الفصل السادس: من كورنتوس إلى غلاطية.

 

- الرسائل الثابتة

أ- الرسالة الأولى إلى كورنتوس

حسب أع 17، هرب بولس إلى بيريه بعد أن أسَّس كنيسة تسالونيكي، عاصمة مقاطعة مكدونية. ومن بيريه انطلق إلى أثينة، تاركًا في هذه الكنيسة سيلاس وتيموتاوس. ثمَّ مضى من هناك إلى كورنتوس حيث انضمَّ إليه مساعداه (أع 18: 1-5). من هناك أي بين سنة 50 وسنة 52، كتب الرسالة الأولى إلى التسالونيكيّين، ذكر فيها نشاطه في تسالونيكي (1: 5-6) ثمَّ في مكدونية وآخائيَّة (1: 7-8) وصولاً إلى أثينة (3: 1).

يمكن أن نرى في هذه الرسالة قسمين قدمة proème واسعة (1: 2-3: 13) وparénèse (4: 1-5: 22) تتبعه خاتمة (5: 23-28). تشرف على القسم الأوَّل تيمة التذكُّر المشترك الذي يوحِّد بولس والتسالونيكيّين: عاد الرسول فيما عاد إلى عمل الروح الفيّاض الذي رافق ولادة الجماعة، أي الظواهر الكرسماتيَّة والمعجزات (1: 5). في 2: 1-12 نقرأ مرافعة حول نشاط بولس الرسوليّ: أراد بولس أن يميِّز، على ما يبدو، صورته عن صورة سائر الوعّاظ "الجوّالين" الدينيّين في أيّامه، من فلاسفة متنقِّلين وأنبياء متسوِّلين وسحرة وعرّافين. وكان هجوم على اليهود الذين يعارضون الإنجيل (2: 13-16): تألَّم منهم بولس والجماعات الأولى، كما تألَّم التسالونيكيّون من إخوتهم. فلا فرق في هذا المجال بين اليهود والمسيحيّين. أراد بعض الشرّاح، تهرُّبًا، أن يعتبر هذه الآيات interpolation، ولكن هذا غير ممكن. فالمقطع يفسِّر الصعوبات التي صادفها التسالونيكيّين حسب الرسمة المعروفة من معارضة اليهود لموفدي الله، وبحسب مواضيع عرفها الهجوم الوثنيّ على اليهود.

وتضمَّنت 4: 1-12 إرشادات بالحياة الخلقيَّة، والعلاقات بين المؤمنين داخل الجماعة. في 4: 13، بدأ عرضٌ حول مصير المسيحيّين الذين رقدوا في الربّ، جوابًا على اهتمامات مسيحيّي تسالونيكي. هؤلاء انتظروا عودة الربِّ في مستقبل قريب جدًّا، وموتُ بعض إخوتهم دفعهم إلى التساؤل: أما يُستبعَد الراقدون من الاتِّحاد بالمسيح في مجيئه؟ فأجاب بولس: الراقدون لا يُسبعَدون، فالربُّ يقيمهم في مجيئه، بحيث يمضون إلى لقائه مع الأحياء. استعمل بولس هنا قولاً ليسوع (لا يرد في الأناجيل) يستغلّ استشفافًا لما في 4: 16 مواضيع تقليديَّة من العالم اليهوديّ حول "يوم الربّ". فبولس مقتنع أنَّه سيكون بعدُ حيًّا في مجيء الربّ (4: 15). فينصح بالسهر لكي نكون مستعدِّين (5: 1-11). وأخيرًا أضاف بعض الوصايا حول حياة الجماعة (5: 12-22) قبل أن يختتم بالصلاة والتحيَّة (5: 23-28).

ب- الرسالة الأولى إلى كورنتوس

كورنتوس مدينة دمَّرها الرومان سنة 146 ق.م.، وأعاد بناءها بعد قرن من الزمن، يوليوس قيصر وجعلها مستوطنة رومانيَّة. فكانت في زمن بولس أكبر مدينة في اليونان. وتميَّزت بمزيج من السكّان والديانات. واشتهرت بلاأخلاقيّاتها (شهرة مضخَّمة، لا شكّ) وصل إليها بولس خلال "رحلته الرسوليَّة الثانية" (أع 18: 1-18) وأسَّس فيها جماعة مسيحيَّة آتية من العالم الوثنيّ، خلال إقامة دامت سنة ونصف، في السنوات 50-52. ومن كورنتوس مضى بولس إلى أفسس ثمَّ إلى أورشليم (أنطاكية ليعود بعد ذلك إلى أفسس (أع 18: 19-19: 1). ومن المعقول أن يكون لوقا (في أع) صاغ عودة بولس في نهاية إقامته في هذه المدينة (16: 8)، أي خلال الأشهر الأولى من سنة 55.

هذه الرسالة مهمَّة جدًّا من أجل فهم المسائل التي برزت حين تقبَّلت إنجيلَ يسوع أوساط ذات ثقافة لايهوديَّة، بل "وثنيَّة". هناك كرز بولس في مناخ دينيّ كانوا ينتظرون فيه الخلاص، لا في تدخُّل إسكاتولوجيّ (في نهاية الزمن) إلهيّ يمثِّل ذورة في تاريخ طويل من العلاقات بين شعب وإلهه، بل في إمكانيَّة المؤمن البسيط بأن يلتصق بالألوهة التي تقطعه عن ماضيه الفرديّ والجماعيّ، فيتحرَّر من كلِّ خضوع للقوى الشيطانيَّة التي تهزمُها الألوهة. ونموذج مثل هذه المواقف نجده في الحماس enthousiasme أي اليقين بأنَّ الروح الإلهيّ يقيم فينا، وفي الفرديَّة التي هي بعض ميل إلى اللامبالاة الخلقيَّة (بقدر ما نعتبر نفوسنا ما وراء الخير والشرّ) وفي الاعتقاد بأنَّ روح (نفس) الإنسان خلِّص منذ الآن، ساعة لا يخلص الجسد وليس هناك ما يبرِّر خلاصه.

لا بنية محدَّدة لهذه الرسالة. ونحن نجد فيها أجوبة على سؤالات طرحها الكورنثيّون (7: 1-25؛ 8: 1، 12؛ 16: 1). وعلى أوضاع اعتبرها بولس مسائل بدءًا بالانقسامات داخل الجماعة بسبب تكوُّن التحزُّبات.

بعد العنوان وproème (1: 1-9) واجه بولس مسألة التحزُّبات (1: 10-4: 21). علم أنَّ فئات تكوَّنت داخل الجماعة و"تشيع" كلَّ واحد لرئيس: بولس، أبلُّوس، كيفا، المسيح (1: 12). كان جدال طويل حول ما يميِّز هذه الفئات. ونحن نمتلك بعض الإشارات: طلب بولس موقع "الوالد" الواحد للكورنثيّين. فهو الذي حمل الإنجيل إليهم، تحسَّر لأنَّ بعضهم انتفخ كبرياء فاعتقدوا أنَّه لن يعود (4: 1-5). وأكَّد أنَّه لا يهتمُّ بأن يحكم عليه الكورنثيّون، وأبرز (3: 5-15) التواصل بين عمله وعمل أبلّوس الذي يكمِّل ما بدأه الرسول (أع 18: 24-26)؛ 19: 1). في ف 1-4، نقرأ تيمة أساسيَّة، تيمة التعارض بين حكمة (البشر) وجهالة (الصليب)، وهي تيمة لا تستبعد أنَّ بولس عرف حكمة يعلِّمها للمسيحيّين الذين تركوا الطفولة. هي حكمة جهلها العالم وأوحى بها الروح للمؤمنين (2: 6-12). إن لم يعلِّمها بولس للكورنثيّين الذين لبثوا أطفالاً يتغذَّون بالحليب (باللبن)، فهو لا يستطيع أيضًا أن يعلِّمها الآن، لأنَّ انقساماتهم تدلُّ أنَّهم "لحميّون" (بشريّون) لا روحيّون (3: 14). وذلك إن حسبوا نفوسهم حكماء (3: 18) وأسندوا افتخارهم على البشر، أي على بولس وأبلّوس وكيفا (3: 21-22).

إنَّ هذه الأقوال تجعلنا ندرك مستويين في التكوين المسيحيّ: الأوَّل، التدرُّج أو التنشئة. يمكن أن تتواصل في مرحلة يحدِّدها بولس الذي لم يعد شابًّا بواسطة تعليم تأسَّس على أسرار الله، وأوحاه الروح وحده. نحن هنا، على ما يبدو، أمام وعي لدور يسوع في مخطَّط الله، وقد يكون ارتكز على تفسير للكتب وارتبط بتجلِّيات الروح. ويمكن أن نفترض أنَّ الكورنثيّين اكتشفوا (بواسطة أبلّوس ؟) بعد ذهاب بولس، عناصر من هذه "الحكمة" المسيحيَّة، ولام بعضهم بولس لأنَّه لم ينقلها إليهم بحيث فضَّل أن يلتجئ رسل آخرون مثل أبلّوس أو كيفا (قد يكون كيفا، بطرس، لم يُقِم في كورنتوس، بل سرت تقاليدُ ارتبطت باسمه).

يبدو أنَّ الكورنثيّين فسَّروا هذه الحكمة بحسب مقولات تقدِّمها العبادات السرّانيَّة في ذلك الوقت[ii]. في هذا المنظار تُفهم مختلف الأسئلة المطروحة في الرسالة. في الواقع، نحن أمام معرفة محفوظة للمتدرِّجين: من هنا أهمِّيَّة العماد الذي صُوِّر طقسَ تنشئة، وأهمِّيَّة كافلي التقليد بأسمائهم. مثل هذه المعرفة تؤمِّن الخلاص المباشر، الآنيّ: ومن هنا أيضًا موقع "الأقوياء" الذين يعظِّمون حرِّيَّتهم في الخلقيَّة الجنسيَّة (ف 5-6) وفي اللحوم المذبوحة للأوثان (ف 8-10). ويمكن هنا الشطخات والانخطافات (ف 11-14) والاعتقاد بأنَّهم منذ الآن قائمون من الموت (ف 15). هذا ما يوافق الأهمِّيَّة التي نسبها الكورنثيّون إلى المعرفة (غنوسيس)، وقولهم الشهير: "كلُّ شيء متاحٌ لي" (6: 2-10). أجاب بولس فحدَّد موقع الحكمة التي يستند إليها الكورنثيّون بجانب الحكمة البشريَّة (هي علامة سلبيَّة) وعارضها قبلاهوت الصليب"، فتوخّى بأن يُحدر "القوَّة" التي يفتخر الكورنثيّون بامتلاكها بعد اهتدائهم. والتي اعتبروا أنفسهم بفضلها أنَّهم فيها متفوِّقون، في نظر بولس يمثِّل الإنجيل كلِّيًّا عكس ذلك: هو جهالة الله وضعفه، كما تجلَّيا في صليب المسيح بكرازة بولس التي بدت ضعيفة في الظاهر (2: 15) وبتكوين الكنيسة من أعضاء "جهّال" في كورنتوس (1: 26-29).

في ف 5-6، توقَّف بولس عند مسائل عمليَّة مثل الزنى[iii] أي الفوضى الفجوريَّة التي كانت مقبولة داخل الجماعة بحيث إنَّ رجلاً يعيش مع امرأة والده (الثانية) (5: 1-5) في ف 7، ردَّ على أسئلة حول الزواج ولمَّح إلى أنَّه من الأفضل أن يبقى كلُّ واحد في الحالة التي هي حالته حين صار مسيحيًّا (أنت عازب تبقى عازبًا، أنت متزوِّج تبقى متزوِّجًا). أمّا معيار التصرُّف فالاهتمام بتجنُب الخطيئة.

وعالجت ف 8-10 مسألة أكل اللحوم المذبوحة للأصنام: هل يحقُّ لنا أن نأكل منها؟ هل يحقُّ لنا أن نشارك في ولائم احتفاليَّة في المعابد الوثنيَّة؟ شارك بولس في فرضيَّة "الأقوياء"، أي إنَّ الحرّيَّة المسيحيَّة تسمح لنا بأن نعمل، لأنَّ الأصنام لا وجود لها، وبالتالي يمكن أن تكون مصدر نجاسة. غير أنَّه وضع مبدأ يفرض على "الأقوياء" أن لا يشكِّكوا "الضعفاء". أمّا المشاركة في مثل هذه الولائم فهو يرفضها لأنَّها تشرك المؤمن مع الشياطين. ورتَّب ف 11 مسائل تتعلَّق بموقف الرجال والنساء خلال العبادة، ولا سيَّما العشّاء الربّاني. وهنا كما في الرسالة كلِّها، المعيار هو الوحدة وبناء المؤمنين.

واعتنت ف 12-14 بمواهب الروح. فالكورنثيّون، قبل اهتدائهم، شهدوا أو أطلقوا ظواهر انخطافيَّة (12: 2). ومنذ الآن برزت في الجماعة المسيحيَّة، ظواهر متشابهة، بها اعتزَّ الكورنثيّون أنَّهم في اتِّصال مباشر مع العالم السماويّ. لم يرفض بولس هذه الظواهر الروحيَّة، ساعة تمنَّى الكورنثيّون بشكل خاصّ موهبة الألسن (فلغةٌ لا تُفهَم تُعتبر صدورًا عن حضور الروح). بل فضَّل النبوءة لأنَّنا نستطيع أن نفهمها، وهي تعمل بشكل مباشر لخير الجماعة: في هذا السياق يقع النشيد الشهير، نشيد المحبَّة التي تتفوَّق على جميع المواهب (ف 13).

وأعلن بعض الناس في كورنتوس أنَّ لا قيامة للموتى (15: 12). فشدَّد بولس في ف 15 على القيامة: أوَّلاً قام المسيح، بكر الراقدين. وفي عودته يقوم الذين يخصُّونه. فالمسيحيّون الكورنثيّون الآتون من محيط حضاريّ يونانيّ، استصعبوا أن يفهموا كيف يقدر الجسد أن يشارك في الخلاص. فشدَّد بولس على الطابع الروحيّ للجسد القائم من الموت. فجعل هذه الفكرة في سيناريو نهاية العالم كما توسَّع فيها العالم اليهوديّ.

وتضمَّن ف 16 أمورًا عمليَّة حول "اللمَّة" من أجل كنيسة أورشليم، وأخبارًا عن مشاريع السفر لدى بولس، وأخيرًا السلامات الخاصّة.

ج- الرسالة الثانية إلى كورنتوس

وأضيفت في 2كو مسائل على تلك التي واجهت بولس في 1كو: مختلفة في أصولها، ولكنَّها مرتبطة أيضًا بالحضارة الهلِّنستيَّة والديانة الهلنستيَّة[iv] المسيطرة في كورنتوس. نحن هنا أيضًا، في آخر المكان، أمام نموذج من تصرُّف الإله، أي الطريقة التي بها يكشف عن قدرته، غير أنَّ السؤال طُرح منذ الآن عبر نموذج الرسول الذي أعلنه ونال الفائدة من هذه العلاقة. ولكن قبل أن نتوسَّع في هذه النقطة، ينبغي أن نتطلَّع إلى مسائل التأليف التي بدت أكثر تشعُّبًا من سائر رسائل بولس، وارتبطت بمرحلة من العلاقات دقيقة جدًّا، مع جماعة كورنتوس.

فبعد العنوان (1: 1-2) وقدمة proème (1: 3-7)، شرح بولس لماذا لم يعد إلى كورنتوس بعد زيارته الأخيرة (1: 12-2: 4). بدأ فأرسل تيموتاوس (1كو 4: 17؛ 16: 10). ووضع نصب عينيه أن يمضي هو نفسه بعد أن يمرَّ في مكدونية (1كو 16: 5-10). بعد ذلك، قرَّر أن يمضي حالاً إلى كورنتوس، ومضى على الأثر إلى أفسس من هناك بعث "رسالة الدموع" وأوفد تيطس إلى كورنتوس، ثمَّ مضى هو إلى ترواس (مرفأ الانطلاق إلى مكدونية) حيث لم يجد تيطس كما كان متأمِّلاً. حينئذٍ أقلع إلى مكدونية. لن يعود هذا الموضوع إلاّ في 7: 5 حيث يُذكَر اللقاء مع تيطس. في 2: 14-7: 4، نجد مقابل كلِّ هذا مرافعة طويلة عن خدمة بولس الرسوليَّة، بما فيها من مفارقة، حيث المجد فيها يتحقَّق فقط عبر الألم والاحتقار من قبل البشر. وداخل هذه المتتالية تبرز أيضًا قطيعة: حثَّ الكورنثيّين أن يفتحوا قلوبهم. عبَّر عنها الرسول ي 6: 13 وتواصل الكلام بشكل طبيعيّ حتّى 7: 12 مع أنَّ البيريكوبي[v] 6: 14-7: 1 تبدو وكأنَّها دخيلة. أمّا التيمة فيها، فهي التوصية بأن لا يكون لأحد علاقة مع اللامؤمنين، وهذا المقطع الأخير الذي جاء التعبير عنه بشكل يختلف عمّا في السياق هو دسٌّ لاحقة لبولس، على ما يبدو.

في 7: 5-16، يتواصل الخبر حول الأحداث التي سبقت الرسالة: التقى بولس تيطس في مكدونية ففرح بعد أن انتهى الخلاف مع الكورنثيّين. وأعطى ف 8 تعليمات من أجل "اللمَّة". وعالج ف 9 الموضوع عينه وكأنَّه يبدأه الآن للمرَّة الأولى، مقدِّمًا كنائس آخائية كمثال لكنائس مكدونية، ساعة كان العكس في ف 9. مناخ هذين الفصلين مناخ الفرح، مناخ مملوء من الشكر والامتنان. ولكن في شكل لامتوقَّع، بعد 10: 1، اتَّخذ بولس لهجة قاسية، فدافع عن نفسه تجاه اتِّهامات وُجِّهت إليه في كورنتوس، عبر شخص قد يكون ذاك المذكور في 2: 5-11. دافع بولس بقوَّة عن خدمته الخاصَّة تجاه الذين يدعوهم "سوبررسل" (11:5؛ 12: 11). وتذكر رسالته الثانية إلى كورنتوس وأعلن عن ثالثة (12: 14، 21، 13: 1-11) ودعا الكورنثيّين إلى وقفة ضمير، لأنَّه حين يكون عندهم لن يعفو. أمّا السلامات الأخيرة (1: 11-13) فجاءت من القلب، وهذا ما يدهشنا.

إذًا تقدِّم الرسائل مقاطع واضحة يمكن أن نوجزها كما يلي:

·          2: 13 تتواصل في 7: 5. والمتتالية المتوسّطة ليست فقط استطرادًا من بولس بل تفترض وضعًا مختلفًا: حتّى 2: 13 ثمَّ في 7: 5: 16، اعتبر بولس الخلاف مع الكورنثيّين كأنَّه أمرٌ مضى، ساعةَ مرافعة 2: 14-7: 4 تفترض خلافًا في الأفق وإن لم تكن اللهجة عنيفة كما في 10: 1-13: 10.

·          عالج ف 8-9 مسألة "اللمَّة" ولكن يصعب القول بأنَّهما انتميا إلى الرسالة ذاتها.

·          يتحدَّد موقع 10: 1-13: 10 في قلب خلاف عنيف ولا يمكن أن تكون انتمت إلى الرسالة 1: 1-2: 13 و7: 5-16. ولا يُعقَل أيضًا أن تنتمي هذه الفصول إلى الرسالة 2: 14-17، لأنَّ الخلاف كان في بدايته في هذه القطعة الأخيرة.

·          6: 14-7: 1 يقطع البرهان وأسلوبه ليس أسلوب بولس ولا المضمون.

إذًا، يبدو أنَّه ينبغي أن نعتبر 2كو نتيجة دمج رسائل عديدة أو أقسام من رسائل بولسيَّة، وهي ظاهرة تشهد لها القدامة[vi] بمناسبة نشر رسائل موجَّهة إلى شخص واحد، يجمعون الرسائل ذات المواضيع القريبة، ويكفون العودات المباشرة إلى الظروف الملموسة.

وهكذا نستطيع أن نقدِّم الترتيب التالي:

·          2كو 10-13 (ما عدا التحيَّة) هي "الرسالة وسط الدموع" كتبها بولس في أفسس (2: 4) بعد زيارة سريعة إلى كورنتوس، هي الزيارة الثانية بعد زيارة تأسيس الكنيسة. في تلك الزيارة لقي المعارضة بل "الشتيمة". ربَّما، خلال الخريف الذي تلا 1كو (55؟) أو في الربيع التالي.

·          2: 14-7: 4. مضمونها مرافعة. قد تكون جزءًا آخر من الرسالة، كما يمكن أن تعكس حقبة سابقة، لم يكن الخلاف بعدُ صار خطيرًا. في هذه الحالة، نحدِّد موقعها حين وصلت إلى بولس معلومات سيِّئة من تيموتاوس قبل زيارته الثانية إلى كورنتوس وتكون هذه الزيارة نتيجة فشل هذه الرسالة.

·          بعد ذلك، وصلت إلى بولس أخبار طيِّبة من تيطس، ساعة كان في مكدونية، فكتب إلى كورنتوس رسالة المصالحة أي 1: 1-2: 13. ثمَّ 7: 5-16. إذًا، دوِّنت هذه "الرسالة" في مكدونية بعد أن مرَّت سنة على 1كو.

·          ف 8 حول اللمَّة. يمكن أن يكون جزءًا من هذه الرسالة.

·          ف 9، يمكن أن يحمل توصية لاحقة. والعكس ممكن أيضًا، كما أنَّه يمكن أن نكون أمام رسالتين مستقلَّتين.

نودُّ أن نقول إنَّ هذه الدراسة الأدبيَّة لا تمسُّ بقضيَّة الإلهام في الكتب المقدَّسة. فنحن في إطار الفرضيّات العلميَّة. والمؤمن يدرس النصَّ كلَّه فيتوقَّف عند هذا القسم أو ذاك ليجد فيه الثمر الذي يشبع جوعه إلى كلام الله.

ويُطرَح السؤال: ما الذي أطلق الأزمة، ومن هم خصوم بولس؟ جاؤوا من الخارج ومعهم رسائل توصية (3: 1؛ 10: 12، 18). إذًا، وضع مختلف عمَّا في 1كو، حيث المشاكل وُلدت داخل الجماعة. هؤلاء قدَّموا نفوسهم كرسلٍ (11: 13) فهزئ بهم بولس ولقَّبهم "سوبررسل" (11: 5؛ 12: 11). افتخروا بعملٍ قام به غيرُهم (10: 16) وشمخوا لأنَّهم يهود (11: 22). وعارضوا نشاط بولس مؤكِّدين أنَّ رسائله قويَّة ولكن حضوره الشخصيّ ضعيف (10: 16). واستخرجوا شرعيَّتهم من آيات قدرة يُتمُّونها (خلافًا عن بولس) فتميَّز الرسول، كما قالوا (12: 11-12). وشمخوا بخبرتهم الاختطافيَّة بحيث أشار بولس أنًَّه ليس أقلَّ منهم، ولكنَّه لا يريد أن يفخر بذلك (12: 1-9). وشدَّدوا على القول بأنَّهم يخصُّون المسيح (10: 7) وأنَّهم خدّامه (11: 23). فكان جواب بولس رفضًا بأن يعرف المسيح معرفة بشريَّة (5: 16).

إنَّهم رسل مسيحيّون من أصل يهوذا. أخذوا بنموذج الوعّاظ المتجوِّلين، كما عرفه العالم الهلِّنستيّ، نموذج، "الإنسان الإلهيّ" الذي امتلأ بقدرة الله، وهي قدرة تتيح له أن يتَّصل بالألوهة، ويجري المعجزات ويمنح الحكمة. يبدو أنَّهم كرزوا بمسيح. يوافق هذا النموذج، على أساس تقليد يورد عجائبه وأقواله بشكل أقوال حكمة. هذا ما رفضه بولس (5: 16) لأنَّه يرى أنّ المسيح الذي نكرز به هو المصلوب. أمّا الكورنثيّون الذين يتأثَّرون سريعًا بظواهر الروح (كما في 1كو)، فاجتذبهم مثل هؤلاء المرسلين، وطرحوا السؤال حول سلطة بولس الرسوليَّة.

د- الرسالة إلى غلاطية

تاريخ تدوين غل الذي لا يتوجَّه إلى كنيسة محدَّدة، بل إلى مختلف جماعات غلاطية (1: 2) يتعلَّق بالتعرُّف إلى المراسلين، وهذا ما فتح الطريق أمام جدال دقيق. الغلاطيّون الذين هم فرع من القلتيّين[vii]، جاؤوا من البلغان إلى آسية الصغرى سنة 287 ق.م. دعاهم نيقوميد ملك بيتينيه كمرتزقة، فأقاموا فيها بعد في منطقة وسط آسية الصغرى، فتسمَّت باسمهم: بعد سنة36 ق.م.، تحالف أمينتاس أوَّلاً مع أنطونيوس ثمَّ مع أوكتافيوس، فكوَّن مملكة في غلاطية، بسيدية، ليكأونية، بمفيلية، كيليكيَّة. حين توفّي سنة 25 حوَّل أوغسطس هذه المجموعة إلى ولاية رومانيَّة ودعاها غلاطية. يبقى أن نثبت إذا كان بولس أشار، باسم غلاطية، إلى مقاطعة الغلاطيّين في المعنى الحصريّ للكلمة، أو بشكل إجماليّ الولاية الرومانيَّة التي تسمَّت بهذا الاسم. فقد بشَّر بسيدية وليكأونية اللتين تنتميان إلى ولاية غلاطية، في الرحلة الرسوليَّة الأولى برفقة برنابا (ف 13-14). فإذا توجَهت الرسالة إلى سكّان الولاية الرومانيَّة، فقد تكون كُتبت بعد "مجمع أورشليم" (48/49) المذكور في غل 2: 1-10، ولكنَّ بولس عمل في مناطق الغلاطيّين في الرحلة الرسوليَّة الثانية (أع 16: 6)، وعاد إلى هناك في الرحلة الرسوليّة الثالثة (أع 18: 23). بما أنَّ غل 4: 13 تفترض زيارتين قام بهما بولس إلى غلاطية، يمكن أن نجعل غل بعد سنة 52/53، خلال إقامة بولس في أفسس سنتين أو ثلاث سنوات. ولكن الاتِّفاق لم يتمَّ حتّى الآن بين الباحثين.

غل رسالة هجوميَّة هجوميَّة حرَّكتها كرازة المرسلين المسيحيّين في غلاطية. هذه الكرازة جاءت بعد مضي بولس ولا زالت حتّى كتابة الرسالة. فهؤلاء المرسلون فرضوا على الوثنيّين الذين اهتدوا إلى المسيحيَّة أن يمارسوا الشريعة اليهوديَّة، وأوَلها الختان. وهكذا زرعوا الشكَّ في سلطة بولس، وشدَّدوا، كما يظهر، على اللاتوافق بين ممارسته، وممارسة كنيسة أورشليم. إذًا، السؤال المطروح هنا هو هويَّة المسيحيَّة بالذات: هل تكون علامات الانتماء إلى اليهوديَّة جزءًا من السمات الأساسيَّة التي تحدِّد المسيحيَّة؟ ذاك هو رأى المرسلين الذين يزاحمون بولس فيقولون: الخلاصُ الذي يقدِّمه الله في المسيح، يتحدَّد موقعه في إطار العهد بين الله وإسرائيل، عقدٌ قديم ولا يزال ساريًا، يُوقِّع عليه بواسطة الختان وممارسة الشريعة. لا في المعنى الذي به يظنُّ اليهود (أو: ظنُّوا في الماضي) أنَّهم يخلصون بقواهم الخاصَّة موسِّعين فرائض الشريعة[viii]، بل في المعنى الذي يقول: إنَّ ممارسة الشريعة يبيِّن الانتماء إلى الجماعة التي يخلِّصها الربُّ بقوَّة العهد الذي قطعه مع هذه الجماعة.

أمّا بولس، وبحدس تكون له نتيجة حاسمة بالنسبة إلى المسيحيَّة، فرفض أن يُخضع الهويَّة المسيحيَّة إلى الهويَّة اليهوديَّة، فحدَّدها بمعيار واحد، هو الإيمان بيسوع المسيح. هذا ما جعله في مواجهة قاسية جدًّا، لأنَّ إله إسرائيل وإله يسوع وبولس يبدوان متعارضين. فالرسول، في الكنيسة المقدَّسة، ربط دومًا الخلاص بالعقد مع إسرائيل وعطيَّة الشريعة. وهكذا وجب على بولس، بعد أن استفاد من اتِّجاهات ناشفة في اليهوديَّة، أن يوسِّع فكرًا جريئًا لكي "ينتزع" الشريعة من خطِّ الخلاص فيربطها بالوعد (الذي هو أقدم من الشريعة) الذي قطعه الله لإبراهيم ولنسله، الذي لا يخاف بولس بأن يماهيه (= النسل) مع يسوع والمسيحيِّين. في هذا الإطار، لم تعد تشكِّل الشريعة سوى فاصل زمنيّ intermède. هي "مؤدِّب" أعطيَ لإسرائيل إلى أن يصبح هذا الشعب راشدًا (لا يكون بعدُ قاصرًا، مثل الطفل في البيت) فيصير قادرًا أن ينال الميراث. كان بولس واعيًا عبوريَّة موقعه ولكن يسكنه يقينٌ حدَّدته أيضًا خبرته الشخصيَّة (والتاريخ بيَّن أنَّه كان على حقّ)، أنَّ المسيحيَّة على المحكِّ في هذه النقطة، فانطلق في صراع شفوق وواعٍ بحيث صارت غل إحدى الوثائق المفاتيح في تاريخ المسيحيَّة، فعاد إليها بشكل متواتر على مدِّ العصور مجهودات عديدة لاكتشاف الهويَّة المسيحيَّة أيضًا ولتقديمها من جديد تقديمًا جذريًّا.

هناك عناصر لها معناها مثل تضخيم الإشارة إلى المرسِل، التي تتضمَّن تشديدًا على الأصل الإلهيّ لرسالة بولس، وغياب مطلع الرسالة، الذي يحلُّ محلَّها كلام توبيخ حول السهولة التي بها ترك الغلاطيّون "الوعّاظ" يميلون بهم عن الحقّ (1: 6-10).

يشكِّل 1: 11-2: 14 نظرة إلى الوراء حول خبرة بولس: هو فرّيسيّ مليء غيرة ومضطهد المسيحيّين. ثمَّ دعاه الله وكلَّفه بالرسالة لدى الوثنيّين. استعاد بولس هذه الأمور ليبيِّن استقلال رسالته بالنسبة إلى سلطات كنيسة أورشليم، وفي الوقت عينه اعترافها به. مضى إلى أورشليم مرَّة أولى سنتين ونيِّف بعد دعوته. ومرَّة ثانية بعد 13 سنة ليلتقي والمسؤولين في الجماعة: أقرُّوا بالأصل الإلهيّ لخدمته بين اللامختونين وكان بولس قد دافع قبل ذلك عن "حقيقة الإنجيل" حين الخلاف مع كيفا في أنطاكية فكيفا خاف من اليهومسيحيّين الذين يمارسون الشريعة فترك شركة المائدة مع المسيحيّين الآتين من الأوثانيَّة.

وأجاب 2: 15-21 على سؤال طرحه خلاف أنطاكية، وبيّن موقف بولس: من آمن بالمسيح وطلب أيضًا التبرير بالشريعة يلغي عمل المسيح.

وتضمَّن 3: 1-5: 12 البراهين التي تؤسِّس الموقف الذي أعلنه بولس" عاد الرسول إلى خبرة الروح التي عاشها الغلاطيُّون خارج خبرة الشريعة، ساعة اهتدائهم، وبيّن أنَّ وعد الله يجد ينبوعه في إيمان إبراهيم (3: 16-18) وشدَّد على أنَّ وظيفة الشريعة انتهت بعد تبنَّي المؤمنين أبناء، أحرارًا، يرفضون أن يسقطوا من جديد في العبوديَّة (3: 19-4: 11). وبعد أن استذكر بولس تأسيس الجماعة، وضع تأويل بيبليّ لهاجر وسارة العبوديَّة المرتطبة بالشريعة تجاه حرِّيَّة تصدر عن الوعد. ويلي كلَّ هذا حسّ على الحفاظ على الحرِّيَّة.

وتضمَّن 5: 13-6: 10 المضيَّقة (الإرشاد الخلقيّ)، وهي ثابتة نموذجيَّة في القسم الثاني من الرسائل البولسيَّة. فالحرِّيَّة في الروح تولد الحبّ والخدمة المتبادلة. أمّا 6: 11-18 فهي إرشاد أخير لكي يحتفظ المؤمنون من كلِّ من يفرض الختان. ويلي هذا الإرشاد تحيَّات سريعة، مفاجئة.

الرسالة إلى غلاطية، شأنها شأن 2كو (غير أنَّ الخصوم ليسوا هم هم) هي أيضًا شهادة لافتة للرسالة المسيحيَّة التي لم تتحدَّد بعد: ففي الجماعات المسيحيَّة يأتي من هنا وهنا وسكون مختلفون يحلّون أشكالاً متنوَّعة من الإنجيل. في هذه الحالة، عارض المرسلون المتحرِّكون (يحدِّدون الهويَّة المسيحيَّة في تواصل مع الهويَّة اليهوديَّة، 4: 10؛ 5: 2؛ 6: 12-13) في غلاطية الأصلَ الإلهيّ لإنجيل بولس الذي راح في الخطِّ المعاكس وأقاموا عليه سلطان أورشليم. وهذا ما يظهره مجهود بولس بأن يبيِّن التوافق التامّ بين هذه السلطات وإنجيله (هذا يعني لاتوافقًا مع خصومه). وتذكُّره "الإخوة الكذبة الذين طالبوا بأن يُختَن تيطس في أورشليم (2: 4-5)، وحكمته تجاه "عواميد الكنيسة الأمّ، يجعلاننا نستشفّ أبعد من متطلِّبة الصراع الذي يدعوه لأن يبرز توافقه مع أورشليم، كلُّ هذا جعل بولس لا ينغشُّ حول صيته وسط اليهومسيحيّين في فلسطين.



 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM