أن يتبع الواحدة دون الأخرى. مثل هذا الوضع يمنعه من أن يختار. من جهة، »يرغب« أن يترك هذه الحياة. هي حاجة عميقة في قلبه. سبق وقلنا إنّنا لسنا أمام معنى سلبيّ، فيه يعبِّر الرسول عن أنانيَّته، بل هو معنى إيجابيّ ورغبة قويّة. ومن جهة ثانية، يرى أن الرسالة تحتاج إليه والتمزُّق يأتي لأنَّ الخيارين إيجابيّان: هنا خير وهناك خير. الموتُ خير للرسول الذي يريد الاتِّحاد بالمسيح، والحياة خير للجماعة(12).

كما في آ21-22، نجد التعارض عينه في آ23 (الرغبة) وآ24 (الضرورة)؛ عبَّرت آ23 عن الرغبة في الذهاب، أي ترْك هذا العالم. لسنا أمام رغبة مَرَضِيّة، بل أمام رغبة في الموت لأنَّه الشرط الأساسيّ ليكون مع المسيح(13).

لا نتوقَّف هنا حول ما قيل عن الانتحار؛ فالرغبة في الموت أمر، وإعطاء الشخص نفسه الموت أمرٌ آخر. والسياق واضح: فكَّر بولس بالنسبة إلى نتيجة المحاكمة التي قد تصل به إلى الحكم بالإعدام. وفي أيِّ حال، حين نقرأ ف 3، نفهم أنَّ هدف بولس هو مشاركة المسيح في آلامه وموته، من أجل المشاركة في قيامته.

3- سأبقى بينكم (1: 25-26)

وهكذا نصل إلى الخاتمة، مع القرار الذي اتَّخذه الرسول: سيكون مع جماعة فيلبّي فيتذكَّر معهم الأيّام الحلوة، يوم جاءهم للمرّة الأولى آتيًا من آسية الصغرى (قسم من تركيّا الحاليّة)، فأسّس جماعة أحبَّته وأحبَّها، وقبل منها وحدها مساعدة مادّيّة(14).

جاءت آ25-26 حلاٌّ لخيار في إطار تمزُّق أحسَّ به الرسول (آ21-24). ولكن كيف تمَّ هذا الانتقال السريع من وضع محيِّر إلى اختيار واضح؟ قال بعضهم: نور سماويّ نقله من الشكّ إلى اليقين(15). وقال كثيرون: في تأمُّل عميق، انتقل الرسول من التمزُّق إلى الخيار المفرح(16).

بل نحن أمام أسلوب بلاغيّ. أعادَ بولس قراءة الماضي، ونقلَه كتابة إلى الحاضر، لكي يسير القرّاء في خطاه، ويفهموا قطبَيْ حياته: ما حصل في الماضي، وما لم يحصل بعد، وهذا يعني التمييز المتواصل والعمل الملحّ الذي لا يمكن أن ينتطر.

وما فعله الرسول، »فمن أجلكم«. وهكذا ينتقل الكلام عن وضع بولس إلى حضّ للفيلبّيّين بشكل إرشاد(17). فعلان يَرِدَانِ: وثق epoiqwV، ثمّ عرف oida. شدَّد الرسول، فبيَّن أن الشكّ زال كلّه. ما قال السبب، ولكنَّه أشار إلى قوّة هذا اليقين. وهو سيذكره أيضًا في 2: 24: »ولي ثقة بالربّ أن أجيء إليكم، أنا أيضًا، بعد قليل«. كلُّ هذا في الربّ. وزيارة بولس لن تكون عابرة. بل هناك إقامة طويلة، مع فعلين من جذر واحد: menw، ثمّ epimenw »أبقى«، »أمكثُ«. جاء الفعل في صيغة المضارع، فدلّ على أمر سوف يحصل ساعة يشاء الله.

ولماذا يبقى الرسول »بينكم جميعًا«؟ أوّلاً، »لأجل تقدُّمكم«؛ هذا ما سبق وعرفناه؛ ثمّ »من أجل فرح إيمانكم«. فحين يعود إليهم، يستعيد إيمانُهم الفرح. في معنى أوَّل، هو الفرح الذي موضوعه الإيمان(18). وفي معنى ثانٍ، هو الفرح الذي ينبع من الإيمان، كما في روم 15: 13: »يغمركم إله الرجاء بالفرح والسلام في الإيمان«. فما أراد الرسول أن يقوله هنا هو أنَّ الفرح لن يكون موضوعُه فقط عودةَ شخص هو بولس، بل عودة الإنجيل، وبالتالي عودة المسيح. وموضوع الفرح الذي عرفناه في 1: 4 (دعوتُ لكم بفرح) وفي 1: 18، يجد هنا امتدادًا جديدًا: فبولس يريد أن لا يبقى هذا الفرح خاصٌّا به، بل أن يمتدّ إلى جميع المؤمنين في فيلبّي. والإيمان يرافق الفرح. وبما أنَّ الإعلان الرسوليّ هو إعلان الإنجيل والخبر الطيِّب، لهذا فهو يحرِّك فينا الفرح، وإلاّ، ما معنى إنجيل يحمل معه الحزن والخوف؟!

وتأتي آ26 لتختم الكلام عن الأخبار الخاصّة ببولس. لماذا فعل الرسول ما فعل لكي يُطلَق سراحُه ويأتي إلى الفيلبّيّين؟ بالإضافة إلى إيمان يتقدَّم في ملء الفرح، هناك وفرة الخيرات الإلهيّة، وهذا ما يفتخر به الرسول. أجل، عرف أن يميِّز، أن يختار. هو رسول قبل كلِّ شيء، وقد أُرسل ليعلن الإنجيل، ويقوّي إيمان المؤمنين. لهذا كان الموقف المنطقيّ الذي اتَّخذه أن يواصل عمله »إلى يوم ربِّنا«. فبولس ما اختار حياته، بل دعاه الربّ. وتكون رسالته ناجحة بقدر ما تلتصق بمشيئة الربّ. والآن، طلب منه الربّ أن يبقى، أن لا يترك هذه الحياة؛ طلب منه أن يكون حاضرًا وسط أحبّائه، فأطاعَ ودلّ بحضوره أن عمل الكنيسة لا يمجِّد الله إلا إذا تمَّ »في المسيح يسوع«. وما أجمل ما كان جوابه!

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM